عرض مشاركة واحدة
قديم 28-05-21, 12:38 AM   #18

ك.خديجة القطوس

? العضوٌ??? » 483982
?  التسِجيلٌ » Jan 2021
? مشَارَ?اتْي » 51
?  نُقآطِيْ » ك.خديجة القطوس is on a distinguished road
افتراضي

الفُصل الثالث - جِدَالٌ حَامِي


لكل حُلمٌ ضَريبة وجب على المَرء إتاءها طوعًا كان أم كرهًا، أما هيَ فكانت ضريبة حُلمها الابتعاد عن كل المَهام والمَسؤوليات التي تُهدر الوقت، أن تتخلى عن حياة جَديدة تأسسها بعيدًا عن ملاذها الأول، لأجل حياة لطالما شَغلت تفكيرها ونالت منه الشغف، كأن تتلحف منكبيها البيض، ويتقلد عنقها السماعة الطبية، ويبث لسانها الأمل في نفوس السِّقام، تلكَ التفاصيل المحببة كان لها الفضل في دَفعها نحو الأمام خُطوة بعد خطوة.


ولكن ظلت تلك النداءات تنبعث من أعماقها، والتي حينًا تغدق فؤادها حنينًا للزواج والإنجاب، سوى أنها لم تصادف إلى حد هذه اللحظة الرجل الذي بوسعه أن يناهض كل تلكَ المعتقدات والمبادئ الراسخة. والتي كان إحداها الاعتقاد بالسبب الذي يجعل النساء أقل حظًا في بلوغ أحلامهن الرائدة بمثل ما يبلغ الرجال، أنها ولا بد وأن تكون تلك التضحية العظيمة التي يأثرن.


كل تلك الأفكار قصدت ذهنها قبل أن تشرع في تحضير سُفرة الغداء التي لا يغيب عليها فردًا من العائلة نهار يوم الجمعة، عاد الأب والابن الأصغر «أسامة» ذو ثمانية عشر عامًا من المسجد، لينطلق الأخير نحو الفناء حيث وجد الفحم في قعر المشواة مشتعلًا، وما هي إلا ثواني حتى أتت أمل حاملة بين كفيها صحنٌ مليء بالأسماك المتبلة لتطلق بتهكمٍ:
- لا تحرقها. ولا تتركها نيئة.


حملق فيها بعينيه الثَعلبيتين قبل أن يمد يده ليلتقط الصحن وبخفةٍ من يديه طرح نصف الكمية فوق الشبكة المعدنية في لمح البصر ثم قال:
- لو كنتُ مكانكِ لوجهتُ هذه النصيحة لنفسي. سأثبتُ لكِ أنني أكثر من يُجيد فن الشُواء في هَذا البيت.


ظلت عيناها مسلطتان نحو آلة الشواء بعجز وسؤالٌ راح يتردد داخل عقلها: «هل حقًا بإمكانه إن يفعلها؟!» إذ لم يكن شقيقها من النوع المهتم بفنون الطبخ، أنه حتى لا يجيد شيئًا غير قلي البيض وسلقه. فمن أين له بكل هذا العزم والإصرار الذي تراهما أمامها. ربما يكون قد تلاقى دروسًا قيمة من خلال الفسح المتتالية وحفلات التخييم التي بات يخرج بها برفقة أصدقائه هذا العام، هذا ما تبادر لذهنها من سببٍ يقف وراء رغبته واهتمامه المفاجئ. إلا أنها رغم ذلك لم ترضى أن تترك غداءهم حقل تجارب بين يديه.

- آه حقًا! إذًا لا تدع غروركَ يفسدُ وجبتنا الثمينة انتبه لها جيدًا ألا ترى أن النَار ملتهبة؟!
أطلقت قائلة وقد ثار انزعاجها وأحدث فيضانٍ غمر تعابيرها، ما إن رأته منشغلًا بالهاتف غير مدركٍ بأن النيران من بين التجاويف تمد ألسنتها.

- حسنًا سأفعل. دعيني وشأني الآن، أذهبي ألا تملكين شيئًا لتفعلينه غير مراقبتي؟!
تنهدت قبل أن تقرر العودة لاستكمال ما تبقى لها من مهام داخل المطبخ. وما هي إلا دقيقتين وكان كل شيءٍ جَاهزٌ بالفعل، وقد آن لها باستراحة قَصيرة قبل فراغ أخاها من مهمته. أراحت ظَهرها على الخِزانة ثم تسللت أناملها تمسد جبينها بخفة وكأنما هنالك أفكارٌ أخرى تود أن تزور عقلها.


إلا أن ذلك الصوت القادم من ردهة البيت لسيدة المنزل الحاجة «سمية» قد استحوذ على اهتمامه البالغ. وإن لم يتبين لها بدايته، إلا أن ختامه كان واضحًا حيث قالت:
- أجل تفضلي، البيت بيتكِ.

انتابها فضولٍ شديد لمعرفة هوية الضيف، فغادرت المطبخ واعترضت طريق والدتها وهي تتساءل:
- مع من كنتِ تتحدثين؟!

تلك المرأة ذات السمات الطيبة والقامة المتوسطة التي تحتوي جسدًا ممتلئًا بعض الشيء كانت لا تزال تفكر في مجريات المكالمة، فاستغرق الأمر منها القليل من الوقت لتجيب:
- أنها الحاجة ربيعة، قالت أنها ستزورنا اليوم برفقة كنتها.

تعجبت أمل كثيرًا مما جاء على لسان والدتها، فليس من عادة السيدة ربيعة أن تأتيهم دون تخطيطٍ مسبق أو دافعٍ قوي يجعلها لا تتوانى لحظة عن المجيء. فهي لا تعد إحدى الجارات المقربات ولا امرأة تحبذ كثرة الخروج والتجوال.

وقد سبق لها أن غابت عن الأنظار مدة طويلة تقدر بعدة أشهرٍ لم تظهر فيها تمامًا كما لو أنها قد اختفت عن الوجود. لم تخفي استغرابها ولم تحاول أن تخفف من وطأته فيما هي تتساءل:
- حقًا! وألم تقول لماذا بالضبط؟!

فردت الأم بنبرة غلب عليها الضياع في أول الأمر:
- لا. ولكن بحسب ما أعتقد أظنها هنا لأجل أمرٍ مهم. لا أعلم... -ثم أردفت متساءلة- هل أنهى أسامة شوي السمك؟ هيا لنأكل لا تدري ربما تأتيان باكرًا.


لم تشاء أمل أن تتقصى الحقائق منها في الوقت الذي بدأ الجوع يفتك بمعدتها كما فعل بالجميع. راحت تجتهد في وضع اللمسات الأخيرة على السفرة واضعةً بداخلها تلك الأطباق الشهية مجتمعة بما فيها طبق «الكسكس». فتناول الجميع وجبته بطيبٍ وتلذذ.

وبعد الغداء انصرفت إلى غرفتها عازمة على نيل قيلولة قصيرة قبل أن تتجهز للقاء الضيفتين، إلا أن هذه الزيارة المستعجلة المتلحفة بعباءة الغموض صارت تأرقها، غفت عيناها على الوسادة لبضعة دقائق قبل أن تهم واقفة. تمثلت أمام المرآه متمعنة في صورتها عن قرب.


خصلات شعرها البني وهي مجتمعة بعشوائية في الأعلى، عينيها الغامقتان اللتان تتسمان ببريقٍ أخاذ، حاجبيها الكثيفتان وشفاهها التي تشبه بطبيعتها بتلات الورد لم تكن لتتعارض مع فطرتها في خلق تلك الابتسامة الساحرة على محياها دومًا. أعادت تصفيف شعرها في هيئة أكثر تهذيبًا بعد أن قررت ما ستلبسه.

فأخرجت من بين صفوف الملابس المعلقة قميصٍ أبيض مرقط بالسواد وبنطالٍ قماشي حالك، على اعتقاد أن الزيارة أتت بحجة بينة ومعتادة وهي تبادل الأحاديث والأقوال في سبيل مد جسور الألفة بين القلوب. وليس لأجل ما قد تحصلت عليه من استنتاجٍ محتمل من تلك المكالمة وما تلاها من تعابير مبهمة. قررت أنها لن تجهد عقلها بالتفكير هذه المرة فما هو بزمنٌ طويل الذي يفصلها عن رؤية الحقائق.


بعد مضي ساعتين من الزمان دوى رنين الجرس معلنًا عن قدوم الضيفتان. وكانت أمل قد فرغت للتو من تحضير كيك الشكولاتة وتزيينه واضعة إياه في البراد. لاحظت الحاجة سمية انهماكها فهرعت للباب لاستقبالهن بحفاوة بادية من خلال ابتسامتها:
- أهلا وسهلًا أنستونا.

مدت يدها لتصافحن ثم فسحت لهن الطريق للدخول وخلع الأحذية، وما هي إلا ثواني حتى وصلت أمل لتتبع نهج والدتها في إكرامهن والترحيب بهن. ثم بعد ذلك لم تجد مفرًا من تمعان تلك السيدة التي تخطى عمرها الستين عامًا ولا زلت تحتفظ بروح الشباب بحركتها الرشيقة وطلتها الأنيقة. حتى أنها لا زالت قوية ومكافحة رغم الأوجاع التي منيت بها. أما زوجة الابن فيبدو بأنها في أسمى درجات السرور وهي بجوارها تتطلع بها بنظرة اعتزازٍ لا تكل، استطاعت من خلالها أن تقدر مدى عمق العلاقة التي بينهما.


وفي مجلس الأضياف المنجد بالستور والمفروشات الأنيقة الجامعة بين الأزرق السماوي والكريمي الباهت. تبادلوا الحديث جميعهن دون استثناء ولم يكن لذلك الكلام غاية محددة يرسو على ضفافها إلى حد تلك اللحظة التي شعرت بها أمل أن جل الأنظار مسلطة نحوها فيما يبدو لها تلميحًا للمغادرة، وسريعًا ما لبث طلبهن فخرجت لتجلب لوازم الضيافة فاسحة المجال لتلك السيدة القديرة للإفراج عن كلماتها المكبوتة:
- أعتذر عن هذه الزيارة المفاجئة والتي ما كان من المفترض أن تأتي بهذه الكيفية.

فردت الحاجة سمية قائلة:
- على العكس نحنُ سعداء لقدومكِ إلينا اليوم، لقد مضى وقتٌ طويل على أخر زيارة لكِ إلى بيتنا.

في ثواني وإذ الأسى يتملك تقاسيم الضيفة لا سيما عيناها اللتان تعلقتا في الفراغ قبل أن تردف:
- حقًا أنه لوقتٌ طويلٌ جدًا قد مر، لم أعد أقابل أحدًا من الجيران. حتى أن بعض أقاربنا لم نعد نراهم.

- لا بأس فكلنا له الظروف والأشغال التي تملأ وقته وتمنعه أحيانًا من رؤية أحبابه.

فردت الأخرى بنبرة يتخللها الإحراج:
- لا. ما كنت لأتخذ من هذا ذريعةً.

تعجبت الحاجة سمية من كلماتها المقعدة والتبس عليها الأمر فتساءلت:
- إذًا ما الذي حدث؟! لقد جعلتني قلقة.

- أنتِ لا تعلمين يا سمية لأنني لم أخبرك ولم أخبر أحدًا قط. قبل تلك المدة، نحو ما يقارب السنتين. تعرض ابني الكبير إلى حادث سير قلب حياتنا رأسًا على عقب...

ثم حدث أن ترقرق الدمع في عيناها دون إدراك، ولم تمنح للسيدة سمية فرصة لاستيعاب الموقف وبدأت تقص على مسامعها ما حدث بإيجاز ما قدر الإمكان. كيف تلقت ذاك الخبر المفجع عن ابنه المغترب أو بالأحرى كيف قادها إحساسها إلى تتبع الحقائق المخفية حينما لم تعد تتلقى ردًا منه على رسائلها واتصالاتها المتكررة، وفي ذات الآونة كان ابنها الأوسط «منذر» لعديد المرات يهاتف أباه سرًا مما أثار ريبتها ودعاها لاستراق السمع من خلف الباب الموصد. كان من الواضح أن الأمر يتعلق بنزار والسبب وراء انقطاعه عنهم إلا أنها لم تتوصل إلى الحقائق إلا حينما اقتحمت الغرفة وانتزعت سماعة الهاتف من أذن زوجها لتوجه سؤالها المباشر نحو ابنها تدعوه إلى البوح بها. الحقيقة المرة التي لا تشبه مذاق الشكوك إطلاقًا لقد كادت أن تجعل جسدها يخر ساقطًا مثلما حدث للهاتف الذي هوى من بين أصابع يدها المرتعشة.

وإذ بالأيام التالية تمر عليها ببطءٍ شديد كمن أشتد به الداء، عليلٌ لا قدرة له ولا رغبة في الحديث أو الأكل أو الحركة. وقد ظنت أنها ستشعر ببعض الراحة لمجرد أن تسافر برفقة زوجها وتزوره داخل المستشفى ولكن لم يكن هذا هو شعورها الذي انتابها حقًا حينما طالعت جسده المحطم والمليء بالجروح والكسور وهو ممددٌ على السرير الأبيض تغطيه حزمة من الأجهزة التي تشير إلى مؤشراته الحيوية المتدنية آنذاك. فما كان منها إلا قضاء كل تلك الفترة تدعو الله وتتضرع إليه بالعبادة على أمل أن يفيق من غيبوبته التي دامت طويلًا إلى أن أغار اليأس على حصونها من التفاؤل وأطاح بها. وما هي بفرحة عظيمة وراسخة ما تدفقت إلى قلبها حينما أفاق ونجى من مخالب الموت الفتاكة، فالأثار النفسية قد ظهرت منذ الوهلة الأولى التي تفتحت فيها عيناه بوهنٍ تطالع من حولها.

عادت إلى أرض الوطن بعد مضي شهرٍ من مغادرته لحجرة المراقبة لم تكن تريد ذلك ولكنها كانت مجبرة لأسبابٍ عديدة، أبرزها أنها لم تعد تحتمل أن تراه منكسرًا وعاجزًا عن فعل بعض الأشياء التي أعتاد على فعلها بمفرده حتى أن صحتها قد تدهورت. تولت ابنتها المقيمة بالقرب مهمة الاعتناء بأخيها والاهتمام بشؤونه، ولم يعارض الأخر فهو كذلك كان منزعجًا ومتكدرًا لبقاء أمه برفقته، رؤيتها لمعانته، انصاتها لأهاته المتألمة. لعل ما فعلاه قد جعلها أكثر تأقلمًا مع الواقع ولكنها لم تعد لها رغبةً في لقاء الناس ولا التحدث إليهم، وسرعان ما تحولت إلى امرأة منزوية ووحيدة تقضي معظم أوقاتها بين جدران المنزل لا تحبذ الذهاب حتى إلى منازل الأبناء أنما هم من يأتون لزيارتها في معظم الأحيان.


سماع كل تلك المآسي التي مرت بها جعل من السيدة سمية متأثرة كثيرًا حتى بالكاد استطاعت أن تخفي تأثرها لتقديم واجب المؤاساة والتخفيف من وطأة أحزانها. أما زوجة الابن فلم تملك شيئًا لتقوله ولا فعلًا يعبر عن شعورها آنذاك، لا شيء غير التزامها الصمت واستعادتها للذكريات كرةً أخرى. ولم تعلم أي منهن ما جرى خلف جدران حجرة الاستقبال، تحديدًا عند المطبخ حيث تجمدت أمل من الصدمة وألقت بما كانت تحمل من كؤوس العصير داخل تلك السفرة المعدنية ما إن أنهت الضيفة حديثها المشبع بالآلام. صدمتها كانت كبيرة فقد وجدت فيما سمعت تفسيرًا منطقيًا لما يجري مع ابنها، السبب وراء قلة كلامه واهتمامه ونظراته القاتمة التي تحيط بها الأوجاع من كل جانب لا بد وأنه لا يزال عاجزًا عن نسيان ما جرى له قبل هاتين السنتين.


- حمدًا لله لم يعد ابني يشتكي من شيءٍ الآن، إلا أنه وحيد، والوحدة التي يعيشها لا تنفك تخدش جروحه الملتئمة. أني أعلم ما هو بحاجته للتغلب عليها، أنه بحاجة إلى زوجة وأبناء يملؤون وقته.

أطلقت السيدة ربيعة بعد أن هدأت واستكانت من لحظات الجزع تلك، كما لو أنها للتو قد تداركت نفسها والسبب الذي جعلها تفضي بتلك الحقائق المخبئة.

- حان الوقت لأفصح عن سبب زيارتي المفاجئة، لدي طلبٌ عندك يا سمية وأرجو الله ألا تردينني خائبة. جئت لكي أطلب يد ابنتك أمل لابني، فأنا على ثقةٍ بأنني لن أجد في مثل أخلاقها وأدبها وقدرتها على التعامل. أرجوك دعيها تفكر في الأمر مليًا.


كان هذا مفاجئًا بالنسبة إلى الأخرى، رغم أنها كانت قد وضعت هذا الاحتمال في مخيلتها منذ اللحظة التي أنهت بها تلك المكالمة، ولكن بعد تلك الافتتاحية الجامحة رؤية هذا يتحقق على أرض الواقع أنهُ لأمرٍ محير يصعب تقبله.

– لا أعلم ماذا أقول لكِ، لقد فاجأتني! على العموم سأجعلها تفكر بطلبكِ جيدًا، فالأمر عائدٌ لها لا لغيرها.
– بالطبع... فقط أتمنى أن أتلقى ردكم في أقرب وقتٍ ممكن...

خرج الكلام من فاه الضيفة خجولًا ومتعثرًا. فكان من الظاهر أنها تود أن تضيف على كلامها شيءٍ أخر إلا أنها استحت من ذلك الآن؛ فلعلها قد تفهمت موقف السيدة سمية في هذه الأثناء بعد أن سمعت ما جرى مع ابنها منذ وقتٍ ليس ببعيد. لقد مضت دقائق الزيارة سريعًا بعدها، خلال ذلك قدمت أمل حاملة كؤوس العصير برفقة الشكولاتة وابتسامة متكلفة بالكاد شقت ثغرها لكي تبدو على طبيعتها لم يصلها شيئًا من حديثهن.


* * *


تَحت شَمس الظهيرة الحارقة أخذت الأمواج المتقاذفة تعانقُ رمالَ الشاطئ على مرمى عيناها الذابلتان، فيما تداعب أناملُ النَسيم خديها كأنما تود أن تزيح عنهما قناع العبوس. أراحت يَديها على السِّياج الخشبي ثم أغمضت عيناها لبرهة من الزمن فإذ بصوتٍ أنثوي عريق وافدًا من الخلف يقاطع الصمت الذي ساد من حولها لدقيقة كاملة:
- لقد مر أسبوعٌ بأكمله، ولا زلتِ لم تخبرينا ما قولكِ!

لكن عاد الهدوء ليفرض هيمنته لثواني عدة ترقبت فيها الحاجة سمية وابنتها الصغرى صدور الإجابة منه، كانت هذه الأخيرة قد أعدت هذه الفسحة قبالة الشاطئ من أجل أن تحيي ذكرى ميلاد ابنها الأصغر بحضور ابنة الخالة «ندى» الوجه البشوش واللسان المازح على الدوام. ما كان منهن سوى أن يترقبن بشوقٍ لحظة الإقرار تلك لكنها لم تأتي حتى نالهن السأم وأطلقت إيمان قائلة:
- أمل! بما تفكرين هل لكي أن تطلعينا؟!

نظرت إليها بتمعن شديد، كان من غير اليسير التكهن بالقادم لم يكن بمقدورها إلا أن تنتظر فرار الكلمات من فاهها حينما قالت:
- لا شيء. أعتقد بأن إجابتي في تمام الوضوح. أنا لن أتزوجه.

تمالك الأم شعور الاستغراب، فقد كان من النادر جدًا أن تتحدث أمل بكل هذا الحزم والجد، وحتى وإن فعلت فعلى سبيل المزاح الذي سرعان ما يزول وينقضي. أما الآن فهي تبدو كبركانٍ نشطٍ على وشك أن ينفجر بلا أدنى شك. وقد حاولت أن تكشف السر وراء إصرارها على إنهاء النقاش قائلة:

- من قال لكِ أنك ستتزوجينه الآن! فقط ستقابلينه ستتعرفين عليه وعلى أهله ثم تقرري. أم أنكِ قلقة بشأن ما تعرض له في ماضيه؟

بالطبع كان ذاك هو السبب الوحيد الذي فكرت به والدتها ووجدته منطقيًا، ولا بد أن جزءًا من شعورها بالغرابة نابعًا من زوال عاطفتها والشفقة التي أبدتها باتجاه الابن ووالدته في تلك الليلة، وبعد رحيل الضيوف، وقد حانت اللحظة لتتناولا مجريات الزيارة بكل ما تضمنت من مفاجآت شتى. فحاولت أمل تاليًا أن تجعل كلماتها أكثر حزمًا وفي نيتها أن تضع حدًا لتساؤلاتهم المُلحة:
- لستُ بحَاجة لإجراء مُقابلة معه ولا التحدث إليه أو لعائلته. فلقد حُسم الأمر.

لتعلق الأخت قائلة وهي تتنقل بنظرها بينهن:
- لمَ أشعر بأن هُنالك حلقة مفقودة؟! هل حدث شيءٍ ما لا نعرفه؟

هنا علمت أنه سيتحتم عليها الإفصاح لهن عما جرى حقًا، لذلك غادرت بسرعة نحو الشاطئ تاركة إياهن للحيرة، وما هي إلا لحظات حتى لحقت بها ندى لتطلق سؤالها وهي على شفير الوصول إلى حيث توقفت قدامها غائصتان في رمال البحر:
- ما بكِ يا أمل؟! أخبريني.

فجاء رد الأخرى بذات الأسلوب:
- ندى أرجوك. لا أريد أن أتحدث بهذا الأمر.

لكنها وجدت ابنة خالتها أشدُ إصرارًا وعزيمة وهي تقول:
- لا ستتحدثين والآن.

أطلقت في المقابل تنهيدة طويلة قبل أن تستطرد:
- حسنًا سأخبرك، لكنني لا أريد لأمي ولا لإيمان أن تعلمان بما سأقوله لك. هل فهمتِ؟

- لما كل هذا التكتم! ما الذي حدث بالضبط بسرعة أخبريني أشعر بالتشويق.
لقد اعتلت الحيرة تعبيرها واشتعلت بنيران الشوق لسماع ما ستقوله تاليًا، أمورٍ لا بد وأنها قد بلغت مبلغًا عظيمًا من الخطورة جعلت منه ترفض النقاش.

- لقد تَحدث إلي ابنها بعد رحيلها. اتصل بي وقال أنه لا يؤيد خطوة والداته... أي أنه غير راضٍ عن مجيئها إلينا بغرض الخطبة. أتصدقين؟

لم تمهل تعابيرها المذهولة أي وقت وانهالت تقص عليها تفاصيل ذاك الاتصال المفاجئ حالما انصرفت عنها أمها متمنية لها ليلة هنيئة، فلم تترك مجالًا لابتسامتها المتفائلة بالترعرع على شفتيها وهي ترافق كل تلك الأفكار الإيجابية والنابضة بالحياة، لعلها كانت لترد بالموافقة لولا تلك الكلمات المتغطرسة والمفتقرة للأحاسيس والأدب التي جعلتها تشعر بالندم العظيم.

عندما شاهدت ذلك الرقم المجهول يضيء شاشة هاتفها ترددت أن تجيب عليه لفترةٍ وجيزة قبل أن تذعن لفضولها وتضع سماعة الهاتف في صمتٍ منتظرة قدوم صوت المتصل أملًا في تحديد هويته إلا أنه لم يأتي بتاتًا إلى غاية أن قالت:

- ألو! من معي؟!
- دكتورة أمل!
توقف الزمن بها وهي تنصت لذلك الصوت الرجولي الخفيض الذي تتخلله بحة خفيفة، لا يبدو مألوفًا بالنسبة لها على الإطلاق ويروعها أن يعلم من تكون بينما هي تجهله تمامًا. وكانت لتطلق سؤالها لو لم يسبقها بالإجابة.

- أنه أنا نزار ابن الحاجة ربيعة هل عرفتني؟

لم تصدق أنه الجار البعيد، ولم تصدق أنها لم تستطيع تمييز صوته بذهنها منذ الوهلة الأولى، ولكن حينما فكرت مليًا، هي لم تسمعه يتحدث من قبل إلا حينما تشكرها وهو يهم بالرحيل في اليوم الذي اصطحب فيه والده، وهذا لا يكفي لتمييز صوته حقًا.

ولكن من أين له برقم هاتفها ولأي سببٍ يتصل بها في هذا الوقت؟ هل ربما يود أن يتعرف عليها عن كثب حتى قبل أن تأتيه الإجابة؟! كل تلك الأسئلة ذات الأجوبة المبهمة جعلت من لسانها ثقيل، وردها يأتي بعد حينٍ متزعزعًا بعض الشيء وهي تقول:
- آه! أجل نزار، كيف حالك؟

- أنني بخير. كنت أريد أن أسألكِ، هل أتتكم والدتي اليوم؟
- أجل لقد كانت هنا بالفعل. لماذا تسأل؟

استغربت نبرة صوته الحازمة، وسؤاله عن والدتها وكأنه لا يعلم بحق أنها كانت في منزلهم. والأغرب من كل هذا كان سؤاله التالي:
- ماذا كانت تريد؟
- عفوًا!

ابتلع ريقه تم أخذ نفسًا ثقيلًا قبل أن يقول:
- آنسة أمل استمعي إلي جيدًا. أيٍ كان ما أخبرتكم به والدتي، أرجوك لا تأخذي الأمر على محمل الجد.

جعدت حاجبيها باستنكار ثم جعلت تقول:
- ما الذي تقوله الآن؟ أنا لا أفهمك!
- لا يمكنني أن أتزوج. علي أن أعود بعد أسبوعٍ واحد إلى كندا. أن الأمر ضروري.

كأنما هي قطع جليدٍ انهمرت على رأسها، سعت لدفن كبريائها حيًا، بل أنها أسوأ، تلك الكلمات كانت بشعة للغاية بالنسبة لها، ولم تتصور يومًا أن تواجه مثل هذا الموقف الذي يستحيل أمامه الصمود.

- ولما تقول هذا الكلام إلي. أليس من المفترض أن تقوله لوالدتك؟! ما شأني أنا فيما يدور بينكما؟!

- أنا أقول هذا لكي تتفهمي موقفي. ليس لي دراية أنها ستأتي إليكم اليوم...

ظهرت ابتسامة متكلفة على شفتيها بينما دمائها بدأت تفور غضبًا، حتى لم يعد بإمكانها أن تدعي الثبات والبرود، ليس إلا للحظات قليلة أردفت بعدها بعدوانية:
- لا داعي لأن يصيبك الخوف، كنت سأرفض طلبها على كل حال. فأنا أيضًا لا أقبل الزواج برجلٍ لا أعرف شيئًا عنه، لا تدري كم أنا مسرورة لأنك تملك نفس الرأي. لا تتصل بي مجددًا أرجو ذلك.

- لقد أسأت فهمي...

لم يجيبه سوى ذاك الرنين الذي ينبأ بانتهاء المكالمة. قاطعًا كلماته التي كانت ستأتي بحجة أكثر منطقية ووضوحًا مما تفوه به لشدة القلق والاضطراب. لم يرد للجدال أن ينتهي بهذه الطريقة ولكنه في ذات الوقت لم يجتهد في التقليل من حدته. طريقته الباردة والخالية من الشعور دون قصد منه أنه لأمرٍ يعيقه.


والأسوأ من هذا كله أنه يعطي انطباعًا خاطئًا حول شخصيته لمعظم الغرباء، وربما حتى عند الذين سمعوا عنه ولم يقابلوه مثل هذا قد حدث الآن قبالة الشاطئ. اشتطاط ابنة الخالة امتعاضًا منه وبدأت تبث الأفكار الانتقامية المسمومة في عقل أمل التي لم تكن بحاجةٍ إليها حقًا.


***


ك.خديجة القطوس غير متواجد حالياً