عرض مشاركة واحدة
قديم 27-02-21, 01:45 PM   #2

فاتن منصور

كاتبة في قسم قصص من وحي الاعضاء


? العضوٌ??? » 417764
?  التسِجيلٌ » Feb 2018
? مشَارَ?اتْي » 133
?  نُقآطِيْ » فاتن منصور is on a distinguished road
افتراضي

سلسلة_في_كل_فصل_نبضة
نوفيلا الربيع
ياسمين

الفصل الأول

سَلامٌ على كلِّ قَلبٍ يُحبْ
وكلِّ حَبيبٍ ، وكلِّ مُحِبْ
وكلِّ عُيونٍ تَذوبُ اشتِياقًا
وكلِّ قُلوبٍ تَموتُ احتِراقًا
لتَملأَ عيني ضِياءً وَحُبْ
سلامٌ عليها التي ألْهَمَتْني
سَقتْني خَيالاً فأمطَرْتُ شِعرْ
لِعينيكِ أُهدي كلامي وعُمري
ولا الشِّعرُ يَكفي ولا ألفُ عُمرْ
سلامٌ عليها التي عَلَّمَتْني
بأنَّ الحياةَ سَحابٌ يَمُرْ
وجَنْبًا من العُمرِ ألقاهُ حُلوًا
وجنبًا من العمرِ ألقاهُ مُرْ
سلامٌ عليها فلولا هواها
لَما كانَ في العُمرِ شَيءٌ يَسُرْ..
عبد العزيز جويدة
…..

ابتعد عاصم بخطوات متعبة عن الواجهة الزجاجية للمتجر الضخم الذي يمتلكه بعد أن طال شروده متأملاً بعض القطع التي وُضعت للعرض ، خطا بضعة خطوات أخرى فبات خارج المتجر ،حيث يمتد شارع طويل يحتوي متاجراً كثيرة ومتجره واحد منها
جال بنظره على واجهات المتاجر التي تحتل هذا الشارع التراثي بقدمه
متاجر تحاكي التراث بما تعرضه من مصنوعات أبدع صانعوها بما تقدمه أيديهم من منتوجات ، معارض للملابس التراثية ، وأخرى للمصوغات ، تراثيات خشبية ، منسوجات ، نحاسيات ، والكثير غيرها من الحرف اليدوية التي توارثها أصحاب هذه المتاجر عن أجدادهم
وهذا الشارع بحد ذاته يعد تراثياً ، بواجهات المحال الحجرية بفن عمراني مميز ، حيث اصطفت قطع الحجارة البيضاء والسوداء بجانب بعضها لتشكل قناطر متجاورة بتنسيق واحد جميل ، وكأنها تخبرنا عن تميز من قام ببنائها
وأرضية الشارع المرصوفة بالحجارة السوداء تضفي رونقاً خاصاً على المكان
أخذ نفساً عميقاً مشبعاً برائحة المكان ورائحة البُن المحمص التي تصل إليه من أول الشارع حيث يقبع متجر الحاج خليل التراثي ، والذي مازال يحضر حبات البن ويطحنها بأدواته القديمة ، فلا تفقد حبات البن أي من خواصها ، ثم يقوم بإضافة بعض البهارات الخاصة بالبن فتعطي للقهوة مذاقاً مميزاً لا يمكن لأحد تذوق منه أن ينسى طعمه
نادى على الفتى الذي يساعده في بعض شؤون المتجر ، فلبى الأخير النداء مسرعاً ، طلب منه عاصم أن يتوجه إلى متجر البن ويحضر له البن المفضل لديه ، ثم يُعد له بعضاً من القهوة ، أومأ الفتى بأجل ثم غادر مسرعاً لتنفيذ ما طلب منه ، بينما عاد عاصم لتأمل المكان وكأنه يزوره مرة كل فترة ، وليس مقيماً به بشكل يومي
ولكن لهذا المكان ارتباط خاص به ، فهو لطالما عشقه طفلاً صغيراً يتردد مع والده وعمه لمتجرهما هنا ، يتعلم منهما أصول مهنة توارثوها لعدة أجيال ، ولم يكن أقل منهما شغفاً بهذه المهنة ، ليقوم هو بتحويل المتجر إلى معرض كبير يضم أجمل التحف النحاسية المشغولة بإبداع يدوي ، مستغلاً كذلك التكنولوجيا الحديثة في تطوير عمله ونشره في كل مكان
وقبل أن يلتفت بخطواته مقرراً الدخول إلى متجره ، انتبه للأثواب التراثية التي يتم وضعها على واجهة المتجر المقابل لمتجره ، عيناه تعلقت بثوب معين من الأثواب التي باتت تحتل الواجهة الزجاجية الضخمة ، ولوهلة تخيلها ترتدي هذا الثوب ، بطولها المميز ، بجمالها الذي يعشق ، ستبدو كأميرة هاربة من قصص ألف ليلة وليلة وسيكون هو أميرها الذي ينتظرها، لذلك دون أي تفكير كان يتجه نحو المتجر
رحب به صديقه مراد بحرارة حين شاهده يخطو لداخل المتجر ، فهما يعرفان بعضهما منذ الصغر بحكم تجاور متاجر العائلتين ، جلس عاصم قبالته ، فبادر مراد بسؤاله عن أحوال آخر معرض شارك فيه في بلد مجاورة
أجابه عاصم بينما يتناول منه كأس الشاي الذي سكبه له مراد بحفاوة كبيرة :
_ كان ناجحاً ولله الحمد ، فمهنتنا لا يعرفها الكثيرون، رغم تهافت البعض لتزيين منازلهم بالنحاسيات المشغولة يدوياً ، لكن لا يعلمون أن هذه المهنة لا تلقى الدعم الذي تحتاج إليه لتحافظ على وجودها في ظل ما يجتاح السوق من منتوجات أجنبية رخيصة الثمن وسريعة التلف
تنهد مراد قائلاً :
_ معك حق ، لكننا أخذنا على عاتقنا أن نحافظ على تراثنا هذا
وأشار بكف يده لما يحتويه متجره من معروضات
قال عاصم بتأكيد :
_ يجب أن تحضر الاجتماع الذي سنعقده في الغد في مقر النقابة الخاصة بالمهن اليدوية والحرفية
أومأ مراد بأجل فيما تنحنح عاصم بحرج وهو يعود لمشكلة شراءه للثوب فهو لا يعلم بما سيبرر شراءه للثوب النسائي الذي يريد ، لا يستطيع أن يدّعي أنه لشقيقته ، فمراد يعرفها ويعرف أن هذا الثوب لا يناسبها أبداً ، رحمه مراد من حرجه وهو يقول ضاحكاً
_ أخبرني بما تريده يا عاصم ، وأزل عن وجهك ملامح الحيرة فهي لا تناسبك
نظر عاصم لصديقه بابتسامة وهو الأعلم أنه كُشف أمامه ، ثم قال مشيراً للثوب الذي يريد :
_ أريد شراء هذا الثوب ، لقد لفت انتباهي بينما كان إحدى العاملين لديك يعرضه في واجهة المتجر
ضيّق مراد عينيه ناظراً للثوب الذي اختاره عاصم ، ورغم التساؤلات التي مرّت بعقله ، إلا أنه قال بابتسامة ودودة جداً :
_ من عيني يا عاصم ،غالي والطلب رخيص
ضحك عاصم وهو يراقب صديقه يقوم بنفسه بسحب الثوب عن الدمية البلاستيكية ، ثم يطويه بعناية فائقة ، لمح اقتراب أحد العاملين في المتجر ليساعد مراد في وضع الثوب في الحقيبة المخصصة له والموشومة بشعار المتجر واسمه ، اقترب مراد واضعاً الحقيبة أمامه قائلا ًوهو يوجه لصدقه غمزة مرحة :
_ ترتديه صاحبته بالسعادة والهناء

مرور طيفها بخياله سريعاً جعله يتنهد بخفوت ، مجيباً صديقه بصدق:
_ ادعو لصديقك يا مراد أن ينال أمنيته عما قريب
رغم تفاجؤ مراد بما قاله عاصم ، فلم يسبق لعاصم أن حادثهم عن حبه لفتاة ما ، لكنه همس مربتاً على كتف صديقه :
_ اتمنى أن تتحقق كل أمنياتك يا عاصم
استقام عاصم واقفاً ، يأخذ الحقيبة التي تحتوي الثوب بيده ، ملقياً تحية الوداع على صديقه قائلاً
_ أرسل لي فاتورة بثمن الثوب يا مراد لأرسله مع أحد الفتية
ثم غادر عائداً نحو متجره ، كان المتجر في قسمه الأمامي هادئاً نوعاً ما ، يحتوي على رفوف منظمة اصطفت عليها المنتوجات النحاسية بمهارة وذوق كبيرين ، تجذب الناظرين إليها بسحر غريب ،فوانيس بأحجام وأشكال مختلفة ، ثريات تتدلى من السقف وكأنها تخبرنا عن مهارة من صنعها ، أطباق و أواني بأشكال ونقوش مختلفة ، إضافة للعديد من القطع الفنية صغر حجمها أم كبر ،
وفي الزاوية الغربية من المتجر وضع عاصم طاولة مكتبه يحتل حاسبه قسماً منها ، بينما تراكمت عدة ملفات فوقها ، وخلفه خزانة خشبية مصنوعة من خشب الصندل المميز المطعم بالأصداف الصغيرة ، وبجانبها باب يؤدي إلى الغرفة الخاصة بصديقه زياد الذي يشاركه كل تفاصيل عمله ، في شراكة ابتدئاها منذ سنوات طويلة ، وبجانبها باب آخر يؤدي إلى القسم الداخلي من المعرض حيث يتواجد بضع عمال ممن يجيدون هذه المهنة ، يعملون على إنتاج أفضل الأدوات المصنوعة من النحاس
جلس عاصم خلف مكتبه مجدداً ، تلمس قماش الثوب الحريري بيده دون أن يخرجه من الحقيبة ، متسائلاً بداخله
هل سيخطو هو يوماً نحو حلم تمناه طويلاً
متخيلاً طيفها وهي ترتدي الثوب ،
وجهها بابتسامتها التي يعشق ، وعيناها جوهرتاه الثمينتان
تنهد بتعب يبعد عيناها عن مخيلته
عينان أسرتاه منذ سنوات طويلة ، ولم يجد سبيلاً للفكاك من أسرهما
و البوح بما يعتمل بقلبه صعب
وآه من حب لا نستطيع البوح به
نبقيه مدفوناً في أعماقنا
ونخاف أن نظهره للعلن
أغمض عينيه للحظات وكأنه يعتذر من تلك العينين اللتين احتلتا فكره ، يعتذر من نفسه أنه ليس مندفعاً مقتحماً في مثل هذه الأمور ، وإلا كان وجد لمشكلته حلاً
إما سعادة بقربها
أو ألم بفراقها
وضع الحقيبة بعيداً عن متناول يده ، محاولاً الانشغال بعمله ، أشغل حاسوبه متفقداً البريد الالكتروني الخاص بالعمل ، مجيباً بعض الرسائل ، التي وردته حول متجره من بعض المعارض التي حاول التواصل معها في خارج البلاد أثناء رحلته مع شقيقته لخالته والتي طالت لعدة أشهر ، تخللتها زيارات قصيرة من قبله للبلاد ، لذلك قرر أن يستغل سفره بعقد عدة صفقات تجعله يتمكن من عرض منتجاتهم في بعض البلدان الغربية
انتهى من الرد على الرسائل ، ثم التفت لإنهاء بعض الأمور الخاصة بفواتير المتجر ، كل شيء منظم وبمكانه وكأنه لم يغب ليوم واحد
يحمد الله بكل مرة أن لديه صديقا استطاع أن يحافظ على سوية العمل كما تركها ، بل حافظ على المتجر وكأنه متجره الخاص
دخول صديقه المفاجئ أضاع تركيزه ، فدفع الأوراق جانباً فيما القى زياد السلام ثم جلس منهكاً أمامه يفصل بينهما طاولة المكتب الخشبية ،
قال عاصم وهو يناظر صديقه بتفحص :

_ تبدو متعباً.. أخبرني كيف سارت الأمور ؟

قال زياد بابتسامة فخورة ، وهو يعدل ياقة قميصه متصنعاً الغرور

_ أتظن أن زياد لا يستطيع تدبر الأمر بنفسه ..لقد حصلنا عليها ..صفقة العمر يا صديقي

استقام عاصم سعيداً بهذا الخبر ، إلتف حول طاولة المكتب ليصل الى صديقه محتضناً إياه بسعادة ، فهذه الصفقة تعني لهم الكثير ..وسوف تنقل عملهم الى مرحلة متقدمة جداً

_ابتعد عني تكاد تخنقني يا عاصم ، لا أعلم من أين حصلت عائلتكم على مورثات الطول هذه ، فقط المسكينة سراب من نجت منها

قالها زياد ممازحاً وهو يحاول التخلص من عناق صديقه الضخم كما يصفه ، دفعه عاصم بمشاكسة على كتفه وهو يقول

_إنها قدرات خاصة يا صديقي

جلس بعدها الصديقان يتناقشان بخصوص الصفقة وكيفية العمل خلال الأيام المقبلة ، قال زياد بجدية :
_ عليك إنهاء مراجعة كل الفواتير يا عاصم ، ثم ننتقل لتنظيم ما يخص الطلبية الجديدة ، فهي تحتاج لوقت وجهد كبيرين
أومأ عاصم بتفهم ثم قال وهو يشير لحاسبه :
_ لقد كدت أنتهي لا تقلق ، منذ وصولي قبل ساعات وأنا أعمل عليها
نظر زياد له هامساً بجدية
_عليك أن تقوم بصنع بعض القطع المميزة كما تعودنا منك لأجل هذه الصفقة ، فهذه ستكون عامل جذب لهم فيقومون بطلب المزيد
ضحك عاصم وهو يقول
_ لا تقلق يا صديقي ، سأكون أول من يعمل في هذه الطلبية
أخرجهما من اندماجهما في الحديث عن العمل ، وصول رسالة لهاتف عاصم
تناول عاصم هاتفه يناظر حروف الرسالة التي وصلته
لم تغفل نظرة عاصم الحائرة عن زياد الذي قال محاولاً معرفة سبب تغير ملامح صديقه

_ ما الأمر ، هل سراب بخير ؟

أجابه عاصم بصوت منخفض كي لا يظهر له تلك المشاعر المتصارعة بداخله :

_ إنها بخير لا جديد في وضعها ، لكنها أرسلت لي لتذكرني بضرورة العودة مبكراً ، فاليوم موعد الحفل الذي ستغني فيه ياسمين

تلفظه لإسم ياسمين بذلك الشجن ، لم يخفى على زياد فهو يعلم أن عاصم غارق بحب ياسمينته، لكنه يخاف أن يصرح بذلك الحب لأسباب يجدها زياد تافهة ، قال زياد بتقرير :

_ لقد قررت هذه المرة ألا تذهب للحفل ، أليس كذلك ؟

نظر له عاصم لثوان ، ثم قال وهو يعود لمقعده خلف الطاولة :

_ طوال هذا اليوم فكرت ألا أذهب .. ولكن هل استطيع أن اتغيب عن حفلها ،إن ذلك سيحزنها كثيرا وقد كلمتني البارحة واليوم صباحاً تؤكد علي أن احضر وأنه لا مجال للإعتذار

_ وأنت ؟

سأله زياد دون مواربة ،فنظر له عاصم محاولاً إيجاد الإجابة المناسبة ثم أشاح بنظراته وهو يقول متنهداً

_ أنا لا استطيع إلا أن أكون قربها ، حتى لو وُجد لدي سبب يمنعني من الذهاب ، لم أكن لأفعلها وأفوت فرصة رؤيتها تحقق حلماً من أحلامها

_عاصم الى متى ستبقي نفسك أسير هذه المشاعر، طالما أنك ترفض أن تخبرها بها .

قال زياد محاولاً أن يضع صديقه أمام الأمر الواقع
، فهو يريد منه أن يتخذ خطوة نحو الأمام في هذا الأمر ، لا أن يُبقي مشاعره أسيرة في داخله ، فلا يحررها إلا بعد فوات الأوان
أجابه عاصم وهو يمسك قلمه ، يرسم خطوطاً وهمية على الورقة البيضاء أمامه :

_ أعلم بكل ما تود إخباري به يا زياد ..فكرت أن أخبرها اليوم عن مشاعري، لكني أخاف أن يكون تفسيري لمشاعرها تجاهي خاطئا ، أخاف أن تكون وضعتني في قلبها بمنزلة الأخ أو ابن العم و ألا تبادلني هذه المشاعر ، فأخسر وجودها قربي ، ليس سهلاً عليّ أن يكون جوابها الرفض

ثم قال وهو يشير بيديه نحو صدره بألم عاشق :

_ انظر لصديقك يا زياد .. أنا عاصم أخاف أن أبوح لياسمين بمشاعري ، أخشى من ردة فعل تودي بعلاقتنا القوية ، لأني حينها لن أستطيع الإدعاء بأن كل شيء على حاله وبخير .

استقام زياد ثم اقترب من صديقه ، يقف بجانبه مربتاً على كتفه بدعم :

_ إنه الحب يا صديقي يفعل بنا أشياء غريبة ..يجعلنا لا نعرف أنفسنا حقا ..لكن صدقني نحن محظوظون لوقوعنا به
نظر عاصم نحو زياد يحاول تشرب كلماته التي ينطق بها ، وكأنها ستكون دعماً له في القادم من الأيام :
_ خذها نصيحة مني يا عاصم ، في الحب لا ينفع السكوت أبداً .. بل الأمر يشبه المعركة التي يجب عليك أن تخوضها لتخرج منها منتصراً .. لا تمضي أيامك وأنت خائف من التصريح لها ،فيأتي من يمتلك شجاعة أكثر منك ،فيختطفها دون أن تستطيع منعه .

اهتزت حدقتي عاصم بتوتر مع آخر جملة تلفظ بها زياد ، بينما زياد كان يعلم كم قسي عليه بكلماته تلك لكن مع حالة عاصم المستعصية يجب عليه أن يفعل ذلك وأكثر ، لذلك
انسحب تاركا صديقه يصارع ما بين قلبه وعقله
........
توقف ميار عن تذكيرهم بالتعليمات الخاصة بحفل اليوم ، ثم طلب منهم أن يبدأوا بجمع أغراضهم استعداداً للمغادرة نحو منازلهم ، نظراته الطيبة شملتهم جميعاً ، أعضاء فرقته المميزين ، ينتمون لأعمار مختلفة تتراوح بين الثامنة العشرة والخامسة والعشرين وهو نفسه لا يكبرهم سوى بعدة أعوام فقط ، لكنه درس الموسيقى وتخرج ليصبح مدرباً في هذا المعهد الضخم الذي يتوسط المدينة
اقترب من حسان عازف القانون يساعده على توضيب آلته الموسيقية ، حسان الذي يعاني من مشاكل في نمو جسده فيبدو للناظر إليه طفلاً لم يتعدى العاشرة بحجم جسده الصغير ،و بجانبه كانت حياة قد أنتهت من توضيب آلة الكمان خاصتها ، ثم نظرت نحو ميار تشير له بأنها انتهت وستغادر لوصول والديها ، فهم إشارتها ، فأومأ لها بالموافقة ، يراقب خطواتها المرحة وهي تغادر ، قال حسان بعد أن وضع آلته جانبا ً
_ هل سنجتمع هنا قبل الحفل أم في الصالة المخصصة له ؟
استقام ميار واقفاً وهو يقول :
_ سنجتمع هنا ، ثم ننطلق بحافلة المعهد نحو الصالة ، أفضل هذا يا حسان كي نضمن عدم تأخر أحدكم
أومأ حسان بالقبول لما يقوله مدربه ، ثم راقبه وهو يتجه نحو البقية من زملائه ، سند وغياث و رولا و شادية ، أربعتهم يعزفون على آلات موسيقية مختلفة ، لكن أبرعهم بنظره هو سند والذي رغم فقدانه لنعمة البصر إلا أن عزفه على الناي مميز ، يغازل الروح بألحانه فتشدو متيمة بما تسمع
وفي الجهة المقابلة لهم كانت ياسمين و سعاد وتامر وأسامة يتبادلون أطراف الحديث ، ياسمين التي يراها الأقوى بينهم ، قوة تعطيهم جميعاً دفعاً نحو تقديم أفضل مالديهم حين سماع صوتها العذب ، سعاد المتفردة بعزفها على آلة الكمان ، تامر العازف على آلة العود ، وأسامة يجيد العزف على آلة الدف والطبلة
، منذ سنة انضم لهذه الفرقة بعد أن أقنعه ابن عمه بذلك
تنهد بألم لتلك الذكريات منذ عامين مضيا ، لقد كان شبه منعزل عن العالم ، لا يتعامل إلا مع أفراد عائلته ، يؤلمه مايراه من نظرات الناس له ولشكله المختلف ، الألم كان كسكين ثلمة تذبح روحه رويداً رويداً ، تدفعه نحو عزلة اختيارية ، يبتعد بها عن تلك العيون الفضولية ، العيون المشفقة ، والعيون التي لا ترحم بنظراتها وكأنهم يحملونه ذنب ولادته بشكل مختلف عنهم ، لكنه بداخله يماثلهم بكل شيء ، لديه قلب ينبض ، عقل يفكر ، وروح تتعذب من تلك النظرات
لكن عائلته لم تقبل بعزلته ،وهم فقط من كانوا يشعرونه بأنه ملاك هبط إليهم من السماء ، يعاملونه كنعمة خاصة حباهم الله بها ، علمه والده العزف ، فيما والدته علمته اتقان أكثر من لغة كونها كانت تعنل كدليل سياحي في إحدى الشركات السياحية ، إضافة لتمكنه من التخرج من الجامعة بفضل دعمهم اللامحدود له ، قدرته المميزة على التعامل مع الأرقام جعلته ينهي جامعته بتقدير ممتاز ، وحينها طلب منه ابن عمه أن يعمل معه في شركة محاسبة صغيرة بدوام مسائي مريح له ، وبعدها أقنعه بالانتساب الى هذا المعهد ، في البداية رفض الأمر ، فهو لم يعد يريد مزيداً من الاختلاط بالناس ، في العمل يسعده وجوده بمكتب خاص به تعامله يقتصر على مجموعة محددة من الأشخاص ، لكن انتسابه للمعهد يعني مزيداً من الاختلاط وهو لم يكن براغب لهذا الأمر ، فقد سبق وجربه في معهد آخر ، لكن باصرار والدته ووالده قبل بالأمر على أن يكون كتجربة لمدة بسيطة ، لكن المدة طالت لتتخطى العام ، وهاهو اليوم يتحضر للمشاركة في حفلهم الثاني وهذه المرة على مسرح من أهم مسارح المدينة
وجود هؤلاء الأشخاص في فرقته ، وجود قائد الفرقة ميار ومساعدته مدى جعلا من الساعات التي يقضيها برفقتهم أجمل الساعات لقلبه
من خلال أعينهم بات يرى نفسه انساناً طبيعياً لا ينقصه أي شيء ،حتى في عمله بات أكثر اختلاطاً وأكثر انطلاقاً
ابتسم بسعادة وهو يبتعد بنظراته عنهم متمتماً بالحمد لله على نعمة وجوده بينهم
دقائق وكان الجميع قد غادر المكان على وعد باللقاء بعد ساعات
……
وصل حسان لمدخل الشارع المؤدي لمنزلهم ، فوصله صوت أبو سعيد صاحب متجر الخضار في شارعهم
اقترب منه ملقياً التحية عليه بابتسامة بشوشة ، ردها له أبو سعيد بالمثل وهو يحني قامته قليلاً ملتقطاً كف حسان في يده ، متبادلاً معه السلام ، وهو يقول :
_ لقد سمعت من شقيقك عن الحفل الذي ستقيمونه اليوم ، وأنه سيذاع على الإذاعة
أومأ حسان بأجل ، فأكمل الرجل الطيب :
_ إنه لأمر جميل يا حسان ، اتمنى لك التوفيق دائماً يا ولدي
شكره حسان قبل أن يبتعد متجهاً نحو منزله ، فلمح أبو سعيد اقتراب ولده سعيد منه ونظراته توحي باشمئزاز غريب ، يثير نفوره من تفكير ولده ، وازداد هذا النفور أكثر وولده يتشدق بالقول :
_ هذا ما كان ينقص يومي رؤية هذا القزم
ضربه والده بقسوة على كتفه ، مما تسبب له بالألم فرفع ذراعه يربت فوق مكان الضربة. فيما والده ينهره بغضب :
_ توقف عن قسوتك هذه ، ألا يوجد داخل قلبك هذا أي ذرة رحمة
رد عليه ولده بنبرة غاضبة
_ ولم تدافع عنه بهذا الشكل ؟
تنهد أبو سعيد من تفكير ولده وهو يقول له :
_ كم مرة علي أن أخبرك أن الله خلقنا مختلفين لحكمة يعلمها هو وحده ، وحسان مختلف عنا بجسده لكن أخبرني هل عقله مختلف أو قلبه
وإن كان كذلك هل علينا أن نكرهه وننفر منه
أحس سعيد بتأنيب ضمير لحظي ، لكنه سينساه لا محالة حين يجتمع بشلته التي يعتاد على الاجتماع معها للهو وتبديد الوقت
تلك النظرة المتأسفة منه جعلت والده يشعر بالغبطة وهو يظن أن ولده سيعود لرشده ، لذلك ربت على كتفه وهو يقول :
_ حسان مميز ربما أكثر من الكثير من الأشخاص حولنا
علم سعيد أن والده يقصد أصدقائه ، لكنه أخفى امتعاضه من هذه المقارنة كي لا يدخل بسجال لا ينتهي مع والده
ترك لوالده حرية الحديث عن حسان وهو يومأ برأسه بأجل ، فيما عقله مشغول بتلك الجلسة التي سيعقدها اليوم واصدقائه والتي لو يعلم والده أن حسان سيكون نجمها الأول ، فمن غير المعقول أن يمرر أصدقائه نجاح حسان في هذا اليوم دون تهكم وسخرية
…..
وصل حسان إلى المنزل ، فتح الباب لتصله رائحة الطعام الشهي ، إنها وجبة ورق العنب المحشو المميزة التي يعشقها ، لا بُد أن والدته قد صنعتها خصيصاً له ، دخل نحو الصالة منادياً لها بصوت عالي ، فأجابته أنها بالمطبخ ، اتجه نحو المطبخ بابتسامته التي تزين وجهه دائماً بحضرتها ، وجدها جالسة تقوم بتقطيع بعض الخضروات ، اقترب منها بطوله الذي يوازي طولها وهي جالسة ،مقبلاً قمة رأسها وهو يقول :
_ كيف حال والدتي الغالية
ربتت على كتفه وهي تتأمل ملامح وجهه بفخر لا يغيب عن نظراتها أبداً :
_ أنا بخير ، طالما أنت وأشقائك بخير
عاد يقبل وجنتها وهو يدعو أن يديمها الله في حياتهم ، ثم قال وأنفه يستقبل الرائحة الشهية :
_ رائحة الطعام شهية جداً
قالت والدته وهي تستقيم واقفة لتفقد القدر :
_ بدل ملابسك ريثما أسكب الطعام
رنين هاتفه جعله يغادر المطبخ مجيباً ابن عمه والذي بادره قائلاً :
_ حسان ، هل أنهيت العمل يا ابن عمي
ضحك حسان وهو يجيبه :
_ ألم يعلمك عمي أن تلقي التحية أولاً
قهقه ابن عمه معتذراً منه ، فأجابه حسان :
_ لاعليك يا ابن عمي ، لقد أنهيت العمل وسأرسل لك كل شيء حالاً على الإيميل الخاص بك ، ولا تنس أن تكون متواجداً في حفلة اليوم

أجابه ابن عمه بالشكر وأكد له أنه سيحضر حفل الليلة
أغلق حسان الهاتف ثم اتجه نحو غرفته التي يتشاركها مع شقيقه ، ليقوم بتبديل ملابسه ثم إرسال ملفات العمل لابن عمه
…..
انتهت شادية من ارتداء ملابسها الخاصة بالحفل ، أسندت نفسها للتمكن من الوقوف أمام المرآة ، نظرت لانعكاس صورتها فيها ، تتأمل جسدها الذي غطاه ثوب كريمي اللون ناسب سمرة بشرتها الخفيفة ، ينسدل بشكل واسع نحو الأرض ، وأكمامه من الدانتيل التي أعطت للثوب جمالاً إضافياً
خصلات شعرها المتوسطة الطول قامت بجمعها بجديلة مزينة بحبات صغيرة من اللؤلؤ ، فجعلتها تبدو كعروس بحر هاربة من الأساطير
ضحكت للتشبيه الذي خطر على ذهنها ، فقاطع ضحكاتها صوت والدتها التي دخلت غرفتها تطلب منها الإسراع
توقفت خطوات والدتها وهي تتأمل ابنتها بهذا الثوب الذي اقتنته منذ مدة لكنها لم تجد مناسبة لترتديه بها ، ابنتها أميرة بنظرها ، نظرة خاطفة نحو عكازيها جعلت تلك الغصة تعود وبقوة لصدرها ، فتترك قلبها ملكوماً بحزن ، أوهمت نفسها أنها أجادت إخفاءه عن ابنتها
_ ما شاء الله ، تبدين رائعة يا شوشو
ضحكت شادية وهي تقبل وجنة أمها ثم تتناول عكازيها ليساعداها على السير وهي تقول :
_ أجلي وصلة المديح خاصتك يا أمي ،فلقد تأخرنا
وسبقت والدتها بخطوة هاربة من نظرتها تلك التي رأتها بعينيها وهي تتأملها منذ لحظات
بينما مسحت والدتها دمعتين غافلتاها رغماً عنها وهي تناظر حركة ابنتها بواسطة العكازين ، خرجتا من باب منزلهما نحو مخرج البناية حيث يقبع منزلهما في الطابق الأرضي ، وبجانبه منزل جارة لهما ، ألقيتا التحية عليها وهي تقف قرب باب شقتها مع جارة أخرى ،ثم تابعتا سيرهما نحو السيارة التي ستقلهما للحفل ، غافلتان عن تلك النظرات التي صدرت عن الإمرأتين ، واللاتي لا يتركن مناسبة لا يمارسن فيها هوايتهن بالثرثرة الفارغة ، قالت إحداهما للأخرى :
_ هل رأيت كم تبدو شادية جميلة اليوم ، لقد سمعت أنها ستعزف في حفل ضخم
أجابتها المعنية بالسؤال وعيناها تناظران ابتعاد شادية ووالدتها ببعض الغرور والحقد :
_ وماذا سيفيدها عزفها في الحفلات ،هل ستعود فتاة كاملة أم ستجد عريساً يتزوجها وهي بعلتها هذه

كلمات سامة خرجت من فمها دون أدنى شفقة ، غير مهتمة إن كانت وصلت كلماتها للفتاة ووالدتها ، بينما تصادق الجارة على كلامها بغباء :
_ أجل المسكينة ، رغم جمال وجهها لكن علتها تبعد عنها أي راغب بالزواج
أخرجت ضحكة متشفية وهي تلاحظ بطرف عينيها توقف خطوة والدة شادية لثانية ثم متابعتها للسير، فأيقنت أن كلماتها وصلتها ، وهذا ما تريده
سحبت جارتها من يدها نحو الداخل ، وهي تقول بينما تغلق باب الشقة :
_ تعالي حدثيني عن هذا الحفل وكم ستجني العاجزة منه
…….
أنهى سند تحضير نفسه ، ثم خرج نحو ساحة المنزل متلمساً طريقه بعصاه ، نادى بصوت عالي :
_ جدتي أين أنت
فأتاه صوتها الوهن بسبب تقدمها في السن :
_ أنا هنا يا ولدي
خطا نحو مجلسها تحت شجرة الليمون والتي تعبق الدار برائحتها في هذا الوقت من العام ، مدت يدها تتلقف يده لتساعده على الجلوس بجانبها ،ففعل ذلك هامساً لها
_ حفظك الله لي يا جدتي
مدت كفي يدها تنفض ذرات غبار وهمية عن كتفيه ،وعيناها تشعان بفخر عظيم ، همست له بالدعاء ، فقال سند :
_ جدتي غيري رأيك ورافقيني للحفل
قالت وهي ترتب له خصلات شعره بمشط صغير خاص تبقيه في جيب ثوبها التقليدي :
_ لست من هواة هذه الحفلات ، سأسمعك عبر الإذاعة لا تقلق
قبل يدها بعد أن أنهت ترتيب خصلات شعره ، فاستقام واقفاً ، بيده حمل الحقيبة التي تحوي آلته الموسيقية وبيده الأخرى عصاه التي تساعده أثناء المسير ، ثم غادر المنزل بعد أن ودّع جدته ، فالحافلة التي ستقله للمعهد وصلت لمدخل شارعه
…….
خرجت ياسمين من الحمام الملحق بغرفتها، ثم جلست على طرف سريرها تكمل تجفيف شعرها ، بداخلها حماس شديد لحفل اليوم ، وبذات الوقت تشعر برهبة كبيرة ، ابتسمت وهي تتذكر تعليمات مدى وميار لهم هذا اليوم عن قدرتهم على تقديم الأفضل طالما عملوا بروح الفريق الواحدة
وضعت المنشفة التي كانت تجفف بها شعرها جانباً ، ثم استقامت واقفة تقترب من خزانة ملابسها ، مدت يديها تتلمس الثوب الذي علقته سابقاً على باب الخزانة ، لقد انتقته رفقة جوري وحلا خصيصاً لهذه الحفلة
ابتسامتها زادت وهي تفكر بأن عاصم سيكون متواجداً في حفل اليوم ، سيراها وهي تخطو نحو حلمها الذي حدثته عنه قبلاً
قطع أحلامها بخصوص عاصم دخول جوري المفاجئ للغرفة وهي تقول لها
_ ألم تتجهزي بعد يا ياسمين ، سنتأخر بهذا الشكل
أجابتها ياسمين بينما تأخذ الثوب عن العلاّقة الخاصة به :
_ خمس دقائق فقط يا جوري ، وأكون جاهزة
أجابتها جوري بأجل ثم اقتربت تساعدها على غلق سحاب الثوب ، وتصفيف شعرها
بعد أن انتهيتا ابتعدت جوري خطوة عنها تتأملها بعاطفة أم لابنتها أكثر منها عاطفة أخت لأختها الصغيرة ، ياسمين الصغيرة باتت اليوم شابة جميلة تخطف الأنظار بجمالها وبهائها
دموع تجمعت بمقلتيها وهي تناظر شقيقتها بفخر ، لكنها سرعان ما مسحتها وهي تطلب منها أن يغادرا نحو مقصدهما
……
وقفت ياسمين خلف كواليس المسرح تنتظر الوقت الذي ستطل به عليه
تحاول السيطرة قدر الإمكان على توترها
تفكر بأنها لا يجب أن تكون بهذا الشكل ، لقد أمضت وقتاً طويلاً تتحضر لهذا الحفل الذي يقام هذه المرة في أهم مسارح المدينة
إنه حلم
حلم من أحلامها الكثيرة
وها هو يتحقق
الموسيقا والغناء عشقها الأول والأخير
وبفضل تشجيع شقيقتها جوري ووالدها استطاعت أن تخطو نحو حلمها متحدية وضعها الذي فُرض عليها
فهل ستسمح لتوترها أن يسلب فرحتها بتحقيق حلمها
كانت جوري تقف خلفها ، ترتب خصلات شعرها من جديد بوضع دبابيس إضافية ، ومن خلفهما كانت حلا تقف تراقب توتر جوري الواضح على ملامحها أكثر من ياسمين نفسها ، وكأنها من ستغني في الحفل وليس شقيقتها
قالت ياسمين بصوت يحمل نبرة مرتجفة ، فيما يديها تقبضان على الثوب الذي ترتديه ، في محاولة منها لمنع القلق من التسلل إليها ، فمهما إدعينا القوة تبقى هناك لحظات نفقدها فيها ، لشعورنا بالخوف من عدم النجاح فيما صبونا إليه ، وهذا كان حال ياسمين :

_ إني متوترة للغاية … جوري

أجابتها شقيقتها بنعم ، فأكملت ياسمين كلامها :
_ هل تعتقدين أننا سننال استحسانهم .. إنها المرة الأولى التي سأغني فيها أمام جمهور كبير بهذا الشكل ، لم أعتد على هذا الأمر بعد

أنهت جوري وضع دبابيس الشعر، ثم امسكت بيدها تديرها نحوها ، فالتف الثوب معها حول جسدها ليعود وينسدل برقة تشبه صاحبته ، شدّت جوري على كف يدها بدعم قائلة فيما ابتسامتها تزين ثغرها ، تنظر في عيني شقيقتها وكأن ياسمين ستشاهد ماتحمله حدقتاها من فخر بها، لكن بالتأكيد نبرة صوت جوري أوصلت لها كل ذلك :

_ ثقي أنكم ستتفوقون في هذا اليوم ، وستقدمون أفضل ما لديكم

ثم تابعت وابتسامتها تتحول لضحكة خافتة :
_ ثم هيا لم هذا الخوف ، وأنت من كنت متشوقة لمثل هذا الحفل..

وقبل أن تتمكن ياسمين من إجابتها ، كان رنين هاتف جوري يعلو مما جعلها تترك كف شقيقتها لتجيب ، ولكن قبل أن تنظر نحو الشاشة لتعلم هوية المتصل ، قالت ياسمين بسعادة :

_ إنه عاصم أليس كذلك ؟

لم تستغرب جوري معرفة ياسمين لهوية المتصل فهي اعتادت مثل هذا الأمر منها، وكأن لديها حاسة إضافية تجعلها تعلم الكثير من الأمور ، بعكس حلا التي نظرت لها بتساؤل ضمني

( كيف تستطيع أن تعرف أنه هو المتصل دائماً )

أجابت جوري على الهاتف بترحاب لتقول بعد أن استمعت إليه :

_ إنه يريد محادثتك ياسمين

أخذت ياسمين الهاتف وقد زال كل توترها هامسة بصوتها العذب :

_ أخبرني أنك هذه المرة ستحضر الحفل ، ولن تفوته كما فعلت في المرة السابقة

على الجهة المقابلة كان عاصم يقف أمام سيارته ، يراقب الوافدين لحضور الحفل ، قال بنبرة حاول جهده أن يظهرها طبيعيةً، فلا يفضح مشاعره أمامها :

_وهل يعقل أن أدع حفلك يفوتني ...إنني في الخارج ، بإنتظار أن تزيني المسرح بظهورك البهي

وصله صوتها المهلل بفرح ، فأغمض عينيه يتشرب كلماتها وكأنه يختزن كل حرف من حروفها بداخله

بينما هي ادارت ظهرها لجوري وكأن مشاعرها ستظهر جلية على ملامح وجهها ، فهل يسعدها أكثر من وجوده قريباً منها :

_حقاً ، يا إلهي أنا سعيدة جداً أنك هنا عاصم ، لقد أخبرت جوري أنك لن تفوت هذا الحفل ، لإنك تعلم أهميته بالنسبة لي ..أنت يجب أن تكون معي في هذا اليوم ، وبقربي

كانت جوري تناظر شقيقتها دون استغراب فهي تعي تعلق ياسمين بعاصم ، تعلق بدأ منذ سنوات طويلة ولم تخف وطأته أبداً
أما حلا فزادت تلك التساؤلات بداخلها حول ذلك السر بكل هذا الإهتمام من قبل ياسمين بوجود عاصم ، لتبتسم بأمل لأمر دار في خلدها ، فهي تحب ياسمين جداً وتتمنى أن تنال نصيبها من السعادة
بينما ياسمين كانت تبتسم وصوته يصلها :

_ سأنتظر انتهاء الحفل ياسمينة ، لأعطيك هديتك التي وعدتك بإحضارها

همست بخفوت وهي تغمض عينيها تحاول كذلك تهدئة ذلك الضجيج اللذيذ في صدرها ، ضجيج يسري بأوردتها فينعشها :

_أنت هديتي عاصم ولا أريد سوى أن تكون موجوداً .. مع السلامة

عند نطقها لهذه الجملة وبتلك المشاعر التي استقرأتها جوري واضحة في صوت شقيقتها، أحست بالصدمة ، لتزداد صدمتها حين التفت إليها جوري بملامح مشعة بغرابة ، أخذت الهاتف من كف ياسمين بشرود ، وهي تفكر بينما تلاحظ ابتسامة شقيقتها السعيدة ، وكأن كل توترها الذي كان منذ لحظات زال دون أي أثر :

(هل يعقل أن تكون ياسمين عاشقة ..كلا لا يمكن .. إنه مجرد تعلق به لا أكثر وهو من كان قريباً منها منذ سنوات مضت ، تعلق فتاة صغيرة بابن عمها الذي يكبرها بسنوات كثيرة لا أكثر )

ابعدت جوري تلك الأفكار التي هاجمتها عن رأسها ، حين وصل مدرب ياسمين إليهم
هو قائد فرقتهم ومدربها منذ عام ونصف
علاقة صداقة تكونت بينه وبين ياسمين ، وكم كانت جوري سعيدة بهذه الصداقة ، إضافة الى الصداقات التي كونتها مع زملائها بالفرقة ، ألقى ميّار التحية عليهم ، فاستأذنت حلا بالذهاب هامسة لجوري :
_ إن كرم ينتظرني ، سنكون متواجدين في المسرح
راقبت جوري خروج حلا بابتسامة ، فصديقتها وأخيراً تمكنت من كسر تلك القوقعة التي أحاطت نفسها بها ، لتسمح لكرم بأن يزين حياتها بوجوده وحبه الكبير الذي ترى انعكاسه واضحاً على ملامحها
نظر ميّار نحو ياسمين بفخر وهو يقول :

_ هل أنت جاهزة ياسمين ، الفرقة أخذت مكانها فوق خشبة المسرح، ولم يتبق سواك لتطلّ على الجمهور

قالت وهي تمسد ثوبها الفضي اللون بكفيها ، وابتسامتها تزين وجهها ، فيما عيناها ثابتتان مكانهما لا تتحركان :

_ أنا جاهزة ،هيا بنا جوري

امسكتها جوري من يدها ، تقودها نحو الخارج ، ليوقفها صوت ميّار مجددا ً، بنبرته المشجعة لها والفخورة بها :

_ سأكون قريباً منك ياسمين .. أنت ستبهرين الجميع اليوم

ابتسمت جوري له بإمتنان لتشجيعه لشقيقتها، ثم اكملتا طريقهما نحو خشبة المسرح
عاد بعض التوتر إليها ، وأصوات الناس المتجمعين في المسرح تصلها ، فالجمع اليوم كبير ومهما حاولت إدعاء الشجاعة ، يبقى للمرة الأولى رهبتها في داخلها ، اقترب منهما تيم و الذي كان يقف قرب الباب المؤدي إلى خشبة المسرح قائلاً :

_ ستكونين مميزة يا ياسمين

_شكرا لك تيم

أجابته بابتسامتها المعهودة قبل أن تكمل مسيرها مع شقيقتها ، ساعدتها جوري لتأخذ مكانها أمام مكبر الصوت ، وبعدها عادت أدراجها نحو المنطقة المخصصة لمراقبة المسرح في الخلف
كان عاصم قد اتخذ مكانه قرب شقيقته سراب التي قررت أن تحضر هذه المرة حفل ياسمين ، لم يعلم كيف سارع بخطواته ليصل قبل ظهورها
مازال صدره يعلو ويهبط نتيجة إسراعه للوصول إلى داخل القاعة

عيناه تعلقت بها وهي تقف على المسرح تحيي الجمهور
كفراشة فضية اللون أطلت لتخطف القلوب
كأميرة هاربة من الأساطير كما تخيلها دائماً
شعرها العسلي مفرود على ظهرها باسترسال خطف نبضة من قلبه ، فيما ابتسامة شفتيها المطليتين بلون وردي غامق ، جعلتا قلبه يهدر بعنف داخل صدره
استعادت أذناه صوت همسها
( أنت هديتي عاصم ولا أريد سوى أن تكون موجوداً )
هل يعقل أنها تعني ما فهمه ، أم أن عقله من يوهمه
كلا هكذا هي ياسمين حين تخاطبه تشعره أنه فقط محور الكون لديها
لكن هل هذا يعني أنها تشعر به ، هل يعني أنها تبادله الحب
تربيتة من كف شقيقته التي تجلس قربه مبتسمة أعادته الى أرض الواقع
ليعود الى مراقبة معذبة فؤاده وهي تشدو بصوتها العذب ، وكأنها تروي قصتها ، قصة من ماثلها وضعاً ، يخطو نحو تحقيق حلم امتلكه ، فما كبلته إعاقة جسدية ، أو حسيّة ، أمله موجود ، وإصراره موجود ، لذلك طعم النجاح لديه يكون بنكهة مختلفة :

( لاتسأل الورد كيف….بعطري سراً يغني
ويملأ الكون صيفاً…. بقلبه المطمئن
لا يحمل الورد هماً …. يرفع المحب حكماً
وليس يسأل عمن… يدعوه ألا يغني
غنّ
اذاً انت غنّ
و قل لحلمك أني آتٍ
وإن كنت عني بعد السماء بعيد …
لو طال في العمر جرحٌ…. بعد المعاناة صبحٌ
والشمس كالناس تصحو … في كل يوم جديد
غنّ
جاروا كثيراً عليك… وقيدوا معصميك
كن واثقاً لا عليك … اكسر القيد وغنّ
والحلم في القلب صنّه … لاتشغل العين عنه
فنحن بالحب نزهو ...ونحن بالحلم نبني
غنّ)
فايا يونان
……..


فاتن منصور غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس