عرض مشاركة واحدة
قديم 17-03-21, 09:35 PM   #1553

دنيازادة

نجم روايتي وشاعرة متألقة في القسم الأدبي و كاتبة في منتدى قصص من وحي الأعضاء والمحققة الأعجوبة

alkap ~
 
الصورة الرمزية دنيازادة

? العضوٌ??? » 263614
?  التسِجيلٌ » Sep 2012
? مشَارَ?اتْي » 6,235
? الًجنِس »
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » دنيازادة has a reputation beyond reputeدنيازادة has a reputation beyond reputeدنيازادة has a reputation beyond reputeدنيازادة has a reputation beyond reputeدنيازادة has a reputation beyond reputeدنيازادة has a reputation beyond reputeدنيازادة has a reputation beyond reputeدنيازادة has a reputation beyond reputeدنيازادة has a reputation beyond reputeدنيازادة has a reputation beyond reputeدنيازادة has a reputation beyond repute
?? ??? ~
نحن بين رحلة حضور وغياب، ستُدفن مهما كانت قيمتك، وستُنسى مهما بلغت مكانتك، لذلك اصنع اثراً جميلاً فالبصمة الجميلة تبقى وإن غاب صاحبها...
افتراضي



بعد مرور ثلاثة أشهر
حققت تالا نجاحا فاق كل التوقعات.. تألقت وأصبح متجرها معروفا يرتاده الزبائن ويزدادون يوما تلو يوم.. انهالت عليها عروض شركات تجهيز الحفلات وقاعات المناسبات وصالات الأفراح لتعد لهم قوالب الكعك وأطايب الحلويات..
ازدادت ثقتها بنفسها واكتسبت طاقة وحيوية وعطشا للحياة، شعرت ان الله عز وجل يمنحها العوض عن كل ما قاسته من عذابات..
ورغم انهماكها بالعمل كانت تالا تجد الوقت لتذهب إلى القصر لرؤية يحيى، وتحرص على أن تمضي معه نهار عطلتها..
الشريف شهاب بطبيعة الحال كان مطلع على مواعيد حضورها، وفي كثير من الأحيان ينظم إليهما ليشاركهما المشاوير والنزهات إلى الحدائق ومدينة ألعاب الأطفال..
كانا معا يقضيان أوقات غاية بالروعة كأسرة سعيدة.. وعندما يحل المساء يضعان يحيى في سريره ولا يبارحان مكانيهما حتى يتأكدا من نومه بارتياح وأمان.. ثم يغادران غرفته بهدوء، ويجلسان ليتناقشان بشأن كثير من التفاصيل المتعلقة بالصغير، تماما مثل أي أب وأم يهتمان بالتخطيط لمستقبل أبنهما..
في كل مرة زارت تالا بها القصر، الشريف طلال والشريفة تيتيان يصران على استبقائها لتناول العشاء معهم، فيتحلقون جميعهم حول المائدة المستديرة.. تالا وتيتيان تتواطأن معا في سبيل أن يتقارب شهاب ووالده الشريف طلال.. تثيران المواضيع التي يتوافقان عليها كالحديث عن يحيى وشقاوته وأهمية البدء بتعليمة السباحة وركوب الخيل.
همست تالا بقلق:- يحيى ما زال صغيرا ومن المبكر ركوبه الخيل.
رد الشريف طلال بفخر:- شهاب بدأ يعتلي الخيل منذُ بدأ يتعلم المشي.

التفتت تالا نحو شهاب الجالس إلى جوارها بشعره القاتم وملابسه المهندمة بأناقة، كان يقطع قطعة لستيك بصمت وكأن الحوار لا يدور حوله ولا يعنيه.. سألته لتشركه بالحوار:- ألم تشعر بالخوف والرهبة!

دون ان يرفع وجهه عن الطبق هز رأسه مجيبا بصوت جاف:- لا أعرف ماهية مشاعري وقتذاك، فأنا لا أذكر شيئا عن هذا الأمر.

تدخلت تيتيان قائلة:- منذُ مدة، بينما كنتُ أرتيب أغراض غرفة العلية وجدتُ صناديق بداخلها مجموعة ألبومات قديمة، وفي إحداها لمحتُ صورة لك يا شهاب وأنت فوق الحصان. أظن أني وضعتُ الألبوم في خزانة المكتب.
نهضت تيتيان وكأنها كانت تنتظر تلك اللحظة بفارغ صبر. بسرعة أحضرت الألبوم وفتحته تقلب صفحاته، سحبت منه صورة وأرتها لشريف طلال الذي هتف مبتسما:- هنا كان شهاب بعمر الثلاث سنوات، والتقطنا له هذه الصورة في النادي الملكي، حيث بدأ أول تدريب له على ركوب الخيل.

بقي شهاب محافظا على بروده فيما تحمست تالا لمشاهدة الصورة.. تيتيان أعطتها الصورة فما ان أبصرتها استدارت تمدها أمام شهاب تقول بتعجب:- يحيى نسخة طبق الأصل عنك.. أنظر.

لم يستطع شهاب مداراة فضوله بعد سماعه لملاحظة تالا.. رفع عينيه ينظر لصوره بشكل خاطف ثم يزيح بصره، لكنه ما لبث وأن عاد مجددا ليحملق بها وعلى تقاسيمه ارتسمت الدهشة.. لم يكن بالصورة لوحده معتليا صهوة الحصان ممسكا بلجام، فوالده الشريف طلال كان يقف بالقرب منه وبكفه يسند له ظهره داعما وعيناه تراقباه بحرص شديد.

قالت تالا:- صورة رائعة ومعبرة جدا عن الحب الأبوي.. لن أشعر بالقلق على يحيى من ركوبه الخيل، إذا كنت بجانبه وفعلت كما الشريف طلال.

علقت تيتيان وفي مضمون مداخلتها مغزى مبطن:- سبحان الله .. الأب والابن بينهما رابط متين لا تنفك أواصره، حتى وإن اختلفا بمعتركات أخطاء الحياة.. ليس هنالك أعظم من حب الأب لابنة.

__________________________


الجدة توجان تعدت المئة وأخذ يتكرر الماضي في كلامها أكثر من أفعال الحاضر.. كبرت بصورة أحزنت أحفادها الذين ما فتئوا يتناوبون على رعايتها في أدق تفاصيلها.. يتجمعون حول سريرها يتأملون بصمت وجهها الذي امتلآ بخطوط وكتل تجاعيد لحمية تبدأ بالاحمرار الداكن، ثم تميل للازرقاق الذي ينبئ بدنو الأجل أكثر.. حين تأكل تشعر أن خداها سيسقطان، خصوصا بعد أن فقدت كل أسنانها. رفضت بحزم فكرة تركيب طقم الأسنان واعتبرته إشارة صريحة للموت..
اعتدلت الجدة في جلستها فأسرعت دينا وشاها لترتبا الوسائد حولها ويرجونها ان تقص عليهم ما تذكره عن أجدادهم الأديغيين القدماء.. صدحت أصوات المتواجدين في الغرفة يؤيدون الاقتراح ويطالبون الجدة بحكاية أسطورية.. ابتسمت توجان فظهرت الخطوط الغائرة قرب فمها وهي تتجلى في سيرة الأولين:- كان يا ما كان بغابر الأزمان في إحدى القرى الأديغية.. كان يعيش رجل لديه زوجة نكدية تفتعل المشاكل.. دائمة التذمر والصراخ لدرجة أنها أنهكت زوجها بكثرة شكواها ونقيق تذمرها وعويلها, وقد تحمل الزوج هذا الوضع بما فيه الكفاية دون ان تتاح له فرصة للتنفس أو الراحة, وفي نهاية المطاف ولأنها دفعته ليكره نفسه, وأوصلته لمرحلة لم يعد قادرا قط على تحمل المزيد, فقرر أن يخفيها من الوجود.. واستهل التفكر بالطريقة التي يمكنه التخلص منها..
في ظهيرة اليوم التالي حين كان عائدا من الغابة يحمل ما احتطب وإذا به يصادف في طريقه شجرة تفاح بري تحمل كمية كبيرة من الثمار المحمرة اليانعة.. وعندما نزل تحت الشجرة ليلتقط من ثمارها تفاجأ بوجود هوة جحر هائل, فجوة سحيقة في عمق الأرض يلفحها السواد ولا يمكن إدراك قعرها.. في هذه اللحظة تيقظ الرجل، وخطرت بباله خطة ماكرة تمكنه من إخفاء زوجته النكدية..
جمع بعضا من أغصان الأشجار وفرشها على الدرب الموصل للهوة وغطى فتحتها بالـشاكؤه (عباءة الزي الشركسي), ثم هزّ جذع الشجرة فتساقطت ثمار التفاح الحمراء اليانعة فوق العباءة, جهز المكان بشكل لا تظهر فيه الهوة السحيقة.. ثم ركب العربة وأقلع بها للمسير.. وحينما وصل لدار استقبلته زوجته كعادتها بالتعنيف والصراخ.. قال الزوج وهو يفرغ من العربة حمولة الحطب ويضعها في المخزن:- على رسلك يا امرأة.. لتأخيري سببا.. لقد عثرت على شجرة تفاح مدهشة لم أر في حياتي مثل ثمارها.
تعجبت الزوجة ولكنها ما لبثت وان صاحت:- هيا .. علينا الذهاب بأقصى سرعة لإحضار الثمار قبل أن يكتشف أهل القرية تلك الشجرة .

قالت جملتها بطمع وشجع، ودون ان تترك لزوجها العائد لتوه من الاحتطاب مجالا ليرتاح أو ليتناول طعامه، قفزت على عجل داخل العربة وجعلته يذهب بها إلى الغابة، وعندما رأت ثمار التفاح المحمرة الرائعة منثورة على عباءة الـشاكؤه أسرعت لترتمي عليها وتجمع ما استطاعت بيديها بشراهة التملك..
الـشاكؤه والثمار ومعهم المرأة سقطوا جميعا في الهوة.
تنهد الرجل واستدار عائدا بالعربة إلى بيته قائلا:- الآن استطيع أن أعيش بهدوء.

أمضى الرجل ردحا من الوقت وهو يحضّر عصيدة الذرة ويأكلها هانئ البال لا يسمع صراخ المرأة النكديه التي كُتم صوتها..

لكنه ما لبث وأن شعر بالذنب وتأنيب الضمير، لام نفسه الأمارة بالسوء قائلا:- لا يصح هذا الأمر.. لأجل أن أحظى في الدنيا على شيءٍ من الراحة والهدوء إذا بي الآن أخسر آخرتي, لا بد أن أعود إلى حيث اختفت زوجتي وألقي نظرة.

في الحال قام وقصد الغابة, وعندما اقترب من شجرة التفاح سمع حشرجة ضجيج تحت الأرض وصوت ضخم يصدر من الهوة يندب:- يا حسرة.. أليس هنالك من شخص يساعدني.
قال الحطاب:- ما فعلته لا يجوز، ولا بد لي من إنقاذها.
اتجه إلى عربته وتناول منها سلة كبيرة وحبلاً متينا وهو يستغفر تائبا:- لقد ابتُليت بها زوجة ويجب ان أصبر.

عاد للمكان وأسقط السلة موثوقة بالحبل إلى الأسفل.. ولما شده ليرفعه شعر بالثقل الهائل, أمعن النظر في عتمة الحفرة العميقة فشاهد تنينا ضخما يصعد متشبثا بالحبل الغليظ..
الحطاب أسرع يستل خنجر القاما وهمّ بقطع الحبل..
استغاث التنين:- أرجوك لا تقطعه..
وأستدرك واعدا:- إن أنقذتني من هذه الهوة فإنني سأحقق لك ثلاثة من الأماني تطلبها مني مهما كان نوعها.

بعد تفكير سريع وافق الحطاب، وسحب التنين الذي ما أن خرج نفض جسمه وقال شاكرا:- إن ما قدمته لي من خدمة لن أنساه أبداً, لقد أمضيت مائة سنة في هذه الهوة مرتاح القلب هانئا.. لكن منذ دخلت فيها امرأة.. جعل الله شريكة عدوك مثلها, لقد كرهتني بالحياة وجعلت إقامتي داخل الهوة جحيم، ولم أدري إلى أين أهرب.. أشكرك كثيراً أيها الإنسان الطيب لأنك ساعدتني بالفرار من تلك النكدية.. وكما وعدتك سألبي لك الأمنيات الثلاث, ولكن إياك أن تتمادى وتطلب أكثر, فإن تجاوزت الأمنيات الثلاث ستحل بك مصيبة كبرى.

أومأ الحطاب برأسه واستفسر:- حسنا.. ولكن ما هي الطريقة التي ستنجز بها وعدك لتحقق الأماني.

أجابه التنين:- ها أنذا سأخبرك كيف سأقوم بذلك.. سأستلقي على محيط قريتكم, وبعد أن ألتف حولها متمدداً ويعجز القرويين عن امتلاك القوة الكافية التي يواجهونني بها, تنبري لهم أنت مبادرا وتقول:- إن طردت التنين وخلصتكم من حصاره, فماذا يمكنكم أن تقدموا لي لقاء ذلك؟..
وحين يقتنعون تماما بأنه لا خلاص أمامهم بوسيلة أخرى فسيلبون كل طلباتك, عندها خذ منهم ما يخطر ببالك وبقدر ما تشاء من الدواب والحلي، ثم أخرج سيفك من غمده وجابهني وأشهره عليّ, فأتظاهر بأنك أفزعتني وأغادر.. بعدها سأنتقل إلى قرية أخرى, وأحاصرها هي الأخرى بأن ألتف حولها بنفس الطريقة, فتحضر أنت إليها وتكرر نفس ما فعلته في قريتكم, ثم نعيد الكرة مع قرية ثالثة.. وعندها تكون قد غُنمت من القرى الثلاث أملاكاً تكفيك العمر كله.. ولكني أحذرك ألاّ تواجهني لمرة رابعة.
عاد الرجل وجلس في بيته, وتبعه التنين وارتمى حول قريته مطوقاً إياها, منع كل ذا روحٍ من الدخول أو الخروج من القرية, وفرض عليهم وضعاً صعباً لا يحسدون عليه، قطع عنهم الماء ما أدى أن وصل الحال بالدواب والأطفال إلى درجة الجفاف فالهلاك.. هم كل من يعتبر نفسه رجلاً من أهل القرية على المشاركة في طرد التنين، ولكن لم يكن لهم لا حول ولا قوة لصد بطشه.
في هذه الحال وقد أصبح كل أهل القرية في حرج من أمرهم, تقدم الحطاب مقترحا:- إن طردتُ لكم هذا التنين فماذا ستقدمون لي؟
ردوا جميعا:- اطرد أنت ذاك التنين وليس من شيء إلا ونقدمه لك.
وأهالوا على الرجل الكثير من النقود الذهبية والأملاك..
استل الحطاب سيفا وكرّ هاجما على التنين الذي تظاهر بالفزع وفارق القرية مغادرا وهو يقول:- هذه واحدة.
طار التنين إلى قرية أخرى وحاصرها باستبداد مانعا الماء مستوليا على مخازن مؤن الغذاء، ولأن أهلها كانوا قد سمعوا قصة الحطاب الفارس فأرسلوا إليه يستغيثون.. وكما في الحالة الأولى طلب الحطاب الكثير من الأغراض والحاجيات الثمينة، وحينما استجيب له استل سيفه وأعاد نفس العملية المتفق عليها طاردا التنين.. وفعل الأمر ذاته مع القرية الثالثة..
جمع الحطاب أملاكا وأموالا ما يفيض عن حاجته أبد الدهر وقرر الاستقرار في بيته، وإذ بالتنين ينسحب إلى قرية رابعة فيضرب عليها حصاراً, ولأن أهل هذه القرية أيضا كانوا قد سمعوا قصته مع التنين فأرسلوا إليه وبدؤوا يستنجدون به لتخليصهم من التنين. قال لهم:- لا يمكن أن يحصل هذا, فلم يعد لدي الحول والقوة على مجابهته.

إلا أنهم لم يدعوا له فرصة لخيار آخر.. تورط الحطاب في أمرٍ مستعصٍ ووقع في حيرة, فالتنين قد أوفى بوعده له ونفذ ما اتفقوا عليه, أما هذه الرابعة سيكون فيها هلاكه على يد التنين..
جلس الحطاب يطرق في التفكير لإيجاد حلّ معاتبا لائما نفسه:- ما الذي جعلني أطمع بالمال وأساعد التنين على الخروج من الهوة ليتسبب بأذى لناس، وفجأة رأى ضوءاً في نهاية النفق فقام قائلا:- إن لم أوفَق في هذا ففيها نهايتي, وإن كانت كذلك فإني أستحقها.

تحرك للمسير نحو القرية المنكوبة ببطش التنين، لكنه لم يصطحب معه السيف هذه المرة .
قبل وصوله ومن مسافة بعيدة رفع عن رأسه قبعته، وبدأ يلوح بها متظاهراً أنه في مأزق، أخذ يركض مهرولا مناديا على التنين الذي ما أن رآه نفث نيرانه وقال معنفا بغضب:- ألم أحذرك بأن لا تجابهني في المرة الرابعة.

رفع الحطاب يديه الخالية من السلاح وقال لاهثا:- كلا، ليس ذاك ما جئتك لأجله.. بل أتيت لأخبرك أن المرأة النكدية الصاخبة تلك قد خرجت من الهوة.
ما ان سمع التنين هذا الخبر، تخبط بفزع وأسرع يستجمع بعضه ململما ذيله ليغادر البلاد بأسرها دون رجعة.

أنهت الجدة توجان الحكاية فعلق أحد الشباب:- حتى التنين هرب من زوجة الحطاب النكدية!!
ضحك الحاضرين باستثناء موليجان التي غمغمت بغيظ:- حكايا الاساطير غير حقيقية، أنها مجرد هراء سخافات..

انتفضت واقفة وغادرت باستعجال.. في المساء دب الفزع بقلبها حينما رأت زوجها تامبر يفرز محاصيل المزرعة، ويركن جانبا قرب العتبة شوالين من حبوب القمح والفريكة خصصهما باسم الأرملة ثريا. قال مبررا الأمر:- المسكينة فُجعت بوفاة زوجها ولديها توأم أولاد صغار.

ناقوس الخطر رن في رأس موليجان. العطايا والهدايا تصنع المستحيلات عندما تمتاز بخصوصيتها.. هذا ما تبادر لذهنها فأخذت تفكر بوجل ان كان تامبر قد مل من عصبيتها ومشاحناتها المتكررة معه..
ضربت كفها على صدرها تتساءل في سرها:- هل تراوده رغبة الزواج من امرأة غيري؟.. أيعقل ذلك!... ولما لا!!، ثريا أرمله شابة، لديها الجمال وقد تلد له ولدا.
حاولت أن تبعد عنها تلك الأفكار:- اللهم أخزيك يا شيطان.
لكن الهواجس تنازعتها بين شك ويقين ان لا أحد احتمل تصرفاتها الغرائبيه ونكد جنونها كما فعل تامبر..
وقفت أمام المرآة تنظر لانعكاس صورتها. كانت تكره شكلها منذ حادثة مغارة البرية في طفولتها.. تكره شعرها الذي استحال رماديا داكنا ثم صار يتناقص، يقصر، ويتساقط على وسادتها عاما بعد عام مودعة شبابها مبكرا في الثلاثين..
تكره عيناها اللتان كانتا بلون العسل الصاف فأصبحتا تميلان إلى الاصفرار الباهت.. تكره وجهها الشاحب على الدوام.. ليست تلك الحلوة التي تستحق ان يتغزل بها زوجها..
لكن رغم كل ذلك تامبر أحبها.. رأى عيوبها واختارها من بين كل فتيات قبائل الاديغيين.. هي أيضا أحبته، تامبر وحده ولا أحد سواه ملأ عينيها وقلبها..
تذكرت موليجان ما قالته لوالدها عندما أنهت عدتها بعد وفاة المرحوم زوجها، وتقدم لها عم ابنتها شاها:- أنا لا أكاد أصدق خلاصي من أخيه، قسما بالله إذا اقترب مني سأشج جبهته بكعب حذائي.

عكس ذلك حدث عندما جاء تامبر طالبا يدها لزواج أعلنت قبولها في الحال والدنيا لا تسعها فرحا..

أخرجت موليجان من الخزانة رزمة ملفوفة، فتحتها فتوهج لمعان قماش الحرير الأحمر بلون الأنوثة المذهل يحرك فيها الأشواق.. قبل شهر أهداها تامبر القطعة الثمينة، يومها علقت باستهجان متبرمة:- ما هذا يا تامبر!!.. حرير أحمر!!
قال لها يحثها على لبسه:- النور المنبعث من لون الحرير سيكون جميلا عليكِ.
لامته مستهزئة:- أجننت يا رجل.. تريدني ان ارتدي الحرير الأحمر الصارخ بعد كل هذا العمر والكبر!

- عن أي عمر تتكلمين يا موليجان!!.. نحن في منتصف الأربعين، بأوج شبابنا... أما الكبر فأنت من استعجلتِ على زواج أبنتك شاها وأصبحتِ جدة.

رفع نظره نحوها واستدرك بصوت خافت حالم:- ومع ذلك يا موليجان ما زلتِ في مخيلتي تلك العفريته الشقية التي تتقافز في الروابي والوديان وتلاحقيني من مكان لأخر..

غمز تامبر يذكرها بما كان:- كنتِ مصممة على الانضمام إلى ما أفعله من تحديات مع الرفاق.. لم يهمك محاولات إبعادكِ عن ألعابنا في البراري.. تسابقينا في كل مكان بغض النظر عن مدى قسوة ما تواجهينه من عقبات توضع أمامكِ.. لم تقبلي يوماً بالاستسلام..

عقدت ذراعيها أمام صدرها وقالت:- عدم استسلامي أزعجكم.

نفى تامبر:- أنا لم أراكِ مزعجة كباقي أقراني، بل اعتبرتكِ مميزة بجرأتكِ، لا تخافين أبدا ولا تهابين المخاطر، مع ذلك كان فى اندفاعك الرهيب طهارة، جعلتني اشعر دائما بالرغبة في حبك وحمايتكِ..

أطلقت موليجان تنهيدة وعادت لواقعها الحالي تمرر يدها الخشنة على الحرير الناعم تمسده جيدا.. ثم أزاحت الغطاء عن ماكينة الخياطة وأعدته ليصير رداء لنوم.
ليلتها فوجئ تامبر بها وهي تتهادى أمامه في الحرير الأحمر ألامع الصارخ الذي يليق للهيب العشق.. ضمها بين ذراعية كما لم يفعل منذُ سنوات، همس يناديها بالاسم الذي كان يدللها به في الماضي:- سيبسا موليجان.. روحي موليجان.

________________________


لم تعد تالا مضطرة للقلق بشأن المال، لكنها وبحكم نشأتها بقيت حريصة على عدم التبذير، تنفق ضمن حاجتها فقط، وتضع في ميزانيتها مبلغا توفره لمبرة الأيتام..
كانت في جولة صباحية بالأسواق التجارية تتبضع الأغراض، سارت تحمل أكياس المشتريات تنظر إلى معروضات المحلات، وفجأة رأت شيئا استرعى اهتمامها، وقفت مطولا أمام أحدى الواجهات الفخمة تتأمل ساعة يد رجالية، بدون النظر إلى بطاقة السعر عرفت بأنها باهظة الثمن، وهج لمعان معدنها الفضي يشي بأن جودتها أصلية من ماركة عالمية.. دون تردد دلفت إلى داخل المتجر وابتاعتها.. انتابها شعور مبهم غامض لم تدري كنهه، سعادة خفية تملكتها عندما أغلقت الموظفة علبة ساعة اليد وغلفتها بعناية بالغة ثم أعطتها إياها..
راقبت عن كثب نظرة الدهشة التي بانت في عيني شهاب عندما قدمت له الهدية قائلة بارتباك:- ليست بالشيء الكثير.. وقد لا تقارن بما لديك..

تابعت بخفر:- كل ما في الأمر أني رأيتُها وأحببتُ ان أقدمها لك بمناسبة عيد ميلادك.

تساءل متفاجئا:- عيد ميلادي!!

أومأت رأسها، وما لبثت ان استدركت:- هل نسيت ان اليوم عيد ميلادك؟.

- الحقيقة نعم.
بدا متأثرا وهو يقول:- بعد وفاة أمي ما عاد أحد يذكرني بميلادي.

تلاشى صوته ببحة مختنقة دلت على مدى شعوره بالفقد والوحدة.

- الأميرة رحمها الله لطالما احتفلت بميلادك حتى في غيابك.. كانت تأخذني معها لشراء قالب الجاتو وتتركني أنتقيه بنفسي، وعند عودتنا للقصر نزينه بالشموع وننفخها، ثم تقطع الأميرة الحلوى وتدعوني لأكل براحتي.. كنتُ أنتظر بشوق عيد ميلادك عام تلو عام لأتناول ما أشتهي وما شئتُ من كمية.

ضحك شهاب من أعماق قلبه، فتالا تنشر جناحيها حوله برقة وتغيبه في حلاوة صدقها وبراءتها التي لم تدنسها الشوائب.. قال وكأن أستلم أشارة صريحة منها:- شكرا تاليا على هديتكِ الرائعة.

نطق اسمها بنبرة مثيرة جعلت قلبها يرتعش بعنف بين جنباتها ..
تابع مغتبطا:- هذه أول هدية أتلقاها منذ وقت بعيد.

بعد تلك المبادرة من تالا وفي مساء ذات اليوم رن هاتفها النقال طاغيا على أصوات رواد المتجر، رأت اسم شهاب فانسحبت مسرعة باتجاه ردهة الدرج الداخلي الصاعد لطابق الثاني حيث خفت الضجيج.. مررت أصبعها على الشاشة باتجاه اللون الأخضر وسألت بقلق في الحال:- هل ثمة أمر ما؟..
سمعت صوته الخشن يقول:- كنتُ على وشك طرح نفس السؤال.. في صوتك نبرة قلق.

أجابته سريعا:- اندهشت من اتصالك، ظننت ان هنالك حدثا طارئا.

- اسف لأنني جعلتك تقلقين.. أردتُ ان اطمئن عليكِ.

تنهدت بارتياح وقالت بعفوية:- أنا بخير ما دمت أنت ويحيى بخير.

رد بمرح:- ونحن سنكون بخير مادمتِ أنت بخير.
ضحكت تالا رغما عنها، ضحكة ناعمة رائقة بخفه.. عاد ليسألها:- هل قاطعتُ عملا هاما كنتِ تقومين به؟

ألقت تالا نظرة خاطفة على المتجر المكتظ بالزبائن، فعادتا نهاية الأسبوع حافل بطلبات الحلوى لأعياد الميلاد، وتستمر بالعمل لوقت طويل بحيث قد تمر ساعات قبل ان تدرك أنها لم تستريح..
تراجعت تالا للوراء وأغلقت باب الردهة الجانبي الفاصل بين الطابقين، جلست فوق الدرجات تجيبه بتظليل:- لا .. لم تقاطعني.
عضت شفتها قبل ان يزل لسانها وتكمل بأن لا شيء أهم منه.

سمعت تنهيدته فاستفسرت :- أهناك خطب ما؟.

قال لها:- الحقيقة افتقد وجودك كثيرا..
حبست أنفاسها بدهشة:- حقا !!

- كلما عدتُ إلى البيت أشعر بالفراغ الذي تركتيه وراءكِ.. لستِ هنا لترحبي بعودتي وتسأليني عن نهاري.

همست بتعجب:- لم أكن أعرف أن لأسئلتي تأثير!!..
أردفت بلا تمهل:- حسنا أعدك أن أتصل بك كل ليلة وأسألك عن يومك.

- قد تكونين مشغولة بعمل المتجر.

أجابته بعذوبة:- الأولوية دائما لك.. ولحبيب القلب يحيى.

بمرور الأيام توطدت علاقتها أكثر مع شهاب.. أصبحا يتواصلان بشكل دائم.. توالت المكالمات والاتصالات الليلية بينهما، أنفاس همساتهما تشي بنبضات اللهفة المحبوسة خلف قضبان الماضي..

ذات مرة فاجئها شهاب حين قال لها:- اشتريت قطعة ارض لبناء فيلا..
استفهمت باستغراب:- هل تفكر حقا بالانتقال والسكن خارج حدود القصر؟
- نعم ..
- هذا قد يحزن الشريف طلال والشريفة تيتيان.

- هما من اقترحا الأمر علي.. والحقيقة اقتنعت بوجهة نظرهما.. لا بد من التغيير الجذري لوضع حد لكل ما ينكأ الجراح ويجتر الحنين.

ذلك الحزن بصوته والذي لمسته في وضوح بكلماته دفعها لتقول:- مهما كانت ذكرياتنا أليمة أو مفرحة علينا أن لا نبقى عالقين بها.

اخترقت تنهيدته المتخمة بالشجن أذنيها، فانسلت الكلمات من بين شفتيها:- توجد دائما أماكن تنتظر منا ذكريات جديدة لنعيشها في الزمن القادم.

همس برقة أذابت كيانها:- الحديث معكِ يطيب الروح.

عجزت تالا عن الرد وطال صمتها.. ما لبث وأن قطع شهاب السكون مستأنفا الكلام:- أوكلت إلى شركة هندسية وضع المخطط والرسومات لبناء الفيلا.. ما رأيك ان ترافقيني غدا إلى مكتبهم لرؤية التصاميم؟.

بلا تردد أو تلكؤ سارعت تهمس:- سأكون مسرورة بمرافقتك أينما شئت.


نهاية الفصل التاسع والعشرون (قبل الأخير)
انتظر ارائكم وتوقعاتكم بشوق




دنيازادة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس