عرض مشاركة واحدة
قديم 02-09-21, 01:35 AM   #63

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثامن والعشرون.

وقفت سهام في الشرفة تراقب خطى والدها المتسارعة بعد نزوله من سيارة الأجرة، فأسرعت لتدخل غرفتها موصدة الباب خلفها وقلبها يدق مترقبا... كيف كان لقاؤه مع محسن يا ترى وما الذي تحدثا به!
بعد قليل سمعته في الرواق يكلم أمها وهي تسأله إن كان يريد تناول الطعام.
بعد أن أنهى اغتساله ودخل المطبخ أطلت بحذر من الباب ثم خرجت على رؤوس أصابعها، سمعت والدتها تسأله: كيف كان لقاءك بذلك السيد؟
رد عليها بغموض: رجل ذو طموح...
استغربت رده: هل يمكنني أن أعرف ما كان طموحه؟
أخذ الملعقة وقضم من قطعة الرغيف التي بيده ثم تناول شيئا من الحساء أمامه وأمها على حالها يقتلها الفضول. أما هي والتي كانت خارجا ترهف السمع فقد أوّلت كلامه و شعرت بانقباض شديد وضيق في صدرها وراحت تماري أفكارها في انتظار الفرج.
سمعته يقول بهمس: طلب مني يد ابنتك...
توسعت عيون سامية لكن دهشتها لم تكن كبيرة فقد توقعت الأمر بعد أن شاهدت باقة الورد هذا الصباح... كل همها كان معرفة رد زوجها الذي لم يبد عليه أنه يرحب بالفكرة. انتقت كلماتها قبل أن تقول: وما رأيك بالموضوع؟
حملق فيها بطريقة لم تعجبها: عمره ضعف عمرها... والفارق بينهما كبير... هي في العشرينات وهو في الخمسينات... شتان بين الجيلين...
مما شاهدته هذا الصباح بدى لها أن ابنتها ترحب بالفكرة فقالت له لتستميله: لقد تزوجت فادي وهما من نفس الجيل ولم يأتها منه إلا وجع الرأس... لربما كان هذا الرجل يخبئ لها أياما أحلى من التي مضت...
أجابها باقتضاب: لا حاجة لها به.
شعرت بالوهن في أطرافها وهي تتكئ بظهرها على الجدار، كانت لتتدخل وتخبره أن القرار يرجع لها لكن لا طاقة لها بذلك فآثرت التزام الصمت والسكون. وما لبثت أن سمعت والدتها تقول له: وما كان ردك؟
رد عليها: طلبت منه مهلة للتفكير من باب اللباقة ليس إلا.. حتى لا أظهر جفاءً وفضاضة من ناحيته... لكن طلبه مردود وسأخبره بذلك.
مشت باتجاه غرفتها بخطوات سريعة فلمحتها أمها وعرفت أنها سمعت الحديث.
عندما ولجت للداخل وجدت أنس يقفز فوق السرير وتحت أقدامه هاتفها وهو يرن. حملته لتجيب وكان رقما لم تعرفه.
وضعت الهاتف على أذنها: مرحبا، من معي؟
جاءها صوته: كيف حالك يا سهام؟
أطرقت لبرهة متلعثمة ثم همست باسمه: سيد محسن!
رد عليها: اردت الاطمئنان عليك...
ابتسمت بمرارة وجلست على سريرها ويدها يثبت أنس حتى يكف عن ازعاجها: أنا بخير... وأنت كيف حالك؟
رد قائلا: لا ينقصني سوى وجودك... المنزل معتم بدونك...
لم تتفوه بحرف بعد أن طرقت كلماته أذنيها فأردف: تحدثت إلى والدك وبدى لي أنه يرفض هذا الزواج.
أجابته باقتضاب: أعلم...
زفر بتعب ثم قال: أريد أن أعرف رأيك بالموضوع... يهمني أن أسمع جوابك أنت... إن لم تكن لديك رغبة في الزواج فلابأس... أنا سأتفهم الموضوع ولن أضغط عليك... لا داعي للشعور بالحرج أو الامتنان... يمكنك اخباري الآن.
انتظر جوابها لبعض الوقت فيما آثرت الصمت دون أن تقول شيئا وبعد أن يئس من أن تجيبه عاد ليقول: هل ترغبين في الزواج مني؟
ارتجفت شفاهها للحظات قبل أن تجيبه: أجل...
شعر بالسعادة تدب في عروقه وأراد أن يطير إليها في تلك اللحظة ليحملها إليه وينهي كل عذابه... هذا في أحلامه، أما على أرض الواقع فعليه أن يتجاوز عتبة والدها ليصل إليها.
قال بصوت بدى لها مهزوما: كيف أقنعه؟
منحته أملا بقولها: أنا من ستفعل...
ليس يذكر آخر مرة شعر بمثل هذه السعادة العارمة تجتاحه... كلامها حدا به إلى الشعور بتشبثها به واقتناعها بهذا الزواج.. وأعطاه أملا في غد مزهر ومثمر مع فتاة ليس يدري كيف علقته بها!.. وجعلته يعتزل الغرام ليكتفي من كل النساء إلا هي... ويعلن لها الحب والوفاء الأبديين... فهل سينال يا ترى ما يطمح إليه أم أن القدر سيحول دون ذلك!
•••••••
جلست ريماس في الحديقة بعد العصر تتأمل ورودها متفتحة مع نسائم الربيع. كانت سعيدة لأن ابنتها لم تدخل في أزمة اكتئاب بسبب ما فعله والدها بها، وعلى العكس إنها اليوم فرحة باسمة وقد أبدت اهتماما بالخادمة وأوصتها بها... هذا الذي لم تتعود عليه يوما! فقد كانت حيادية لا تقحم نفسها في حياة الآخرين.
ينتابها شعور ملح يخبرها أن مروى منجذبة بطريقة أو بأخرى إلى لؤي... هذا الأمر الذي لن يروق لوالدها أبدا لو عرف به. والله وحده يعلم ما قد يفعله إن تأكد له ذلك.
أحست بذراعين تطوقانها ولم تخطئ صاحبتهما من عبير عطرها.
- لماذا تجلسين وحيدة أمي؟
ابتسمت بحب: لأن ابنتي الحبيبة لديها ما يشغلها.
جلست مروى بقربها باسمة وهي تقول: ها قد جئت لأجلس معك... ماذا تفعلين؟
رفعت يديها بملل: لا شيء...
تفحصت الطريق المؤدي إلى باب الفيلا للحظات ثم سألت والدتها: ألم يرجع أبي؟
كادت أن تضحك وهي تجيب مستغربة: منذ متى كنت تهتمين لموعد عودته!
جحظت بعيونها فجأة ثم بررت لوالدتها قائلة: لقد تأخر على غير عادته!
ناظرتها بغموض لوهلة، وقبل أن تقول أي كلمة كانت سيارة بشير تعبر البوابة رفقة الحراسة الخاصة به. تلهفت فجأة للقيا من تنتظره فضحكت أمها من جديد، عندها رمقتها بنظرات متسائلة فاكتفت الأخرى بالقول: جاء حبيب قلبك... ها قد وصل والدك أخيرا...
فهمت أنها تلعب على الكلمات ولم تشأ أن تناقشها في هذا الموضوع حتى لا تحملها على الخوض في أمورها الخاصة واكتفت بالعبث قائلة: ألن تستقبلي زوجك؟
قامت والدتها تسحب ثوبها القصير فوق ركبتيها وهي ترفع أحد حواجبها بنباهة وترمقها بنظرات يملأها الغموض: ذاهبة أكيد...
حركاتها تلك أنبأتها أنها لا تنام في العسل وربما أحست بما يدور بينها وبين لؤي. زفرت باستياء ثم قامت على مهل تتعمد التأخر عن أمها حتى لا تلحظ إلى أين هي ذاهبة.

كان لؤي في غرفة المراقبة يتفحص عبر الشاشات الكاميرات المثبتة حديثا فقد ضاعف من عددها ونشرها في كل الأرجاء خصوصا في الشارع الخارجي وعند البوابة وأرسل قبل قليل من يثبتها أثناء غيابه. يعرف أن بشير يلعب بالنار وتلك التهديدات ليست مجرد كلمات بلا طائل... من يلعب مع المافيا عليه أن يكون أهلا لما ورط نفسه به وإلا فإنه كان يجدر به أن يحفظ طموحاته صغيرة في مهدها... إن كانوا يريدون رأس ذلك السادي فلله ما أعطى وله ما أخذ، سيسدون بذلك معروفا لسائر البشرية... ولكنهم قد يؤذون كل أسرته وبوحشية وهذا ما لن يسمح به.
عندما تأكد من تثبيتها بالأماكن التي أشار إليها ومن اشتغالها على الوجه المطلوب خرج إلى المستودع ليحضر مسدسه من السيارة فسحبه من الدرج وأفرغه من الذخيرة بحركة سريعة ثم ثبته بحزامه ووضع الذخيرة بجيوبه وما إن التفت خلفه حتى فاجأته مروى: تأخرت.
وقفزت إليه مطوقة رقبته بذراعيها فاحتضنها بقوة: اشتقت إليك.
ابتعدت عنه قليلا وتأكدت من خلو المكان حولهما: لم يرنا أحد صحيح؟
أشار بإبهامه والوسطى لكاميرا المراقبة في حركة تشبه المقص في إشارة لفريد العون المكلف بمراقبة الكاميرات حتى يمسح تلك اللقطة والذي كان في تلك اللحظة ينظر إليهما رافعا أحد حواجبه في تعجب وهو يهمس لنفسه: يا لحظك!... دعت لك أمك بالخير هذا الصباح!
وما لبث أن حرك أصابعه على لوحة التحكم حتى يمسح المقطع.

حدقت مروى في الكاميرا بهلع ثم بلؤي ووضعت كفها على شفاهها: لقد انكشفنا! أبي سيقتلنا!
أجابها بهدوء: لا تخافي... لحسن الحظ فريد من يجلس بغرفة المراقبة.
بتوجس قالت: أتثق به...
أجابها: أجل... لست غبيا لأجعل عدوا لي يراقبني...
سارت إلى جانبه عاقدة ساعديها أمامها بينما كان هو يقول لها: عليك أن تنتبهي أكثر. أصبحت الكاميرات في كل مكان...
تفاجأت مما قال: لماذا؟ هل نحن في خطر؟
لم يكن ليحملها على الشعور بالخوف فقال مطمئنا: لا... ليس هناك أي خطر اطمئني...
عندما وصلا إلى باب المستودع خارجا قالت متذمرة: ألن نحظى بلحظة دون تطفل في هذا البيت!
ضحك لوهلة ثم تأملها بحب هامسا: ليتنا نستطيع العيش بعيدا عن هنا... عن كل هذه المشاكل، أنا وأنت وحسب...
تأثرت لكلماته وتمنت في تلك اللحظة أن يصبح الحلم حقيقة... وأخفضت صوتها تقول: لنهرب بعيدا... أنا وأنت...
تأمل عيونها التي تومض أملا كالزمرد للحظات ولكم تاقت نفسه لأن يفعل ما تقول... عاش الحلم للحظة ثم عاد للواقع: الهرب لم يكن يوما حلا... ليس بعد أن لم يبق بيني وبين تحرير أولئك المساكين سوى غمضة عين...
توسعت عيونها متفاجئة: متى؟
رفع رأسه متأملا الحديقة المقابلة ثم عاد ليهمس: لا الوقت ولا المكان مناسبين... وقد أطلتِ الوقوف معي...
انتبهت للأمر فابتعدت عنه قليلا استعدادا للرحيل: اتصل بي...
ابتسم دلالة على الموافقة فتركته وغادرت باتجاه المنزل لتجلس بعضا من الوقت إلى والدها لألا تشك بها أمها.
••••••••

جلس مصطفى يشاهد الأخبار الرياضية وعلى وجهه علامة خيبة، وما لبث أن دخلت زوجته سامية وفي يدها ايناء بازلاء جلست بقربه وراحت تزيل قشره وتحتفظ بالحبيبات. سألته بفضول: ما بك يا مصطفى؟ لماذا أنت مهموم؟
بحنق واضح أجابها: بهذا الأداء لن يتأهل المنتخب الوطني إلى المونديال...
كان هو شديد التعلق بكرة القدم فيما لم تكن هي تفقه شيئا لا في الأندية ولا في الفرق ولا في أي شيء من أمور الكرة. قالت بتعجب: لابأس عليك... ليسوا في حاجة للكؤوس، ألم ينالوا كأس الجمهورية قبل أيام... وكذلك فازوا بالبطولة!
كانت تخلط بين الفرق المحلية والمنتخب الوطني، حدق فيها من زاوية عينه بضيق ولم يشأ أن يدخل معها في جدال عقيم فالتزم الصمت حتى لا ترفع ضغطه، لكنها تابعت تقول: وحتى لاعبينا يبدون وجها مشرفا في الفرق الأوروبية... إنهم ماهرون وينالون مع أنديتهم الكؤوس أيضا!.. لا حاجة لنا بالكؤوس ولدينا منها الكثير...
قالتها بشبع ولا مبالاة... وكانت تلك أخبار جمعتها من هنا وهناك عندما تجلس لمتابعة التلفاز معه. هدر فيها بحنق: أخبريني أين تضعين تلك الكؤوس التي تفاخرين بها! في خزانة المطبخ!... أم في خزانة ثيابي!.. اغربي عن وجهي قبل أن أقلب تلك البازلاء في وجهك.
قامت من جلوسها تناظره بسخط ثم قالت: لست أفهم لماذا ترفع ضغطك من أجل جلد منفوخ ينط هنا وهناك!
صاح بها: أنت من يرفع ضغطي!
أجفلت من صيحته فأخذت البازلاء وتركت غرفة الجلوس متمتمة ومتذمرة وعيونه تلاحقها بنظرة عابسة وعقله يسترجع كلماتها التي لا وزن لها ولا معنى ويهمس مستغفرا ليخفف من غضبه، ثم تمتم بيأس: وكأنه ليس في رأسها عقل ولا في وجهها عينان!
وقال مقلدا لها بصوت ساخر: نالوا كأس الجمهورية وفازوا بالبطولة!
وعلق بغيظ: وأمك من ركلت ضربات الجزاء!

دخلت سهام تجر أقدامها على استحياء وكأنها تحمل إليه شيئا لا تريد أن تصرح به. اقتربت من الأريكة المجاورة له وجلست باعتدال ثم تأملت انشغاله بمتابعة التلفاز لبرهة وقالت: ماذا قالت أمي؟
لم تحد عيونه بعيدا عن الشاشة وهو يرد بسخط واضح: ربما تناولت بعض الحشيش مع سلطة الغداء...
أطلت عليه بعد أن سمعته وهي عائدة لتأخذ كيس القشور: تراني بقرة لآكل الحشيش! عيب عليك بعد كل هذه العمر!
والتقطت الكيس بقوة من الأرض وغادرت. فالتفت إلى ابنته: أنتحر شنقا أم أضرب نفسي بسكين!
ضحكت للحظة ثم شعرت بالفتور فما كانت تريد أن تتحدث فيه ليس مسليا على الاطلاق.
ساد الصمت التام لفترة إلا من صوت مقدم الأخبار على التلفاز، لتنطق فجأة مترددة: هل التقيت بالسيد محسن يا أبي؟
تجهم وجهه فأحست بأمعائها تُعصر، ثم التفت إليها بانتباه تام: لماذا تسألين؟
وصمت للحظة ثم تابع: أنت متفقة معه على كل شيء وأنا آخر من يعلم!
اغتنمت فرصة سكوته لتقول قبل أن ينهال عليها بسيل من التهم: كل ما في الأمر أنه سألني إن كنت أوافق على الزواج به وأنا وافقت... ولهذا فتح الموضوع معك... هذا كل شيء لا أكثر ولا أقل...
تأملها بعبوس ... إنها فتاة جديدة لا تشبه تلك التي كانت تتورد خجلا كلما فُتِحت سيرة الزواج أمامها!.. لم تعد تلك المرأة التى تسبل أهدابها وتومئ برأسها إذا ما سُئلت عن رأيها بشأن قبول خاطب أو رفضه!
هل تغيرت بعد كل مآسيها، أم أن الزمن وحده من تغير!
قالت بعد صمت: كيف وجدته يا أبي؟
هز كتفيه بلامبالاة: رجل مثل كل الناس... لا تكفي ساعتان لتعرفنا معدن المرء وأصله...
كانت نصف ابتسامة ساخرة فضحت قهرا يعتمل بصدرها: ولا حتى دهرًا يا أبي... عشت مع ذلك النذل أعواما أدور في حيرتي، ولولا أن كشفه الله ما كنت لأعرف حقيقته!
صمت مفحما بعد أن جاءت على ذكر طليقها الحقير، فبعد كل ما حصل بات يحمل نفسه كأب مسؤولية كل انتكاساتها بسبب زوج منحرف دافع عنه وأولاده الثلاث بكل ثقة. قال بحرج: كان غلطة يجب أن نحرص على ألا نكرر مثلها...
ردت عليه بثبات: دعني إذن أتخذ قراري وأتحمل مسؤوليته...
زفر باستياء وتكلم بهدوء يعاكس براكين الغضب التي بدأت تفور بداخله: إنه بعمري أنا والدك... كيف ستعيشين مع رجل يكبرك بكل تلك الأعوام!
أجابته بعد أن لاح طيفه أمام عيونها: لا يظهر عليه الكبر...
ثم صمتت لوهلة وتابعت: لن أقول لك أنه ملاك بلا أخطاء... هو ليس رجلا اجتمعت فيه مكارم أخلاق البشر... لست واثقة من أن حياتي معه ستكون وردية وكل أحلامي ستصبح حقيقة... لكنني أريد أن أجرب...
تلك العقدة بين حاجبيه لم تختفي طوال حديثها إليه... ليس يفهم لماذا تريد أن تلقي بنفسها في هوة مجهولة القرار. سألها بفضول: لماذا هو يا ابنتي؟
لم تجد جوابا واضحا... كررت السؤال بنفسها لنفسها "لماذا هو؟"
رفعت طرفها إليه بعد شرود: لأن قلبي يرتاح له... لأنني أريد العيش معه...
أسكتها فورا: لا داعي لأن تنشديني شعرا...
ما قالته يُعد وقاحة بالنسبة له... في شبابه وبعد زواجه كان يفر من عيون أبيه خجلا منه لشدة احترامه له وهو رجل!
أما ما تقوله ابنته في وجهه بصراحة تامة فمن المفروض أنه حديث نساء يتهامسن به في خلوة... أصبح متأكدا الآن أن بها عصبا أو اثنين قد تلفا بعد كل ما عاشته وهما الآن يرسلان بموجات تشويش إلى عقلها، تنحنح بصوته الخشن واستقام في جلوسه وكأنه يقول أنا والدك فاحترمي نفسك ثم أردف: أنت مشوشة بعد كل ما حصل... اعطي نفسك وقتا للتفكير.
ربما ما يقوله فيه شيء من الصواب، وهي تعي ذلك... لكن شيئا بداخلها يحمسها لاتخاذ خطوة نحو الأمام مع تجاهل العواقب... لم تكن تريد غير حضن دافئ تأوي إليه هربا من الدنيا المجحفة، فمحسن حتى وإن كان سيئا في يوم من الأيام إلا أنها تحس بشيء من الأمان في وجوده وتعرف أنها ستكون سعيدة في قربها منه... لقد وثقت بالوعد الذي قطعه على نفسه أمامها... لم يعد شابا كالسابق وهو أقرب للرزانة والمسؤولية منه لطيش الصبى... ما مضى قد فات وهو مُحاكم ومُحاسب على ما هو قادم... تريد أن تغامر وتراهن بعمرها القادم عليه، وإما أن تنجح أو تفشل.
قالت بعد صمت: أعلم أنك تفكر في مصلحتي يا أبي... ولكنني أطلب منك أن تصغي لرغبتي وتتفهم موقفي... امنحنا موافقتك ومباركتك فنحن بحاجة إليها ودع ما هو آت للزمن فالله وحده من يعلم الغيب.
شرد في معالم وجهها للحظات ونفسه تتصارع بين إقدام وإحجام... لقد عجز حقا عن اتخاذ قراره. لا يريد لابنته إلا كل خير، لكنه يخاف من أن تتأذى بسبب خياراتها الخاطئة في هذه الحياة...
قال بعد طول صمت: دعيني أفكر في الموضوع.
•••••••

وقفت بالشرفة تشاهد سيارة والدها الفخمة وهي تغادر رفقة الحراسة الخاصة. لقد كان لؤي معهم وهذا أكثر ما يوجعها، ظلت تجهز رسالتها النصية لتدعوه فيها إلى الالتقاء من أجل أن يتناقشا في موضوع المساجين وأيضا حتى يتسنى لهما النظر بعيون بعضهما البعض وتبادل الحب إيحاءً وتلميحا... لكم تتوق لأن تقف أمامه عروسا بثوبها الأبيض وكأنها لم تتزوج يوما ولم تعرف قبله رجلا... ضاع العمر من قبله هباءً... وسيضيع حاضرها في دهاليز الانتظار... لابد وأنه مثلها يحلم ببيت وأسرة وأولاد... لكنه يفكر قبل كل شيء في إهدائها الأمان...

عندما انعطف السائق بالسيارة التفت جهة الفيلا الكبيرة وأرسل نظراته باتجاه غرفتها فشاهدها واقفة بالشرفة مستندة على الحاجز بساعديها تنظر باتجاه السيارتين. وكأنه شعر باحتياجها إليه، ورغبتها الجامحة في أن يكون بالقرب منها.. أراد وبشدة لقاءها هذه الليلة بعيدا عن العيون علها تجود عليه بكلمة حب تنسيه سنوات الانتظار الموحشة، هي لم تعترف له بحبها بصريح العبارة... وهو رجل متطلب يبتغي أن يعيش العشق على أصوله... ولكن بين حلمها ورغبته يقبع بشير ليحول دون أن تتحقق الأمنيات.

عندما وصلت السيارتان إلى الفيلا المنشودة ترجل السائق ليفتح الباب لسيده فيما انتشر الحرس بالأرجاء عدا لؤي الذي توجه رأسا إلى بشير حتى وقف أمامه في استعداد: بماذا تأمر سيدي؟
أشار إلى البوابة: تأكد من تأمين الفيلا..
أومأ بانصياع وغادر من أمامه فيما تابع الآخر خطواته السريعة باتجاه المدخل.
استقبله الخدم لإلقاء التحية وما لبث أن تجاوزهم جميعا وأسرع الخطى باتجاه الطابق العلوي الذي كان خاليا تماما من البشر.
استخدم مفاتيحه ليفتح إحدى الأبواب الموصدة بإحكام، ثم ولج إلى الداخل وقام بتشغيل الأنوار التي تلألأت في كل زاوية تفصح عن أناقة ورقي منقطعي النظير.
سار بخطى واثقة وعلى وجهه نظرة متغطرس همجي... شيء من الكبر يخالطه بعض الجبروت... حتى انتهى عند أعتاب امرأة شبه عارية مقيدة المعصمين إلى السرير بإحكام وهي جالسة بالمنتصف لا تستطيع الحراك يمينا أو شمالا، تغطي وجهها عشرات الكدمات حتى أصبح منتفخا يميل إلى الزرقة.
رفعت رأسها إليه باشمئزاز وأرادت حقا أن تبصق على محياه، لكنها تمالكت نفسها فهي لم تعد قادرة على احتمال الركل أكثر...
حملق فيها باحتقار شديد قبل أن ينطق: كيف حال أميرتي المدللة؟
لم تجبه بكلمة بل شدت يديها بقوة تحاول الخلاص وهو يتأمل نزيف معصميها بفعل الحبال الخشنة التي تقيدها ثم أردف: أراك بأحسن أحوالك ما دمت تستطيعين الحراك ياقوتتي المزيفة...
سكب لنفسه كأس نبيذ ثم جلس على كرسي مقابل لسريرها واضعا ساقه الأول أعلى فخذه الثاني و تأمل اللون القرمزي الذي يخالطه السواد حبيس الكأس الزجاجي بيده لوهلة وكأنه يتركه ليستنشق الهواء الذي حرم منه لسنين قبل أن يرتشف منه أولى القطرات على مهل وكأنه يقبل أنثاه بشغف.
استطرد بعد طول صمت: أنت لم تكوني يوما ياقوتة أصلية... وأنا خدعت بزيفك...
أصدر ضحكة ساخرة ليكمل: لطالما كان محسن ماهرا في تقييم المجوهرات... ألم أخبرك أن والده كان صائغا؟... أعتقد أنه ميز معدنك الوضيع قبلي، وعرف كيف يصطادك...
ثم فكر لوهلة وتدارك قوله: أو بالأحرى أنت من اصطاده.
صرخت به بقهر وعيونها تنزف عبرات ذل وعذاب: دعني وشأني أنا أرجوك... لماذا لا تكف عن تذكر الماضي؟... لقد أخذت حقك مني مضاعفا... انتهكت جسدي، أذللت كبريائي، ابتززتني و احتقرتني... ما الذي تريده بعد؟
قالها بجمود وعقدة بين حاجبيه تبوح بسخطه: روحك...
توسعت عيونها هلعا وارتعشت شفاهها للحظات: لماذا لا تفعلها إذا؟
وصرخت بهستيريا كمن لا مفر له من هذا العذاب إلا الموت ليريحه: لماذا لا تقتلني إذا؟!... اقتلني لأرتاح!
مالت شفاهه لترسم نصف ابتسامة: الراحة بعيدة عن عيونك فلا تطمحي إليها...
رشها بما بقي في كأسه من نبيذ ووقف ضاحكا: نسيت أن أخبرك أن صاحبيك في عهدتي...
بلعت ريقها بهلع: نسرين... ومحمود؟!
أجابها بانتصار: هل كنت تشكين في مقدرتي على الوصول إليهما؟
عادت بها الذكريات سريعا إلى ذلك الصباح الذي استيقظت فيه كالعادة وطلبت رقم نسرين لتتفقا على موعد للقاء فاكتشفت أن الرقم مقفل وكذلك كان الأمر بالنسبة لرقم محمود. ساورها القلق إزاء الأمر وخرجت إلى مكتب الاستقبال لتستفسر عن النزيلين فاكتشفت أنهما قد غادرا في وقت مبكر من هذا الصباح...
انتابتها الهواجس والشكوك ولم تدر إن كانا قد اختطفا أم أنهما هربا... لكنها عزمت على ترك المكان بسرعة.
جمعت كل حاجياتها وطلبت سيارة أجرة وقبل أن تترك الغرفة فاجأها رجلين طويلي القامة وضخمي الجثة ومنعاها من الخروج.
تراجعت إلى الخلف بخوف وترقب ولم تكن إلا لحظات حتى أخذا منها الحقيبة وأخرجا كل محتوياتها بحثا عن أي دليل يقودهما إلى صاحبيها، ثم أخذا منها الهاتف وأخرجاها من الفندق تحت تهديد السلاح حتى وضعاها في السيارة وعصبا لها عينيها.
كانت تلك بداية العذاب المرير... فبعد أن أزالوا العصابة عن عينيها لم تعد ترى إلا الكوابيس. كان بشير ينتظر قدومها بنفاذ صبر، ولم يتردد في إيذائها لا جسديا ولا حسيا، فقد كان يتفنن في إنزال العذاب بها لتبوح بما تعرفه بشأن محمود ونسرين... ولأنهما تعمدا أخذها معهما فلابد وأنهما فعلا هذا لأنها تعرف الكثير...
أخبرته تحت التعذيب بكل ما تعرفه وحتى بعد أن أخذ منها كل المعلومات لم يتوقف عن إذلالها. بل وجد كل المتعة في جعلها تدفع ثمن أخطائها بالجملة...
وها هو ذا قد نال ما يريد... يبدو أنه ترك من يراقب منزل أهل نسرين طوال كل هذه الأشهر بصبر حتى رجعا على حين غرة، فقام رجاله باختطافهما من أمام عتبة البيت باحترافية.

وقف لؤي بالقرب من الباب الموصد يحاول استراق السمع لما يدور بين بشير ومن يظنها عشيقته التي يمارس عليها ساديته طوال أشهر. لم يكن يعرف أنها ليست سوى المرأة التي رافقت نسرين ومحمود، لم تسنح له الفرصة لرؤيتها حتى الآن... لكنه كرجل يحب الاحاطة بكل شيء، حاول مرارا أن يعرف من تكون وسبب تواجدها هنا، وقد ظل حذرا يتجنب إثارة شكوك سيده، وكان هذا الأخير يعالج أمور سجينته المميزة شخصيا دون اقحام أحد بالموضوع.
طرق على الباب بخفة ففتح له بشير بعد مماطلة: ماذا هناك؟
جلى بحة صوته وقال باحترام: سيدي... اتصل بي فريد وقال أن شاحنة مغطاة سوداء اللون تجول بالقرب من الفيلا وقد التقطتها مجموعة من الكاميرات وهي تحوم بالقرب من المداخل الأمامية والخلفية.
عقد حاجبيه بتساؤل ثم أشار له: اسبقني إلى هناك لتحرص على سلامة ريماس ومروى، سأتصل بأحد معارفي من ضباط الشرطة ليتأكد من الأمر وألحق بك... لديكم لوحة ترقيمها صحيح؟
أجابه: أجل... لقد دونته على الهاتف.
•••••☆
خلعت ثيابها ودخلت حوض الاستحمام على مهل ثم استرخت تماما في المياه الدافئة وأغمضت عيونها.
كان طيفه يرتسم أمامها باسم الثغر تارة وتارة أخرى يهمس لها "أحبك" تماما مثلما فعل ليلة الأمس عندما أخبرته بأنها تكرهه.
سعيدة جدا لأن ريم ليست منافسة لها على قلبه رغم أنها لمست في نظراتها إليه شيئا من الاعجاب والتعلق... ما يهمها الآن أن لؤي يحبها هي لا غير...
سمعت صوت طلقات نارية بعيدة... لم تعر الامر أي اهتمام فقد تكون صادرة من التلفاز أم أنها أمسية احتفالية بأحد البيوت في المنطقة. لطالما كان الحي الذي يسكنونه هادئا مستقرا فلا يقطنه غير من هم في نفس مكانتهم الاجتماعية.
تكررت الطلقات بضع مرات وأحست بالصوت أقرب، فشعرت بخوف شديد وقفزت من مغطسها لتلتف في كساء حمام أبيض قصير وخرجت باتجاه غرفتها محاولة معرفة ما يحصل من خلال النافذة فسمعت أمها بالرواق تسأل الخادمة: ما الذي يحصل يا خديجة؟
قالت الخادمة بهلع: لا أعرف سيدتي.. أعتقد أنه صوت إطلاق نار.
خرجت مروى من غرفتها مذعورة: إطلاق نار!!!
وتمسكت بكسائها أكثر بخوف: ألم يعد لؤي؟
أجابتها الخادمة: ليس بعد...
شعرت برعب يتملكها حتى شارفت على البكاء فأخذتها أمها في حضنها مهدئة: لا تخافي حبيبتي... ليس الأمر كما تعتقدين... لن يحصل أي مكروه.
انطلقت بضع طلقات قوية بالقرب من البوابة معها صوت عجلات سيارة تنعطف بقوة دون أن تتوقف فأسرعت بلا شعور إلى الشرفة وأطلت بحذر فشاهدت إحدى سيارات والدها تدخل الحديقة حتى توقفت قرب النافورة ونزل منها لؤي وهو يتكلم عبر هاتفه وفهمت منه أنه يخبر محدثه عن الطريق الذي سلكته الشاحنة التي فرت من أمام البيت بعد أن تسببت في بعض المناوشات وأصابت اثنين من رجاله الذين تركهم في الحراسة.
أسرع خطاه باتجاه الفيلا ليتأكد من سلامة حبيبته وأمها.. وكان متأكدا من أنهما تشعران بوجل شديد.
عندما دخل القاعة ثبت مسدسه بحزامه وصعد الدرج بخطى سريعة حتى أصبح بالرواق وهناك كانت مروى تدفن رأسها في حضن أمها مثل النعامة... أهاته هي من يطمح أن تساعده في تحرير الأسرى؟ سحقا لثقته الزائدة في شجاعتها!
عندما وصل انصرفت الخادمة فسألهما: أنتما بخير؟
منعت مروى نفسها بالقوة حتى لا ترتمي في حضنه. بينما سألته ريماس بقلق: ما الذي يحصل يا لؤي؟
أجابها وعيونه على صاحبة الشعر المبلل: لا تقلقا... إنها محض مناوشات من بعض الحاسدين ليس إلا...
عادت لتسأله بخيبة: بماذا ورطنا بشير هذه المرة؟.. كن صادقا...
قال باقتضاب: إنهم حاسدون كما قلت لك... يمكنك الاسترخاء من جديد... لن يحصل أي مكروه.
لم تحد عيونه عن حبيبته الباكية فشعرت ريماس أنه عليها أن تخلي لهما الساحة لبعض الوقت فانصرفت من هناك. وفور دخولها غرفتها سحب لؤي مروى إليه وضمها بقوة فبادلته عناقه وهي تهمس بخوف: ماذا لو عادوا من جديد؟ قد يؤذونك يا لؤي!
أبعدها عنه للحظة وتأمل عيونها الوجلة بإشفاق: هل تخافين علي؟
انحنت شفاهها ترتعش بألم قبل أن تقول: سأموت إن تأذيت...
لم تصدق أذناه ما تسمعه فأمسك بوجهها بين كفيه يتأمل احدى العبرات وهي تنزلق من خدها نزولا وقلبه يخفق بقوة: لا تتحدثي عن الموت... أرجوك.
خبأت وجهها في صدره العريض وراحت في البكاء. ليست تدري لماذا شعرت برغبة ملحة في ذرف الدموع! أهو خوفها من فقدانه؟ أم أن الدنيا قد أثقلت عليها الهموم حتى أضحت تبصر السعادة وتخشى لمسها...
أدخلها غرفتها ووقف قرب الباب مشيرا إلى ما ترتديه: بدلي ثيابك وارتاحي يا عمري... سأكون بالجوار... يجب أن أتأكد من سلامة رجالي.
توسعت عيونها بدهشة: هل تأذى أحد؟
أراد التملص منها بأي طريقة دون أن يرعبها فطبع قبلة صغيرة على خدها وغادر معتذرا يتحجج بانشغاله.

وهو ينزل الدرج كان بشير في القاعة وقد وصل من بعده مباشرة فسأله: ما الذي حصل؟
أجابه وهو يقترب: إنها محض مناوشات... لم يبد لي أنهم كانوا يريدون اقتحام المنزل، وإلا كانوا فعلوا ذلك بكل بساطة ووقعت الكارثة. إنها رسالة تهديد أخرى... وأخشى أن تكون الأخيرة.
عبس بشير للحظة دون أن ينطق فأردف لؤي وقد أصبح قبالته: السيدتان في خطر الآن... يجب أن تعرفا هذا بطريقة أو بأخرى...
سأله بجمود: لم تفتح فمك صحيح؟
حرك رأسه نفيا دون كلام فظل بشير على عبوسه وهو يفكر في حل للورطة التي هو فيها. لقد وقع في مأزق... وكأنه فريسة وقعت في فخ محكم الصنع وهي تتخبط بلا خلاص... يشعر الآن بشيء من اليأس الذي كان يحيط به أعداءه... يشعر أن ثمة عيون تراقبه وأن هناك من يستطيع التسبب في أذيته بين عشية وضحاها... يحاول البحث عن منفذ للخلاص ويكتشف انسداد كل الدروب... كطعم العلقم ذلك الخوف الذي يحيط به ليعصره توجسا وترقبا...
(كم من طغاة على مدار التاريخ ظنوا في أنفسهم مقدرة على مجاراة الكون في سننه أو مصارعته في ثوابته... فصنعوا بذلك أفخاخهم بأفعالهم...وكانت نهايتهم الحتمية هي الدليل الكافي على بلاهتهم وسوء صنيعهم)
أحمد جمال الهادي
••••••
كانت ياقوتة في غرفتها المعتمة تصارع أشباحا تمسح المكان وسط الظلمة ذهابا وإيابا... صرخت بقوة تطلب الخلاص كما اعتادت أن تفعل ولم تكن تسمع سوى صوتها تعكسه جدران تلك الغرفة الملتفة في سواد مخيف.
تقاطرت دموعها بغزارة وهي تردد بجنون: أنقذني يا الله... أتوسل إليك يا ربي... سامحني على مجوني وإسرافي... سامحني على فجوري وطريق الغواية الذي سرت به لسنوات... أتوسل إليك يا ربي أنقذني من هذا الحقير المختل ولن أذنب من جديد... أقسم لن أعود لطريق الغواية... خلصني منه يا الله...
وتعالت شهقاتها اليائسة تملأ صمت المكان الدامس ومعصميها الجريحان يقطران دما من شدة محاولاتها المستميتة لتخليص نفسها.
فجأة ومن دون مقدمات شعرت بأحد الحبلين يتراخى... سحبته بقوة أكبر ومن شدة تألمها لم تعد تحس بأن لها يدين.
استطاعت بعد بضع محاولات أن تسحب يدها إليها ومعه الحبل وقد تقطع أو انفلتت عقدته من مربطه.
لم تستطع أن تتأمل يدها من ظلمة المكان. وكانت تخشى أن تبصر النور فتجد أنها تتوهم ليس إلا...
كانت تطبق أصابعها وتفردها بتشنج شديد... أنهكها الألم ووخز تشعر به كالإبر في أطرافها. استخدمت بسرعة يدها المحررة وفكت قيدها الثاني ثم حاولت الهرب من فوق السرير فسقطت أرضا لأن ساقيها أوهن من أن تتحملا وزنها.
ورغم الألم وخذلان جسدها لها إلا أنها كانت تشعر بسعادة كبرى وهي تجد نفسها حرة لأول مرة... فحتى عندما كان يسمح لها بشير بدخول الحمام لم يكن يفك قيدها بل يحكم توثيق معصميها خلف ظهرها... وربما كان يتأخر أحيانا في المجيء أو يغيب تماما فتضطر لقضاء حاجتها على نفس السرير... لكم كرهت الشعور بأنها تشبه الحيوانات من قريب أو من بعيد...
وكان إذا ما جاء في اليوم التالي سخر منها بطريقة حقيرة وسجنها بحمام الغرفة ريثما يقوم الخدم بالتنظيف...
بكت قهرا وهي تتذكر ما كان يلحقه بها من عذاب... لقد استخدم كل الوسائل المتوفرة لإرعابها... حتى أنه في إحدى المرات ألقى بها على الأرض وهدد بسكب "حمض النيتريك" فوقها بهدف تشويه وجهها وكامل جسدها. وكان في كل مرة يميل برأس القارورة من فوقها فتصرخ برعب وتنكمش وتترجاه ليشفق عليها ويرحمها... حتى أنها قبلت حذاءه متوسلة.
كان المشهد مثيرا جدا لسادي مثله ما فتح شهيته ليمارس اغتصابه... وانتهى الأمر بها خاضعة لقواعد الغرام المجنونة لديه يعبث بها وكأنها ليست من البشر!
شهقت بحرقة وهي تسحب شراشف السرير إليها بوهن. حتى استطاعت وسط تلك الظلمة أن تمزق شرائطًا استخدمتها ضمادات لمعصميها.
حاولت الوقوف أكثر من مرة لكنها لم تستطع بسبب آلام ظهرها، فراحت تحبو باتجاه الباب مهتدية إلى الطريق بتحسس ما حولها. وعندما لامست الجدار تمسكت بقطع الأثاث ونجحت في الوقوف فراحت تمسح بيدها هنا وهناك حتى استطاعت تشغيل الاضاءة.
أومض المكان فجأة فأغمضت عيونها بقوة ولم تستطع تحمل الانارة ثم راحت تخفض مستوى الاضاءة حتى أصبح في أدنى مستوياته وكان الأمر أكثر من كافي بالنسبة لها. حاولت الوصول للشرفة والنوافذ لكنها كانت مقفلة بإحكام وليس في استطاعتها اختراقها.
راحت تدور كالمجنونة من مكان لمكان بحثا عن أي شيء قد يساعدها على كسر الباب لكنها خافت من أن تفضح نفسها ويحضر رجال ذلك المقيت ليقيدوها من جديد.
سارت بكل أنحاء الغرفة حتى توقفت أخيرا قرب مرآة زجاجية كبيرة تزين أحد الجدران.
تأملتها بجمود ثم التقطت شراشف السرير الممزقة على الأرض وراحت تلفها حول إحدى أواني الزينة.
رفعتها بيدها عاليا ثم أغمضت عيونها وحطمت بها المرآة. أصدر الصدام وتحطم الزجاج صوتا أقل حدة من المعتاد فشكرت الله في نفسها. وراحت تبحث بين القطع عن الأطول لتلف حولها بعض القماش وتجعل منها سكينا له مقبض.
حملته بين يديها المرتعشتين بعد أن انتهت من صنعه وقربته منها تتأمل شكله ثم همست بنقمة: سأخرج من هنا يا بشير... سأخرج من فوق جثتك... أقسم لك.


بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس