عرض مشاركة واحدة
قديم 14-06-21, 11:38 AM   #31

ك.خديجة القطوس

? العضوٌ??? » 483982
?  التسِجيلٌ » Jan 2021
? مشَارَ?اتْي » 51
?  نُقآطِيْ » ك.خديجة القطوس is on a distinguished road
افتراضي




الفصل الخامس ج2

خمدت الزوابع في فؤادها وسكنت، اندحرت السحب وانقطعت منها الإمطار المتهافتة، معلنة عن رحيل فصل وقدوم فصلٍ أخر. فمن قسوة الشتاء ينبثق جود الربيع وعطفه، آن لتلك المشاعر الخجولة أن تتحلى ولو بقليلٍ من الجرأة، أن يكون لها ذاك الايقاع الملموس بما لا يترك مجالًا للشك أو النكران. بقيت أمل في تلك الليلة لساعة متأخرة من الليل لم يتمكن منها النوم على غير العادة.


أنها تشعر بالشوق المترع لسماع القصة كاملةً منه، وكيف سيبرر لها تلك الكلمات والأساليب التي يتبعها في معاملة من حوله لا سيما الغرباء منهم. كانت متحمسة للغاية حتى أنها توصلت إلى قرارها بشأن مقابلته سريعًا وفي اليوم التالي كانت قد حددت معه الموعد.


فكان في آخر الأسبوع عصرًا من يوم الخميس. أراد نزار في بادئ الأمر أن يصطحبها إلى أحد المقاهي الكبيرة إلا أنه تراجع عن تلك الفكرة حينما تبين عدم فاعليتها في خلق متسعٌ للحديث بأريحية تامة، بعيدًا عن الاكتظاظ والصخب والإحراج. بدلًا عن ذلك كانت الأجواء أكثر ملاءمة داخل المتنزه المطل على مياه البحر الهامدة.


كلاهما قد حضر بواسطة السيارة، تقريبًا في ذات الوقت لشدة الاهتمام. وقد كان بصحبة أمل إحدى صديقاتها المقربات وابنة خالتها ندى اللتان رافقتاها حتى تسنى لهن رؤية نزار بحلة صيفية أنيقة تحاكي زهو السماء متوقفًا على بعد أمتار قليلة، حينها انصرفتا للتنزه بينما تقدمت أمل منه وحيته بابتسامتها المشرقة ثم تمشت برفقته إلى إحدى مقاعد البدلاء حيث تشاركا الجلوس سويًا مع الحرص بترك مسافة وافية تفصلهما.


بعد ثواني من تأمل ذلك المنظر الجميل للمسطحات الخضراء المتعرجة والأمواج الفيروزية المتوافدة. انبثق سؤالٌ من فاهه بلطف:
- هل تحبين البحر إلى هذه الدرجة؟

تعمقت ابتسامتها وأضاءت عيناها في تحمسٍ للإجابة حتى تدحرجت تلك اللآلئ الناعمة من شفتيها بثقة:
- أجل أحبه كثيرًا، رؤيته تجلب الاسترخاء.

صادف أن مر من أمامها طفلٌ يستقل دراجته الهوائية أخذت تراقبه حتى غاب عن ناظريها، فحالف الحظ الأخر في استراق النظرات إليها عن كثب وقد بلغ بذلك حد الإسراف الذي كاد أن يشد انتباه أمل إليه، ولكنه سرعان ما تدارك الأمر بأن أدار عينيه وأزاح الأثار القليلة من ملامحه وهو يتنحنح قائلًا:
- لا بد وأنك قد سمعتِ عن الحادثة التي تعرضتُ لها قبل سنتين.


لا شيء كان بوسعه أن ينسيها تلك الذكرى الصادمة وشعورها العظيم الاندهاش فيما تستمع إلى حديث السيدة ربيعة، استعادتها من جديد كان كافيًا لانتزاع معالم البشاشة عن محياها قبل أن ترد قائلة:
- أجل لقد أخبرتنا. يؤسفني ما حدث حقًا.

وقد شعرت أمل بأن هنالك شيءٌ يسد حنجرته، ويقيد لسانه عن الاسترسال في الحديث، كأنما هي رغباتٍ متناحرة من البوح والكتمان في أعماقه، لهما قوتان متقاربتان تجعل من الحسم أمرًا صعبًا. مرت دقيقة لا يسمع فيها إلا ضجيج العابرين وأنفاسه الثائرة. ارتفعت الحرقدة في حنجرته ثم انزلقت قبل أن يتابع بترددٍ:
- لم يتوقف الأمر عند هذا الحد.



تلفتت نحوه بحيرة لتنبش والقلق قد بدأ يراودها:
- ماذا تقصد؟!
- بعد أشهرٍ من الحادثة، تورمت ذراعي اليسرى وصرتُ أواجه صعوبة شديدة في تحريكها مع الألم المبرح الذي بت أشعر به. في المستشفى وبعد إجراء عدة فحوصات أخبروني بأنني مصابٌ بمتلازمة نادرة ومزمنة.

ليس من السهل النجاة من محنةً ومواجهة منحةً أخرى أشد فتاكًا، ليس أن يقضي أيامٍ وليالٍ طوال تأتيه الآلام كضيفٍ بغيض غير مرغوب يُجبر على التعامل معه والصبر على أذيته. يقتلع جذورًا متأصلة في شخصيته هي مصدر الدماثة والبُشر فلا تعود تنمو من جديد.


لقد ابتعد عن حياته وعن الأشخاص الذين يحبهم ويحبونه ويأنس لوجودهم بالقرب، تخلى عن عمله تقريبًا وعاش حياةً مظلمة لا نور فيه سوى رغبته في الخلاص من ذلك الوجع العظيم.

- متلازمة! كيف حدث هذا؟! أقصد...
- لقد اصبت بعدة كسور وأجريت جراحة طويلة، قال الطبيب بأن حالتي قد تكون ناجمة عن هذين السببين.

سكتت لبرهة وهي تحدق نحوه باندهاش، كان يبدو عليه الحزن الشديد والغير المحتمل، فعرفت بأن الذي مر به لم يكن سهلًا على الإطلاق. وحينها تساءلت بكل فضول:
- ما اسمها؟



فأجاب نزار عليها بلغته الإنكليزية المتقنة متلفظًا بذلك الاسم الذي صار يشكل أعظم كوابيسه في الحياة: «متلازمة الألم الناحي المركب» كان أسوأ ما واجهه من مشقةً فيها لا تحتمل، جعلته يفقد الأمل في مواصلة الحياة بعد أشهرٍ من تعافيه من أثار الحادث الجسيمة، وبعد عودة والديه إلى الوطن. استفاق على تلك الأعراض الحادة في ذراعه والآلام الفظيعة الحارقة التي لا تستجيب جيدًا للمسكنات. فظل يعاني منها لأيامٍ عدة قبل أن يزور الطبيب. وبعد أن تعرف على حالته المزمنة وتبين الأسباب المتحملة لها بالكاد قد واجه مصيره القاسي واستمر بالعيش.


لم يخبر أحدًا ممن حوله وعزم على الكتمان لكنه أطر بعد ذلك لشدة معاناته أن يخبر شقيقته «ريم» المقيمة في مدينة هاملتون مع زوجها وابنهما ذو الست أعوام. ولكنه كان قد أصر عليها هي الأخرى أن تلتزم الصمت، وإلا تشعره بمدى قلقها عليه بتكرار الزيارة وإهمال واجباتها الخاصة.


وبعد ذلك بأيام قرار أن يباشر رحلة العلاج بتشجيعٍ من الطبيب الذي أخبره عن أنها قد تكون أكثر فاعليه ما إذ قرر القيام بها في أقرب وقتٍ ممكن. هكذا مضت الأسابيع طويلة وصعبة على الوصف حتى بزغت خيوط الفجر ليوم الفرج.


ثم جاء نزار على سيرة عودته إلى الوطن، وقال أن ذلك لم يأتي إلا بصفة عاجلة للاطمئنان على والده السيد مصطفى في أيام بقاءه في حالة حرجة داخل المشفى. أما بعد تعافيه من المرض فقد أعربت والدته عن نية أخرى قد خطرت على بالها، لا ترى أي احتمالية لحدوثها سوى في هذه الأيام القليلة التي تسبق رحيله.



وحينها قررت أن ترغمه على الزواج من أمل، الفتاة التي أحبتها كثيرًا ووجدت فيها الصفات الجيدة والمثالية لتكون زوجته. وقد عرضت ذلك عليه صراحةً بعد اليوم الذي صادفها فيه برفقة والده عند ممرات العيادة.


كان قد أخبرها السيد مصطفى بذلك، فتربصت بنزار على مائدة العشاء وسألته عن رأيه في ابنة الجيران الودودة، مما جعله يشعر بالغرابة في بادئ الأمر ثم بالانزعاج حينما تبين مبتغاها، وحاول أن يتفادى الرد على سؤالها بالتظاهر بالرغبة الكبيرة في استكمال صحنه، لكن هذا التصرف جعلها أشد إصرارًا على سماع إجابته والأكثر من ذلك لقد جعلها تبدو غاضبة بعض الشيء.


إذ لم يكن هذا الموضوع محط خلافٍ بينهما منذ وقتٍ قصير بل لسنواتٍ طويلة حاولت فيها السيدة ربيعة أن تتدفع للزواج بإحداهن، إلا أنه لم يكن يبدي اهتمامًا كبيرًا للأمر، ليس لأنه لا يرغب في ذلك حقًا، بل لأنه ظل منشغلًا بحياته الخاصة في ممارسة الهوايات، وخوض المغامرات المليئة بالإثارة.

أما الآن وبالرغم من امتلاكه لعذرٍ قوي وأكثر ملائمة فيؤسفه أن يكون غير قادرٍ على استخدامه للخلاص من مخططات والدته.


وضع المعلقة جانبًا ثم أطلق بهدوء وحزم:« ما الذي تريدين مني أن أقوله؟!»

فردت السيدة ربيعة بصرامة شديدة هي الأخرى تقول:
- أنها قد أعجبتك، وأنك موافق على الزواج منها.

أخفض عينيه ورد قائلًا بلا تردد:
– لا لن أفعل. لن أتزوجها.
– لماذا هل يوجد غيرها؟ هل بإي فرصة أنتِ واقعٌ في غرم إحدى أولئك الشقراوات؟

لم يكن هذا ما يقصده بالطبع، ولكنه بعد تفكيرٍ قصير قرر أن يستغل الفرصة التي جاءته دون عناء وأجاب:
– أجل... اعتقد ذلك.
– إذ فلتحاول نسيان هذا قبل موعد الخطبة. إذ وافقت الفتاة وأهلها فأنك أيضًا ستفعل ذلك.

مع تقوس حاجبيه الكثيفين ضاقت عينيه بانزعاج كبير واجه صعوبة في كبثه لكي يتمكن من التفوه بتلك الكلمات بهدوءٍ قدر الإمكان قائلًا:
– إذ كنت جد مصممة على تزويجي إياها. فيؤسفني القول يا أماه أنني أكثر منكِ تصميمًا على الرفض.




ثم نهض عن الكرسي وغادر المكان وسط ذهولها الشديد، انتفضت أنفاسها وهي تراقب مكانه الخالي بعينين قد أجهشتا وسرعان ما تناثرت منهما زخات الحزن بغزارة. ولقد شعر نزار بأقصى من ذلك وهو محاط بجدران غرفته، غير قادرٍ على التعبير بما يختلج نفسه من أوجاعٍ وجروحٍ مدمية، وفي اليوم التالي ذهب إليها معتذرًا بشدة، أمسك كفها وقبله قائلًا: «أنا أسف! حقكِ علي، لن أفعل ما يزعلك مني مجددًا.» ولكنها أبت أن تسامحه دون أن يوافق على الزواج كشرطٍ لقبول اعتذاره ونيل رضاها.


تنهد نزار بعمق وما كان بيده إلا الدعاء لله أن ينسيها ذلك الإصرار العظيم، وقد ود حقًا أن يتبين منه دوافعه حينما قرر في إحدى المرات أن يفتش عن معلوماتٍ تقوده إلى الآنسة أمل. وقد كان ذلك في اليوم التي تحدث به إليها عبر البريد الإلكتروني لأول مرة.


إحساسه بالارتياح لرؤيتها والنظر الجيدة التي بات ينظر بها نحوها لم تكن لتغير حقيقة أنه لا يرغب بهذا الزواج لأسبابٍ شخصية لا تتعلق بها، فظل على ترقبه لحلول اليوم الذي ستتراجع فيه والدته عن رغباتها.


ثم أقبل يوم الجمعة، وسمع بحلول المساء عن زيارتها المفاجئة إلى بيت التومي. وهو متأكدًا تمامًا من السبب الذي جعله تزورهم، شق عليه أن يكبح جماح غضبه ويتصرف معها بهدوءٍ وعدم مبالاة. لكنه كان قد رسم في مخيلته وسيلة ناجحة وفعالة جدًا في إنهاء الأمر ووضع حدًا قاطعًا له عندما قام بسرقة هاتف والدته سرًا والحصول على رقم المسجل باسم الطبيبة أمل.


أفضى نزار بكل تلك الحقائق لها ولكن دون الخوض في التفاصيل العائلية الحساسة، طامرًا حزنه ومستعيدًا بذلك قناع البرود والكبرياء، وكانت الأخرى قد استمعت إليه بانتباه وهدوء في بادئ الأمر ثم بانزعاجٍ واضح عندما بدأ يبرر موقفه ويعده أمرًا عاديًا. الأمر الذي جعلها تتحدث بعدوانية قائلة:
– لكنك تصرفت على نحوٍ أناني للغاية، لم تكن تهتم سوى لمصلحتك الخاصة، دون أن تراعي مشاعر امرأة لا دخل لها بما يجري بينكما.

حينها أجابها بهدوءٍ قاتم:
– لهذا السبب سبق وإن قدمت اعتذاري لك.
– هل تظن أن الاعتذار لوحده كافيًا؟!

فمرت لحظات بدا نزار فيها على وشك التفوه بشيءٍ جديدًا لم يخطر على بالها البتة، وهذا ما أكده سؤاله المبهم بعد أن أدار ملامحه يحدقها بثبات:
– ماذا عن رد الاعتبار؟

ظلت تتطلع إلى عينيه السوداويتين بحيرة، غير قادرة على إيجاد تفسيرٍ مناسبٍ لما قاله، أو بالأصح أصابها العجز وسط ارتباكها الشديد حينئذٍ. فلم يواجه نزار إي عائقٍ في ظل التزامها الصمت وتابع يقول:
– أريد أن أحقق رغبتها، إذ كان هذا سيجعل منها سعيدة للغاية فأنني مستعدٌ للتراجع عن قراري. وأنا أطلب منكِ أن تعيدي التفكير في الأمر.




فكرت أن هذه أعقد طريقة لطلب الزواج على الإطلاق، كل كلمةٍ منها لا تخلو من الكبرياء والأنفة. يخبرها وبكل صراحة أنه مستعد للتراجع عن قراره فقط لأجل إرضاء والدته. وأنه أبدًا لن يتزوجها لأسبابِ لائقة أو معقولة مما بدأت تتسلل لمخيلتها. ولم تكن تعلم هل يخبرها ذلك عن عمدٍ أو يعنيه حرفيًا. كما لم تتفهم شعورها نحوه في تلك الأثناء.


قطع حبل تفكيرها صوته وهو يضيف:
– ولكن تمت شيئان إثنين أريد أن أخبرك إياهما: الأول أنني لا أريد لأحد أن يعلم أي تفصيلٍ مما جرى معي بعد الحادث. فأنا كما سبق وإن أخبرتكِ، أخفي الأمر على الجميع فعليكِ كذلك عدم ذكر هذا أمام عائلتك.

وحينها تساءلت قائلة بفضول:
– وما الشيء الأخر؟
– إذ أردتِ أن تكونِ زوجتي، فأنكِ ستذهبين معي إلى كندا، حيث سنقيم هناك داخل شقتي الصغيرة. وسأكون ممتنًا لسماع رأيك الصريح والواضح في خلال أسبوعٍ من الآن.


لم يكن ما جرى بينهما منصفًا بالنسبة لها، كان هو الطرف المسيطر والذي يدير دفة الحديث أينما يشاء، يملك الأفضلية بالطبع لأنه من دعاها لأجل هذا اللقاء، وهو من تحضر جيدًا لرمي الحقائق والأسئلة كركام فوق رأسها دفعةً واحدة، فلا عجب أن تعجز عن مواجهته أو التعبير عن آراءها ومدى استياءها من سلوكه المتعجرف في النهاية.


استمعت لأخر كلماته التي منحتها شيءً أخر للتفكير به بجدية، قبل أن ينصرف كل واحدٍ منهما إلى دربه، لقد تتطلع بها بعينين تواقتين وبأسلوبٍ أكثر تهذيبًا أخذ يقول: «القرار بيدكِ الآن عليك بإعمال الفكر وإمعان النظر جيدًا»


* * *

هذه هي نهاية الجزء الخامس فما رأيكم به؟ لقد أخذ مني وقتًا كثيرًا لكتابته.

وما توقعاتكم حول القرار الذي ستتخذه بطلتنا في النهاية؟ هل ستوافق أم سترفض؟

نلتقي في فصل جديد لنعرف ذلك.





التعديل الأخير تم بواسطة ebti ; 14-06-21 الساعة 08:32 PM
ك.خديجة القطوس غير متواجد حالياً