عرض مشاركة واحدة
قديم 25-04-21, 02:14 AM   #544

ام نينه

? العضوٌ??? » 210023
?  التسِجيلٌ » Nov 2011
? مشَارَ?اتْي » 253
?  نُقآطِيْ » ام نينه is on a distinguished road
افتراضي

موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة just faith مشاهدة المشاركة
- 9 -
25 يونيو 2005،
منزل نور وتقى، القاهرة
أمها وتقى ونهى... ثلاث أعمدة كانت ترتكز عليها روحها... من دونهن غدت ورقة تطايرت في الفضاء هائمةٌ على وجهها، لم يتمكن أي شخصٍ كان من ملئ تلك الفجوة بداخلها التي أخذت تتسع لتتلاشى روحها التي كانت ذات يوم سعيدة وأصبحت تحيا على ذكرى الأيام التي قضتها معهن تقتات خبز فقدها كالتعساء إلى أن جاء عيسى وبدأ في ترميم تشوهات روحها.
لن تنسى أبدًا ذلك الجو المرح الذي كانت تبثه تقى بتناغمٍ رائعٍ مع نهى دائمة الحضور في أغلب أحداث حياتها ووجه أمها بنظراتها الطيبة المحبة الذي كان يفجر دائمًا ينبوعًا من السعادة بداخلها رغم صعوبات الحياة.
" إيه ده يا نور ..؟ إيه الفستان ده..؟ ماتلبسي حجاب بالمرة..!"
قالتها تقى وهي تشاهد نور التي ارتدت ثوبها بعد إلحاح من اختها كي تراها به، ضحكت نهى قائلة:
- والله يا توتة قولت لها كدة ما سمعتش كلامي...
قالت تقى: - صدره مقفل أوي يا نور إيه ده ...؟
قالت نور: - أنا غلطانة أني سمعت كلامك ولبسته افرجك عليه... أمشي روحي ذاكري ياللا ...
قالت تقى: - والله العظيم محمود ده ليه الجنة أنه هايتجوز واحدة زيك... يا عيني الراجل صابر طول شهرين الخطوبة منشفة ريقه عشان تكلميه واللا تقعدوا مع بعض... حتى لو عايز يفرجك على حاجة واللا ياخد رأيك في حاجة من ترتيبات الفرح لازم يا أنا يا رحاب يا طنط قدرية يا ماما نبقى معاك وهما كلمتين وبس... وفي الآخر جاية في كتب الكتاب تقفلي الدنيا... كدة أوفر يا نور والله...
قالت نهى: - بصراحة يا نور... أختك معاها حق...
قالت نور بعند: - هوا كدة لو كان عاجبه ...!
ضحكت تقى قائلة: - آه يا بنتي ما المصيبة أنه عاجبه وأصر أنه يعجل بكتب الكتاب عشان بس يقعد يتكلم معاكي شوية براحته من غير طرف تالت قاعد في النص... لأن سيادك يجي يقولك كلمة حلوة يسرقها كدة من ورا الطرف التالت تكشري وتقومي وتقولي له حرام كدة وأحنا لسة أغراب عن بعض وحلال وحرام... يجيب لك ورد ويسيبهولك عالباب... ولاااا الهوا... ولا تشكريه ولا تقولي له عجبني ولا أي حاجة لحد ما الراجل يا عيني يشك أنك أخدتيه ولما يسألك.. أيوة.. ماشي ... كويس...
قذفت نور الوسادة على اختها بمرح قائلة: - أديكي قولتيها... هوا عاجبه... أنت مالك بقى ...
قالت تقى لنهى: - شوفتي يا نهى أديها باعتنا في أول محطة... يعني نخرج منها أحنا... ماشي يا نور...
قالت نهى: - بصراحة يا توتة اختك معاها حق... الراجل عارفها وحافظها ومصر على الجواز... خلاص يا ستي ربنا يهني سعيد بسعيدة ... مالناش دعوة ...
أخرجت نور لسانها لهما ثم قالت: - أيوة مالكوش دعوة ... هاروح أفرج الفستان لمامتي وهيا اللي هاتنصفني فيكو ...
خرجت نور من غرفتها متجهة نحو غرفة والدتها في سعادة بينما قالت تقى: - مجنونة ...!! الله يكون في عونك يا دكتور محمود ...
لم تدر أيًا منهما أن محمود في تلك اللحظة كان حقًا في أمس الحاجة لمعونة إلهية تنتشله من بئر الحيرة والتردد الثائر الذي سقط به عقب ما سمع من أمه وشقيقته من ما حملته إحسان من أخبار. كان جالسًا على أريكة الصالون دافنًا وجهه بين كفيه. قالت له رحاب بلا مبالاة: - سيبك منها يا محمود ... أصلاً أنا كنت مش مستريحالها من الأول ...!
رفع رأسه نحوها في عنف هاتفًا: - يعني إيه أسيبني منها...؟ يعني إيه مش مستريحالها...؟ هوا أنت اللي هاتتجوزيها واللا أنا..؟
صاحت رحاب بدورها: - طب براحة شوية وما تزعقليش... أنا مش عارفة إيه اللي عاجبك فيها دي أصلاً مش حلوة ولا جميلة أوي عشان تتمسك بيها كدة ... عادية جدًا ... ده أنت أحلى منها يا أخي ... وطبعًا هيا مش هاتيجي حاجة في جمالي ... بس قولنا بنت يتيمة ومسكينة ونعمل فيها خير ونسيبك تتجوزها ... لكن صياعة وقلة أدب ... مابدهاش بقى ... مش ناقصين أحنا مسخرة و...
قاطعها محمود بصفعة قوية على وجهها وأمسك ذراعها هاتفًا بحدة: - مين دي اللي صايعة ومش جميلة...؟ نور دي متربية على إيدينا ... نور دي مابترضاش تسلم عليا واحنا مخطوبين ولا تخرج معايا لوحدها ... نور دي عمري ماسمعتها بتتكلم على حد وحش واللا بتغتاب حد ... نور دي رفضت دكتور غني بدون تطويل في التفكير حفاظًا على دينها وكرامتها ... نور دي اللي بتتكلمي عنها كدة تسوى عشرة زيك ... نور واللي زيها هما اللي ينفعوا زوجات يصونوا بيتهم وأزواجهم ... أما أنت واللي زيك بالأخلاق دي اللي طول عمري بانصحك تسيبيها ... ما تنفعوش غير للفتارين ... عرايس حلاوة فقط لا غير ...
بكت رحاب وحاولت التملص من قبضته المطبقة على ذراعها دون جدوى فقالت لأمها: - شايفة يا ماما ... شايفة ابنك بيعمل فيا إيه ..؟ إذا كان كدة من قبل ما يتجوزها أمال اما يتجوزوا هايعمل فينا إيه...؟ هايرمينا كلنا برة..
أسندت أمها رأسها على يدها قائلة بغضب: - ماهو لا أنتِ ولا هوا محترمين أمكوا اللي قاعدة بينكوا... خلاص بقى وجودي مالوش لازمة ...
ترك محمود ذراع أخته وانحنى نحو أمه قائلاً: - أنا آسف يا أمي ... أصلها هيا اللي هيا استفزتني جامد.. وأنا فيا اللي مكفيني أصلاً ...
أومأت أمه في تفهم ثم قالت لرحاب بحزم: - أمشي من هنا دلوقت يا رحاب وأقفلي الباب وراكي ... ومش عايزاكي تتكلمي في الموضوع ده تاني ...
خرجت رحاب متمتمة: - والله لوريك يا محمود، أنا وانت والزمن طويل ...
أستدارت قدرية إلى محمود الذي عاد ليجلس على الأريكة وأرجع رأسه إلى الخلف متأملاً سقف الغرفة شاردًا في ذاك الكلام الذي يتناقل حول خطيبته وأمها، قالت له قدرية: - هاااه يا ابني ناوي على إيه..؟
رفع محمود رأسه ونظر إلى أمه قائلاً وهو يحاول إيجاد بصيص أمل: - ما يمكن الكلام ده كله غلط يا ماما..!
قالت له: - ويمكن يكون صح ...
صمت محمود في حيرة، فربتت أمه على رجله بحنو وهي تقول: - أنا عارفة اللي أنت فيه ... لأني أنا كمان مش مصدقة ... دي علا دي صاحبتي ... ونور وتقى زيك أنت واختك بالنسبالي تمام ... بس يا ابني ... مافيش دخان من غير نار ...
نظر محمود إليها بيأس قائلاً: - قصدك إيه...؟
قالت بحيرة: - أنا بافكر معاك بصوت عالي يا ابني ومش عارفة برضه نعمل إيه ... مش عايزين نظلم حد...
صمت محمود في حيرة وألم، فقالت له أمه بعد برهة: - ما تروح تعرض الأمر على الشيخ عبد المنعم في المسجد تحت على أنها مشكلة واحد صاحبك ...
لمعت في عيني محمود بارقة أمل وهو ينهض هاتفًا: - حاضر ... هانزل دلوقتي ...
ونزل محمود وما هي إلا ربع ساعة إلا وعاد ليجد أمه في موضعها تسأله بلهفة: - هاااه ... قال لك إيه..؟
تهاوى محمود على أول مقعد .. وقد امتلأت عيناه بالعبرات وهو يخلع خاتم الزواج الفضي الخاص به معطيًا إياه لأمه وهو يقول: - روحي اعتذري لهم يا ماما ...
ابتلعت أمه ريقها محاولة التغلب على تلك الغصة بحلقها وهي تقول: - هوا الشيخ قال لك كدة..؟
أغمض محمود عينيه بشدة لتتهاوى منهما بعض العبرات وهو يقول: - قالي قول لصاحبك كلمتين ... "تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس" فلازم الواحد يتخير لنسبه ونسب ذريته النساء الطيبات والأصول المعروفة بالخير ... غير المشكوك في صلاحها ... وأن النساء كثيرات ... والأفضل أنه يترك تلك المشكوك في أمرها ...
وكان حكمًا بالإعدام مِن مَن يُحسب على الدين شيخًا متجرئًا على إطلاق الأحكام دون تروي أو بحث، فنهضت قدرية بتثاقل لتحاول تنفيذ تلك المهمة الصعبة.
***
شعرت بها تحتضنها بعينيها... تكاد تكون لمست فرحة مطلة منهما... فرحة حقة تلمسها في عيني أمها لأول مرة ...! نحت علا جانبًا هاك الدفتر الذي كانت منهمكة في الكتابة فيه، ثم قالت لنور بسعادة:
- جميلة أوي في الفستان يا نور ... ربنا يتمم لك على خير يا بنتي ...
ابتسمت نور قائلة وهي تقبل أمها: - طبعًا جميلة زي مامتي ... صحيح يا ماما ... مش هاتقولي لي بقى إيه اللي كل ما ندخل عليكي نلاقيكي بتكتبيه ده...؟ انت بتذاكري من ورانا واللا إيه...؟
همت علا أن تقول شيء ما، إلا أن جرس الباب قاطعها ... سمعت تقى ترحب بقدرية، فابتسمت نور قائلة:
- أكيد طنط قدرية جاية تشوف الفستان ... منا قلت لها قبل ما انزل إني هاجيبه النهاردة ...
لم تمض سوى لحظات حتى دلفت قدرية إلى غرفة علا بوجه واجم ممتقع، قالت لها نور:
- جيتي في وقتك يا طنط ... شوفي ... إيه رأيك ...؟
تأملتها قدرية وهي تدور حول نفسها بالثوب الناصع وكأنها تراها من وراء غمامتين مثقلتين بدموعها، كيف ستقتل تلك الفرحة التي تراها في بيت علا وعينيها لأول مرة ...؟ لكنها خائفة ... نعم خائفة من تلك الثرثرة التي ستطولهم حتمًا وتطول ابنتها فلربما لا تتمكن ابنتها من الزواج بسبب تلك الأحاديث الحائمة حول علا وبنتيها إذا ما اقترن اسم أيٍ منهن باسم ابنها واسمهم... إنها تفعل ذلك من أجل المحافظة على بيتها ومستقبل ابنتها ناصع البياض.
- نور حبيبتي ... ممكن تسيبيني مع ماما شوية...؟
تأملتها نور في غير فهم... بوجهها الواجم وكأنما هبطت عليها صاعقة...! أنَّى ترتسم على وجهها ملامح الألم تلك ومن المفترض أنها أيام تملؤها السعادة..! أقنعت نور نفسها أنها لربما تعاني من شيء ما لا تريد أحد الإطلاع عليه سوى صديقتها علا، فتمتمت نور قائلة: - حاضر يا طنط اتفضلي ...
قالتها ثم خرجت شاردة متوجهة إلى غرفتها تبدل ثوبها وتعيده بحرص إلى غلافه، ثم جلست إلى مكتبها تحاول المذاكرة إلا أن عقلها كان يشرد منها إلى تقاسيم وجه قدرية ويغوص في تفاصيله محاولاً إيجاد مبررًا لتلك النظرات التي ارتسمت في عينيها وانعقاد حاجبيها وانزمام شفتيها وعدم ردها عليها بفرحة طيبة كعادتها.
لم يمض الكثير من الوقت حتى سمعت صوت باب المنزل يتم إغلاقه، نهضت نور من على مقعد مكتبها متوجهة إلى أمها وقد أنضم إليها كل من نهى وتقى اللتين كانتا تستذكران في ردهة المنزل. إحساس عام بالأنقباض راودها مذ أن وقعت عينيها على أمها وكأنما صار وجهها كصفحةٍ بيضاء باهتة تتأمل الفراغ في ألم. شيءٌ ما بداخل نور لم يكن يريد أن يسأل أمها عمَّا حدث منذ قليل... يجذبها إلى الخلف... يجذبها إلى وجه أمها السعيد الضاحك تمامًا قبل لحظة دخول قدرية إليها.
- ماما أنت كويسة...؟ إيه اللي حصل ...؟
لكنها قالتها وتسائلت، كانت تقى تقف خلفها في قلق ومعها نهى، تأملتها أمها في نظرات صامتة ثم فتحت ذراعيها تدعوها إليهما... فوضعت نور رأسها على صدر أمها محتضنة إياها فأحاطتها بذراعيها في حنان ثم همست لها: - عارفة أجمل حاجتين فيكي إيه يا نور..؟
رفعت نور عينيها إليها في غير فهم، فأردفت أمها: - إيمانك وقوتك ... أوعديني أنك دايمًا تكوني قوية مهما حصل...
كانت علا تخشى على قلب صغيرتها الغض من الانفطار... هاك القلب الرقيق الذي طالما دافعت عن سلامته باستماتة... لأن أي خدشة به ستقتلها؛ لكنها أخطأت كثيرًا عندما بنت آمالها على بشريٍ أيًا كان، أحيانًا يؤدي بنا الخوف من أمر ما إلى السير بخطىً حثيثةٍ نحوه ونحن نظن أننا نفر منه..! لقد خافت علا على بنتيها من الوحدة والإنكسار بعدها وفرحت كثيرًا عندما تمت خطبة نور إلى شخص ظنت أنه هو الذي سيحمي ابنتها من الوحدة والإنكسار... وهاهو ذي نفسه الذي قد يتسبب في إنكسار قلب ابنتها ووئد فرحتها في مهدها.
قالت نور وهي لا تدري ماذا يحدث: - حاضر يا ماما... بس قولي لي فيه....
لكنها قطعت سؤالها وقد وقعت عينيها عليه قابعًا على الفراش بجوار أمها... إنها تعرفه جيدًا فقد شاركت في اختياره.. إنه لامع فضي ذو شكل مميز... اصطدم بعينيها عندما خفضتهما... كان رائعًا وهو يحيط بخنصره... نعم... إنه خاتم الزواج الفضي الخاص بمحمود...! شعرت بغصة في حلقها وجزء من عقلها يحاول تبرير سبب وجود خاتم محمود هاهنا بأنه قد يكون قد صار ضيقًا عليه أو حدث له شيء ما...! لكنها إذا ما جمعت الأحداث سويًا كقطع أحجية ... ستصل إلى حقيقة واحدة لا مجال لمناقشتها. مدت يدٍ مرتعشة تتناول الخاتم، فوضعت أمها يدها على فمها في جزع وقد رأتها قد لاحظته قبل أن تنهي لها التمهيد لما حدث... قالت علا مكملة كلامها: - أنت صليتي استخارة يا حبيبتي أكتر من مرة ... وربنا بيقدر الخير كله... أكيد مش خير ليكي أنك تتجوزيه... ربنا أكيد شايل لك عنده حد أحسن... فربنا لطيف بعباده يا نور... عايزاكي تركزي في عبادتك ودراستك وتحاولي تنسي الموضوع ده ...
هتفت تقى بحنق شديد: - إيه الحركة بنت التييييت دي..؟ هوا فاكر نفسه إيه يعني ولا عمره هايلاقي زي نور في حياته ... أتجنن ده واللا إيه ...!
ووسط دقات قلبها المتسارعة وغصة حلقها القاتلة... ضحكت... نعم... ضحكت نور وهزت كتفيها متظاهرة باللامبالاة وهي تقول: - عادي يا جماعة... بتحصل كتير ... واحد وحس قبل كتب كتابه بيومين أن مش دي الإنسانة اللي عايزها زوجة... عادي ما تكبروش الموضوع ...
تعلقت أعينهم الحزينة الحانقة بنور في دهشة وهي تخلع خاتم الزواج الخاص بها قائلة: - اتفضلي يا ماما.. أدي دبلته ...
خيم الصمت على الجميع وهم في دهشة من أفعالها، إلا أنها رممت أنكسار روحها أمامهم بكبرياء زائف ومرح مصطنع وهي تقول: - ياللا يا نهى عندنا امتحان بكرة ... عن إذنك يا ماما هاروح أذاكر ... عايزة حاجة مني..؟
قالت علا: - لا يا حبيبتي عايزة سلامتك ...
تبعتها نهى في دهشة وكذا سارت تقى خلفها تراقبها في شك ... وحدها كانت علا تعرف جيدًا أن نور ليست كأي فتاة عادية تُبدي حزنها أو دموعها أمام أي شخص ... لم تكن لتدع أي شيء يكسرها على الملأ ... لكنها كانت خائفة من كبتها لمشاعرها.
كانت تقى أيضًا تعرف أن اختها لا تحب أن يطلع أي شخص على انكساراتها وتقوض مظاهر المرح وسقوط قناع الكبرياء الزائف لذلك تظاهرت بالنوم وهي تدرك جيدًا أن نور تدفن وجهها في وسادتها تبثها ما يعتمل في صدرها وتسقيها بدموعٍ لا يطلع عليها أحد سوى تلك الوسادة، كانت تعرف أنها لم تنم فأنفاسها المتلاحقة تصل إليها عبر ظلام الغرفة وصمت الليل كسهام أحزان تصيب قلبها ... إنها حزينة من أجلها ... لا تدر لم أقدم محمود على حماقة كتلك قبل عقد الزواج بيومين...! لم يمض كثيرًا حتى شعرت تقى بنور تنهض من على فراشها إلى الخارج، وعندما تأخرت في العودة... نهضت تقى تسير على أطراف أصابعها تتطلع أمر نور لتراها على ضوء القمر الفضي المتسلل من النافذة قد وقفت في ظلمة الليل بين يدي الله تبثه حزنها وترفع يد الضراعة إليه علَّه يمن عليها بالرضا التام على كل أقداره.
لم تنم نور ليلتها حتى أذن الفجر ... أيقظت تقى التي كانت تتظاهر بالنوم بدورها لتصلي وساعدت أمها على الصلاة ثم بدأت في الاستعداد للذهاب إلى الجامعة.
***
26 يونيو 2005،
كلية الطب، جامعة القاهرة
على باب لجنة الاختبار ... كانت كل طالبتين تدخل ليتم اختبارهما اختبارًا شفهيًا.
- " يااااه ... كنت مرعوبة ... بس الحمد لله الدكتور بيسأل اسئلة سهلة .. اطمنوا يا بنات ... كل اللي دخلوا بيقولوا كدة..."
قالتها أروى لزميلاتها عقب خروجها من لجنة الاختبار، ولم يمر وقت طويل حتى جاء دور نور مع زميلة لها تُدعى نسمة. جلست بالمقعد المواجه للأستاذ الممتحن... شردت للحظات لم تسمع ماذا كان سؤال نسمة الذي اجابته سريعًا، فتوجه الأستاذ إلى نور الشاردة وألقى إليها سؤالها ... لم تسمعه ... فهزتها نسمة قائلة:
- نور ... كلمي الدكتور ...
رفعت نور عينين منهكتين إلى الدكتور قائلة بأدب: - آسفة يا دكتور ...
عدل الدكتور الستيني منظاره على أنفه قائلاً: - قولي يا ستي ... كم نسبة البلازما في الدم ...؟
قالت نور شاردة: - كتير ...
قال الدكتور: - يا بنتي قولي الإجابة كام...؟
شعرت نور وكأن غمامة من الأفكار تحيط بعقلها تمنعها من استحضار الإجابة الصحيحة التي تحفظها عن ظهر قلب ... كانت تحاور الدكتور بوعي غائب ... حيث أن وعيها كان يجري حوارًا آخر بداخلها..!
- 60...؟
- ستين إيه...؟
وبداخلها كانت تقول ستون يومًا كاملين هي عمر سعادة كاذبة ولجت بها رغمًا عنها... سعادة كانت تشي بها الأيام أُجهضت قبل موعدها... لم تطلب منه ورودًا أو كلامًا معسولاً طوال ستين يومًا... كانت ترجوه أن يظل بعيدًا حاولت أن تبدو كالحائط الصد أمام نظرات اشتياق يغلفها بها وهدايا عشاق ليست من حقها .. لكنها في الخفاء كان لتلك الأشياء تأثير الماء في الصخر... أخذت تنحت صلابتها الصخرية وتتسلل كماء يروي ظمئها للسعادة... فرفعت رايات بيضاء واستسلمت لخمر السعادة الوهمية يغزو قلبها الصغير..! ارتشف قلبها منه ناسيًا أنه ليس كخمر الجنة الحلال بل هو خمر الدنيا المغيب للعقل...
- يا بنتي احنا ماقدمناش اليوم كله لو سمحتي جاوبي على السؤال بسرعة... كم نسبة البلازما في الدم..؟
- دم...؟
وأكملت حوارها الداخلي... أي دمٌ بارد ذاك الذي يستبيح قلبها باستنزاف مشاعره ثم طعنه من الخلف..؟ أي دمٌ بارد ذاك الذي يئد فرحتها وفرحة أختها وفرحة أمها التي تراها جلية واضحة ربما لأول مرة في حياتها ... كانت فرحة علا بزواج نور أكبر حتى من فرحتها بمجموعها في الثانوية العامة أو قبولها في كلية طب...! نعم... حاولت علا أن تجد لابنتيها بديلاً عنها إذا رحلت... وسقطت علا ومعها نور سهوًا في فخاخ إسائة الظن بالرب الخالق والمُدبر عندما ظنتا أن لا أحد غير محمود يمكنهن الاعتماد عليه... وجاء الابتلاء شديدًا علَّه يمحص قلوبهن مما ألم بها من مرض التعلق ببشريٍ فان.
- أيوة في الدم يا بنتي هاتزهقيني لييه ... قولي بقى كاااام نسبة البلاازما....؟ هاااه...؟ كااام...؟
- 80...
- تمانين إيييييه...؟ مش عايز رقم عاييز تمييز...
ومرة أخرى تغلفها غمامة أفكارها وتنقلها لحوارٍ داخلي لا يسمعه سواها... تخبره أنهن ثمانون زهرة متعددة الأشكال والألوان في ثمان باقاتٍ مغلفاتٍ بالتل الأحمر والأبيض والبنفسجي والوردي... على مدى شهرين كان يحضر لها كل أسبوع باقة ورد مكونة من عشر وردات حتى أنها اعتادت الأمر وصارت تنتظر الباقة كل يوم جمعة بعد الصلاة ... تنتظرها في ترقب كتموين أسبوعي لشحنة السعادة الوهمية..!
- لو ماجوبتنيش دلوقتي حالاً يبقى تتفضلي تطلعي يا آنسة ... أنا مش فاضي لك ...
- 200..؟
تسائلت في نفسها أكنَّ مائتي نجمة أولئك النجمات اللائي قامت بعدهن في السماء الليلة الماضية أم أكثر..؟ كانت تعد النجمات مع الاستغفار وكأنهن قد انتظمن في عقدٍ براقٍ كمسبحةٍ سماويةٍ ...
- قلت لك مش عايز أرقام عايز تمييز ...
كانت نسمة تهمس بشيء ما التقتطه أذني نور لتردده بآلية في حوارها اللاواعي مع الدكتور المُمتحن.
- لتر...
صاح الدكتور: - ميتين لتر ليه يا آنسة..؟ هوا دم الإنسان كام لتر...؟ دم الإنسان كله على بعضه 5 لتر... هوا انا باقول لك دم الفيل واللا حاجة...؟ والله العظيم أنتوا ناس خسارة فيكوا الطب ده احنا لسة بنقول باسم الله الرحمن الرحيم وأنت ...
- أنا آسفة يا دكتور ... تشكل بلازما الدم حوالي 55% من إجمالي حجم الدم في جسم الإنسان.
أنتزعها صياح الدكتور من حوارها الداخلي وبدد الغيوم حول عقلها فحاولت قدر الإمكان شحذ إنتباهها والتركيز في الاختبارات فقط ... لا غير.
***
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .


ام نينه غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس