عرض مشاركة واحدة
قديم 26-06-21, 10:10 PM   #76

روز علي
 
الصورة الرمزية روز علي

? العضوٌ??? » 478593
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 720
?  نُقآطِيْ » روز علي is on a distinguished road
افتراضي

كان يسند ذقنه فوق قبضته المنتصبة فوق سطح الطاولة بشرود وحاجبيه السوداوين معقودين بغموض حاد معتاد عليه كجزء من شخصيته وهو يحاول مجاراة حركات الجالسة امامه بنفس الطاولة وهي تلوح بكفيها بكل الاتجاهات وشفتيها الورديتين تتحركان بتناغم مع كفيها وهي تتكلم عن كل شيء يخص حياتها الخيالية كما يراها بدون اي مواربة او تردد وكفها تعيد خصلات شعرها الناعمة المتطايرة امام عينيها لخلف أذنيها كل حين بدون ان يستطيع منع نفسه من المتابعة معها كلمة بكلمة ، وهو يتسائل إذا كانت تتكلم مع الجميع بهذه الطريقة المنطلقة بدون اي حدود او حواجز وبطريقة ملفتة للأنظار وللأذن لسماع المزيد من هذه التفاهات بصوت تغريد الطيور الشجية والتي تجذب جميع المخلوقات إليها ؟

تغضن جبينه فجأة بغضب مكتوم غير معبر بالتفكير بهذه النقطة والتي لم تعجب افكاره ابدا وهو يتخيل هذا المخلوق الانثوي امامه ينظر له احد بنفس الطريقة والتي ينظر بها الآن ! حرك رأسه بقوة وهو ينفض تلك الأفكار الحمقاء من رأسه والتي بعثرت كيانه بأكمله وهو يعود لضبط زمام الأمور كالعادة كلما شعر بتشتت بأفكاره بسببها ، وهذا ما يحدث معه دائما بكل مقابلة تجري بينهما وبأيام عطلتها من الجامعة عندما تشارك والدها بالعمل وقد بدأ كل هذا بالوقت المستقطع له بالعمل ليصبح وقتهما الخاص بهما وحدهما والذي يقضيانه بالمقهى بجانب مكان العمل حتى ينتهي الوقت المستقطع ليعود عندها كليهما للعمل مرة أخرى ، بدون ان يفسر متعته الخاصة برفقتها ؟

رفع نظراته السوداء نحوها بتركيز ما ان سمع صوتها الرقيق وهي تنادي باسمه بخفوت قلق متناقض عن كلامها المسترسل السابق
"جواد ، هل انت معي"

ضيق (جواد) عينيه بتركيز حاد للحظات قبل ان يهمس بابتسامة جامدة ببرود
"اعتذر هل كنتِ تكلميني للتو ، لأني لم اسمعكِ جيدا"

عبست زاوية من شفتيها برقة وهي تهمس بخفوت حزين
"لقد كنت اسألك ان تخبرني القليل عن حياتك ، فأنا لا اعرف شيئاً عنك سوى بأنك تعيش وحيدا ، ولم تخبرني لما تعيش وحيدا واين هي عائلتك"

عقد حاجبيه بهدوء وهو يبعد ذقنه عن قبضته ليعود بجلوسه لظهر الكرسي وهو ينظر بعيدا عنها بشرود ، ليقول بعدها بلحظات بجمود ساكن وملامحه قد هدئت تماما بدون ان ينظر إليها وكأنه يكلم نفسه
"ليس لدي الكثير لأخبركِ عنه بحياتي الفارغة بعكس حياتك ، وبخصوص عائلتي فقد توفي الجميع ولم يبقى اي احد منهم بحياتي ، لهذا اعيش وحيدا بدون اي رفيق معي منذ سنوات ، واتنقل بين منزلي وعملي هنا كل يوم حتى اعتدت على هذا الروتين اليومي ، وهذا كل شيء عندي أخبركِ عنه"

اتسعت عينيها العسليتين بوجل وهي تفكر بمسار حياته الفارغة وما يتحمله كل يوم من حرمان عاطفي وعائلي حتى اصبح شخص غير مبالي بما يحدث من حوله من تجرد بالمشاعر اعتاد عليه ، لتهمس بعدها فجأة بحيرة واجمة وهي تضم قبضتيها معا فوق سطح الطاولة بحالة حزن
"ولكن أليس لديك اي اقارب بحياتك ، او اصدقاء مقربين...."

انتفضت بتوجس وهي تبعد قبضتيها عن سطح الطاولة ما ان تقدم (جواد) بجلوسه باندفاع وهو يسند مرفقيه فوق سطح الطاولة الفاصلة بينهما قبل ان يقول بجفاء خافت وعينيه تحدقان بها بسواد قاتم غريب
"لا احد ، ليس هناك اي احد بحياتي يا صفاء"

انفرجت شفتيها بانشداه للحظات وهي تحرك رأسها تلقائيا بالإيجاب بدون وعي منها وهي ما تزال تحدق بعينيه السوداء برهبة جمدتها بمكانها تكاد تنفذ لروحها لتزهقها بدون رحمة ، بينما ارتفع حاجبيه ببطء حذر وهو يراقب تجمدها والتي شحبت بها قسمات ملامحها الناعمة وعينيها ما تزال على اتساعهما الرقيق والذي زاد توهجهما لتصبح مشابهة لصورة الشمس لتعوض عن الشمس بالسماء والتي اختفت بين السحب ، ليتراجع بعدها بثواني للخلف بصمت وهو يعود للاستقامة بجلوسه باتزان هادئ بدون ان يتخلى عن عقدة حاجبيه والتي تلازم ملامحه دائما .

تنفس (جواد) بهدوء وهو يهمس ببرود جاد
"يمكنكِ التكلم الآن"

زفرت انفاسها بارتجاف محتقن وهي تحاول العودة للابتسام بلطف هامسة بإحراج منفعل
"انا اعتذر حقا إذا كنتُ قد تجاوزت الحدود معك بدون قصد ، فقط كان لدي الفضول لأعرف قصتك لا أكثر"

حرك رأسه بلا مبالاة وهو يراقب احراجها والذي لون وجنتيها بحمرة قانية تكاد تدمع من شدة إحراجها امامه ، ليشيح بعدها بوجهه جانبا وهو يهمس بخفوت شارد بحدة
"لا بأس ، لا داعي لكل هذا الحزن والأسى على قصتي ، وعلى كل حال فقد اعتدت على هذا النوع من الأسئلة عن حياتي الفارغة"

رفعت نظراتها المهتزة نحوه بدموع حبيسة وهي ترفع كفها لتمسح على وجنتيها المحمرتين بقوة ، لتهمس بعدها بتبرير خافت وهي تفرك كفيها معا بتوتر
"انا حقا لم اقصد ان احرجك او ان اطرح عليك كل هذه الأسئلة ، ولكن فضولي قد دفعني لفعل كل هذا فأنا معتادة على طرح مثل هذا النوع من الأسئلة الفضولية والمزعجة لبعض الناس بدون اي تفكير ، وهذا الأمر كان يزعج ماسة كثيرا وجميع صديقاتي ، لأنني لا اتوقف عن التدخل بخصوصيات الآخرين وبأمور لا تعنيني....."

تجهمت ملامح (جواد) بتصلب وهو يرفع حاجبيه بعدم تصديق بدون ان يظهر اي شيء على ملامحه الصخرية وهو يستمع للتفاهات والتي عادت لسردها امامه بدون اي حدود وكأنها ليست نفسها الحزينة والمحرجة والتي كادت تنفجر بالبكاء امامه من احراجها منذ لحظات ! ليتبدل بعدها بتورد احتل كل وجهها وهي تطلق لسانها الصغير لتتكلم بكل شيء وعن اي شيء يخطر ببالها بدون اي تفكير .

رفع (جواد) يده وهو يمسد على جبينه بتعب من هذه الثرثرة والغير معتاد عليها بحياته الباردة والتي يطغى عليها الصمت الدائم لتخترق عالمه بهذا الكلام المسترسل والذي ليس له حدود او نهاية ، لينطق بعدها ببعض الحدة وهو يرفع كفه امامها بأمر
"كفى كلام يا صفاء ، هذا يكفي"

صمتت (صفاء) برهبة وهي تنظر له بتوجس وقلق وحاجبيها البنيين مرفوعين بوجوم رقيق ، ليتدارك بعدها نفسه وهو يقول بصرامة متزنة
"اسمعي لقد انتهى الوقت المستقطع ، واعتقد بأنه قد حان الوقت المناسب ليعود كلينا للعمل ، واكيد سيكون والدك قد وصل لمكتبه الآن ويبحث عنكِ"

عبست ملامحها بحزن وهي تهمس بخفوت مرتجف
"لم اشعر حقا بمرور الوقت"

نظر لها (جواد) للحظات قبل ان يبتسم بهدوء متصلب حفر بزاوية شفتيه وهو يهمس ببساطة
"لا مشكلة ، عندما نتقابل بالمرة القادمة سنكمل كلامنا الشيق عن حياتكِ ومجرياتها وعن كل شيء بها يدعو للاهتمام"

عادت ابتسامتها للاتساع تدريجيا وهي تقف عن الكرسي باندفاع قائلة بسعادة غامرة عادت للتوهج بمقلتيها
"اجل اكيد ، وانا لا امانع هذا بل سأكون اكثر من سعيدة بالتكلم معك عن كل شيء شيق يخص حياتي وعن كل مغامراتي الممتعة ، والآن عذرا عليّ الذهاب قبل ان يشعر ابي بغيابي"

وبلحظات كانت تلتقط حقيبتها من على الطاولة لتضعها فوق كتفها وهي تنطلق بعيدا عنه باتجاه باب الخروج من المقهى وكفها تلوح له من الخلف بمرح صاخب اختفى مع اختفاءها ، ليحرك بعدها رأسه بملل بعيدا عنها وهو ينظر للهاتف امامه من على سطح الطاولة والذي ارتفع رنينه فجأة مخترقا هالة السكون من حوله .

وقف (جواد) عن الكرسي بهدوء وهو يدس يده بجيب بنطاله قبل ان يلقي ببعض النقود فوق سطح الطاولة امامه وهو يلتقط هاتفه بيده الأخرى ليخرج عندها من المقهى بأكمله ، وما ان اصبح يسير على الطريق المؤدي لدار النشر بقرب المقهى حتى وضع الهاتف على اذنه وهو يقول بخشونة باردة
"ماذا هناك"

استمع قليلا للطرف الآخر وهو يفك عقدة حاجبيه بهدوء مترقب ، ليقول بعدها بلحظات بخشونة مهتزة تظهر لأول مرة بصوته البارد
"حسنا فهمت يا أمي ، سأحاول زيارة المنزل اليوم ، ولكني لن اعدكِ بهذا"

______________________________
"الانضباط المدرسي من أهم الأدوات التي تُمكن المعلم من توصيل المعلومات بصورة أفضل ، واستخدام الوسائل التعليمية بصورة أكثر كفاءة ، والانضباط المدرسي نابع أولاً من تربية الأسرة ، وتنشئة ابنائها على سلوكيات محددة ، وثانيا على القوانين الصارمة التي تحددها المدرسة تجاه من يخترقون الضوابط التي وضعتها المدرسة في ذلك ، وفيما يلي سنتعرف على أهداف الانضباط ودور الأسرة فيه"

كانت تسير حول طاولة المكتب بثبات وهي تقرأ الكتاب بين يديها بصوت صارم عملي وهي تحيد بنظراتها بين الحين والآخر باتجاه الطلاب الملتزمين بمقاعدهم بتهذيب واعينهم ناظرة لحركتها بتتبع وتركيز ، ومنهم من بدأ يتثاءب بملل من اجواء الحصة الرتيبة والنصف الآخر ينتظر بفارغ الصبر نهاية الحصة بحماس منقطع النظير ، ولم يرى احد منهم من كان يقف عند باب الفصل المفتوح وهو يكتف ذراعيه فوق صدره باتزان ناظرا لخطواتها الثابتة بهدوء تحسد عليه وابتسامته تتسع تدريجيا بتصلب مع عينيها الخضراء والتي كانت ترنو بنظراتها بتحذير خطر باتجاه الطلاب المهذبين وكأنها توصل لهم رسالة لا يفهمها ولا يستطيع احد قراءتها سواهما ، وهو يشعر بغيرة غير مبررة تنهش صلابته على غير المعتاد بكل مرة يراها تتواصل بها مع طلابها بطريقة معينة لا يستطيع احد اختراقها ! وهو يتمنى لو يحصل على القليل من تلك النظرات الصارمة بشحوب عينيها الفاتنتين والتي يحظى عليها طلابها بأكملها بدون ان يتركوا لزوجها المسكين القليل والذي يقف عند الباب بكل يوم .

عاد (احمد) للابتسام باتساع ما ان التقت عينيه مع عينيها الخضراوين والمتسعتين بصدمة قبل ان تبتسم بسعادة لعينيه وهي تخفضهما بعيدا عنه بإحراج ، لتعود بعدها بنظرها للطلاب وهي تخفض الكتاب من امامها قائلة بارتفاع حازم
"حسنا سنكتفي بهذا القدر لهذا اليوم ، يمكنكم إكمال مذاكرة الدرس بالمنزل ، ولا تنسوا حل الفروض المنزلية ، هل هذا مفهوم"

ردّ عليها الطلاب بصوت واحد بحماس
"حاضر"

تنهدت براحة وهي تلتفت بجانبها لتضع الكتاب فوق الطاولة وهي تقول بتحذير صارم
"سأخرج من الفصل قليلا ، لا اريد ان اسمع اي إزعاج"

لم يسمعوا صوتها لأنهم كانوا قد دخلوا بثرثرتهم المعتادة مع بعضهم البعض بدون ان يهتموا لوجود المعلمة ، بينما سارت (روميساء) لخارج الفصل بسرعة امام نظراته والتي ما تزال تتابعها بهدوء حتى وقفت امامه تماما ، لتقول عندها بهدوء وهي تمسح جبينها بيدها بإرهاق استبد بها
"مرحبا احمد ، اراك مبكرا بالمجيئ للمدرسة اليوم ، فلم يحن بعد موعد انتهاء دوامي ، وما يزال هناك فصول أخرى عليّ ان احضرها"

كان (احمد) ينظر لها بهدوء ليرفع عندها يده تلقائيا وهو يمسك جانب وجهها ليمسح بإبهامه على خدها المحمر وهو يقول بتصلب عابس
"ارى بأنكِ ترهقين نفسكِ كثيرا بهذا العمل ، وقد اخبرتكِ من قبل بأنه ليس هناك داعي لكل هذا ، فأنتِ الآن زوجة احمد الفكهاني وكل شيء تريدينه يمكنني ان اوفره لكِ وبلمح البصر ، فأنا عندي راحتكِ هنا هي اهم شيء عندي يا روميساء"

ابتلعت ريقها برهبة وهي تنظر له بابتسامة صغيرة تحاول الظهور على ملامحها الشاحبة ، لتنتفض بعدها لا شعورياً وهي تبتعد عن مرمى كفه بهدوء قائلة بصرامة عادت للظهور بصوتها وهي تعيد خصلات شعرها المتمردة لخلف كتفيها
"كل شيء بخير يا احمد ، وهذا العمل ليس من اجل المال والذي احصل عليه بنهاية الشهر بل لأنه يشكل بالنسبة لي راحتي المؤقتة بين اطفال يحبوني لنفسي ويتقبلون ما اقدمه لهم من علم سينفعهم بالمستقبل حينما يكبرون ويحققون احلامهم المستحيلة"

حرك رأسه بهدوء وهو يرفع حاجبيه بدهشة من احلامها الكبيرة والغريبة بعض الشيء على فتاة بسنها لا تفكر سوى بأطفال غريبين عنها بدلا من التفكير بتدليل نفسها والاهتمام بحالها وبمستقبلها مثلا ! عاد للنظر لها ما ان قالت له بعبوس متوجس
"لم تخبرني يا احمد عن سبب زيارتك للمدرسة ، هل هناك مشكلة"

عقد حاجبيه بوجوم وهو يهمس بابتسامة جانبية بقوة
"لقد اشتقت إليكِ ، لذا اتيت لزيارتكِ بمنزلك الثاني ، هل لديكِ مانع"

احنت نظراتها للأسفل بحياء احمر معها وجهها الشاحب وهي ترفع كفها لتمسك بخصلات شعرها بتوتر لتلفها حول اصبعها وهي تشغل نفسها بها لتنسيها خجلها الشديد من كلماته ، بينما كان (احمد) يراقبها ببعض التسلية وهو يعبس امامها قائلا بصرامة مزيفة
"ولكني اكتشفتُ بأنكِ لا تهتمين لأمري ولا لوجودي هنا ولو قليلا ، وكل ما يهمك هو طلابكِ الاحباء والذين تحبينهم اكثر مني واكثر من الجميع بدون ان تعطيني ولو قليلا من هذه المحبة والتي تغدقينها عليهم ، فهل اطلب الكثير"

رفعت نظراتها بسرعة نحوه وعينيها متسعتين ببلاهة وهي تفغر شفتيها بانشداه لم تستطع منه ! لتتدارك بعدها نفسها وهي تضيق عينيها هامسة بتفكير مستاء
"احمد هل تشعر بالغيرة من طلابي"

عقد حاجبيه بتجهم وهو ينظر بعيدا عنها قائلا بغضب لا يليق به
"اجل اغار ، ألست بشر ولدي غريزة ذكورية تجعلني اغار من كل من يحظى على إعجاب زوجتي ومحبته"

اتسعت ابتسامة (روميساء) بدهشة قبل ان تتحول لضحكة خافتة بمرح وهي تقول بتعجب ساخر
"هل جننت يا احمد لتغار من اطفال لا يفقهون شيئاً بالحياة وبمعنى هذه المشاعر"

تجمدت ملامح (احمد) للحظات وهو يعود بنظره للفاتنة امامه والتي كانت تضحك بمرح لأول مرة كاسرة غلاف الجليد والذي يحاوط حياتها دائما لتبدو بأبهى صورها وهي تخرج عن صورتها الصارمة المملة لأخرى مشعة بالحياة والتفاؤل والتي عبثت بعقله لتشتت تفكيره لوهلة ، تنحنحت بعدها بحشرجة وهي تتوقف عن الضحك ما ان لاحظت نظراته المتأملة لها طويلا وهي تقطع دوامة المشاعر والتي اخذتهما معا بعيدا .

افاق (احمد) من افكاره وهو يحاول العودة لابتسامته الهادئة المعتادة قائلا
"انسي هذا الأمر الآن ، فأنا قد اتيت لقضاء بعض الوقت معكِ قبل ان تبدأ الحصة التي تليها والتي ستؤخذكِ بعيدا عني ، لذا هل تسمحين لي بالكلام معكِ قليلا يا معلمتي الفاضلة"

اومأت برأسها باهتزاز وهي تحيد بنظراتها لباب الفصل بتفكير ، لتعض بعدها على طرف شفتيها بهدوء قبل ان تعود بنظرها له وهي تهمس ببساطة
"اجل موافقة ، وكيف تريدني ان ارفض طلب لزوجي العزيز"

زفر انفاسه بتصلب وهو يشعر بنشوة سعادة غريبة تجتاحه من كلامها العفوي والذي اصاب الهدف بنجاح ! لينفض بعدها هذا الشعور من داخله وهو يشير بذراعه باتجاه الممر الطويل امامها قائلا ببشاشة
"إذاً هيا بنا قبل ان يضيع الوقت منا واخسر هذه الزيارة"

ابتسمت بمودة وهي تتقدمه لتسير امامه قبل ان يتبعها وهو يسير بجانبها تماما ، لينظر عندها للمسافة والتي تتعمد صنعها بينهما رغما عنه وكأنه حاجز يعيق عليه حركته بدون ان يستطيع تجاوزه .

تنفس بعدها بهدوء وهو ينظر امامه بغموض ليقول عندها فجأة بتصلب جاد
"إذا كنتِ تحبين الأطفال لهذه الدرجة وتفكرين كثيرا بمستقبلهم ، لما لا تنجبين اطفالا لكِ سيملئون عندها وقتكِ الفارغ ويصبحون راحتكِ المؤقتة والتي تبحثين عنها بدلا من العمل بالمدرسة"

التفتت برأسها نحوه بلحظة وهي تشعر بارتجاف طفيف احتل كل اطرافها بانتفاض ليختل عندها اتزانها لا إراديا وهي تكاد تقع ارضا بدون ان تنظر امامها ونظراتها ما تزال معلقة به ، ولكن وقبل ان تصل للأرض وهي بحالة الشرود الذهني كانت ذراعي الواقف بجانبها تحاوطان جسدها بقوة وهو متشبث بخصرها قائلا امام وجهها الشاحب بتوجس بالغ
"روميساء ، اين شردتِ ، روميساء"

شهقت (روميساء) بذعر وهي تنتفض بعيدا عنه مبعدة ذراعيه عنها لتستقيم بوقوفها وهي تمسح بيدها على جبينها بهدوء مرتجف ، وما ان كان سيتكلم حتى سبقته من عادت لصرامتها وهي تقول بخفوت بارد
"اعتذر ولكن هلا توقفنا عن التكلم عن هذا الموضوع ، رجاءً"

ارتفع حاجبيه بامتقاع مصدوم وهو لا يفهم إلى ماذا تلمح بكلامها ؟ وما لذي اصابها من الأساس ؟ هل يعقل بأن يكون كل هذا قد حدث معها بسبب فكرة الإنجاب ؟

حرك رأسه بعدم فهم وهو يراها تسير بعيدا عنه باتزان ثابت بدون ان تعيره اهتمام وهو يقسم بأنه قد لمح تهرب عينيها منه بذعر مفضوح ! ولكن لا بأس فهو سيكتشف كل شيء عنها من تفاصيل بالقريب العاجل فهي قد اصبحت زوجته وليس لها اي مهرب بهذه الحياة سواه وهذا هو ما يطمئن قلبه .

______________________________
كان ينظر بين الملفات والأوراق بتركيز نسبي وهو يلقي بكل واحدة ينتهي من تفحصها بعيدا عنه بملل وهو يزفر انفاسه كل حين بتعب من كل هذا العمل والذي اجهد تفكيره تماما ، وهو لا يعلم من اين اتى كل هذا العمل دفعة واحدة فوق رأسه بدون اي رأفة بحاله ؟ وكأنه مقصود بكل ما يحدث معه لكي يتعلم مرة أخرى ألا يفكر بتأجيل العمل لوقت آخر ويحاول المماطلة به ليكون عقابه بالنهاية ان يتجرع خطأه لوحده وهذا اقل شيء يستحقه !

تنهد بهدوء وهو يمسد على جبينه بغضب فمن قال بأن عمل التصميم ورسم الديكورات والبيوت سهل ؟ بل هو يحتاج لعمل جبار وتركيز مثل باقي الأعمال الأخرى وكم هذا مجهد بالنسبة له ويدعو للملل الشديد ، تذكر بعدها عبارة والدته والتي مرت بذهنه وقد صدقت حقا بها عندما كانت تقول له بتذمر دائم
(شادي لا يليق به العمل ابدا فهو والعمل دائما متناقضين عن بعضهما مثل الزيت والنار ، وإذا حاول الاقتراب منه والاتحاد معه فستحدث عندها الفاجعة الكبرى)

وقد كانت تقصد بالفاجعة هو الدمار والذي سيحل على الجميع عندما يحاول العمل بشيء او اصلاحه ليتدمر بالنهاية على يديه قبل ان تبدأ والدته بتوبيخه بشدة والحزن على ما دمره بدلا من اصلاحه .

رفع رأسه عاليا بشرود ليستند بمسند الكرسي من خلفه وهو يرفع ذراعه الآخر ليضعها فوق رأسه بهدوء ، وابتسامة هادئة تحتل ملامحه الباردة وهو يتذكر تفاصيل حياته الصغيرة بوجود والدته من حوله قبل ان تختفي آخذة معها كل سعادته ومشاعر الفرح والحزن والتي كان يشعر بها دائما بوجودها .

اخفض نظراته لباب مكتبه والذي فُتح بهدوء ليطل منه رأس فتاة ذات الشعر الاشقر وهو يتهدل على جانب رأسها قائلة بمرح خافت
"هل استطيع الدخول يا شادي ، أم ليس لديك وقت لأحد ولا تطيق وجود احد بجانبك الآن"

ابتسم (شادي) بهدوء وهو يرفع ذراعه بعيدا عن رأسه قائلا بابتسامة باردة
"هيا ادخلي ، ولا تحاولي تمثيل دور البريئة امامي ، فأنا اعلم جيدا بأنكِ ستدخلين لمكتبي بكل الأحوال بموافقتي او بدونها"

دفعت (لينا) الباب للأمام وهي تسير للداخل بغرور متعالي واضح بخطواتها المتمايلة بدلال ، وما ان وصلت امام المكتب حتى اسندت مرفقيها على سطحه وهي تتلاعب بخصلات شعرها القصيرة بأصابعها قائلة بنعومة مغرية
"صباح الخير ، كيف هي احوال العمل عندك ، وهل تحتاج لمساعدة بشيء لأني اعرف بأنك لا تستطيع فعل كل شيء لوحدك بدوني"

اتسعت ابتسامته وهو يقرب وجهه امامها ليسند ذراعيه فوق سطح المكتب برفق وهو يلتقط من الأوراق المبعثرة من فوقه قائلا ببرود
"كما ترين ، فالعمل هنا قد اصبح لفوق رأسي ولا اعلم اين اذهب بكل هذا ، وقد يؤخذ مني ساعات لأنهائه"

ابعدت مرفقيها عن سطح المكتب وهي تخفض نظراتها الخضراء برقة للأوراق والتي لم تنتبه لوجودها بالبداية وهي تمسك بإحداهن لتنظر لها هامسة بعبوس رقيق
"لم اكن اعلم بمشكلتك هذه ، يبدو بأنني حقا قد اتيت بوقت غير مناسب"

نظر لها للحظات وهي تنظر بحزن واسى للأرواق المبعثرة امامها ، ليقول عندها ببساطة وهو يلوح بكفه بلا مبالاة
"لا تهتمي يا لينا ، فكل هذا بسبب اهمالي وعليّ تحمل عواقب اخطائي مهما كان مدى سوئها ، ولكن إذا اردتِ البقاء معي هنا فليس لدي اي مانع بوجودك ، بما اننا سنبقى محبوسين بهذا المكان لساعات مقبلة"

عادت للابتسام بنعومة مغرية برضا وهي تلوح بالورقة والتي ما تزال بيدها قائلة بلهفة بالغة
"حسنا موافقة ، وبما انني قد وصلت الآن إليك واصبحت بمكتبك فلا مانع من مساعدتك بأعمالك الكثيرة ومد يد العون لك كما افعل دائما ، فهل لديك اي اعتراض على هذا الأمر"

حرك رأسه بالنفي بهدوء وهو يمسك مجموعة من الأوراق والملفات ليرتبها فوق بعضها البعض قائلا بجدية
"لا امانع وهذا بالنهاية قراركِ انتِ ولم ارغمكِ على شيء ، ولكن اعيد واكرر بأنكِ ستندمين كثيرا على تقديم مثل هذا النوع من المساعدة والذي لن تخرجي منه حية فأنتِ الآن قد اصبحتِ جزء من هذا العمل المتراكم"

ضحكت بسعادة خافتة وهي تمسك خصرها بكفيها هامسة بتصميم غريب
"لا تقلق بخصوص هذا الشأن ، فليست لينا من تندم على شيء فعلته ودخلت به بإرادتها الحرة ، واعدك بأني سأكون افضل من يقدم لك العون"

ارتفع حاجبيه بدهشة وهو يحرك رأسه بتسلية واضحة ليقول عندها بلا مبالاة
"سنرى"

ابتسمت (لينا) بثقة ممزوجة بالشغف بعملها بجانبه كما تحب وتفضل ، لتجلس بعدها فوق طرف سطح المكتب بحرية وهي تحرك ساقيها المكشوفين امامها بدلال من تحت تنورتها الجينز القصيرة ، بينما كانت عينيها الخضراء المشعتين بجمال تنظران بلهفة للمشغول بسماعة الهاتف على سطح المكتب وهو يتكلم من خلالها بهدوء آمر
"اريد منكِ ان تحضري لمكتبي كوبين من القهوة على وجه السرعة ، هل فهمتِ يا وفاء"

اخفض سماعة الهاتف وهو يعيدها لمكانها بهدوء ، ليحيد بعدها بنظراته للجالسة فوق سطح المكتب وهو يتمتم بابتسامة ماكرة
"هل انتِ مستعدة للعمل يا ابنة الوزير"

ابتسمت باتساع واثق وهي تعود للتلاعب بخصلات شعرها بأصابعها لتهمس عندها بدلال
"انت فقط اخبرني بماذا تريد مني ان اساعدك ، وانا سأنفذه لك بالحرف الواحد"

كان (شادي) ينظر لها مطولا بعينيه السوداء الباردة بدون ان يتأثر بهالة سحرها وجاذبيتها والتي تستطيع اختراق القلوب ليصبح صاحبها طوع امرها وهذا ما لاحظه كثيرا من جميع من تقابلهم وكله بسبب مرتبة عائلتها وجمالها المبهر الساحر للأعين ، ليقطع بعدها تأملاتهما الصامتة صوت دخول السكرتيرة لغرفة المكتب وهو يسمع صوت اهتزاز صينية القهوة بين يديها بوجوم ، وما ان التفت بنظره نحوها بحيرة كانت السكرتيرة قد سقطت ارضا مع الصينية والتي وقعت مع كوبين القهوة وهما ينسكبان بداخل الصينية بقوة .

انتفض بثواني واقفا عن مقعده باندفاع ليدور حول المكتب بسرعة قبل ان يصل للسكرتيرة والتي كانت تحاول النهوض عن الأرض بضعف ، ليجثو بعدها على ركبتيه امامها وهو يستمع لصوت (لينا) من خلفه وهي تقول بحنق بالغ بدون ان تتحرك من مكانها
"يا لكِ من بلهاء حقا ، ألا ترين امامكِ وانتِ تسيرين كالعمياء حتى اوقعتِ اكواب القهوة والتي تكون اغلى من ثمن راتبك الشهري"

ردّ عليها (شادي) بصرامة قاطعة بدون ان يلتفت لها
"لينا توقفي عن الكلام ، رجاءً"

زمت شفتيها بغيظ يكاد يفتك بها وغيرة عمياء تكاد تحرقها حية وهو يعامل تلك العاملة البلهاء بلطف تستحقه هي اكثر منها ، بينما امسك (شادي) بوجهها بيد وهو يرفعه نحوه قائلا بهدوء قلق
"ما بكِ يا وفاء ، هل تعانين من شيء ، هل انتِ مريضة"

اتسعت عينيه السوداء ما ان اصطدمت نظراته بوجهها الشاحب المتعرق على غير العادة وهي تتنفس بلهاث حاد بسخونة تكاد تحرقه ! لتتصلب بعدها ملامحه بقوة وهو يقول بجدية صارمة
"سأصطحبكِ معي للطبيب ، فحالتكِ تبدو متدهورة جدا وعلى الطبيب رؤيتكِ قبل ان تسوء اكثر ويحدث ما لا يحمد عقباه"

ساد صمت بالغرفة بين ثلاثتهم للحظات قبل ان تقطعه الشهقة الانثوية من الجالسة بالخلف وهي تقفز عن سطح المكتب قائلة باستنكار حاد
"تريد الذهاب لاصطحابها معك للطبيب وترك العمل المتراكم ، بدلا من ان تتركها تذهب لوحدها فهي اكيد ليست صغيرة وحالتها ليست بهذا الخطر لتحتاج لعنايتك البالغة وتوصيلك"

وقف (شادي) على قدميه وهو يمسك بذراعيها ليساعدها على النهوض بثبات ، ليقول بعدها بحزم صارم بدون اي جدال
"لن اخاطر بتركها لوحدها بدون اي سند ليساعدها ، وهي ايضا مسؤوليتي انا الاعتناء بها والاهتمام بحالتها فهي من الموظفين والذين يعملون عندي ، وانا لست بهذه القسوة لأتركها تعاني لوحدها بدون مساعدة"

ردت عليه (لينا) فجأة بانفعال ساخر
"ولكنها لن تموت إذا ذهبت لوحدها وليس لك اي علاقة بحالتها هذه....."

قاطعها (شادي) بحزم غاضب وهو يلتقط سترته من على الأريكة ليستدير بعيدا عنها
"كفى يا لينا فقد قررت وانتهى الأمر ، وانتِ يمكنكِ البقاء هنا او المغادرة ، وداعا الآن"

فغرت شفتيها بذهول ما ان رأته وهو يحمل تلك السكرتيرة النحيلة المنهارة بين ذراعيه ببساطة ليسير بها لخارج غرفة المكتب من فوره ، ليترك من خلفه تلك العينين الخضراوين وهما تنظران للفراغ امامها بذهول مشتعل وبوجه محتقن بالدماء يكاد ينفجر بأية لحظة واسنانها تحتك ببعضها بقوة بسمفونية عذاب وكأن روحها قد انتشلت منها للتو واكثر من مرة وبنفس الطريقة وبيد شخص مختلف عن سابقه بكل مرة !

_____________________________
كان جالس فوق مقاعد الانتظار برواق المشفى وهو يسند كفيه فوق ركبتيه ناظرا للأسفل بسكون تام وملامحه غير معبرة عن شيء سوى عن الهدوء والذي حل على حياته فجأة وعلى دواخله منذ وصوله للمشفى مع سكرتيرته المنهارة وهو لم يفهم حتى الآن سبب حالتها الغريبة تلك وما وصلت له ؟ فهو لم يرها بحياته بهذه الحالة الغريبة من الشحوب والذبول منذ عملها معه بشركة التصميم قبل ثلاث سنوات والحق يقال بأنها افضل من عمل معه وهو لم يرى منها سوى المثابرة والدعم والاجتهاد والذي نادرا ما يراه عند احد من الموظفين وبدون اي تذمر او تأخير مهما كان حجم العمل والملقى على عاتقها ، فهل يعقل بأن يكون قد اهمل بصحتها وزاد ضغط العمل عليها بدون ان يقصد حتى انهار جسدها تماما من الجهد الملقى عليه ؟

رفع (شادي) يديه وهو يمسح بهما على وجهه المتعرق بهدوء بدون ان يتبين سبب كل هذا القلق والحرارة المتناقضة عن برودة الجو ببداية الشتاء والتي يشعر بها تلسع جسده بحروق قديمة تركت آثار على روحه لتعود لتعذيبه من جديد وبكل مرة يجلس بها بهذا المكان بانتظار خروج احدهم ليرحمه من عذاب الانتظار والذي جربه من قبل ؟ بدون ان ينظر احد لذكرياته القديمة والتي عادت للحياة بداخله بركن من زوايا المشفى عندما كان ينتظر خروج اي احد مهما يكن ليرحمه من هذا الانتظار العقيم والذي دام لساعات طوال مدمرة لأعصابه المتبقية بانهيار ، ليخرج بالنهاية الخبر الصادم محمل مع الطبيب المختص بالتوليد وهو يلقي بالخبر بهدوء غير آبه بالقلوب المتلهفة والتي ضربها بمقتل وهو يقول بعملية قاتلة معتاد عليها لينحر ارواحهم بدل من ان يحييها
"للأسف لم نستطع إنقاذ والدة الطفل بسبب الحِمل الكبير والذي كان ملقى عليها وأنهى على حياتها ، فهي ليست شابة صغيرة لتتحمل مثل هذه الأعباء والتي هدت مقاومتها للحياة مع امراضها المتزامنة والصعبة على امرأة كبيرة بسنها ، ولكن الخبر الجيد بأن الطفل على قيد الحياة واستطاع النجاة والخروج من رحم والدته سليم معافى"

رفع رأسه فجأة بقوة وهو يعقد حاجبيه بحدة غزت ملامحه بلحظات وكلمات الطبيب تعيد الحقد الدفين للحياة بعد الهدوء والذي غلفه لفترة قصيرة ، ليقف بعدها ببطء عن المقعد وهو يتنفس باستغفار خافت ليرفع راحة كفه المفرودة وهو يضم اصابعها مستغفرا ربه عدة مرات بطريقة تعلمها من والدته ليهدئ من غضبه المستعر والذي كان يجتاحه كثيرا بمراهقته المتهورة .

تنهد بهدوء وهو يخفض قبضته ليحيد بنظراته لباب الغرفة المتواجدة بها المريضة وهو ينظر للطبيب والذي خرج منها بلحظات قبل ان يلمح ابتسامته والتي اتسعت تدريجيا بغرابة ، تنحنح بعدها الطبيب وهو يعدل من حنجرته ليقول عندها باتزان عملي
"لا تقلق زوجتك بأفضل حال يا سيد ، وما حدث كان بسبب الضغط والإنهاك والذي تعرضت له بالأيام السابقة بفعل الحمل الجديد عليها"

ردّ عليه (شادي) بتجهم عابس
"انا لست زوج...."

قطع (شادي) كلامه وهو يستوعب كلام الطبيب الأخير والذي كان كدوي المدافع برأسه ، ليرفع بعدها حاجبيه بتفكير وهو يهمس بتشنج اصاب ملامحه
"هل قلت بأن المريضة بالداخل حامل"

حرك الطبيب رأسه بتأكيد وهو يقول بثقة عملية غير منتبه للعيون المراقبة له بصدمة لم يفق منها بعد
"نعم حامل وهي الآن بالشهر الأول ، ولكن تحتاج للعناية بنفسها جيدا والانتباه اكثر لصحتها ، فهي تبدو هزيلة للغاية ولا تهتم بصحتها كما ينبغي ، وهذا ضار كثيرا ليس لها فقط بل للطفل والذي ما يزال يتكوّن بداخلها"

كان (شادي) يحرك رأسه بتشوش والكلمات تدخل برأسه بصعوبة لتزيد من ضياعه وتخبطه اكثر فما يعرفه عنها هو بأن سكرتيرته (وفاء) غير متزوجة ولا تملك عائلة ! ألا إذا كانت متزوجة بالسر وتخفي عن العالم امر زواجها ؟

افاق من افكاره وهو يسمع صوت الطبيب وهو يعود للكلام باتزان مبتسم
"يمكنك الآن الدخول لها والاطمئنان عليها ، فقد اصبحت الآن بأحسن حال ويمكنها مغادرة المشفى بالوقت الذي تريده"

اومأ برأسه بلا مبالاة وهو يتجاوزه بسرعة باتجاه غرفتها ، وما ان دخل لها حتى وصل له صوت البكاء المكتوم من المدثرة تحت غطاء المشفى وهي تنام على جانبها ، ليتقدم بعدها باتجاهها عدة خطوات بحذر ، وما هي ألا لحظات حتى انتفض الجسد المدثر باللحظة التالية وهي تجلس فوق السرير بهلع ناظرة له بعيون متسعة دامعة برعب .

وقف بمكانه للحظات وهو يتنفس بكبت ليقول عندها بابتسامة حاول جعلها طبيعية
"كيف تشعرين الآن يا وفاء"

شهقت ببكاء منتحب وهي تخفض وجهها لتدفنه بين كفيها بانتفاض مرتجف ، ابتلع (شادي) ريقه بتصلب وهو يرفع يده ليمسح على مؤخرة عنقه بتفكير قاتم من الورطة والتي وقعت على رأسه بوقت لا ينقصه سوى هذه المشاكل لتزيد حياته صخب اكثر مما هي عليه !

رفع رأسه وهو على وشك الكلام بهدوء استطاع جلبه قبل ان تقاطعه من رفعت وجهها نحوه بشحوب وهي تهمس ببحة بكاء متوسلة
"ارجوك يا سيد شادي ، لا تفصلني من العمل بسبب هذا الخبر ، فهذا العمل هو الوحيد والذي استطيع العيش عليه بهذه الحياة وهو يوفر لي لقمة العيش....."

قاطعها (شادي) وهو يرفع كفيه بروية قائلا بتمهل
"اهدئي يا وفاء ، فأنا لم اقل شيئاً بعد ، والأهم من هذا ان تخبريني هل انتِ متزوجة"

اخفضت رأسها للأسفل بذبول وهي تنتحب بانهيار صامت ، لتهمس بعدها بلحظات بخفوت بالكاد استطاع التقاطه بأذنيه
"لا لست متزوجة"

صمتت بعدها بدون ان تضيف اي كلمة أخرى وشهقاتها عادت للخروج من شفتيها بارتجاف احتل جسدها بأكمله ، بينما كان (شادي) ينظر لها بتركيز حاد وهو ينتظر تكملة كلامها وعندما يأس منها همس عندها بنفاذ صبر
"وكيف حدث هذا"

توقفت الشهقات للحظات وهي تحاول كتمها بداخلها لتتحول لانتفاضات عنيفة بكل إنحاء جسدها ، قالت بعدها بلحظات بارتجاف شاحب بدون اي حياة
"الحقيقة لقد تزوجت زواج عرفي من شخص كان صديق لي ببداية معرفتي به ووعدني ان يحقق لي الكثير من الأحلام ، واخبرني بأننا سنتزوج زواج عرفي بالبداية وبعدها سنتزوج رسميا ما ان يوفر المال الكافي لذلك ، وانا قد صدقته بكل كلامه لأنني كنت احتاج لأي احد ليسندني بحياتي الوحيدة فأنا بالنهاية يتيمة وليس لي اي احد او سند ليساعدني بهذه الحياة القاسية ، ولكن الذي حدث بأنه قد سافر بعيدا قبل شهر واختفى نهائيا ولم اعد اسمع عنه اي اخبار وانقطعت كل الاتصالات معه ، ولكن المشكلة ليست هنا بل عندما اكتشفت بأن زواجي منه كان باطل ومزيف وليس له اي وجود من الصحة بل كان مجرد فخ وقعت به بسذاجة"

تنفست بتقطع وهي تغطي شفتيها بكفها بدموع عادت لتسقي وجنتيها ، بينما كان (شادي) يحرك رأسه بغموض قاتم وهو يفكر بأن هذا ما يحدث عندما تكون هناك فتاة وحيدة ليس لها اي سند بهذه الحياة القاسية والتي لن ترحمها ابدا لتكون فريسة سهلة لكل الطامعين بها ، وكم ذكره حال هذه الفتاة بظروف بنات عمته بدون اي سند بحياتهما اليتيمة وبدون اي احد بجانبهما ليقف معهما بوقت الحاجة وبوقت الشدائد الصعبة ولم يتبقى لهما حينها سوى زوج والدتهما المجرم ، والآن فقط شعر بالراحة بقرار (احمد) من الزواج من ابنة عمته الكبرى ليهتم بهما ويبقى بقربهما دائما فوجود الرجل بحياة الفتاة مهم جدا ليحميها من قذارة العالم ودنائته والتي تحتاج لوجود رجل بها .

تنحنح بهدوء وهو ينظر للرأس والذي ارتفع نحوه بشحوب بالغ ، ليقول عندها بجدية صارمة بعد ان عقد امره
"اسمعي انتِ ستعودين للمنزل الآن وستتوقفين عن العمل من اجل ألا تنهار صحتكِ مرة أخرى ويتأذى الجنين ، وسأبحث لكِ عن عمل بسيط لن يتطلب منكِ اي مجهود او تعب ، وسأطلب لكِ معونة شهرية لليتامى من الخدمات الاجتماعية والتي نتبرع لها يوميا"

ارتجفت شفتيها بأنفاس ذاهلة وهي تهمس بوجل منتفض
"ولكن من سيحل مكاني بالعمل ويساعدك بالأعمال المتراكمة...."

ردّ عليها (شادي) وهو يستدير بعيدا عنها ببرود قائلا بأمر
"لا تفكري بهذا الخصوص فأنا سأتدبر امري جيدا ، بل فكري بنفسكِ وبالطفل الذي تحملينه ، وايضا حاولي الاهتمام بصحتكِ اكثر لكي لا ينهار جسدكِ الهزيل ومن اجل الطفل والذي يحتاج للغذاء بشدة بهذه الفترة بالذات"

كان يستمع لأنفاسها والتي هدأت قليلا عن السابق مع شهقاتها الصغيرة والتي ما تزال تخرج منها بانتحاب صامت ، ليتنفس عندها بهدوء وهو يعود لبرود ملامحه والذي يستعين به بالمواقف المماثلة ليخفي بها دواخله عن العالم بأسره .

اكمل سيره لخارج الغرفة قبل ان يوقفه صوت الباكية من خلفه وهي تهمس بخفوت حزين
"شكرا لك سيد شادي ، لن انسى لك جميلك وما فعلته من اجلي ما حييت"

رفع ذراعه وهو يلوح لها بيده بحركة باردة بدون ان يستدير لها قبل ان يخفض ذراعه وهو يكمل طريقه لخارج الغرفة ولخارج المشفى بأكمله والذي سبب له انقباضات حادة بصدره وتعب عوضت عن كل سنوات حياته الباردة بدون ان يبذل اي مجهود حقيقي بها .

نهاية الفصل وبإنتظار آرائكم بفارغ الصبر.............


روز علي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس