عرض مشاركة واحدة
قديم 17-03-21, 09:32 PM   #1552

دنيازادة

نجم روايتي وشاعرة متألقة في القسم الأدبي و كاتبة في منتدى قصص من وحي الأعضاء والمحققة الأعجوبة

alkap ~
 
الصورة الرمزية دنيازادة

? العضوٌ??? » 263614
?  التسِجيلٌ » Sep 2012
? مشَارَ?اتْي » 6,235
? الًجنِس »
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » دنيازادة has a reputation beyond reputeدنيازادة has a reputation beyond reputeدنيازادة has a reputation beyond reputeدنيازادة has a reputation beyond reputeدنيازادة has a reputation beyond reputeدنيازادة has a reputation beyond reputeدنيازادة has a reputation beyond reputeدنيازادة has a reputation beyond reputeدنيازادة has a reputation beyond reputeدنيازادة has a reputation beyond reputeدنيازادة has a reputation beyond repute
?? ??? ~
نحن بين رحلة حضور وغياب، ستُدفن مهما كانت قيمتك، وستُنسى مهما بلغت مكانتك، لذلك اصنع اثراً جميلاً فالبصمة الجميلة تبقى وإن غاب صاحبها...
افتراضي


الفصل التاسع والعشرون
( قبل الأخير )

أثناء سيرها في المزرعة صادفت رنيم مجموعة من الرجال الغرباء يقومون بجولات ميدانية في المنطقة.. سألت عنهم أم مزنة فأجابتها:- أنهم تجار أتراك جاءوا لتعاقد مع المهندس هاني لشراء كميات من صنف تمر المدجول لتسويقه في بلادهم.

كانت تتكلم دون أن تتوقف عن عملها في التنظيف، دلقت وعاء الماء فوق المسطبات، ثم رفعت جذعها وأردفت تبتسم باعتزاز:- التربة في أغوارنا خصبة، ولهذا مزارع النخيل لدينا تنتج تمور بجودة ونخبة عالية.. كما أن أسعارنا مناسبة.

جلست رنيم على الشرفة تتأمل الغروب كعادة اكتسبتها منذ بدأت تتأقلم مع وضعها في المزرعة.
راقبت هاني وهو عائد من جهة المعمل، مشى ببطء واضعا يده على مؤخرة رقبته يمسدها.. ما ان صعد الدرجات عاجلته معاتبه:- تأخرت!!

- اعتذر عن التأخير.. كان نهارا مليئا بالعمل.. ولم أتمكن من المجيء لتناول وجبة الغداء.

اعتدلت بجلستها وقالت:- رأيتُ التجار الأتراك يجوبون هنا وهناك.. طمئني هل تم بينكم الاتفاق؟.

جلس على حافة السور الحجري لشرفة يجيبها:- الحمدلله قمنا بتوقيع العقود.

استدرك سريعا:- لكن ليس هذا سبب تأخري.. فلقد بدأنا عملية رش الأشجار للبؤر الموبؤة بسوسة النخيل.
زفر بضيق متابعا بخيبة:- وزارة الزراعة لا تقوم بحملات مسح لكل المزارع في الأغوار للقضاء نهائيا على الحشرات، رغم أنها تشكل تهديدا كارثيا وتضر الأشجار.

استمعت رنيم له بانتباه ثم علقت:- لهذا أنتم كمالكين مزارع تضطرون للقيام بعمليات الرش على حسابكم.

- صحيح، علينا يقع عاتق محاربة وباء السوس.
أضاف مسهبا:- وللأسف بعض أصحاب المزارع لا يستطيعون تحمل تكلفة عمليات الرش الدورية.. ولهذا الأمراض تصيب الأشجار، وتسمح بانتقال العدوى إلى كافة المساحات، مما يعرض لانتشار الوباء في كل المزارع المجاورة.

كشرت رنيم باستنكار:- إذا حدث ذلك ستفسد الثمار، وستكون مأساة كبرى على الجميع.

فوجئ هاني باهتمامها الحقيقي الواضح وتركيزها معه في ما يواجهه من هموم وأزمات.. أومأ يوافقها مبينا خطورة الوضع:- استنتاجك صحيح.. فساد الثمار سيؤدي لخسارتنا.. ولنتجنب وقوع هكذا كارثة نقوم بخطوات استباقيه، نتعاون كلنا يدا بيد في مسألة رش الأشجار بجميع مزارع أغوار الكرامة، خصوصا قبل وقت مواسم التلقيح.

عاد يدعك أسفل رقبته فسألته:- هل تتألم؟

- بقيتُ أعمل بشكل متواصل دون توقف، ويبدو ان عضلاتي أصيبت بالتشنجات.
بلهجة لطيفة لامته:- هل كان من الضرورة ان تقوم بالعمل بنفسك حد الإجهاد؟

أوضح لها هاني ان أهم المشاكل التي يعاني منها تتركز في ارتفاع أجرة العمالة الوافدة، ونقص الأيادي المدربة بمهارة لتعامل مع أشجار النخيل..

نظرت إلية بتأثر وقد بدا عليه التعب والإرهاق.. بعد لحظات من التفكير قالت:- ذات مره كنتُ في أحدى المنتجعات السياحية السويسرية للاستجمام.. وهناك نصحتني مدربة اللياقة البدنية بالمشاركة في دورة لتعلم رياضة اليوغا، كمحاولة لسيطرة على انفعالاتي العصبية والتخفيف من حدة نوبات غضبي الهستيري..
على الرغم من وجعه هاني لم يقاطعها أو يطالبها الاختصار، استمع بطول صبر لرنيم شاعرا ان كلامها ليس مجرد ثرثرة عبثية، بل من وراءه مقصدا:- في حصص التدريب أخذنا عن أهمية العلاج الطبيعي، وبعض الأساسيات في حركات تدليك عضلات الجسم..
توقفت لبرهة تزدرد ريقها، ومن ثم بادرت مقترحة:- استطيع عمل مساج لرقبتك وكتفيك.

غمغم بخفوت:- حقا!!.. أتعرفين فنون المساج!!
نهضت واقتربت منه تجيب بحماس:- نعم.
تساءل بتشكك:- هل أنتِ متأكدة؟
- كل التأكيد.
أكملت تمازحه:- لا تخاف.. لن أخلع عنقك.
ابتسم هاني مدهوشا وهو ير رنيم تنطلق على سجيتها فتتكلم بمرح بلا تكلف:- ثق بي.. أعدك أنك بعد العلاج الطبيعي سوف تشعر بالراحة.

رغم توجسه بقدراتها ومهاراتها، لكن عز عليه أن يكسر بخاطرها في أول مبادرة تقدمها لمساعدته.. استجاب يجاريها:- حسنا.. سأسلم لكِ رقبتي.

صفقت رنيم بسرور وأشارت له بالجلوس في الصالون ريثما تجلب من غرفتها مرهم كريم مرطب.. عندما عادت كان هاني قد فك أزرار قميصه
وشرع ينزعه ليضعه جانبا.. للحظة اتسعت عيناها وهي تنظر
إليه عاريا حتى الوسط.. تسمرت قدميها ووقفت في منتصف الصالون، ذلك استرعى ملاحظة هاني فتساءل:- هل غيرتِ رأيكِ؟

نفت بتلعثم:- لا .. ل.. لكن.. ليكن.. بعلمك.. أنا..
سحبت نفسا عميقا من الهواء:- أنا لستُ كما تظن ويتهيأ لك.. لم يسبق لي أن...

أشاحت وجهها عنه محرجه.. رفع هاني حاجبيه لأعلى مستفهما ببطء:- أتعني ان خبرتكِ تقتصر على النظري فقط!

أومأت إيجابا برأسها تضيف:- كما أيضا لم يسبق وأن دلكت جسد رجل من قبل.
زمت شفتيها تسأل:- أيزعجك هذا؟
غضن جبينه عابسا:- يزعجني!!
سحب كرسي عن طاولة السفرة وأداره ليستقر فوقه قائلا:- بالعكس تماما..
أردف غامزا بعينه:- يسعدني جدا ان تكون التجربة الأولى لكِ معي.

لوهلة بانت على ملامح رنيم مسحة حياء حاولت إخفائها بأن أسرعت لتقف وراء ظهره.. فركت كفيها بالكريم المرطب، ثم وضعتهما فوق كتفي هاني وشدتهما قليلا بضع ثوان قبل أن تدفعهما للأسفل، بأصبعي إبهاميها ضغطت تحت رقبته وبدأت تحركهما بليونة على شكل دوائر خفيفة صعودا إلى عنقه ورقبته..
أحست بعضلاته المتصلبة المتقلصة تنبسط وتسترخي شيئا فشيئا كلما كررت تدليك كتفيه ورقبته.. سألته :- هل تشعر بتحسن؟
اعترف متعجبا:- شيء لا يصدق!!.. خف الألم كثيرا..
أضاف يثني عليها:- رائعة رنيم... الحقيقة أذهلتيني!!.

- لتعرف أن لي أنا أيضا مواهبي التي تجهلها.
قالتها ضاحكة فالتفت هاني ينظر إليها بدهشة، رنيم تخلت عن جمودها وباتت أكثر مرحا وتبسطا بتعاملها..
استدركت تحثه على النهوض:- سيزول الألم تماما بعد أن تستحم بمياه دافئة.
لاحقا عندما جلسا على طاولة العشاء أخذا يتحادثان بسهولة وينتقلان من موضوع إلى آخر ببساطة وانسجام.. أصغت رنيم لضحكة هاني المثيرة بسعادة مبهمة.. فجأة غمغمت:- هل أقول لك شيئا؟
نظر إليها بعينين معبرتين:- كلي أذان صاغية.
تنحنحت:- عدني أنك لن تتضايق.
عقد حاجبيه:- هل ستقولين ما يضايقني؟
- ربما نعم .. ربما لا.
- حسنا سأحاول أن لا أتضايق.
انحنت للأمام وهمست:- أنت يا هاني كنت أكثر شخص كرهته في حياتي.
أطال النظر إليها، ثم قال :- تريحني جدا الصيغة الماضية بكلمة (كنتِ).

طيلة عامان كان أسم هاني يثير فيها الحنق والغضب، أما الآن مشاعرها اتخذت منحنى آخر.. خلال المدة التي أقامتها معه في المزرعة تعرفت على جانب مختلف من شخصيته.. استياءها منه بدأ ينحصر ويتلاشى، فهو ليس ذاك الوصولي البغيض الجاد الجلف الذي تزوجها لمصلحة شراكة مادية، بل رجل مسؤول يفكر بشؤون عائلته ومن حوله، يهتم بمساعدة الضعفاء المساكين، ويعمل من أجل خدمتهم بعاطفة صادقة.. يحب الموسيقى ويعزف على الأوتار بمنتهى الحساسية.. هاني استطاع ان يقلب لها أفكارها وأرائها رأسا على عقب.

______________________________


عاشت تالا مع دوشة البنائين ومعداتهم أثناء تنفيذ الترميمات والإصلاحات.. أبت الركون في القصر حتى انتهاء الأعمال، وتسليم المسؤولية بالكامل للمتعهد ومساعد المالك.. أرادت ان تكون موجودة يوميا لتراقب وترصد أدق الحيثيات والتعديلات والإجراءات، كي تؤكد لذاتها أن باستطاعتها التعامل مع شتى الظروف والمواقف والعقبات بجلادة وصلابة.. أحيانا كانت تلجأ إلى خالتها تغريد لتستشيرها وتستعين بمعلوماتها وخبرتها في بعض الأمور.. معا اختارتا ألوان الطلاء للجدران والأبواب، انتقتا بلاط وسيراميك الأرضيات، وكل ما تحتاجانه من أثاث وستائر لنوافذ والواجهات.. يوما بعد يوم كانت الأعمال تُنجز وتتضح معالم متجر الحلويات بتركيب اليافطات.. تلهفت تالا لمشروعها لتثبت قدرتها على النجاح كأنثى ناضجة مستقلة.
خلال تلك المدة لم يحدث ان التقت شهاب أو حتى صادفته. وهو لو أراد مقابلتها حقا لفعل.. لكنه فضل البقاء بعيدا حتى تتخذ قراراتها لوحدها دون أي تأثيرات أو ضغوطات.. وهذا أكد لها تخمينات الشريف طلال حين قال بأن شهاب ترك الأمر كله بين يديها..
حينما أتصل المحامي وطلب منها ان تزوره في مكتبه لاستكمال الأوراق القانونية بشأن الطلاق.. اعتذرت منه وادعت أنها لن تستطيع زيارته في الوقت الحاضر لعدم تفرغها، وانشغالها بمتابعة الأشراف على الديكور الداخلي لمشروعها الخاص الذي يستأثر في الوقت الراهن جل تركيزها واهتمامها..
ما فاجئها أن المحامي تقبل ذرائعها وحججها موافقا على تأجيل اللقاء دون أن يعارضها أو يجادلها، بل قال باحترام:- سيدتي خذي وقتك كما تشائين .. سأتصل بعد انتهـ...
سارعت تقاطعه تختصر الحديث لتقول بحزم ووضوح:- أرجو ان لا تُزعج حضرتك بالاتصال مجددا.. رقمك صار عندي، وسأعاود مكالمتك بنفسي لاحقا لتحديد موعد.
ولتمنع مجالا لأي سجال شكرته وأنهت المكالمة مغلقة الهاتف فورا. عضت تالا على شفتها السفلى بقوة، وطلبت من الله ان يغفر لها ويسامحها على كذبتها، فهي تعرف أن قلبها لن يطاوعها لتتصل بالمحامي أبدا.

تغيرت حياة تالا بسرعة وبطريقة جذرية، فبعد اكتمال التصليحات والصيانة انتقلت مع خالتها إلى المبنى الذي أصبح حديثا منسقا بغاية الأبهة.. الاثنتان أقامتا في شقتهما الصغيرة فوق المتجر واستهلتا بتفاؤل حياتهما..
في أجواء مفعمة بالحماس أتمت تالا استعدادات افتتاح متجر الحلويات.. الواجهات الأمامية للثلاجات الزجاجية امتلأت طوابقها بقوالب جاتوهات لكافة المناسبات بإشكال مبتكرة تخطف الأبصار في روعة وجمال زينتها الجاذبة.. كعكات بأنواع مختلفة منها الكريما والشوكولاته المغطية بعجينة السكر الملونة أعدتها تالا بمنتهى الإتقان والشغف والحب..
أصفات عديدة بأغلفة شفافة صُفت بداخلها بشكل هرمي حبات المعمول المحشي بالفستق الحلبي المعقود بالقطر، وبجانبها حبات من كعك العجوة.. صواني كبيرة غصب بقطع البقلاوة وحلاوة الجبن المحشوة بالقشطة والعسل..
الرفوف ألجداريه اكتظت بأصناف أخرى من الحلويات..فطائر مربيات الفاكهة والكراميل، إضافة إلى البسكويت بأشكاله وأنواعه..
ربطت تالا الشرائط الملونة حول علب صغيرة جهزتها لمن يرغب بالتذوق على سبيل الاستضافة..
صباح يوم الافتتاح وصلتها من شهاب باقة أزهار ضخمة جميلة فاحت بشذاها الأخاذ معطره المكان. أسعدتها لفتته وأشعرتها انه لم ينساها في خضم انشغالاته، وما زادها اغتباطا وأملا أن البطاقة المرفقة كتبها بخط يده ( تهانينا القلبية، أثق أنكِ ستحققين نجاحا باهرا)..
كانت منكفئة في وضع لمساتها الأخيرة هنا وهناك عندما فُتح الباب ودخل يعرب وهدى معا بيدان متشابكتان.. اندفعت نحوهما تستقبلهما بترحاب وتأخذ رأيهما في المعروضات.. قالت هدى:- نحن لم نحدد موعد الزفاف، لكننا للاحتياط نريد منذ الآن تسجيل اسمينا في قائمة الحجز من أجل كعكة العرس.
علق يعرب مبتسما:- ضروري جدا، فمن يدري قد لا يلحقنا الدور حين يبدأ الزبائن بالتهافت على المتجر، ليطلبوا الكعكات والحلويات لمناسباتهم السعيدة.

طمئنتما تالا بألفة:- مهما بلغ انشغالي سأكون رهن إشارتكما، وكعكة عرس فاخرة ستصل إليكما أينما أردتما.

حضرتا دينا وشاها معا ليتمنيان لها التوفيق.. وتلتهما دوناي التي طلبت منها عددا كبيرا من بطاقات التعريف عن المتجر لتوزعها على رفيقاتها وصديقاتها في صالون التجميل..
توافد إلى المتجر مدعوين تعرفهم ومعهم آخرين تراهم للمرة الأولى جاؤوا لما سمعوه عن مهارتها.. جميعهم أحاطوها وهم يتذوقون الحلويات ويتحادثون بأصوات ضاحكة..

همست تغريد لابنة أختها تالا بفخر:- الحاضرين لم يتوقفوا عن الإشادة والثناء على الأطايب اللذيذة التي تعدينها باحترافية.. أصبح لدينا زبائن.

رفعت دفتر وقرأت:- أب وأم يريدان التوصية بكعكة ضخمة لسبايدرمان في حفلة عيد ميلاد طفلهما.. عروسان يطلبان مقابلتكِ من أجل كعكة الزفاف، وحددت لهما موعدا بعد ظهيرة الغد.

اغرورقت عيناي تالا بدموع الفرحة وهي تر المتجر يغص بالحشود.. وقفت تلقي كلمة قصيرة بدأتها بحمد الله على فضله.. :- والرحمة والسلام لروح الشريفة حياة التي لولاها لما عرفتكم، وما كنتُ عرفتُ سعادة ان يكون لي أصدقاء مخلصين وأحبة أوفياء.. وجودكم جميعا نعمة في حياتي.. أشكركم جميعا.
اهتز المكان ضاجا بالتصفيق.. وبتلك اللحظة التي رفعت بها رأسها رأت شهاب واقفا قرب الباب يقامته المديدة المهيبة يناظرها بملامحه الرجولية المميزة،
حضوره للافتتاح كان مفاجئا وغير متوقعا.. شهاب لم يكتفي بإرسال الورود وبطاقة التهنئة فقط، بل جاء بنفسه ليؤازرها داعما مساندا مشجعا..
سارت باتجاهه كالمسحورة.. ذهلت حينما مد ذراعه لمصافحتها وقد لاحت على شفتيه ابتسامة واسعة.. بصمت ودهشة تأملت يده الممدودة لها، رفعت عينيها لوجهه ثم عادت تنظر ليده مرة أخرى وهي تمد يدها تصافحه، كانت قبضته ثابتة قوية، الحرارة المنبعثة من تلامس كفيهما بعثت موجة دفء بأوردتها فسرت رعشة خفيفة في دمها.
همست بابتهاج:- سررت بتشريفك لي..
أردفت تشير إلى الباقة الضخمة:- أشكرك على الورود والبطاقة.
قال معبرا بصدق:- تستحقين يا تالا أنتِ إنسانة طيبة رقيقة.. وطاهية بارعة تمتلكين طاقة إبداعية بموهبتك وكفاءتك العالية... سعيد جدا لكِ.

تأملت بشغف نظرة الحنان الخالصة التي تغمر عينيه كلما تطلع نحوها.. انسابت الكلمات من بين شفتيها:- أحس أني قوية ومحبوبة كما لم أكن من قبل. أشعر اليوم ولأول مرة بأني حرة..
- أنتِ كذلك فعلا.
تنهدت براحة وتلك السكينة التي انتظرتها طويلا تتسرب إلى روحها، بعد أن قبعت لسنوات كثيرة في قبضة الخوف وقد نال ما ناله منها..

____________________________


من بعيد وقف يتأملها بتمهل حيث جلست في الحديقة محتمية بظلال معرشات الدالية من أشعة الشمس التي ملأت الفضاء ولا تخفف حدتها ألا هبات نسمات ربيعية لطيفة.. تحت يديها وضعت كتب المباحث العلمية. عن يمينها تناثرت عشرات المجلدات المختلفة حول العمليات الجراحية والرسومات التوضيحية.. انكبت على مراجعاتها الدراسية بتركيزها القوي.. أخذ يراقب تفاصيل حركاتها، فعندما تفكر تقلب القلم بين أصابعها الرفيعة، وكلما استعصى عليها فهم أمر ما، تقطب حاجبيها وتزم شفتيها بتلك الطريقة اللذيذ.. كل لفته تصدر عنها تفتنه.. كل ما فيها يأسره ويستحوذ عليه.. حضورها يحتل كل مساحة في عقله ووجدانه وكيانه.. جاذبيتها تربكه، جمالها وذكائها يضفيان عليها ألقا خاصا..
حاول أن يتفهم حالتها المضطربة المتخبطة ولهذا أخر المواجهة معها، لكنه لم يعد يحتمل أكثر عزوفها وبعادها عنه.. سار نحوها قائلا :- لم نلتقي منذ مدة.. رغم وجودنا معا في مكان واحد بالمستشفى والحي، لكننا بالكاد أصبحنا نلتقي.

أجفلت دينا تشعر بانتفاضة قلبها.. قلبها الذي يأبى أن يطيعها بالصد والهجران، ويضل يهفو لعشق صاحب هذا الصوت الرجولي الرزين..
أضاف نارت وهو يقترب ليجلس قربها يعاتبها بلطف:- حتى إذا التقينا لا نجد الوقت الكافي لنجلس ونتكلم معا.

أخفضت رأسها تتحاشا نظراته، ففي الآونة الأخيرة وبعد ان خاضت التجربة العملية في المستشفى مع نارت واكتشفت واقع التباين والفوارق التي تفصلها عنه باتت تتجنب الانفراد معه، كي لا تقودها مشاعرها وتنجرف بضعف أكثر في عواطفها. أرادت ان تبقى مع نفسها لتكون متوازنة في تفكيرها وقراراتها..
تنفست بعمق وصارحته:- أنت جراح بارع عظيم يا نارت تحلق في الأعالي والكل يقدر نبوغك ويحترم مكانتك..
تهدج صوتها لتردف بحسرة:- أخشى أنني لن أتمكن يوما من مواكبتك.

ملامح الإرهاق اعتلت وجهه والضلال الداكنة تحت جفنيه تدل على إدراكه لحجم معاناتها طوال المدة الفائتة:- لستِ مضطرة لأن تواكبيني..

بحركة سريعة أغلقت كتبها:- أنا.. أنا مجرد طالبة طب متدربة.

تنبه نارت لتفاقم ارتباكها فعقب:- وأنا مثلكِ كنتُ يوما مجرد طالب طب متدرب.

قاومت دينا تلك الغصة التي استحكمت بحلقها لتقول محبطة بيأس:- لكني متدربة فاشلة، وربما لا استحق أن أكون طبيبة، فكل ما أفعله يبدو لي خاطئ.

- اعترض بشدة على ما تقولين.. لا أحد منا يبدأ الطريق من أخره، أنتِ مجتهدة وذكيه، الأخطاء يمكنك تلافيها وتجنب الوقوع بها من خلال الممارسة.. في مهنة الطب هنالك دائما وقت عصيب يجعلنا نفقد الثقة بجلادتنا وقدراتنا وقد ينتابنا شعور أننا فاشلون، لكننا لا نلبث وأن نستعيد استملاك شجاعتنا.

عضت شفتيها بقوة تعترف خائبة:- لا أستطع التحلي بالثبات في غرفة العمليات.

- ذلك لأنك تفكرين كثير بمن حولك، ولا تريدين ان تخيبي الظن فيكِ.

استطرد يحلل لها بعمق:- في العمليات لا تنفكين عن التفكير بمشاعر المصابين وما سينتج عنهم من تصرفات.. حساسيتك المفرطة تستبق الفجيعة وتهول الحدث بتخيل ردود أفعال المرضى حين يعودون لوعيهم ويدركون أنهم فقدوا إلى الأبد جزء من جسدهم..

أكمل بحكمته:- الطبيب عليه ان يفعل الصواب، يفكر كيف ينقذ حياة المريض.. ذاك الطفل الصغير سوف يستيقظ بعد الجراحة ويكتشف ان ذراعه مبتورة.. مؤكد سيبكي وقد يكرهني وربما يصرخ بي يطالبني بإعادتها.. سأبرر له غضبه وامتص احتقانه ليس لأني جراح بارد الأعصاب، بل لقناعتي أنه سيأت يوم ويدرك ان نعمة الحياة أهم بكثير.. تذكري دائما أن مهمتنا كأطباء الانتصار على المرض، والحيلولة دون موت أي كائن حي..

أومأت توافقه فتابع بجدية:- أمر أخر أريدك أن تعرفيه وتعيه.. ليس مطلوبا منكِ ان تضغطي أعصابكِ، وتضعيها على الدوام في دوامة متاهة المقارنات بيننا.. الحب الذي يجمعنا يجب أن يكون بمنأى عن أي هواجس..

- ما زلتُ أجهل أمور كثيرة ولا أستطيع الالتحاق بك..

- نحن لسنا في منافسة ضد بعضنا، بل نكمل بعضنا..
التقط يديها يضمهما بكفيه العريضين:- نجاحي نجاحك.. ونجاحك نجاحي..
استدرك مبتسما:- لا تقللي من قيمتكِ وقدراتكِ.. يوما ما ستلحقين بي وقد تسبقيني.. ستصلين إلى مرحلة أراك تحلقين عاليا في سماء المجد العلمي وتتبوئي أهم المناصب، ومن يدري ربما تعينين كأول وزيرة لصحة.. وحينها سأكون فخورا بكِ وأحبكِ، تماما كما أنا فخورا بكِ وأحبكِ الآن.
رفعت رأسها ترنو بشوق لعينيه اللتان تسحراها وتهيجان مشاعرها لتغوص في بحر موجهما العاتي دون ان تخشى الغرق..




دنيازادة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس