عرض مشاركة واحدة
قديم 06-03-21, 08:19 PM   #8

فاتن منصور

كاتبة في قسم قصص من وحي الاعضاء


? العضوٌ??? » 417764
?  التسِجيلٌ » Feb 2018
? مشَارَ?اتْي » 133
?  نُقآطِيْ » فاتن منصور is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الثالث

حسبي وحسبك
أن تظلي دائما
سراً يمزقني
وليس يقال
نزار قباني
……...


عدة أيام قد مرت عليها دون أن تراه أو تسمع صوته وليس من عادته الابتعاد بهذا الشكل
تشعر بشعور غريب وجديد عليها من الوحدة
جوري مشغولة بعملها وكذلك مع ورد والصغيرة ، تكاد لا تراها إلا لماماً في المساء فقط
أما هي فقد أغرقت نفسها أكثر بتدريبات الفرقة
باتت تتدرب لساعات إضافية متناسية كل شيء
بل بالأصح تحاول أن تنسى
تنسى أنه لأول مرة يبتعد كل هذه المدة دون أن يكلمها
بأن هناك أموراً تغيرت منذ فترة بينهما ، ولكنها كانت لا تنتبه لها
هل حقا كما قالت جوري توجد فتاة يحبها لذلك هو مشغول بها الآن
حاولت إبعاد تلك الفكرة عن رأسها فهي تنكر هذا الأمر وبشدة
كلا لايوجد أي فتاة بحياته، وإلا كان أخبرها فهو لطالما كان يخبرها بكل شيء يخصه
تنهدت بتعب وهي تحاول ألا تغرق بكآبة أفكارها أكثر
تنبهت حواسها وهي تنتبه لجلوس أحدهم بقربها في الركن البعيد من صالة التدريبات الذي اختارته لتحظى ببعض الخصوصية
قالت وهي تحاول رسم ابتسامة على وجهها :
_ أهلا شادية ، لقد ظننتك لن تحضري اليوم
أجابتها شادية بصوت خافت حزين :
_ أهلاً ياسمين
تنبهت ياسمين للنبرة المنكسرة التي يحملها صوت صديقتها ، فمدت يدها تربت على كتفها قائلة :
_ ما الأمر ، لم أنت حزينة بهذا الشكل
لم تستطع شادية أن تكبح دموعها التي انهمرت بقوة ، وكم حمدت الله لأن ياسمين اختارت هذا المكان البعيد نسبياً عن أعضاء الفرقة الباقيين ، فهي لا تريد لأحد أن يراها بهذا الوضع ، بكاؤها جعل قلب ياسمين يختض بداخلها خوفاً على صديقتها ، فبحثت بكفي يدها عن وجه الأخيرة ، تمسح بهما دموعها التي تسابقت للهطول وهي تقول :
_ لا تفزعي قلبي عليكي ، و أخبريني ما الذي حصل لتنهار هكذا ؟
لامت شادية نفسها وهي تستمع لنبرة صوت ياسمين المتوترة والخائفة ، فقالت وهي تمسح دموعها :
_ انا فقط اشعر بألم في صدري يا ياسمين ، وأحتاج للحديث

أمسكت ياسمين بكف يدها وهي تربت عليها ، تهمس لها بصوتها الحنون :
_ما الأمر تحدثي ، أخرجي ما في قلبك
اعتدلت شادية بجلستها ، تضع العكازين بجانبها ، شردت للحظات في الفراغ ، ثم قالت ببحة زادتها دموعها التي عادت للتجمع في عينيها انكساراً ، بينما تعقد يديها فوق حجرها تحاول ألا تنهار هنا :
_ إنه نفس الأمر ، نفس النظرات التي أراها في عيون من حولي حين يشاهدونني
وخزات من الألم ضربت قلب ياسمين وهي تعي مقصدها ، فقد سبق وحدثتهم شادية عن مشكلتها في يومها الأول لها معهم في هذه الفرقة
، امسكت بعصاها التي تساعدها أثناء المشي ، وكأنها تطلب منها العون ، بينما أكملت شادية بحرقة :
_ ولكني كنت قد أوهمت نفسي بأني لا اهتم ، لا اكترث
لكن اليوم لم استطع التجاهل أكثر ، لم أستطع إلا أن أشعر بانشطار روحي لقسمين
وانخرطت مجدداً بالبكاء ، ضمتها ياسمين إليها وهي تربت على ظهرها قائلة :
_ لم كل هذا
عادت شادية تبتعد عنها وقد تحول بكائها لشهقات ناعمة ، أغمضت عيناها للحظة وكأنها تهرب من تلك الذكريات ، ثم عادت تقول :
_ اليوم وصلت زوجة خالي وابنتها من السفر ، ابنة خالي كانت صديقتي المقربة في سنوات طفولتنا ، لكننا افترقنا بسبب سفر أهلها للخارج ، اليوم كانت سعادتي كبيرة وأنا اتحضر لاستقبالهم ، أعد ما تحب من أطباق شهية لأشعرها بأنني لم أنساها لحظة واحدة ، لكن صدمتي كانت كبيرة و أنا أرى نظرات النفور منها ومن صديقة احضرتها معها
استنكرت ياسمين ما سمعته ، وشعور بالغضب بدأ يتولد لديها ، بينما شادية تكمل اعترافاتها :
_ لقد سمعتهما يا ياسمين يستهزئون من شكل قدميّ، لم تهتما أنه من الممكن أن أكون قد سمعتهما ، لم يهتما لإيلامي بضحكاتهما تلك ، و أنا أنظر لنفسي لأول مرة و أجد أن هناك نقصاً تناسيته
رفعت رأسها تناظر صديقتها وكأنها تشعر بأن ياسمبن ترى ملامحها الآن ، تكمل بتساؤل مرير :
_هل تناسيته حقاً ، كلا أنا لم أنسى

_ توقفي عن هذا الهذيان
أمرتها ياسمين بحزم ، ثم عادت تمسك كف يدها ، تضغط عليه برفق وهي تقول :
_ أنت بالتأكيد مختلفة عنهما ، لكن الاختلاف بداخلك يا شادية ، هما من تنقصهما الرحمة وينقصهما الضمير ، هما الغافلتان عن الجوهرة التي تكونينها أنت
عندما لامست بحدسها الذي لا يغيب عدم اقتناع شادية بكلماتها ، اكملت بهمس جاد :
_ لو ان الله خلقنا متشابهين يا شادية ، نوع واحد من الزهور بلون واحد فقط في بستان ضخم ، ضخم جداً هل كان هذا ليجعلنا نشعر بتميزنا ، ليجعلنا نشعر بالنعم التي اسبغها الله علينا
نحن ننتمي لبستان ضخم ، لكنه مزدان بأنواع كثيرة جداً من الزهور ، و الملونة بألوان مختلفة ، ولكل زهرة مايجعلها مميزة ، وكذلك هناك الاعشاب الضارة التي تحاول بشتى الطرق أذية هذه الزهور
فلم نسمح لها أن تصل لما تريده
ربما أنت لا تمتلكين قدمين صحيحتين ، و أنا لا أرى لكن صدقيني بأننا نمتلك أشياء أخرى تعوض عن هذا الأمر
والأهم أننا نمتلك قلبا رحيماً يا شادية
ونمتلك صداقتنا ودعمنا لبعضنا ، نمتلك عائلة تحبنا ، نمتلك الكثير صدقيني ، لذلك انفضي عن ذهنك ما حدث منهما ، وعودي صديقتي شادية التي تنشر البهجة حولها بمزاحها الرقيق ومقالبها التي لا تنتهي
ارتسمت ابتسامة ممتنة على وجه شادية وهي تقول :
_ الأهم أني امتلك صديقة مثلك يا ياسمين ، قوية ، وتعطي دعما لا محدود لمن حولها


كان ميار واقفاً بالقرب منهما وقد وصل إليه بعض من كلمات ياسمين ، كم يحب قوتها هذه ، تصرفاتها التي لا تصدر إلا عن انسانة تمتلك شخصية قوية وبذات الوقت رقيقة كزهرة الياسمين كما اسمها
راقب مغادرة شادية بعيداً عنها بعد أن استعاد وجهها لونه الطبيعي ، واستعادت الابتسامة التي تميزها ، أنهى إعطاء تعليماته لحسان بخصوص بعض التدريبات ، ثم عادت عيناه لمراقبتها وهي ما تزال على ذات الجلسة ، ويبدو أنها غارقة بالتفكير بأمر ما يجعلها منفصلة عنهم بهذا الشكل هذا اليوم
يداها تتحركان برتابة على العصا التي تستعملها أثناء المشي
هناك أمر يحزنها ، فهو لم يعتد ملامحها المتجهمة بهذا الشكل ، ولا شرودها أثناء العمل ، يجب عليه معرفة مايشغل بالها بهذا الشكل .
أعطى إشارة للفريق بأن التدريب انتهى ، وعاد لوقفته الأولى وهو يضع يديه في جيبي سرواله الجينز ، يراقب تلك التعابير التي تتابع على صفحة وجهها
يحبها كيف يمكن له أن ينكر أنه يحبها
لأول مرة في حياته يذق مثل هذا الشعور
شعور أن يحب
عندما تغني يشعر بصوتها يسحر قلبه
وعندما تبتسم يشعر بصدى ابتسامتها يرتد داخل قلبه فيزيده سعادة
لذلك لن يدخر جهداً بأن يقترب منها
بأن تكون من نصيبه ، شريكة حياته القادمة
خطا نحوها ثم جلس قربها على مقعد مجاور ، قال وهو يشبك كفي يده ببعضهما ، ويسند مرفقيه إلى ركبتيه محنياً ظهره قليلاً :

_ أراك مشغولة الفكر هذه الأيام يا ياسمين ، ما الأمر أخبريني ؟هل أنت متعبة من التمارين أم ماذا ؟

توقفت عن حركاتها الرتيبة تتنهد محاولة ألا تظهر أي من مشاعرها على وجهها ، فهي لا تريد لأي أحد أن يعلم بما يعتمل بقلبها من حزن وألم وحيرة ، لذلك أجابته قائلة :

_ لاشئ بي ، كل ماهنالك أنني أود أن أكسر هذا الروتين الذي أعيش به

سألها وقد استشعر محاولتها لإخفاء حقيقة مايجول بداخلها :

_ ما الذي تريدين فعله ،أخبريني

قالت فيما عيناها كما العادة دائما تبدوان كما لو أنهما تنظران بثبات نحو نقطة معينة في الفراغ أمامها :

_ لاأعلم ،منذ أشهر وأنا أشعر أنني أمارس ذات الأشياء كل يوم ، أحب الغناء كثيراً ،لكني أرغب أن آخذ استراحة لفعل شيء آخر

استغرب كلامها ، وبذات الوقت شعر بضيق غريب بداخله من كلماتها ، سألها محاولاً أن يخمن سبب رغبتها بالإبتعاد عن أكثر شيء تحبه :

_ هل هناك ما يضايقك هنا ؟

أجابته نفياً وقد أزعجها أن الأمر وصله بهذا الشكل الخاطئ :

_ كلا ، كيف يمكن أن يكون هناك ما يضايقني هنا ، كل مافي الأمر أن اعتدت فعل أشياء كثيرة رفقة جوري لكنها هذه الفترة مشغولة جداً ولا أريد أن أعطلها عن التزاماتها

قال متفهماً لما قصدته ، وقد تسلل شعور بالراحة إليه بعد نفيها لوجود شئ يضايقها يخص وجودها بينهم :

_ مارأيك أن نحاول إيجاد أمر جديد نقوم به جميعاً ، فاعتقد أنك لست الوحيدة التي تعاني بسبب الروتين اليومي

استطاع أن يجذب انتباهها ، وقد ظهر ذلك على ملامح وجهها المارقبة لما سيقوله، فأكمل مبتسما ً

_ سوف نسأل الأنسة مدى ، ونرى ما الذي يمكن لنا أن نفعله من نشاط جماعي

اومأت برأسها إيجابا وقد شعرت ببعض السعادة لأنها ستشغل نفسها بعيداً عن كل هذا التفكير المرهق لها
اقتربت الأنسة مدى المسؤولة معه عن هذا الفرقة وتدريباتها قائلة بضحكة وهي تضييق عيناها وكأنها ضبطتهما يتحدثان عنها :

_ لقد سمعت إسمي يتردد هاهنا ، فأتيت لأعرف ماذا تقولون عني ، هيا اعترفا أنتما الاثنان

ثم جلست قربهما ، هي فتاة تماثل ميار بالعمر وتعمل كمدرسة مثله في هذا المعهد ويتقاسمان مسؤولية هذه الفرقة المميزة
قال ميار بمناكفة لها :

_ لا يمكن لي أن أخبرك ما الذي كنا نقوله عنك ؟ فقد تتسببين لنا بكارثة نحن بغنى عنها

تصنعت مدى الصدمة من حديثه وهي تهتف :
_ أنا سأتسبب بكارثة

نفت ياسمين ضاحكة ، وهي التي تعلم عن مشاكسات هذين الاثنين لبعضهما :

_ كلا لاتصدقي ذلك ، إنه يمازحك فقط

نظر لها بنظرات تحمل بين طياتها عشقاً من نوع خاص ، كم راقه أن الضحكة عادت لتزين وجهها ، كم يود لو يتمكن من إبقائها هكذا بقربه ، تبتسم له هذه الابتسامة ،كم يود أن …
هرب من أفكاره التي ستأخذ منحى خطيراً ،مدعياً الضحك وهو يقول :

_ بهذه السهولة تقرين بالأمر يا ياسمين
ثم رفع يديه علامة الاستسلام مخاطباً مدى :
_حسنا أنا أستسلم كنت أمازحك يا مدى

ثم أكمل بجدية ناظراً لزميلته :

_مدى ، إن ياسمين تطلب أن نقوم بنشاط جديد يحفز الفرقة أكثر، فيبدو أن بعض الملل نتيجة الروتين المتكرر بدأ يتسرب للبعض وهي أولهم

قالت مدى بابتسامة حنونة وهي تناظر أعضاء فرقتها التي تحب :

_لم لا ، جميعا نحتاج لأن نغير من روتين حياتنا بين فترة وأخرى ، ولكن هل وجدتما نشاطاً جديداً نقوم به بعيداً عن تدريبات الفرقة

أجابتها ياسمين برقتها المعهودة :

_ كلا لم نفعل بعد ،قررا أنتما ونحن ننفذ ، والآن أعتذر لعدم إكمالي الحديث معكما فأنا قد تأخرت ولابد أن جوري في طريقها إلي الآن ،انتظر بشوق اقتراحاتكما

واستقامت واقفة ، تمسك بعصاها لتستدل بها على الطريق ، بينما عينا ميار تراقبان خطواتها بعد أن اقتربت إحدى صديقاتها تمسك بيدها لتخرجا معاً
ثم استقام هو الآخر واقفاً يتبع مدى لمساعدة بعض أعضاء الفرقة في توضيب حاجياتهم قبيل المغادرة

وبعد أن غادر الجميع
جلست مدى على المقعد تلملم أشياءها فيما كان ميار يعيد بعض المعدات لأماكنها، قال وهو ينظر للقاعة الخاصة بالتدريب :

_ اتعلمين يا مدى أنني تعلقت بأعضاء هذه الفرقة كثيرا ً

قالت وهي تضع حقيبتها على كتفها استعداداً للرحيل ، بعد أن ربطت خصلات شعرها برباط مطاطي

_ وأنا مثلك تماما تعلقت بكل فرد منهم ، و الآن هيا بنا لقد تأخرنا كثيراً ، و الحافلة ستنطلق خلال لحظاتً

خرجا معا يسيران بجانب بعضهما حتى وصلا الى موقف الحافلات الخاصة بالمدربين ، صعدا الحافلة التي ستقلهما نحو المنزل ،
جلس قربها على المقعد وهو يقول

_ اتمنى أن نجد فعلاً طريقة للترفيه عنهم

أجابته فيما عينيها تراقب الطريق الذي يقطعانه كل يوم في ذهابهما وإيابهما لعملهما في المعهد الموسيقي

_ سأفكر بالأمر لا تقلق

هز رأسه بالإيجاب ثم أغمض عينيه محاولاً أخذ استراحة قبل وصوله لموقف منزلهم
ولكن راحته لم تطل وهاتفه يعلو بالرنين ، قالت مدى بمرح :
_ أجب على الهاتف ، فالجميع في هذه الحافلة يرغبون ببعض الهدوء
نظر لها شزراً ، لكنها حركت له كتفيها بعدم اهتمام وهي تدير وجهها عنه ، أجاب الاتصال قائلاً :
_ أهلاً شمس
نظرت له مدى بطرف عينيها وكأنها تسأله من شمس هذه ، فأغاظها بتحريك حاجبيه ، مما جعلها تزم شفتيها غضباً وتدير وجهها بعيداً عنه مجدداً ، لكن أذناها تلتقطان الحديث بشكل تام ، قال ميار بنبرة خجولة :
_ لقد نسيت اخبارهم بالأمر اعذريني ، غداً سأطلعهم عليه وأخبرك بما يجد من أمور ، حسناً إلى اللقاء
أغلق الهاتف ، ثم عاد يغمض عينيه ، محدثاً مدى بمشاكسة :
_ لن أخبرك بما تريده شمس ، ولا من تكون هي
أتاه صوتها بنبرة مستفزة :
_ وهل سمعتني أسألك عنها ، لوحدك ستأتي وتخبرني يا سيد ميار
_ سنرى
كانت هذه إجابته المستفزة هو الآحر ، قبل أن يشرد كل منهما بأمر يخصه
……
وصل الجميع إلى منزل سند ، ذلك المنزل الذي مازال محافظاً على عراقته رغم التطور العمراني حوله ، منزل بني بطراز قديم ، حيث تتوسط المنزل باحة واسعة زرعت في إحدى جوانبها شجرة ليمون ضخمة ، وعلى جنبات الباحة رصفت أصائص مختلفة الأحجام تحتوي على العديد من النباتات والزهور ، وفي وسطها نافورة ماء تزيد من المشهد جمالاً
بينما توزعت الغرف على جوانب الباحة ، لتطل نوافذها العملاقة على باحة الدار
لقد طلب منهم سند أن يكون منزله محطة لقائهم المنتظر بالصحفية شمس ..
بعد أن حدثهم ميار عن رغبتها بلقائهم .
قابلوها لتخبرهم عن الأمر الذي دار بخلدها عقب حضورها للحفل الذي أقاموه قبل مدة ، وبعد موافقتهم اقترح سند أن يجتمعوا في منزله ، فهو يكره الأماكن المغلقة وخاصة حين يضطر لأن يتحدث عن ذكرياته ، وربما الجميع مثله ،يرغبون بمكان يشعرهم بأنهم أحرار ،غير مقيدين ، لذلك كان اقتراحه هذا الذي وافقه عليه الجميع .
وصلت شمس قبلهم لتجهز أدواتها التي ستستعملها أثناء لقائها بهم ، ثم تبعها البقية رفقة ميار بينما تغيبت مدى عن الحضور.
جدة سند آثرت أن تجلس في غرفتها كي لا تعرقل عملهم الذي حدثها عنه حفيدها .
اتخذ كل فرد منهم مقعده ، وكأنهم في جلسة تعارف يقومون بها للمرة الأولى
ابتدأت شمس الحديث ، وهي تقول :

_ سعيدة بقبولكم إقتراحي ، وإنها لشجاعة منكم و قليل منا من يملكها ، أن تقرروا أن تكونوا دفتراً مفتوحاً أمام من يعاني مثلكم ، أن تخبرونا عن تجربتكم وكيف إستطعتم أن تنهضوا بأنفسكم لتغدوا أفضل من كثير من الناس.

نظرات الاستحسان التي وجدتها في عيونهم جعلها تكمل :
_ أنا شمس ، صحفية في جريدة ...،وأعمل بإخراج البرامج الوثائقية ، مثل هذا البرنامج الذي سنبدأ تصويره بعد لحظات .
سعيدة بتعرفي عليكم وسنبدأ معكم رحلتنا .

ابتدأ حسان الحديث وقد علم مسبقاً بطبيعة البرنامج الذي قبلوا المشاركة به ، وأهميته للكثير من الناس الذين يعانون مثلهم ، بدا وكأنه يبوح بأسراره لأصدقائه ، ولم لا ربما إخراج الألم يساهم في التخفيف منه وإن لم يزله كلياً :

_ أنا أدعى حسان ، الأبن الأوسط لعائلتي ، شقيقي الأكبر طبيب والأصغر معلم في مدرسة ، ولدت طفلاً طبيعياً لكن بحجم صغير بعض الشيء ، ليلاحظ والداي بعد فترة أن طولي لا يزداد كما بقية أترابي ، ومع مرور الوقت علم والداي أنني أعاني من مرض يسبب لي التقزم ، وعدم النمو ، لذلك تجدين ملامح وجهي وشكل جسدي كطفل تجاوز العاشرة بقليل ، حسناً كان الأمر في البداية عادياً ، لم أشعر بأي فارق بيني وبين الآخرين ، كنت طفلاً مرحاً منطلقاً ، لكن مع اقترابي من عتبة المراهقة إختلف الأمر وأنا أرى ذلك التغير الذي بدأ يظهر عليهم ، فهم يتجهون نحو مرحلة الشباب ومن الطبيعي أن تغدو ملامحهم وأشكال أجسادهم أكثر رجولة مما هي في فترة الطفولة .

توقف عن الحديث يناظر الكاميرا التي تصور حديثه على شكل شريط سينمائي سيتم بثه لاحقاً..
ثم أخد نفساً عميقاً يحاول فيه قدر امكانه أن يكون قوياً ، ويقدم تجربته للآخرين الذي يماثلونه في المرض ، فيعطيهم الدافع ليعيشوا بشكل صحيح ، أكمل حديثه قائلاً بإبتسامة ظاهرها المرح وباطنها الألم :

_ حسناً إن البوح بهذه الأمور لهو أمر صعب صدقوني ، ولكن مواجهة الحقائق يساعدنا على تقبلها كما هي ،وهذا ما حاولت فعله ، في البداية كان الأمر صعباً ودخلت في عزلة إختيارية ، لكن عائلتي لم تسمح لي بأن أبقى بعيداً ، كان لهم الدور الأكبر في ذلك الوقت ، والدي الذي كان يتخذني صديقاً له ومازال ، علمني كيف أتقبل شكلي ، وكيف أتحمل مسؤولية نفسي ، ودراستي ، علمني العزف على آلة القانون ليكون لي متنفساً يلامس روحي ، ووالدتي كانت لا تقّل عنه اهتماماً ، تحاول دائماً أن تكون معي بكل شيء وبذات الوقت تمنحني شعوراً أنني بطلها الذي لا يُغلب ..
والدتي علمتني عدة لغات دون كلل أو ملل منها ، شقيقاي كانا معي كذلك حتى أنهيت جامعتي ، ولكن ذلك لم يكن يعني أن العزلة انتهت ، بل بالعكس باتت ملازمة لي بشكل أكبر وأنا أغرق نفسي وسط الكتب ،ابتعد عن تلميحات من كانوا لي يوماً أصدقاء ، وعن همساتهم وسخريتهم التي لا تنتهي ، حتى انضممت لهذه الفرقة ، معهم تعلمت أن كل منا لديه تفرد بأمر ما ، وأننا خلقنا هكذا لحكمة ما ، وأن لدينا رسالة يجب أن نؤديها مهما بلغت صعوبتها ..
وجودي معهم جعلني أصبح منطلقاً في عملي الثاني الذي أمارسه في شركة المحاسبة ، وجودي معهم جعلني لا أخجل من وضعي ، بل بالعكس بت أكثر تقبلاً لما أنا عليه وللنعمة التي أملكها بوجود عائلتي ووجود اصدقائي .

هذا ماختم به حسان حديثه فيما ترافقه نظرات ميار الفخورة ، ونظرات البقية كذلك ، إقتربت منه شمس تشكره على شجاعته ، ليأتي بعدها دور شادية والتي ظهر التوتر جلياً على ملامحها ، فبدا وكأنها تفكر بمغادرة المكان وعدم الحديث ، لكن كلمات شمس المشجعة لها ، ووجود أصدقائها جعلها تبدأ الحديث ، بطريقة حاولت من خلالها أن تتصنع المرح ، لكن عيناها السوداوين كانتا تعكسان ما يعتمل داخل قلبها من ألم :

_ أدعى شادية ، أنا عازفة على آلة التشيللو في هذه الفرقة ،والجميع يسمونني صاحبة المقالب المضحكة ..

ضحك الجميع مؤكداً أنها بالفعل كذلك ، لتكمل هي بابتسامة خفيفة :

_ والدي توفي بعد ولادتي وتكفلت والدتي بتربيتي ، ولدت وأنا أعاني من مشكلة في رجليّ ، فباتت واحدة منهما أطول من الثانية ، مع تشوه بسيط في قدم رجلي القصيرة
ورغم ذلك كنت مندفعة ، شقية ، مرحة ، لم أجعل مشكلتي تمنعني عن عيش طفولة مميزة بكل ما للكلمة من معنى ...

ابتسمت لها شمس بتشجيع وهي تهمس لها :
_ نظراتك وابتسامتك لوحدها يا شادية كفيلة برسم الابتسامة على وجوهنا ، فما بالك بمرحك وشقاوتك.

بادلتها شادية النظرات الممتنة ، لأن البوح بما هو قادم صعب ، صعب جداً وخاصة لأنها لأول مرة ستتحدث بكل صراحة عن نفسها ، عن ألمها، بنبرة خافتة قالت :
_ حين كبرت قليلاً ، أصرت والدتي أن نغير مكان سكننا ، واتخذت لنا شقة في الدور الأرضي في إحدى الأحياء بدل تلك التي كنا نقطنها متحججة أن شقتنا القديمة في الأدوار العليا وسيعتبني صعود الدرج وهبوطه باستخدام العكازين ، فجسدي بات أكبر ولم تعدي رجل واحدة بقادرة على حمله فإضطررت لاستخدام العكاز ، طبعاً أظهرت لوالدتي اقتناعي بحجتها ، وأنا التي أعلم أنها فعلت ذلك لتجنبني تعليقات من حولنا وشفقتهم إمتلكت صديقات مميزات كن لي خير معين في فترة مراهقتي وصباي ، وابتعدت عن أي أحلام تماثل أحلام صديقاتي وبات جُلّ اهتمامي بدراستي وبهوايتي التي امارسها .

سألتها شمس في محاولة منها لتشتيت انتباهها عن ذلك الألم الذي يتخلل صوتها وهي تتحدث :
_ ما هي هواياتك تلك ؟

ضحكت شادية بعذوبة وهي تجيب بفخر :
_ أحفر على الخشب.

نظرت لها شمس بإنبهار ، فهذه الهواية صعبة ، ومن يمارسها عادة هم الذكور ، لذلك طلبت منها أن تحدثها عن هذه الهواية ، فلم ترد شادية طلبها ، وهي تجيبها بنبرة واثقة مغايرة لنبرتها منذ قليل :

_ عزف التشللو علمتني اياه مدرسة الموسيقى في الحي الذي اقطنه ، أما الحفر على الخشب فله قصة عندي ...

اعتدلت في جلستها وكأنها ستدلي بحديث مهم، مما رسم البسمة على وجه من يراقبها :
_ والد صديقتي يمارس هذا الأمر كعمل له ، في كل مرة كنت أزورها بها كنت أقف لدقائق قد تطول وأنا أتأمل ما صنعت يداه من قطع يزين بها منزلهم ، وفي احدى المرات التقيت به ، فعرض عليّ أن يعلمني كيفية القيام بالحفر على الخشب ،مصرحاً لي بأن لا أحد من أولاده راغب بتعلمها ، وهذا ماحدث ، وافقت على الأمر وباتت هذه الهواية شغفاً بالنسبة لي .

ابتسمت شمس وهي تقول :
_ إنها هواية رائعة فعلاً ويسعدني مشاهدة بعض من أعمالك .

أومأت لها شادية موافقة ، ثم عادت تكمل بنبرة ضاحكة:-

_ حسناً الحكاية لم تنتهي بعد ...
أشارت لها شمس أن تفضلي اكملي ، فيما شعرت ياسمين بغصة تستحكم قلبها وهي تعلم أن ما ستبوح به شادية ليس بالأمر الهين عليها :
_ هل انتهت مآساة والدتي ببعدها عن حينا القديم ، قطعاً لم تفعل ، رغم حصولي على شهادة جامعية ، رغم قبولي للعمل كمدرسة لكني من رفضت الأمر ، ورغم هواياتي ورغم كل شيء ، مازال البعض ينظر لي بعين النقص ، جاراتنا اللاتي لا يتركن مناسبة دون أن يرموا بكلماتهم السامة عن وضعي ..

تجمعت الدموع في عينيها فأشارت لها شمس أن تنهي الحديث ، لكن شادية أكملت :

_ يهدمون لأمي أملها بأني فتاة طبيعية ، يحطمن أحلامها بأنني سأكون يوماً كما تتمنى ، وهذا هو الأمر الوحيد الذي يجعلني أتألم ، لكن منذ أيام حدثتني صديقة لي ، بأننا زهور مميزة في حديقة واسعة ، وأننا مثلما قال حسان لدينا رسالة سنؤديها رغماً عمن يسكن العجز تفكيرهم وأنفسهم ، ولذلك وفي كل مرة ألمح بها وجه والدتي ،أشعر بقوة غريبة تسكنني ، بهمة عالية تستوطن داخلي ،لأقدم في كل مجال أعمل به أفضل ما استطيع ، وبأنني لست عاجزة طالما امتلكت الصحة هنا .

منهية حديثها بالإشارة لقلبها ، فما كان من شمس إلا أن اقتربت تضمها بفخر شديد ، وهمس ياسمين يصلها بوضوح :

_ كنت رائعة يا صديقتي
عقب انتهاء شادية من الحديث ، أخذ الجميع استراحة ليستردوا بها أنفاسهم

بعد انتهاء الاستراحة كان دور ياسمين لتتحدث ، ضحكت وهي تحاول تخيل ردة فعل جوري على اشتراكها بهذا البرنامج ، لأول مرة تقدم على خطوة بقرار منها هي لوحدها ، قال شادية بمزاح :
_ ما بالك تضحكين ، هل ستروين حكايتك عن طريق أغنية مثلاً.

ضحكت ياسمين بصخب وهي تجيبها :
_ تبدو فكرة جيدة حقاً ، لكن ليس هذا ما يضحكني .

_ إذاً
سألتها شادية ،لكن ياسمين أجابتها بمشاكسة

_ لن أخبرك
لكزتها شادية بكتفها وهي تقول :

_ حسناً يا صاحبة الأسرار إن شمس تنتظر منك البدء بالحديث ، و سأنتقل أنا للمقعد المجاور.

بدأت ياسمين الحديث عن وضعها مثلها مثل أصدقائها ، تخبرهم بطفولتها وبسنوات مراهقتها كذلك :
_ في البداية كان أمر فقداني للبصر شيئاً سيئاً جداً بالنسبة لي ، وخاصة مع عدم مقدرتي على التحرك بحرية وانطلاق ، لكن والدي وشقيقتي وعمي وزوجته وولديه كانوا نعم العون لي ....
ساعدني والدي بحفظ مكان كل شيء في المنزل عن طريق عدّ خطواتي ،وفي كل مرة كنت أيئس من الأمر ،كان يضمني لصدره ويخبرني بأنني ياسمينة ، زهرته القوية والتي ستتحدى كل الصعوبات لأجل نفسها في المرتبة الأولى ، قبل أن يكون لأجل الآخرين ....
الجميع كان معي ولجانبي ، وبعد فترة شعرت بقدرتي على أن أكون مستقلة وقوية رغم فقداني لنعمة البصر ، كل من حولي كانوا تلك الركيزة التي ساعدتني على المضي قدماً نحو استكمال دراستي ، نحو تحقيق أحلامي ...

دموع غافلتها وسقطت رغماً عنها وهي تكمل :

_ وفاة والدي وعمي وزوجته في حادث سيارة ، جعلني أشعر بانكساري مرة ثانية ، وكدت أعود لقوقعة الإنعزال واليأس ،ولكن هذه المرة كانت جوري تحتاجني قوية ، كان عاصم بجانبي ، وسراب ، ومربيتي خديجة ، وكلمات والدي السحرية ، وجدت نفسي محاطة بكل ماذكرته ، لذلك وجدت نفسي أنهض من كبوتي بقوة ، وأعود ياسمين التي أمامكم الآن ..

مسحت دموعها وهي تنهي حديثها ، فيما اقتربت منها شادية تربت على كف يدها بدعم ، بينما ميار يراقبها بقلب متألم
كم ودّ لو أن بامكانه ضمها الآن إليه ومسح دموعها عن وجنتيها
أخرجه من تأمله لها صوت سند وهو يقول ، محدثاً حسان بمرح :

_ وأخيراً جاء دوري ، جهز لهم المناديل يا صديقي.

ضحك حسان وهو يجيبه :
_ لا تقلق أنا وميار تكفلنا بكل شيء.

ابتسم لهم ميار بشرود ، وعيناه عادت لمراقبتها وهي تحادث شادية ، ذكرها لابن عمها عاصم أزعجه ، وبذات الوقت تمنى لو تتحدث عن علاقتها به بإسهاب أكبر ، علّه يفهم ما طبيعة العلاقة التي تجمعهما ، وهل عاصم هذا متزوج وله أطفال أم مازال عازباً دون زواج
ابعد عينيه قسراً عنها وهو يلتفت نحو سند الذي ابتدأ الحديث عن حياته مثل البقية :

_ ادعى سند ، هل أنا وحيد أم أنتمي لعائلة ..
والدتي توفيت بعد ولادتي ، ووالدي تركني في عهدة جدتي وسافر بعيداً ليبدأ حياة جديدة رفقة زوجة جديدة ، وينجب أطفالاً أصحاء كما سمعت تصريحه مرة ...

بتهكم من الوضع أكمل ، فيما نظارته السوداء تغطي عيناه و التي لا يخلعها أبداً في حال وجود شخص ما برفقته :
_ لم أكن محظوظاً بعائلة تحتوي الطفل الذي ولد عاجزاً ، بل بالعكس والدي هرب عند أول فرصة سنحت له دون أن يفكر بوجود صغير خلفه ، إذاً بصراحة أنا لدي عائلة بمفهومكم ، لكنها غير موجودة ، بمفهومي أنا عائلتي هي جدتي والدة أبي ، من اعتنت بي منذ ولادتي ، من زرعت بداخلي القوة ، والعزيمة والإصرار ، من اهتمت بكل أمر يخصني صغيراً كان أم كبيراً ، رغم سنوات عمرها المتقدمة ، إلا أنها كانت نعم الأم والصديقة لي ، وبفضلها وصلت لما أنا عليه اليوم ، مدرس يعلم الصغار الموسيقا ، وعازف في فرقتنا هذه ، وطبعا بعد جدتي كان الدور الأكبر لاصدقائي ...

حين كنت طفلاً كانت علاقاتي محدودة ، لا أحب الاختلاط ، ولكن مع مرور الوقت تعلمت أن أكون أقوى ، وأن أواجه الواقع الذي خلقت به ، وازداد شعوري بالقوة بعد تعرفي على حسان ..

ابتسم حسان وهو يستمع لصديقه ، يكمل الحديث عنه :

_ حسان أصبح بمثابة عيناي اللتان أرى بهما العالم ، يتحمل طلباتي التي لا تنتهي بأن يصف لي كل شيء ، ويتحمل كذلك ساعات نزقي التي تجتاحني أحياناّ فلا يكلّ ولا يملّ حتى يعيد لي الضحكة ، يشاركه في ذلك مدربنا ميار ، ميار خارج المعهد هو صديق لي ولحسان ، نجتمع مرة كل اسبوع في مقهى للشباب ، نمضي ساعات من الثرثرة والتخطيط للمستقبل ، وجودهما في حياتي يعني لي الكثير ..

أجابه ميار بصدق :
_ بل وجودكم أنتم يعني لي الكثير يا سند.

ابتسمت شمس بسعادة لتلك العلاقة التي تجمع الجميع هنا ، وبقلبها رجاء أن تتمكن عدسة كاميرتها من نقل كل ذلك للمتابعين لها ، علّ ذلك يحدث تغيراً نحو الأفضل في حياتهم ، أكمل البقية من أعضاء الفرقة حديثهم عن أنفسهم ، ليكون الدور في النهاية لحياة ، عازفة الكمان مثلما عرفت عن نفسها ، بصوتها الخجل :

_ أنا حياة ، أعاني من مشاكل في السمع والنطق كما تلاحظون ، استعمل سماعات الأذن لأتمكن من سماع الأصوات حولي ..

وزامنت حديثها مع إدارتها لجانب رأسها نحو الكاميرا ، مشيرة بسبابتها للسماعة الصغيرة الموصولة بأذنها ، ثم عادت تكمل :

_ لاحظ والداي الأمر وأنا بعمر الثالثة ، بأن انتباهي لكلامها بات يقل شيئاً فشيئاً ، فسارعا لعرضي على الأطباء وتم إبلاغهم بأن الأمر متعلق بمرض وراثي ، فشقيقتي الصغرى كذلك ولدت بنفس العلة .

صمتت حياة قليلا عن الكلام وكأنها تأخذ إستراحة ، ثم عادت تكمل بذات الابتسامة التي تزين وجهها الحنطي اللون ، وملامحها الناعمة :

_ حسناً كان والدي متفهمان لطبيعة مرضنا ،وبذلا جهداً أكبر في دمجنا مع المجتمع ، درسنا في مدرسة خاصة للصم والبكم وتعلمنا لغة الإشارة وهذا كان أمراً رائعاً بالنسبة لي ، ومع الوقت وبمساعدة السماعات الطبية وبصبر والديّ على ما مررنا به وبمثابرتهم ، بتنا نستطيع التواصل مع الآخرين بشكل أفضل.

سألتها شمس وإبتسامتها الرقيقة تزين وجهها :

_ كيف تعلمت الموسيقا إذاً.

إبتسمت لها حياة بفخر وهي تقول :
_ عليكي أن تتأكدي أن الأمر كان صعباً للغاية ، ولكنني لم أيأس ولم أستسلم ، حتى تعلمت العزف ...

في البداية تفاجأ والديّ برغبتي ، لكنهما مثلي لا يستسلمان قبل أن يجربا الأمر ، وبذات الوقت يقومان بإفهامي أن فشلي في أمر ما لا يعني فشلي في كل شيء
أومأت لها شمس بأجل وهي تسمعها تكمل :

_ كان المدرس إنساناً يملك صبراً كبيراً ، وكنت أنا له كتحدي عليه الفوز به ، فكان مثابراً في تعليمي ، مرات تفتر همتي وأيأس ومرات أعود بكامل طاقتي ،حتى وصلت لما أنا عليه الآن .

قالت شمس بفخر
_ أنت قدوة مميزة حقاً يا حياة .

انتهى الجميع من الحديث ، وشمس تقوم بتوضيب أشيائها رفقة المصور الذي رافقها لهذا العمل ، سألتها شادية بضحكة :

_ أتعلمين يا شمس أننا قبلنا خوض هذه التجربة معك ، ولم نعلم حتى الآن ما هو إسم البرنامج.

نظرت شمس بصدمة نحو ميار ،هل يعقل أنه نسي إخبارهم بإسم البرنامج ، بينما ميار نظر لها بإحراج ، رافعاً يديه بإستسلام وهو يقول :-

_ ظننت أنك أخبرتهم بإسم البرنامج في لقاءك السابق بهم .

أومأت برأسها بتفهم ، ثم عادت لتجلس قبالتهم ،محدثة إياهم عن البرنامج :

_ إسم برنامجي هو فسحة سماوية .

وصلتها همهماتهم المستغربة للإسم ، فتولت مهمة الشرح :
_ هو فسحة يرى من خلالها ذوو الهمم أملاً يتمسكون به ، وعزماً يمكنهم التحلي به ليواصلوا حياتهم بشكل طبيعي ،دون الالتفات لمن يحاول تثبيط همتهم ، لمن ينظر لهم بعين النقص ، جميعكم مررتم بتجارب صعبة ، لكنكم لم تستسلموا ولم تيأسوا بل كنتم براعم نبتت من تحت الرماد ، تبحث عن الضوء ، فغدت من أجمل الزهور ..

قبولكم بالحديث عن تجربتكم بحد ذاته تحدي لكم وللجميع وهذا ما أشكركم عليه من كل قلبي ..
فسحة سماوية هو رسالة مني لكل من ماثلكم وضعاً أن ها نحن ، تقبلونا مثلما نحن ، وتعلموا منا كيف تكون الحياة ويكون العطاء ...
فسحة سماوية رسالة لكل من إمتلك في قلبه مرض ، وينظر للآخرين نظرة الغرور ، بظنه أنه كامل دون نقص ، أبلغه بها أن النقص بنفسك وقلبك ، تعلم أن تكون رحيماً ، أن تكون سنداً لكل من يحتاج .

مع ختام جملتها صفق الجميع لها فخراً بما قالت ، فيما إقترب منها ميار قائلاً بتقدير لها ولقلبها الذي تحمله :-

_ أنت إنسانة عظيمة يا شمس وتحملين رسالة أعظم كذلك .

همست له بالشكر ، ثم عادت لتودع الجميع وهم يغادرون ، لتقترب في النهاية من سند تشكره على إقتراحه أن يكون التصوير في منزله ، أجابها قائلاً :-

_ نحن من علينا شكرك لأنك قررتي أن يكون برنامجك الأول الذي تشاركين به على محطات التلفزة مخصصاً لنا ولمن ماثلنا وضعاً .

ربتت على كتفه وهي تقول :
_ أنتم نجوم مميزة يا سند .

دون تردد قال سند :
_ وإن إحتجت لمن يسمعك كذلك نحن متواجدون.

نظرت له بصدمة هي وميار الذي عاد ليتفقد سبب تأخرهم بالمغادرة ،ثم مالبثت أن إبتسمت وهي تقول :

_ انتم فعلا تمتلكون أشياء لا نملكها نحن .

شاركها ميار الإبتسام وهو يراقب ملامح وجهها التي إكتست بالحزن ، وهي تقول :-

_ القصة طويلة وسأخبركم يوما ما بتفاصيلها ، لكن اليوم سأخبركما بإختصار أنه كان لدي شقيق يعاني من ضمور فالدماغ ، جعل تواصله مع المحيط صعباً جدا ، ولكن والدتي وأنا لم نستسلم ، كان هو شغلنا الشاغل حتى بات وضعه بالتحسن ، لكن الموت كان أسرع منا فخطفه منذ سنوات .

أغمضت عيناها تمسح دموعاً تجمعت فيهما ، ثم عادت تلك الإبتسامة القوية تزين وجهها وهي تقول :

_ وبرنامجي هو هدية له يا سند .

أومأ سند بتفهم ، لتلفتت شمس نحو ميار هامسة له بالشكر قبل ان تغادر رفقة المصور.
ومالبث أن غادر ميار كذلك ، مودعاً سند على وعد باللقاء مساء.
…...
طرق زياد باب المشغل الخاص بعاصم والذي يقوم به بصنع القطع النحاسية بعيداً عن جميع العاملين الآخرين
فهو يحتاج للتركيز الشديد أثناء عمله لذلك ينفي نفسه في هذا المكان ، يغرق نفسه بالعمل
ألقى زياد التحية فرد عليه عاصم باقتضاب ويداه ما تزالان تعملان بمهارة على قطعة نحاسية صغيرة
يطرق بنعومة بواسطة مطرقة صغيرة على رأس إزميل صغير كذلك ، ليشكل رسومات هندسبة صغيرة دقيقة الشكل
وقف زياد جانباً يدع لصديقه الوقت الكافي لينهي عمله ، ينظر بانبهار للقطع التي أنهاها عاصم خلال هذا الإسبوع ، كلها قطع وإن صغر حجمها إلا أنها تحتاج منه لكل وقت وجهد وتركيز ، وهذا الذي لم يبخل به عاصم أبداً ، فخلال الإسبوع المنصرم كان يقضي كل نهاره هنا ولا يغادر إلا في وقت متأخر من الليل، يعلم زياد كما يعلم الجميع أهمية هذه الصفقة والتي سيقومون فيها ببيع تحف نحاسية لثري عربي يمتلك معرضا ضخماً في دولته ، إن نجاحهم يعني ازدهاراً كبيراً لعملهم وتحسيناً لدخلهم جميعاً ، فعاصم يضع لهم نصيباً من كل صفقة ينجزونها ، وهذا ما يدفعهم للعمل جميعاً كيد واحدة
تنهد عاصم بارتياح وهو ينهي أخيراً عمله
وضع معداته جانباً وهو يتناول منشفة صغيرة من جانبه ، ليمسح بها حبات العرق التي تجمعت فوق جبينه
سأله زياد وهو يناوله قنينة الماء الصغيرة ، فتلقاها عاصم بكل ترحاب :
_ هل هذه آخر قطعة ؟
استقام عاصم واقفاً يحرك جذعه للجانبين ، في محاولة منه لفك تصلب ظهره نتيجة جلوسه الطويل على الكرسي ، ثم أجاب صديقه بوجه مبتسم :
_ أجل ، الحمد لله لقد أنهيتهم جميعاً
ثم رمى المنشفة نحوه فتلقاها زياد بضحكة مشجعة :
_ أنت رائع فعلاً
تخطى عاصم زياد وهو يغادر المشغل نحو مكتبه ، أخذ علاقة مفاتيحه ، فعاد زياد يسأله باستغراب
_ هل ستغادر ؟
نظر له عاصم وقد بان التعب على ملامحه ، ثم قال وهو يشير له بتحية الوداع
_ أنا أنهيت ما يخصني من العمل ، الباقي عليك أنت ، أحتاج لأخذ حمام ساخن والاستراحة ليوم كامل يا زياد ، أسبوعان كاملان ونحن غارقون في تأمين ما نحتاجه وبعدها العمل على انجاز الطلبية في موعدها

أومأله زياد بأجل وهو يراقب تحركه خارج المتجر ، بخطوات متعبة ، يعلم أنه بحاجة للراحة بعد الجهد الذي بذله
ابتسم وهو يعود نحو المشغل ليتفقد القطع التي أنهاها عاصم
من لا يعرف عاصم ، لا يمكن له أن يخمن أن هذا الشاب الأنيق ، صاحب هذا المتجر ، هو نفسه من يمضي ساعات من العمل الشاق في تطويع قطع النحاس
لكنه محق فهو يحتاج للراحة أكثر من البقية ، لقد أمضيا عدة أيام يلهثان بين المحافظات لتأمين المواد الأولية لعملهم ، والتي بات الكثيرون يتحكمون بتواجدها في السوق وبأسعارها ، ثم أخذ عاصم على عاتقه إنجاز عدة قطع صغيرة في الحجم لكنها تلفت النظر إليها بالدقة التي صنعت بها
غادر الغرفة مغلقاً الباب خلفه ، متوجهاً نحو المشغل الذي يضم العمال البقية ليتأكد من أن العمل سينجز في وقته وسيتم تسليم القسم الأول من الطلبية في معادها المقرر ، فصفقة مثل هذه نادراً ما يحصلون عليها ، ولذلك وجب عليهم العمل بكل جهدهم لإنجازها
…..
كان عاصم قد اقترب بسيارته من موقع معهدها الذي تمارس فيه تدريباتها اليومية
أوقف سيارته جانباً ثم أمسك هاتفه يتصل بجوري ،وحين أتاه ردها ألقى التحية عليها قائلاً :
ً
_كيف حالك يا ابنة العم الغالية ؟

أجابته جوري بضحكتها العذبة :

_ بخير يا ابن العم ، ولكن لا تدع تيم يسمعك وأنت تقول غالية هذه

ضحك بصوت عالّ ، مستمتعاً بمشاكسة جوري التي اعتاد عليها ، وهو يقول :

_ وهل أجرؤ ، لازلت أذكر نظراته لي قبل أن يعقد قرانه عليك ، لقد كاد يفتك بي ، ولكن عليه أن يطمئن فقلب جويرية لا يدق إلا لتيمها

استشعر الخجل بصوتها وهي تقول

_ لقد ملك روح جويرية يا ابن العم

لا ينكر سعادته لأجل جوري ، فهي ليست إبنة عمه وحسب ،بل أخته و صديقته ، وتستحق رجلاً يحبها مثل تيم ، أتاه صوتها مجددا
ً
_ أتمنى أن تجد يوماً مثل هذا الحب يا عاصم

ود لو أخبرها أنه وجده ، منذ سنوات ، ولكنه احتفظ بهذا الحب لنفسه ، أجلى صوته متحكماً بمشاعره وهو يقول

_ أنا بالقرب من معهد ياسمينة ، لذلك سأقلها أنا للمنزل ،هل تمانعين ؟

أسعدها إقتراحه ،فربما استطاع أن يجعل ياسمين تحدثه عما يزعجها ويجعلها حزينة بذلك الشكل ، فهو كان دائماً مخزن أسرارها ، لذلك أجابته :

_ كلا، ليس لدي مانع ،سأكون بانتظاركما في المنزل

أغلق الهاتف ، ثم نظر للصورة التي تحتل شاشته ،صورة لها يوم خطبة جوري ،أخذها بعد أن طلب منها أن يلتقط لها صورة
تنهد بإشتياق لها وهو يناظر ملامح وجهها التي يعشق
أكثر من إسبوع مضى ، وهو لم يلتقي بها أو يحادثها هاتفياً ، وكان الأمر رغماً عنه ، فقد غرق بالعمل بمشروعه الجديد ، ليضمن أن كل شيء يسير بشكل جيد
لم يصدق إنهائه لعمله باكراً هذا اليوم فتحجج بأنه سيأخذ فترة راحة ، ليترك العمل لزياد عائداً نحو منزله ، حتى سراب توقعت أنه عاد للراحة ، لكنه بمجرد أن أخذ حمامه وبدل ملابسه ، توجه لمعهدها
شوقه اليوم غلبه ولم يعد بإمكانه الصبر ليوم الغد
ولم يعد بقادر على تجاهل نداء قلبه المطالب برؤيتها
نزل من السيارة ، متجها بخطوات مشتاقة نحو الداخل
عيناه تبحثان عنها بين الوجوه
باشتياق لم يعد قادراً على التحكم به
حتى وجدها

وجدها واقفة مع فتاة تكبرها سناّ بقليل ،يبدو أنها مدربتها ، فمنظرها يوحي أنها تستمع بانتباه لكل كلمة تقولها
كانت تضفر شعرها بضغيرة طويلة تلفها حول رأسها فتبدو كتاج يزينه
و ترتدي ثوباً كنزة صوفية طويلة بلون أسود وأبيض زادها بهاءاً ، بل هي التي زادت ملابسها جمالا ً
تنهد وهو يتأملها كلها ، ولكن التفافتة المدربة جعلته ينتبه لذلك الواقف بمكان ليس ببعيد عنهما ، السمج الذي لا يطيقه ، لا يستطيع تقبل نظراته تلك نحو ياسمين ، يود لو يلكمه في منتصف وجهه صارخاً به ،أن لا تتجرأ وتنظر إليها

ضم قبضة يديه بقوة حتى كاد يسمع طقطقة عظام أصابعه ، وهو يراه يقترب منهما متحدثاً ويبدو أن حديثه جلب السعادة لها
لم عليه كل مرة أن يشاهد هكذا مشهد
هل يعقل أنها معجبة بمدربها ذاك
هل يعقل أنه على مقربة من فقدانها

مازال على وقفته المتشنجة
يحاول طرد ذلك الإحتمال من رأسه
وعيناها تعودان إليها
يود لو كان بإمكانه سرقتها بعيداً عن هنا ، تخبئتها داخل أضلعه
فلا يستطيع أحد الوصول إليها
ولكنه لم يكن يوماً
أنانياً في حبها
تنهد بتعب من كل هذه الحيرة التي يعيش بها

لكن التفاتتها إليه وكأنها رأته ، والعيون التي تعلقت به رغم أنها لا تراه ،جعلت دقات قلبه تقفز متسارعة ، جعلت كل تعبه يختفي بلحظة واحدة ،يوقن تماماً أنها عرفت بوجوده
عينيه تعلقت بوجهها وبشفتيها التي تحركت هامسة بإسمه ، فلم يجد نفسه إلا وهو يقترب منها بخطوات سريعة
وقف قبالتها، عينيه تتأمل ملامحها بشوق ، غير عابيء بأي أحد غيرها

_ أهلا عاصم

قالتها وهي تبتسم له تلك الإبتسامة التي تخصه وحده بها ، أجل هذا مايشعر به ، أن هذه الابتسامة له وحده فقط
رد التحية عليها وهو يحاول أن يسيطر على نبضات قلبه السريعة تلك وهو يلاحظ نظرات مدربتها المستغربة :

_ لقد اخبرت جوري أني سآتي لأقلك للمنزل

ابتسامتها اتسعت أكثر ،فها هو أتى ليقلها ، هذا يعني أنه يفكر بها ، أومأت بأجل وهي تقول :

_ دعني أعرفك أولاً على أساتذتي هنا ، فأنت لم تتعرف عليهم بعد

شعر بالخجل من تصرفه ، فهو حتى لم يلق التحية عليهم ،فقال معتذراً

_ اعتذر منكما ، لعدم إلقائي التحية ،أنا عاصم إبن عم ياسمينة

تضخم قلبها وهي تسمع إسمها الذي يخصها به

(ياسمينة كما كان دوماً يناديها في صغرها ، يبرر لها ،لأنك ستكونين ياسمينتي أنا فقط ،زهرتي التي أحب )

قالت مدى بترحيب :

_ أهلا بك سيد عاصم ،أنا مدى المسؤولة عن الفريق ككل ، وهذا ميار مدرب الفرقة

القى التحية عليه مصافحاً له ،وعيناه رغماً عنه ترسل شرارات الكره لذلك السمج

قال محاولاً إنهاء هذا التجمع بأسرع وقت ممكن ،قبل أن يرتكب جرماً

_سعدت بالتعرف اليكما، و لكن توجب علينا الرحيل الآن

قال ميار وهو يوجه حديثه لياسمين متجاهلاً هذا الضخم الذي يقف أمامه ، بعد أن استشعر بتلك النظرات العدائية التي وجهها له ، كما استشعر نظرات الحب في عينيه لياسمين

_ياسمين كوني جاهزة غداً في العاشرة ، كما اتفقنا

اجابته بأجل ثم استأذنت مغادرة وقلبها يطير سعادة وهي تسير بقربه
فقالت وهي غير قادرة على إخفاء سعادتها به ، متناسية كل أفكارها السوداء حول حبيبته المجهولة

_ أنا سعيدة لأنك أتيت يا عاصم

أمسك نفسه بقوة عن التوقف ، و أخذها بين ذراعيه ،عن إخبارها كم اشتاق لها خلال الفترة الماضية ، ولكنه اكتفى بالقول

_ أنا الأكثر سعادة

فيما كانت نظرات ميار تتبعهما بغضب حتى اختفيا عن أنظاره ، رآها كيف تسير قربه يدها بيده ، وكأنها تنتمي إليه ، وكأن هالة غريبة تحيط بهما
نفض عن رأسه هذا الشعور ، وهو يعود لينشغل بالحديث مع مدى
……
اتمنى يكون الفصل نال اعجابكم 😍😍😍


فاتن منصور غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس