عرض مشاركة واحدة
قديم 13-09-21, 01:16 AM   #77

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثالث والثلاثون
والأخير.


دخلت مروى منزل والدها متعبة ... كان الطريق طويلا جعل معدتها تستفرغ كل شيء دخل جوفها.. ولازالت آثار بكاء اليومين الفائتين واضحا في احمرار مقلتيها وانتفاخ وجهها... حتى أن صوتها تغير وكأنها مصابة بالإنفلونزا.
ألقت بحقيبة يدها على الأريكة وجلست تتذكر تلك المفاجأة السعيدة التي قابلتها هناك... لقاءها بحبيب قلبها منحها عمرا جديدا وحياة أخرى...
أجفلت فجأة من صوت والدها وهو يهدر برجاله في مكتبه: كيف لم تعثروا عليها!... هل هي دخان لتختفي في السماء... أريد تلك الغبية من فوق الأرض أو من تحتها.
خفق قلبها بعنف في صدرها وهي تتوقع أنه حتما يبحث عن أمها! ما الذي سيفعله بها إن عرف أنها قررت هجرانه!
عاد ليقول من جديد بحنق واضح: لا أريد أن أتحدث إلى أي صحيفة ولا إلى أي قناة إخبارية... كل ما عليكم فعله هو تفنيد كل التهم المنسوبة إلي وإحضارها إلى هنا لأشرب من دمها... الساقطة!
أصبح الوضع سيئا... من المؤكد أنها تجرأت على فعل ما يغضبه! تساءلت بينها وبين نفسها: "ما الذي فعلته أمي؟"
وتأكدت من أنه يجب أن تبقي فمها مقفلا حتى لا تجني عليها... لن تخبره أين هي حتى وإن هدد بقطع لسانها...
أخذت حقيبتها وحاولت الصعود إلى غرفتها بسرعة، لكن الباب فُتِح قبل أن تتمكن من الوصول إلى الدرج وشاهدها تسرع الخطى فنادى عليها.
دخلت إلى المكتب بعد انصراف رجاله ووقفت تناظره بعبوس حتى قال: أين هي أمك؟
أجابته بجفاف: أخبرتك أنني لا أعرف.
نهرها بشدة: بلى تعرفين!
قالت بثقة: من المنطقي أن تفكر في الهرب... هذا البيت أصبح لا يطاق أبي!
توسعت عيونه بدهشة ليقطب فجأة ويعنفها بشدة: كيف تقولين مثل هذا الكلام!
هزت كتفيها بلا مبالاة ورددت بخيبة: لأنها الحقيقة... وإن خرجت دون رجوع فهي لن تعطي عنوانها لا لي ولا لغيري... لأنها تعرف أنك ستبحث عنها...
تركت المكتب متوجهة إلى غرفتها في الوقت الذي كان فيه هاتفها يهتز داخل حقيبة يدها.
عندما أقفلت الباب عليها ردت على الرقم الغريب قبل أن يقفل للمرة الثالثة: ألو من معي؟
جاءها صوت والدتها: كيف حالك يا ابنتي؟ هل أنت بخير؟
أجابتها على الفور بصوت خفيض: أمي بحق الله ماذا فعلت؟ والدي غاضب جدا ويحرض رجاله على البحث عنك!
ارتبكت للحظة قبل أن تقول: ألم تسمعي الأخبار!.. فضائحه على وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي... لقد نشرت وساخته... كل وساخته بالصوت والصورة...
شهقت بهلع: أمي!.. أي وساخة تقصدين؟
جاءت إجابتها مختصرة: قلت كل شيء... يمكنك مشاهدة الفيديو بنفسك... لقد أرسلته إلى حسابك.
أقفلت الخط مودعة إياها والدهشة تتملكها! أيعقل أن أمها تجرأت وفضحت كل تلك الأمور المخجلة أمام العالم كله!
أسرعت بالبحث عن الفيديو الذي أخبرتها عنه وجلست على طرف السرير تشاهد صورا متفرقة للفيلا التي يختلي فيها بنفسه بعيدا عن الأعين وصوت أمها وهي تتحدث عن اختلاله النفسي وعشقه لأذية الآخرين كان واضحا لا التباس فيه. حتى أنها فضحت بعض ممارساته الشاذة والعدوانية معها فوضعت كفها على شفاهها وحركت الفيديو نحو الأمام لا تريد أن تعرف التفاصيل وهي تهمس بانفعال: جننت أمي!.. جننت!!!
شاهدت ريم وهي تروي حكاية اغتصابها دون أن تغطي وجهها بل وأصرت على مواجهة المجتمع حتى لا يظن أي كان أن الفيديو ملفق وفي الأخير أكدت أنها قد رفعت دعوى قضائية في المحكمة ضده وأنها ستتابعه حتى تأخذ حقها منه.
كادت مروى تجن وهي تسمع كل كلمة ترويها ريم ودموعها تتقاطر بحرقة مؤلمة... حتى أنها تمنت أن تكون طفلة مجهولة النسب على أن تكون سليلة رجل مثله!... تكاد تقسم أن أمها لن تنجو منه وأنه سيقتلها لا محالة... لقد أخطأت بفتح النار عليه فهو رجل لا يستهان به... وريم مؤكد ستكون نهايتها أبشع من كل ما روته حتى الآن...
عندما انتقل الفيديو يصور تلك الغرفة التي كانت ياقوتة سجينة بها أقفلت الهاتف وجعلت رأسها بين كفيها محاولة استعادة تركيزها... كل ما عرفته حتى الآن لا يساوي شيئا أمام قتله للبشر من أجل تسويق أعضائهم.. إن هذه الفضائح التي نشرتها أمها قد تفسد سمعته أمام الناس في البلد وخارجه لكنها أبدا لن تجعله يدخل السجن فهنا المال فوق الجميع!
أكثر ما يثير قلقها هو ما قد تتعرض له أمها بسبب ما فعلته... من المؤكد أنها لا تعرف مع من تلعب. رفعت الهاتف لأذنها وعاودت طلب آخر رقم ورد هاتفها وبعد بضع ثوان أجابتها: مرحبا ابنتي...
بكل قهر قالت: أمي... لماذا فعلت هذا؟
صمتت أمها للحظة قبل أن تدافع عن نفسها: قد تنتقدينني الآن لأنني أسأت لوالدك... لكنه هو من بدأ بالإساءة وأنا فقط أريد الانتقام لنفسي وللمسكينة التي اغتصبها...
قاطعتها بانفعال: أنا لا أهتم لأمره... لم يعد يهمني وجوده منذ زمن... لكنني أهتم لحياتك... أمي... أصبحت أعرف الآن أن والدي لن يتردد في قتلك!
صمتت أمها مدهوشة من ردة فعل ابنتها التي لم تتوقعها وخمنت أنها أصبحت تكرهه لسبب ما.
أردفت مروى بقهر: ألا تعرفين أنه قاتل!.. يتاجر بأعضاء البشر في السوق السوداء... ألا تعرفين هذا!... ألا تعرفين أن محسن ومحمود رغم كل ما يملكانه من مال وسلطة لم يستطيعا الافتتكاك منه وهما خاضعان لشره!... كيف فكرت أنك تستطيعين هزيمته!.. كيف!. كيف!
أصدرت أمها صوت تأتأة والصدمة لا تراوحها لتنطق: كيف عرفت كل هذا؟
أجابتها بعد زفير: أخبرني لؤي وقد كان يحاول الإطاحة به أيضا ولم يفلح!.. كلهم يا أمي لم يفلحوا فكيف فكرت بسذاجة أن تواجهي من هو مثله!...
سكتت أمها فاعتذرت مروى وأقفلت الخط خوفا من أن يأتي والدها في أي لحظة... ثم تمددت على سريرها وانكمشت على نفسها تبكي بقهر على أمها التي من المؤكد أنها سترثيها بعد أيام...
••••••
عندما انتهى حفل الزفاف وانفض الحضور صعد محسن وعروسه إلى جناحهما حاملا إياها بين ذراعيه حتى دخلا فأنزلها وقال بتهكم: هذا حتى لا تقولي أنك تزوجت رجلا كبيرا بالسن!..
ضحكت لترد القول: أنت أفضل شاب عرفته في حياتي... مزاح، مجون، وجنون!!!
فتح عيونه على اتساعهما: ماذا قلنا عن المجون؟
واصلت الضحك: أعدك لن أفتح الموضوع من جديد...
ثم أردفت: لم أشعر يوما بأنك أكبر مني... كنت دائما طيبا وحنونا... لقد كنت متفهما جدا تحسن الانصات وتجزل منح الاهتمام!
كانت عيناها البراقتان تنظران إليه بكل امتنان متذكرة ما فعله من أجلها في الوقت الذي أدبر فيه عنها الجميع حتى أهلها... أمّا هو فكان يقترب منها متأثرا بكلماتها حتى أصبح قبالتها ووضع كفيه على خصرها: أنت تستحقين الأفضل يا سهام... تستحقين الأفضل...
ابتسمت بحب لتكمل: لطالما اعتبرتك رجلا صالحا رغم كل شيء... راهنت على قلبك..
وأشارت بإبهامها إلى يسار صدره فشعر أن لكزتها تلك قد اخترقت جسده وأحس بها تلامس قلبه، كان عاجزا عن الكلام حقا... لم يخبره أحد قبل الآن أنه رجل طيب، الجميع بما فيهم ابنه كانوا يلمحون له بأنه رجل غير صالح...
تذكره لابنه جعل قلبه يعتصر... ليس وقت اليأس الآن. حاول التماسك فسمع ضحكة سهام وهي تقول: هذا إن تجاهلنا تحرشك بي في الدرج تلك المرة...
ورفعت إصبعها عن صدره لتضعه قبالة وجهه بوعيد وحاجبها مرفوع. ابتسم باحراج محاولا الدفاع عن نفسه: لا... أنت أسأت فهم الأمور... كان حادثا...
أشرت له نفيا: كان حادثا ها!
جعلها تخفض إصبعها ذاك قائلا: دعي اصبعك ذاك يرتاح قليلا فليس هذا وقت نشر الغسيل!!!
غلبها الضحك وهو يحاول السيطرة على الوضع من جديد حتى يعود لمناخ الرومانسية والمشاعر الجياشة.
فعانقها بحب وهو يقول: أتمنى أن أراك تضحكين على الدوام...
أغمضت عيونها باطمئنان وهي تشعر بارتياح عجيب بين ذراعيه، ثم سحبت هواءً مشبعا بعطره اجتاح رئتيها كالإعصار ليفسد توازن دقات قلبها: أنا أحبك يا محسن... أحبك كثيرا...
تلك الكلمات جعلته يسألها ببلاهة: ماذا قلت؟
ابتعدت عنه قليلا لتنظر في وجهه بإمعان وهي مشدودة إليه بكل حواسها: قلت أنني أحبك...
ليست تدري أنها ببراءة كانت تلهب مشاعره... لقد لعبت على وتره الحساس، تخبره بكل صدق عن تعلقها به بأجمل كلمة خرجت من بين شفتيها حتى الآن!
آآآآه كم انتظر بصبر أن يسمعها تنطقها... وها هي اليوم تهديه اياها ليلة زفافهما وبكل احساس ورقة.
قبلته لها كانت أجمل من كل الكلمات... أبلغ من كل العبارات... مزيج من رقة الأحاسيس وجنون الشغف... شيء من العشق والتعلق والتملك...
لم تعش يوما مثل هذا الشعور، كيف جعلها هذا الرجل تتقد حبا بقبلة واحدة! وكيف استطاع أن يحرك كل مشاعرها في لحظة واحدة!..
رن هاتفه فجأة وأفسد اللحظة الجميلة فسحبه محسن من جيبه متمتما وأقفل الخط. قالت بارتباك وحرج: لماذا لا ترد؟
أجابها: لا داعي لهذا... ثم إن الرقم غير معروف.
لقد شك في أنه بشير يتصل ليفسد ليلته بخبر سيء عن ابنه...
اهتز الهاتف هذه المرة بيده قبل أن يتركه جانبا فعادت لتقول: تحدث مع المتصل... يبدو أنه أمر مهم.
رفع الهاتف لأذنه وأجاب بحنق واضح: من معي؟
جاءه صوته المميز وهو يقول: أبي...
خفق قلبه بقوة وارتعشت شفاهه قبل أن يقول: محمود!
أجابه: إنه أنا يا أبي...
كلمة أبي التي رددها على مسامعه مرتين أحيت بداخله كل عواطف الأبوة المختزنة... فجرت كل مشاعره ليصيح بفرح: أنت حي يا محمود!
أجابه الآخر: أنا بخير ونسرين كذلك... نحتاج لمن يقلنا فنحن بعيدان جدا ورجال بشير يبحثون عنا...
قال على الفور بانفعال شديد: من أين تتصل؟.. أخبرني فقط أين أنت!
عندما أخبره عن مكانه وحددا مكانا للالتقاء أقفل الخط وهو مرتبك بين فرحة وحماسة... بين خوف وترقب..
سألته سهام بفضول وقد تهللت أساريرها لفرحه: هل هما أحياء؟
قال بسعادة: أجل... يجب أن أسرع لإحضارهما إلى هنا... الطريق طويلة... سنقلع الآن...
سألته بفضول: ستذهب بنفسك؟
أراد أن يقول أجل لكنه تردد يستقرئ نظراتها ليعرف إن كان الأمر يزعجها. فأردفت: سأغير ثيابي وآتي معك...
قال بتردد: الطريق طويلة وقد تتعبين...
أسرعت في فستان زفافها العريض إلى الخزانة تسحب منها ثيابا خفيفة تليق بالسفر: ألن تُجهز السيارة... هيا دقائق وسأنزل إليك.
لم يجد ما يقوله وقد سر بأن تكون رفيقته طوال الطريق.. هكذا لن يضطر للسؤال عنها في كل لحظة.
بعد قليل كانت السيارتين جاهزتان ونزلت سهام في سروال جينز وسترة بيضاء تغطي فخذيها ففتح لها الباب الأمامية لتجلس وركب هو بالقرب منها للقيادة. شغل المحرك ثم التفت إليها: آسف حبيبتي... خططت لليلة أفضل من هذه...
أجابته تغالب حتى لا تبتسم: المهم أن ابنك وزوجته بخير... هذا أهم من كل شيء.
أقلع بالسيارة ومن خلفه السائق الثاني مع أحد الرجال يتبعانه كما أمرهم.
مرت ساعة واثنان وثلاث دون أن يصلوا وجهتهم وكلما كانت تسأله سهام كان يقول أنهم بعيدون... غلبها النعاس فنامت، وافتقد لصوتها وهو يسليه بين الفينة والأخرى حتى كاد أن يبزغ الفجر. في تلك الأثناء أوقف السيارة وبقي يعبث بجهاز تحديد المواقع حتى يتأكد من المعلومات عليه... إنه في النقطة المحددة للالتقاء لكن لا أحد بالجوار. الطريق خالٍ تماما... الظلام حالك ولا يسمع أي شيء.
بقي مكانه لربع ساعة دون أن يصل ابنه فنزل من السيارة يتحدث إلى الرجلين ويتأكد منهما أنهم لم يخطئوا الطريق تاركا سهام نائمة بالسيارة.
بعد بضع دقائق وصل مجموعة من الرجال على الجمال فبقي مكانه يحدق بهم بفضول حتى أزاح محمود اللثام عن وجهه وأسرع إليه بفرح.
تعانق الاثنان طويلا... ولم يكن من عادتهما أن يتعانقا. فبعد رحيل "بسمة" تقهقرت علاقتهما كثيرا لأن محمود ظل يُحمّل والده مسؤولية موتها ولم يفتأ يفتح جراحه إقرارا وتلميحا...
قبل محمود رأس أبيه: اشتقت إليك يا أبي... اشتقت إليك..
بدى محسن مضطربا جدا لا يدري ما يقوله ولا ما يفعله، الانفعال لا يليق برجل مثله. قال بحب: وأنا اشتقت إليك يا بني.
وعاد ليحتضنه وهو يربت على ظهره. وسهام التي استيقظت من الجلبة تتأملهما بفرح وسرور.
لم تشأ النزول حتى تأكدت من أنهما قد فرغا من الترحاب. ثم توجهت إليهم وكان محمود يساعد نسرين على السير ليجعلها تركب بالسيارة ومحسن يسألها عن حالها.
لفتت الأنظار إليها بمجرد أن وصلت: مرحبا... كيف الحال؟
حدق بها محمود ونسرين ثم ببعضهما فأسرع محسن بالقول: إنها سهام... زوجتي.
سقط فكيهما من الدهشة وعادا ليحدقا ببعضهما البعض. إن الخبر لا يصدق!
أردف محسن: سهام... هذا ابني محمود وهذه زوجته.
أجابته: أعرفهما... كانا جارين لنا بنفس البناية.
أومأ محمود: هذا صحيح، كيف حالك سهام؟
أجابته: بخير شكرا... كيف أنت نسرين؟
خرجت من شرودها وعتاهيتها لتقول: بخير الحمد لله.
أراد محسن السؤال عن حفيده لكن شكل نسرين وسوء حالتها ينبئه بالأسوأ فالتزم الصمت.
قال محمود: خذ نسرين معك وزوجتك وأنا سأركب مع السائق وصاحبه.
وافق والده فساعد زوجته على الاستلقاء بالمقعد الخلفي وودعها بحب، ثم انصرف ليركب السيارة الثانية ويقلع الجميع من فورهم.
•••••
مر أسبوع كامل حمل معه رياحا دافئة تنذر باقتراب الصيف...
بشير يكثف من البحث عن ريماس التي لم يظهر لها أثر والتي كانت تعد له في الخفاء، فبعد ان شهد الفيديو الذي نشرته رواجا كبيرا اتصل بها مشرفو إحدى أشهر القنوات المقتنصة لأخبار المشاهير حتى تكون ضيفة في إحدى الحلقات وتتحدث إلى العالم بالصوت والصورة. ترددت طويلا قبل أن تقبل الفكرة لكنها كانت في حاجة لدليل آخر حتى تنهيه بالضربة القاضية. قالت ابنتها أنه قاتل ويتاجر في أعضاء البشر الأمر الذي جعلها تصر على الانتقام منه لأنه رجل لا يستحق الحياة... تريد أن تثبت عليه هذه التهمة التي من الصعب أن تؤكدها للرأي العام إلا إن خاطرت بحياتها وصورته وهو يعترف لها بالحقيقة... لكن هذا المشهد في حد ذاته يتطلب أن تسلم رقبتها للموت المحتم!
استحوذت عليها الفكرة خلال الأيام الماضية وقررت أن تغزل خيوطها وتحاول الاطاحة به. ففي مطلق الأحوال هو لن يسكت وقد يصل إليها ويقتلها باحترافية مجرم لا يرحم...
عقدت العزم على أن تخاطر وأوصت ريم بالوصول إلى الكاميرا إن حصل معها أي مكروه ونشر الفيديو ليشاهد العالم فضاعة رجل خسيس مثله وبهذا تكون قد انتقمت منه حية أو ميتة.
حبكت خطتها وجهزت أمتعتها ثم رجعت إلى البلاد على أول طائرة دون حتى أن تعطي خبرا لابنتها... ابنتها التي كانت ترزح تحت وطأة الألم... فما بين اشتياقها للؤي وتبرمها من والدها حكاية وجع ليس غيرها يعرفها.. لقد خططت هي الأخرى للهرب من البيت واللجوء إلى حبيب القلب، لكنها لا تعرف إن كان في نفس البيت الذي تركته فيه أم أنه قد غيره... لم يعطها لا رقما ولا أي عنوان... كل ما قاله وهي في حضنه تستودعه الله بدموعها أنه سيجدها حتما وسيكونان معا قريبا... ورحلت مع هذا الوعد تنتظر الفرج وقلبها يئن من طول الانتظار...
لقد فكرت في أن تطلب المعونة من محسن فهو من يساعد لؤي ومن المؤكد أن بينهما تواصل ما... قد تطلب منه إخباره بأنها تشتاق إليه وتريد أن تعيش وإياه... قد يرق قلبه العاشق لها في لحظة ضعف ويطلب منه إحضارها إليه!
لم تكن متأكدة من هذه الفكرة لكن لا ضير من المحاولة...
•••••
كانت ساهمة في الفراغ أمامها ويدها تتحسس بطنها الذي أضحى خاويا لا حياة فيه... خسارتها للجنين موجعة وتذكر الأمر يجعل من دموعها سيلا منهمر...
جلس محمود بقربها ومرر يده فوق شعرها الأسود بلطف: يجب أن نتجاوز الأمر حبيبتي... رؤيتك حية بقربي تساوي عندي كل هذه الدنيا...
حدقت به للحظة ثم ارتمت في حضنه باكية تشكو إليه في شهقاتها حرقة قلبها والخوف الذي سكن أحشاءها بعد كل الذي عايشته.
راح يربت عليها بحنو وهو يشعر بألم مماثل لألمها: ابكي يا عمري... يمكنك البكاء قدر ما تشائين... فقط لا تسكتي وتتأملي الفراغ حولك كمن تسافر روحه ليبقى خاوي الجسد...
سمعا صوت طرق على الباب فتنحت عنه تمسح دموعها بينما فتح للطارق وكانت الخادمة الجديدة وهي تحمل فطور الصباح إليهما...
قال بتساؤل: لماذا أحضرته؟ كنا سننزل حالا...
أجابته بلباقة: السيد هو من أمرني بهذا...
وصمتت لتردف: قال أنه ينتظرك وزوجتك بالقاعة الرئيسية.
تنحى لها حتى تدخل لتضع الأطباق على الطاولة: أخبريه أننا سننزل بعد قليل...

وفي قاعة الطعام كانت سهام جالسة رفقة محسن وهما يتبادلان الهمس والضحك إلى أن سألته بفضول: ألن ينزل محمود ونسرين لمشاركتنا الطعام؟
أجابها وهو يسكب قليلا من الماء ليشرب: طلبت من الخادمة أن تنقله إليهما... أعرف أن زوجته لا ترتاح لي وقد تنسد مجاريها الهضمية إن جلست إلي على نفس الطاولة.
ضحكت ثم أردفت: معها حق... حتى أنا كنت أشعر بآلام في معدتي كلما وضعت الطعام أمامك ووقفت أنتظر أوامرك...
حدق بها للحظات ثم ارتشف كأسه: كنت تخافين مني؟
شعرت بالحرج يتملكها، ثم تذكرت الماضي لوهلة وتابعت: لطالما كنت مغلفا بعازل يمنع الناس عن إدراك حقيقتك... لكنني سعيدة أنني الوحيدة التي حظيت بفرصة أن تجتاز كل الحواجز وتصل إليك... إلى داخلك...
قبل كفها التي أصبحت منذ بعض الوقت في يده وهو يهمس لها بحب: أطيب امرأة يا قلبي...
ركض إليها ابنها مناديا: ماما... ماما...
أسرعت إليه لتحمله وأشارت للمربية تشكرها لتنصرف، ثم عادت به إلى الطاولة ومحسن يتأملهما باسما: كيف أصبح أنس الصغير... ألن يقبلني هذا الصباح أيضا!
وأشار إلى خده فانصرف عنه الصغير وانكمش عند أمه وهو يضحك... ضحكته تلك تعد تقدما كبيرا فهو لم يستطع التعود على محسن بعد ويهرب منه على الدوام.
قالت وهي ترجع لمكانها وتجلسه في حجرها: أنظر محسن... لم يعد يبكي عندما تكلمه...
أجابها رافعا أحد حواجبه بتهكم: يبدو أنه مثل أمه عرف متأخرا أنني لا آكل البشر!
ضحكت لكلامه وقبلت وجنته بحب فضمها إليه بذراعه مقبلا جبينها، وعلى هذا المشهد وصل محمود: صباح الخير يا عروسان.
تأمله محسن: صباح الخير... تفضل بني...
وأشار له للجلوس معهما بينما شعرت سهام بالحرج الشديد وتوردت خجلا مدارية وجهها عنه برأس ابنها الذي تأمله محمود بود ومازحه: صباح الخير أنس... هل سترافقني للمسبح مثل المرة السابقة؟
هز الصغير رأسه موافقا وعاد ليخفيه بين كفيه الصغيرتين بخجل فضحك ثلاثتهم، ليقول محمود بدعابة: ها قد أصبح لدي أخ صغير ألاعبه!...
وتعمد إحراجهما تماما كما كان يفعل معه والده هو ونسرين: أم تراكما تفكران في إهدائي المزيد من الإخوة!
أصبحت سهام لا تكاد تُرى من شدة اختبائها خلف ابنها خجلا بينما وكالعادة محسن لا يتأثر من هذه الأمور: إن كنت تريد من تلاعبه فاذهب إلى زوجتك لتنجب لك أطفالا... دع سهام وأولادها لي أنا وحسب...
اصطنع نظرة عابسة ليقول: ها قد بدأت أغار...
سمعوا صوت خطوات تنزل الدرج فالتفتوا جميعا إلى مصدر الصوت لتتراءى لهم نسرين مقبلة نحوهم. فهمس محمود لوالده: بدل الموضوع... مازالت تعاني من فقدانها للطفل...
قالت سهام بفرح وكأنه قد قدم من يخرجها من الحرج الذي غرقت فيه: تفضلي نسرين... من الجيد أنك تحسنت وأصبحت تغادرين غرفتك...
ابتسمت بوجهها ممتنة لحرصها على صحتها، ثم سحب لها محمود كرسيا للجلوس فنظر إليها محسن لبرهة: مرحبا بك بيننا من جديد يا نسرين.
رفعت رأسها إليه بدهشة لتقابلها ابتسامة ود دافئة جعلتها تضع كفها على فخذ محمود وكأنها تسأله " ما به والدك!"
قبض عليها محمود وقبل يدها بحب ثم اقترب منها هامسا في أذنها: لا تسأليني ما باله فوالله لا أعرف!
جلت بحة صوتها لتقول بأدب: شكرا لك يا عمي...
كانت سهام تنظر إليهما باسمة لتهتف بحماس: من الآن فصاعدا سنفطر معا كعائلة...
رد عليها محمود: هذا مؤكد... إن توقف أبي عن تدليل كنته بإرسال الفطور إلى سريرها كل صباح!
ثم صفق لأنس ونادى عليه ليخرجا إلى المسبح بالحديقة الخلفية وهو يمد يده لنسرين حتى ترافقه. وقبل أن يتركا المكان التفت إلى والده: تمتعا بوقتكما يا عروسان...
ضحك محسن من ابنه الذي يرد له دينه القديم متسببا في احراج سهام مثلما كان هو يحرج نسرين من قبل وقال بحاجب مرفوع: طبعا سنتمتع بوقتنا... اعتنيا فقط بأنس ولا تجعلاه يبكي حتى لا يقطع علينا...
شهقت سهام وركلته من تحت الطاولة فتوجع ليكمل مستدركا: خروجنا إلى شاطئ البحر!
أبدت اندهاشها وهمست له بصوت خفيض: آسفة يا حبيبي... ظننتك ستقول شيئا آخر!!
رد عليها بهمس: هذا جزائي لأنني فكرت أن أترك كل العمل الذي فوق رأسي لأخرج أنا وأنت في نزهة قصيرة!
نظرت إليه متوسلة بنظرة طفولية بريئة: سامحني أرجوك!... هل أوجعتك؟..
ترك محمود ونسرين المكان وهما يضحكان حتى خرجا إلى الحديقة فأفلت أنس إصبع محمود الذي كان متعلقا به وركض إلى المسبح ليصيح به: توقف! توقف!
ثم هرول خلفه حتى التقطه قبل أن يقفز في الماء: يا إلهي... أبي كان سيقتلنا!
ضحكت نسرين لكلامه وجلست على الكرسي القريب: محمود لا تسبحا اليوم... الجو متقلب وقد أصبح أبرد من ذي قبل...
نظر من حوله إلى الأرجوحة ثم قال لنسرين: لا أذكر أنها كانت هنا!... من ثبتها.
أجابته بفطنة: والدك العاشق... هذا مؤكد..
زم شفتيه مقطبا: أصبحت أغار حقا... أشعر أنني لم أعد مدلل والدي..
وقفت تمد يدها إلى أنس حتى يرافقهما إلى الأرجوحة وهي تتذكر تلك الليلة التي جاء فيها محسن بنفسه إليهما ليقلهما: والدك يحبك كثيرا يا محمود.. لقد رأيته يحمد الله ويسجد إليه شكرا بعد عودتنا... ولم أرى في حياتي أصدق من عيونه الدامعة...
غص حلقها بألم وهي تتذكر أسرتها... ليت أنها ترى في عيون والدها شيئا مما رأته في عيون محسن... لكانت قبلت الأرض بين قدميه وما تجرأت على عصيانه!
بدى محمود متفاجئا، ليس من حب والده فلطالما كان يحس بحبه له وهو من كان يرفضه على الدوام! قال بدهشة: منذ متى أصبح والدي تقيا ليسجد شاكرا!.. هو لم يكن يصلي حتى!
لكزته بمرفقها: هل تشك في مقدرة ذات الشعر الأحمر!...
نظرا إلى بعضهما البعض ليضحكا في وقت واحد.

نزلت سهام إلى القاعة مرتدية فستانا صيفيا طويلا فوقه بلوزة خفيفة بأكمام طويلة وتغطي شعرها بشال من نفس اللون. وهي تلوح بحقيبتها ذهابا وإيابا من التوتر، ليست تدري كيف سيعلق محسن على شكلها الجديد.
بقيت واقفة عند آخر الدرج محدقة به وهو يتحدث على الهاتف ثم التفت إليها وما إن شاهدها حتى بدت عليه الدهشة وبقي يتأملها بإمعان فتوقعت أن شكلها الجديد لم يُرضه.
انتظرت حتى أقفل الخط ثم قالت بارتباك: ما رأيك؟
تحولت معالم دهشته إلى ابتسامة واسعة: من الجيد أنك فعلت هذا وإلا كنت سأقتلع عيون كل وغد تسول له نفسه النظر إليك...
فرحت لكلامه ومدت إليه يدها ليسيرا معا فسحبها إليه لتجد نفسها بين أحضانه تسمع آهة عميقة وساحرة شعرت بها تخرج من أعماقها لا من أعماقه ليكمل بهمس قاتل: كم أحبك أنا!..
أغمضت عيونها للحظة تعيش روعة الإحساس بجمال الكلمة التي نطقها... أن تشعر بانتمائها له وانتمائه إليها... وأن تذوب بين ذراعيه تلك اللحظة لتلتحم به، لكن صوت الخادمة وهي تتعمد لفت انتباههما جعلها تبتعد عنه وهي مازالت تتنهد محاولة الخروج من عمق أحاسيسها.
تكلمت إلى محسن: سيدي... هناك من يطلب رؤيتك...
قال بتساؤل: من؟
أجابته: يقول أنه فؤاد منصور...
ضرب بكفه على جبهته وقال بامتعاض: لقد نسيته تماما... يا إلهي، أيعقل هذا!
ثم أشار إليها: استقبليه ومن معه وأحسني ضيافتهم.. سأكون هناك بعد لحظات...
أومأت بانصياع وتركت المكان فالتفت إلى سهام معتذرا: حبيبتي... لا تغضبي مني أنا ارجوك... نسيت أنني متواعد مع رجل مهم... أو بالأحرى اعتقدت أنه لن يصل باكرًا...
وزفر بإحباط خشية أن تكون سهام قد غضبت لالتغاء خرجتهما. لكنه فوجئ بها تقترب منه من جديد وتحاوطه بذراعيها: ولماذا قد أغضب!.. اهتم بأمورك حبيبي وعندما تفرغ سأكون بانتظارك.
قبلها بحب وانصرف ليرى مفسد متعته. والذي كان يجلس إلى صاحبيه في القاعة محذرا إياهما من بدء أي شجار.
قالت ياقوتة: أنا لست هنا إلا لرؤية صديقتي... وإلا ما كنت قد دخلت بيت هذا النذل.
ولج محسن لتلتقط أذناه هذه الكلمة: مرحبا بك في بيت هذا النذل يا ياقوتة...
التفتوا إليه جميعا وقد شعرت بنوع من الإحراج، ثم التزمت الصمت ريثما رحب بفريد ولؤي.
قال محسن ممازحا للؤي وهو يهم بالجلوس: يناسبك اسم لؤي أكثر... هذا رأيي المتواضع.
همس فريد بملل: يا لخفة دمك!!
داس عليه لؤي بقدمه فهو يعرف أن صاحبه لا يطيق محسن ولا يثق به. ثم قال بلباقة: كيف حال ابنك وزوجته؟
أجابه: بخير... إنهما بخير...
نطقت ياقوتة: أيمكنني رؤية نسرين؟
نادى على الخادمة وانتظر وصولها ليخبرها بأن تبلغ نسرين برغبة صديقتها في رؤيتها ثم حملق في ياقوتة بنفس نظرة الازدراء القديمة لم تنقصها الأيام شيئا وكأنه يلومها على كل ما لحق بحياته مع بسمة من تحت رأسها: أبلغوني أنك حاولت قتل بشير!
أجابته بجفاف: ليتني استطعت اقتلاع روحه!
أومأ بملل: لؤي هو الوحيد القادر على قتله...
مالت العيون إليه فشعر بأنه مقبل على نقطة اللارجوع... إنها نقطة فارقة بين حب مروى له وحبها لأبيها...
سأله لؤي باختصار: هل جهزت ما اتفقنا عليه؟
أجابه: كل شيء جاهز... يجب أن يموت بحلول المساء.
ليدخل لؤي ذلك المنزل يجب أن يساعده أحد من الداخل، وطوال سنين عمله هناك حرص أن يجعل بعض العمال هناك مخلصين له لا لبشير... وقد استطاع كسبهم بمودته وحسن خلقه قبل أي مكاسب مادية. واليوم لديه من يفتح أمامه الأبواب على مصراعيها للإطاحة بغريمه وجها لوجه في ضربة أخيرة قاضية.
•••••
وصلت ريماس إلى البيت ولم يكن هناك أحد تماما كما أخبرتها الخادمة عندما اتصلت لتستفسر قبل دخولها...
ولجت إلى المكتب وثبتت بعض الكاميرات... إنها تنوي فضحه هذه المرة صوتا وصورة وهو يقر بفظاعته... تريده أن يعترف بجرائم أكبر من تلك التي عرضتها قبل أيام... تريد اعترافه بجرائم قتل تجعله يتعفن في السجن ولن ترتاح قبل أن تنال ما تريد.
تريده أن يحاول قتلها ليشهد العالم كله فظاعة رجل مثله... هكذا فقط ستستطيع الانتقام لعمرها الضائع وسنينها القاحلة، تنتقم لريم تلك الفتاة الصغيرة وما لحق بها... تنتقم لابنتها التي تذرف دموع خذلانها وخزيها من أب مثله... تنتقم للؤي الذي تضن أنه قد قتله... تنتقم لكل من مزقه ليتاجر بأعضائه... تنتقم لكل من تعرض للأذى ولم يجد إلا الله ليرفع إليه دعاءه...
لا تظلِمنّ إذا ما كنتَ مُقتدراً
فالظلمُ مرتعُه يُفضي إلى الندَم
تنام عينُك والمظلوم منتبهُ
يدعو عليك وعينُ الله لم تَنَمِ
علي بن أبي طالب

باقتراب المساء شعرت بانقباض شديد في قلبها وأصبحت ترتجف من الخوف... إنها مقبلة على دخول وكر الذئب بقدميها الاثنتين وتعلم جيدا أنه لن يتسامح معها...
حمدت الله في قرارتها أن مروى خارج البيت ولم ترجع بعد هكذا لن تشهد المأساة بأم عينها إن خرجت الأمور عن نصابها...
تفحصت المسدس المحشو بالذخيرة وخبأته بين ثيابها متأملة لنفسها قرب المرآة ثم أعادت خصل شعرها إلى الخلف وهي تتنفس بعمق لتخفف من توترها.
عندما سمعت صوت السيارة تتوقف قرب المنزل عجلت في النزول لتلتقيه بالمكتب أين وضعت الكاميرات.
شاهدته يحدث الخادمة لبرهة ثم اقترب من الدرج للصعود فتفاجأ بها واقفة في انتظاره. نظراته الأولى كانت مبهمة لترتسم بعدها ابتسامة انتصار سابقة لأوانها على شفاهه، ربما كان يتخيل ما سيفعله بهذه المتمردة التي جاءت تستجدي الرحمة منه كما يبدو.
حكت كفيها باضطراب وقالت: بشير... أنا وأنت يجب أن نتحدث.
وكما هو متوقع أشار للمكتب حيث يمكنه الحديث معها براحة. فتركته يسبقها حتى لا يقفل الباب عليهما لكنه تأخر وفعل ذلك.
أصبحا في الداخل بمفردهما يتأملان بعضهما البعض وكأنهما في تعارف... قالت بعد صمت: جئت لأعتذر منك... لقد كانت غلطة مني وأعدك ألا تتكرر.
حاول جاهدا السيطرة على أعصابه حتى لا يقتلها الآن بعد أن ذكرته بما فعلت... يجب أن تبقى حية ليستمتع بجعلها تدفع ثمن غبائها قطرة بعد قطرة.
قال ببرود: هكذا وبكل بساطة تعتقدين أنني سأسامحك!..
وضحك ضحكة هستيرية مجنونة ثم أردف: أنت جئت لأمر آخر فلا تراوغي...
سألته بثبات: سمعت أنك تتاجر في الأعضاء البشرية وأتيت لأتأكد من هذا بنفسي... لا يعقل يا بشير أن تفعل هذا... أنت زوجي منذ سنوات وأعرف أنك لست سفاحا!
ضيق عيونه مفكرا لبرهة ثم ضحك ملء فيه طويلا ليقول أخيرا بسخرية: أين وضعت الكاميرات؟.. هيا بربك أخبريني... تلك حيلة قديمة وأنا أذكى من غبائك المفرط...
تجمدت الدماء في عروقها بعد أن فضحها بكل بساطة ودون أي جهد، ولم تستطع قول كلمة فاقترب منها بخطوات بطيئة: أين هي؟... هيا هاتها...
ازدردت ريقها بهلع: أنت مخطئ!
أمسك ساعدها بقوة وسحبها إليه بعنف حتى التصقت به وأصبح وجهها في وجهه ليقول بفحيح أفعى سامة: لا بأس... سأبحث عنها فيما بعد لأشاهد مسرحيتك هذه وأضحك متسليا...
حاولت أن تسحب نفسها من قبضته بلا جدوى، بينما كان هو مستمتعا بإبصار الخوف يغزو ملامحها ويجعلها تشحب شحوب الموتى.
أكمل بنقمة: أنت أغبى من أن تفكري فكيف تخططين!.. اعتقدت أنك بتسجيلك لذلك الفيديو ستنهين أمري.. وأعجبك فيلم الأكشن الذي اخترعته فأردت له تكملة أكثر إثارة... تريدين أخذ اعتراف مني!... سأخبرك. أجل أنا أتاجر في الأعضاء البشرية وأتقاضى مبالغة هائلة مقابل كل قلب أو كلية أو أي عضو أبيعه تحت الطلب... وقد أقتل رجلا واحدا من أجل عضو واحد وأرمي بباقي الجثة لكلاب الحراسة بعد أن أفرمها...
ثم أمسك بحقيبة يدها ورجها أمامها في الفضاء. ألم تسألي نفسك يوما من أين جاءت النقود التي تنفقينها على أغراضك الشخصية الباهظة الثمن... حقيبة من جلد التماسيح دفعت فيها ما يسد حاجيات أسرة كاملة لأشهر!
صمت لبرهة يناظرها بازدراء: تلومينني على فظاعتي وكلكم أحببتم رغد العيش الذي أنتم فيه!... حتى مروى التي بدأت بمهاجمتي فور أن عرفت بالحكاية ما كانت لتستطيع العيش بعيدا عن هذا الثراء... لقد أحببتما ما نحن فيه بطريقة أو بأخرى وهذه هي الحقيقة...
طفح كيلها منه ومن تفكيره السطحي لتقول بسخط واضح وذراعها تحت قبضته: الحقيقة الوحيدة أنك رجل مختل وتستحق الموت ليرتاح العالم من شرك... من قال لك أننا نرغب في أن نعيش على حساب دماء الأبرياء! هناك ألف طريقة لتكسب رزقك دون الإساءة لأحد.
صفعها على وجهها بقوة حتى نزف أنفها وعاد ليسحبها إليه حتى تكون في مواجهته من جديد: لا تصرخي بوجهي... عندما تتحدثين إلي... لا ترفعي صوتك!
كان يريد إذلالها لتتوسله الحياة، لتستعطفه وتترجاه.. والأمر كفيل بأن يرضي ساديته المفرطة، لكنه أبدا ما كان ليعفو عنها ويطلق صراحها وهي تعلم ذلك علم اليقين... لقد وقعت في قبضته وإن لم تسارع في تحرير نفسها منه سينتهي الأمر بها مثل حبيسته السابقة التي بقرت بطنه من أجل أن تهرب...
•••••
كان لؤي جالسا في سيارته يراقب غروب الشمس وينتظر حلول الظلام ليعطيه رشيد الإشارة للدخول. لقد اتفق معه على تعطيل أجهزة المراقبة ومراوغة الحرس وهو خبير بمداخل المنزل ومخارجه ليتسلل إلى الداخل بحذر تام... أصبح يعرف أن بشير بالداخل منذ دقائق ومروى غائبة عن البيت منذ عصر اليوم...
إلى أين ذهبت يا ترى؟.. اختفاءها الغير مبرر يؤرقه!.. هل تراها ستسافر إليه حيث التقيا قبل أسبوع بالريف في منزل عمه المتوفي!
مسد جبهته باضطراب. لا يريد أن يشوش تفكيره... عليه أن يركز في ما هو قادم من أجله. ثم إنه من الجيد أن تكون خارج البيت في هذا الوقت بالتحديد.
نطق فريد بعد طول صمت: لقد جاءت... أقصد زوجتك.
نظر باتجاه البوابة فشاهدها تنعطف بسيارتها لتدخل. خفق قلبه ما إن وقعت عينه عليها وبدأ الحنين يجري في عروقه فجأة بطريقة هي الأشد وطئًا منذ أن افترقا قبل أسبوع.
لم يدر أنه شرد معها يتتبع سيارتها بعينيه حتى رجه صديقه: ما الذي سنفعله الآن!.. هل ستقتله أمام عيونها؟
نظر إلى صديقه صامتا فأردف الآخر: دعني أدخل بدلا منك... سأجنبك المشاكل...
هز رأسه نفيا لينطق لأول مرة منذ أن وصلا: إنه لي هذه المرة مهما كلفني الأمر من ثمن.
رن الهاتف فجأة فقرأ الرسالة ثم ترجل من السيارة ليطل على صاحبه: سنبدأ الآن. كن حذرا وراقب هاتفك.
أومأ منصاعا لكلامه، فأسرع الخطى باتجاه سور المنزل ليلتف من حوله ويدخل من إحدى الأبواب الصغيرة جهة المطبخ وتلك تستعمل لنقل الحاجيات والمؤونة إلى المنزل بطريقة سريعة وهناك سينتظره رشيد.
•••••
كانت مروى تدخل القاعة الرئيسية متوجهة إلى الدرج حتى تستعجل في الصعود إلى غرفتها. لقد شاهدت سيارة والدها ولا حاجة لها بمقابلته والتحدث إليه.
كانت بالقرب من منزل محسن وأرادت حقا أن تكلمه وتطلب منه أن يوصلها إلى لؤي لكنها ترددت طويلا قبل أن تدخل وقررت أن تثق بكلام لؤي وتنتظره.. لقد وعدها باللقاء قريبا وهي متأكدة من حبه لها لذا فمن المستحيل أن يبتعد عنها كل هذا الوقت دون سبب واضح.
أكثر ما أزعجها هو مشاهدتها لمحمود ونسرين ومعهما فتاة وطفل صغير وهم في الحديقة يتسلون... ولم تشأ أن تلتقيه ولا أن تحدثه لعلمها بالحساسية المفرطة بينه وبين لؤي. لا تنقصها غيرة هذا الأخير وانفعاله إن حدث وعرف بالموضوع.
عندما وضعت قدمها على أولى الدرجات سمعت صراخ أمها لكنها تابعت طريقها دون اهتمام فمن الواضح أنها تتخيل الأمر. عندما انعطفت لتكمل باقي الدرج سمعت صراخها مرة أخرى وتأكد لها أنها لا تتخيل هذا.
شهقت بدهشة وأوقعت الحقيبة من يدها ثم ركضت مهرولة باتجاه المكتب حيث مصدر الصوت وهناك كانت إحدى الخدمات تتحرك باضطراب فصاحت بها: من بالداخل؟!
أجابتها وهي تشارف على البكاء: إنها أمك، جاءت قبل العصر وهي مع والدك منذ دقائق... إنها تصرخ منذ فترة ولا أحد يفتح الباب.
تجاوزتها لتطرق على الباب بوجل: أبي... أبي افتح الباب هذه أنا!
كان بشير ممسكا بشعر ريماس بيد وبالمسدس الذي هددته به بيده الأخرى وصدره يعلو ويهبط من نقمته. همس لها وهي ترتجف أمامه ودموعها تتطاير: ها قد جاءت ابنتك!.. تلك الخائنة التي تحيك من وراء ظهري مخططاتها مع النذل الذي اسمه لؤي...
اقترب من الباب ليفتحه فصرخت بها أمها بصوت مخنوق: اهربي... اهربي يا ابنتي... مروى اهربي.
رغم أنها سمعت صراخها المتوسل لها بأن تهرب لم تستطع تنفيذ الأمر... ما كانت لتتركها تواجه الموت وحيدة... الخادمة وحدها من فرت من هناك مذعورة لتتصل بالشرطة.
فتح الباب بقوة فبهتت من المنظر الذي شاهدته وصرخت بأمها تعتب عليها: لماذا عدت يا أمي؟.. لماذا عدت؟
وجه المسدس نحو ابنته بكل برود وأشار لها بالدخول فنفذت مرتجفة وهي لا تكاد تصدق أن من يهددها بالقتل هو والدها.
سارت حيث أمرها وجثت أرضا تماما أين أشار لها ثم ألقى بأمها بقوة فسقطت بالقرب منها باكية واحتضنتها مرتجفة بخوف.
قال وهو يتأملهما بغضب وسخط: قدمت لكما الأفضل طوال سنوات... لماذا تكرهانني؟.. لماذا تخططان للإيقاع بي...
صرخت به ريماس وهي تشدد من احتضان ابنتها: مروى لا علاقة لها بالأمر... لا تقحمها في ما بيننا!
رد بغضب مستعر: بل لها علاقة... إنها تخونني منذ زمن هي وذاك البائس الذي سأقتلع عيونه حالما يصبح في قبضتي...
ثم نهرها بقسوة: ماذا كنت تعتقدين!.. أنني لن أعرف بما تخططانه من وراء ظهري!
انفتح الباب بشدة فالتفت بشير بسرعة مصوبا مسدسه إلى لؤي الذي كان هو الآخر يصوب باتجاهه.
صرخت مروى بأعلى صوتها: لؤي!!!
وأصبحت دموعها كالمطر خوفا من أن تفقده هذه المرة إلى الأبد وأمام عيونها.
ارتمت على قدم والدها تتوسله: أبي إياك أن تطلق النار.. أنا أرجوك...
قلب لؤي هو من انفطر ألما وهو يشاهدها تفعل ذلك من أجله. أراد أن يطلق النار عليه لكنه فضل أن يبرئ ذمته منه أولا: ارمي المسدس أرضا.
رد عليه بنقمة: لماذا لا تلقي به أنت...
قال وهذا ولمعت عيونه برغبة عارمة في أن يرديه قتيلا. وكانت ريماس تعرفه من خلجاته فأدركت أنه سيطلق النار على لؤي حالا، فقفزت من مكانها عليه ودفعته بعيدا لتصيب طلقته الجدار.
في تلك اللحظة بالذات انكمشت مروى ولم تعد تسمع سوى صراخهم وهم يتعاركون. كان لؤي يحاول أخذ المسدس منه بالقوة وعدة طلقات تغادر مخدعها لتصيب السقف والأثاث. إلى أن أسرعت أمها لتحمل آنية فخارية وتضربه بها على رأسه بقوة فخر مغشيا عليه ليقع على ظهره وفوق الطاولة الزجاجية المحطمة وقد اخترقته شظاياها.
ساد الصمت والسكون فجأة وكلهم يلهثون وكأنهم كانوا في سباق... سباق مع الزمن يصارعون فيه الموت!
بدأت دماؤه تسيل وتجري فوق البلاط فاقترب منه لؤي وتحسس عنقه: إنه حي!
اقتحم رجال الشرطة المكان وألقوا القبض على لؤي، ثم أخلوا المكتب وطلبوا الإسعاف. كانت مروى تبصر تلك الصور تجري من أمامها تباعا وهي في صدمة... حصل كل شيء فجأة وانتهى فجأة!..
•••••
بعد ثلاث أشهر
•••••

هناك بأعالي الجبال حيث الجو نقي والهواء عليل... هناك حيث تعانق الأشجار زرقة السماء بكل حب، كانت جالسة تراقب يامنة وهي تطعم الدجاج. لتقول برقة: أساعدك خالتي؟
ضحكت وهي ترد عليها: تعالي... هيا جربي.
فتحت مروى الباب بحذر ودخلت المنطقة المحاطة بالسياج ثم أخذت القليل من الحبوب التي مع يامنة وراحت تلقيها للدجاج وهي تشاهدهم يتخاطفونهابشراسة: كم هذا ممتع!
وأخذت الطبق من يد يامنة فهجم عليها بعض الديكة وقفزوا إلى الصحن فألقت به إليهم برعب وهربت من هناك صارخة ويامنة تكاد تسقط أرضا من شدة الضحك. ودون أن تتمكن من ابصاره ارتطمت بصدره الصلب فضمها بين ذراعيه ضاحكا: إلى أين بهذه السرعة!
صرخت بذعر وجسدها ينتفض من شدة الخوف: سينقبونني بمناقيرهم الحادة!
والتفتت وراءها: ألم يلحقوا بي!
بدت كالمعتوهة وهي تترقب وصولهم فشدد من احتضانها إليه يغالب ضحكه وهي تضربه على صدره ليتوقف عن السخرية منها. وعندما أطلت عليهما يامنة تركها محرجا.
ابتسمت لرؤيتهما معا والطمأنينة تسكن قلبها أخيرا فها هو ابنها يبتسم بفرح وقد لقي حب حياته بعد طول عذاب... لم يعد ذلك الكسير الذي ترك البيت بعد وفاة زوجته ليعتكف حزينا في مكان آخر بعيدا عن هذا المنزل الذي بادلها فيه الحب دوما....
نادت عليها: مروى... لا داعي للخوف. لن تلحق بك!
دفعها لؤي برفق لتتمشى معه حتى وصلا إلى السياج من جديد فقدمت لهما دجاجة كبيرة: هذه ستكون طعامنا على العشاء.
أرادت مروى أن تمسكها من بين يديها لكنها ترددت طويلا حتى قال لؤي: لا تخافي.
أمسكتها من قدميها كما قالت يامنة ونسيت أن تجمع جناحيها فرفرفت في وجهها تريد الهرب. وفجأة أصبحت الدجاجة في الهواء بعد أن ألقت بها بعيدا عنها. لتصيح يامنة ضاحكة: خذ زوجتك عني لا أريد مساعدة!
احمرت خجلا واعتذرت: أنا آسفة.
ربتت على ذراعها بحب: لا عليك... اذهبي للتجول مع فؤاد... ألم تقولي أنك أحببت المكان! هيا... استمتعا بوقتكما.
ابتعدا قليلا عن المكان فتأملته للحظة وهمست له: لم أستطع التعود على اسم فؤاد... سأناديك لؤي... ألن تمانع؟
تأكد من أن أمه لا تراه ثم قبلها على خدها بحب: نادني كيفما شئت يا قلبي...
سارا معا يتبادلان الأحاديث حتى وصلا إلى التلة فوقفا هناك يتأملان منازل القرية، أمسكت بكفه واقتربت لتقف بالقرب منه: إن المكان ساحر...
لم تحد عيونه عن المنظر الجميل عندما أجابها: انه كذلك...
طوقته بذراعيها مسندة رأسها على صدره: أحمد الله أنني معك... أكاد أجن عندما أتذكر كل ما مررنا به... في كل مرة كنت أعتقد أنها النهاية!
تذكر تعلقها بقدم والدها تلك الليلة لتحول دون أن يؤذيه فراح يبثها حبه في قبلات دافئة وحنونة، مبعدا خصل شعرها عن وجهها متأملا لها بقلب عاشق أضناه الهوى: يا عمري أنت...
سارا معا حتى وصلا إلى منزل عمه فتوقفت تتأمله وقد عادت بها الذكريات لأيام خلت: من هنا كنت تراقبني وأنا بمنزلك؟
فتح الباب وسحبها من كفها فولجت للداخل معه: تعالي سأريك من أين كنت أراقبك...
عندما دخلا إلى الغرفة تأملتها بإعجاب، ثم سار باتجاه النافذة حتى فتحها ونادى عليها لتقف بقربه: تعالي حبيبتي.
تأملا معا منزل والديه يظهر بكل وضوح من تلك النقطة وهو خلفها يحاوطها بذراعيه ثم تلمس بطنها: هل أجريت الاختبار؟
أجابته بخيبة: لم يكن إيجابيا...
قبل رأسها القريب منه برقة: لا تحزني... مازالت الأيام طويلة أمامنا...
تنهدت بأسف فداعب بأنفه عنقها وهو يهمس لها: علينا فقط أن نعمل على تحقيق ذلك...
ضحكت لكلامه: وأنا أسأل نفسي لماذا نحن هنا!...
••••••
جلست نسرين رفقة زوجها في منزل أهلها حيث اجتمع والدها وكل اخوتها ومعهم أمها وأختها منال.
تحدث محمود أولا وأوضح لهم جميعا أنها زوجته وأنها خط أحمر لا يقبل بتعدي أي كان عليها. وأصر على أن يدفع أخوها وليد ثمن أخطائه فلم يحتج أحد... أفهمهم أنه عرفها فتاة عفيفة في نفسها نقية في أخلاقها وأنه أحبها لجوهرها وأصالة معدنها. مُنوِّها أنها وقفت معه أيام الشدة وعرّضت نفسها للموت من أجل أن يكونا معا وأنه سيخلص لحبهما ما بقي من عمره....
حرص على أن يتم الصلح ويتقبلوها بينهم من جديد... وقال كل من اخوتها أنهم يرحبون بالفكرة ولا يكنون لها أي ضغينة بعد أن توضح لهم أنها لم تسلك نهج الخطيئة.
ولم يقل والدها الكثير فقد اكتفى بتركها تقبله وتطلب الصفح منه ليرد بالقبول فتنهي الأمر بتقبيل جبينه.
أما والدتها فقد كانت تذرف الكثير من الدموع، لم تفهم ان كانت دموع ندم على كرهها لها ظلما أم فرح بعودتها بينهم... أو ربما مزيج من مشاعر مختلفة تملكتها في تلك اللحظة وهي تسترجع ابنتها التي كانت تعدها من الأموات. ورغم كل قسوتها معها المرة الماضية إلا أنها في هذه المرة عانقتها بحب وبثتها اشتياقها لها... تبقى الأم أمّا مهما قسى قلبها...
انتهت الزيارة في وقت متأخر جدا بعد أن أصروا عليهم ليبقوا على العشاء ثم تركوا المكان ليلا ليرجعا إلى شقتهما الحميمة التي لا استغناء لهما عنها. ورغم أن الوقت كان متأخرا جدا إلا أن محسن اتصل ليسأل عن وصولهما بالسلامة... اهتمامه بهما لم يعد يخفى على أحد، حتى أنه تمنى أن يبقيا للإقامة معه في نفس المنزل لكنهما فضلا أن ينعما بلحظات جامحة بعيدا عن مراقبة أحد.
أقفل هاتفه وألقى به على الأريكة ثم استلقى عليها هو الآخر بتعب: القيادة لوقت طويل أمر متعب.
جلست بقربه تفك أزرار بلوزتها وعقلها يسترجع يومهم الحافل وكيف انتهت المشكلة مع أهلها بهذه البساطة! لا تكاد تصدق أنهم قبلوها بينهم من جديد... لكن الفضل في هذا يعود لله وحده الذي جمعها بمحمود وسخره درعا من حديد يحميها من أي سوء قد يلحق بها.
قالت بعد طول صمت: أظن أنني سأتنازل عن القضية... آمل أن وليد قد تعلم درسا طوال فترة تواجده بالحجز...
أجابها ناعسا: أنا رفضت أن يتعاطوا في الموضوع حتى لا يقبلوك فقط من أجل مصلحتهم... وبما أن الأمر انتهى فافعلي ما تشائين.
أومأت موافقة وغاص كل منهما في أفكاره مرة أخرى... لم يعد يؤرقها شيء ولم تعد الكوابيس تقض مضجعها. محمود يشارك والده أعماله ويدير الشركات نيابة عنه وهي أصبحت ربة بيت تهتم فقط بشؤون بيتها وزوجها. ولم تعد تزاول عملها كسكرتيرة... تريد فقط أن تعتني بحملها الثاني حتى لا تفقده مثلما حصل معها في المرة السابقة... وحتى زيارتها لأهلها كانت أمرا لابد منه وإلا ما سافرا طوال كل هذا الوقت وعرضا طفلهما للخطر.
نظرت إليه بحب وهو يضع ظاهر كفه على جبينه ويغمض عيونه بتعب.
هزته بلطف: محمود... حبيبي... إن كنت تريد أن تنام فالأفضل أن تذهب إلى الغرفة.
لم يجبها فقد أثقل النعاس جفنيه. الأمر الذي جعلها تضع غطاء رأسها جانبا وتبدأ بفك رباط حذائه ليرتاح في نومه.
عندما انتهت من ذلك قبلته وهمت بالابتعاد حتى تحضر له غطاءً خفيفا فأمسك بها وسحبها إليه لتنام بقربه.
أغمضت عيونها في حضنه وقد عادت بها الذكريات لليلتها الأولى معه بين أسوار هذا المنزل... بدأ كل شيء عندما نامت على صدره مثل طفلة صغيرة أعيتها الحياة... ليصبح فيما بعد للعشق معنا آخر غير الكلام...
تنهدت بعمق وهي تشعر بالطمأنينة... طمأنينة غابت عنهما منذ زمن ولم يعرفا لها لونا إلا في الآونة الأخيرة بعد أن انتهت المصائب واستقرت الأوضاع...
••••••
في صباح اليوم الموالي كان لؤي يدخل المعمل رفقة زوجته. جلسا في المكتب الصغير وهي تتأمل ترتيبه وتهتم بإضفاء لمستها عليه: ألم يصل شريكاك بعد؟
أبدى ملله عندما ذكرتهما فضحكت لعلمها أنه يفقد صبره عندما يبدآن في الشجار على أتفه الأمور.
ولم يمض زمن حتى طرقا على الباب ودخلا واحدا وراء الثاني: صباح الخير...
ردا عليهما: صباح الخير.
جلست ياقوتة مقابلة لمروى فيما بقي فريد واقفا: أردت إلقاء التحية عليك بعد عودتك من السفر... كيف هي أخبار الريف هناك؟
أجابه: جيدة.. الهواء منعش والأجواء رائعة...
ضيق عينيه مفكرا: أنا أحن إلى المكان وأفكر في قضاء بعض الوقت هناك... ما رأيك؟
ابتسم ليقول: بيت عمي فارغ أخبرني متى تريد السفر وسأعطيك المفاتيح...
نطقت ياقوتة: على أن تبتعد عن المنحدرات فهي لا تليق بك.
كانت تذكره بسقوطه تلك الليلة عندما هم بإحراق الخم. وقبل أن يرد عليها نطقت مروى: قبل أن أنسى. أمي تدعوكما على العشاء هذه الليلة كلاكما... اتصلت بي قبل قليل.
سألها بفضول: ما الذي ستحضره لنا؟
حاولت أن تمازحه: قردا مشويا...
أجابها بضحكة: إن كان الأمر كذلك فلا داعي لأن تحسبَ حسابي...
نطقت ياقوتة من فورها: طبعا فالقرود لا تأكل بعضها!
وقبل أن يتأزم الوضع صفق لؤي ليلفت انتباههما: هيا لقد ألقيتما التحية... كل واحد إلى مكتبه... هيا رجاءً.
وقفت ياقوتة لتغادر: يوما سعيدا أيها المدير...
أما فريد فقد كرر كلماتها بصوت ساخر وهو يشاهدها تترك المكتب بأنف شامخ لتزيد من غيظه. وما إن اختفت حتى حدق بصاحبه: لماذا قبلتها بيننا يا رجل!
أجابه بجد: جميعنا نحتاج فرصة أخرى... وهذه كانت فرصتها لتعيش بعفة وشرف...
أصدر صوت تأفف وهم بالانصراف: طاب يومك.
أجابه: ويومك.
فور إقفاله للباب من خلفه أصدر صوتا لخلاصه منهما وحدق بمروى التي كانت تتأمله ضاحكة: إنهما مسليان!
أجابها: بل مزعجان...
ثم ضيق عيونه هامسا: ألن تبدئي عملك؟
استقامت واقفة: حاضر سيدي المدير... أنا في الخدمة. هل تريد قهوة؟
أجابها بابتسامة: من دون سكر لو سمحت...
كانت سكرتيرته في هذه الشركة الصغيرة... إنه مجرد معمل بسيط أنشأه بالشراكة مع فريد وياقوتة... بدأ الأمر مجرد فكرة ليتحول شيئا فشيئا لحقيقة. كما أن محسن عرض دعمه ومساعدته وقدم للؤي قروضا دون فوائد يسددها على أقساط ودون ضغط امتنانا له ولصنيعه معه أيام محنته... وهكذا أصبح لؤي المساهم الأكبر واحتل مكتب الإدارة بينما يظل مساعداه صاحبي رأي في كل القرارات المتخذة.
فريد ورث قطع أراض من والده وجده باعها ليبدأ هذا المشروع. أما ياقوتة فقد وجدته مكسبا حلالا بعد كل الضياع الذي عاشته... باعت الفيلا والشقة وكل ما كانت تملكه لتشترك معهما واكتفت باستئجار شقة صغيرة في حي جديد حيث لا أحد يعرفها، ومن هناك بدأت حياة جديدة.
علاقتها بنسرين مستمرة ووطيدة خصوصا الآن بعد كل الشدائد والمحن لقد كانت متفهمة لهربهما ذلك الصباح من الفندق دون خبر وتوقعت أنهما لو لم يفعلا ذلك لكانا قد وقعا مثلها في قبضة بشير...
كثيرا ما تجتمعان لتتبادلا الأخبار والحكايات وتتذكران أسوأ ما مرتا به بسبب ذلك المقيت... بشير الذي انتقم الله منه شر انتقام دون أن يأخذ روحه!
•••••

اجتمع لؤي ومروى بفريد وياقوتة هذا المساء عند مدخل الفيلا. كانت ريماس تؤسس لحياة جديدة وتحفل بالتعرف على أناس طيبين تقيم معهم علاقات صداقة ومودة بعيدا عن العالم المخملي المزيف الذي كرهته طوال سنوات اختلاطها بأهله. وجاءت شراكة زوج ابنتها مع هذين الاثنين وتوطد علاقة مروى بهما لتفتح أمامهما أبواب هذا المنزل.
لقوا ترحيبا حارا منها فور ولوجهما إلى الداخل... تشتاق للأنس وتحب الأصدقاء. ولولا وجود ريم رفقة أخيها معها في نفس البيت لشعرت بالاختناق من الوحدة القاتلة...
لكم كان من الصعب على ريم أن تعود لمنزل فيه نفس المقيت الذي انتهك حرمتها وأهانها... كم هو مؤلم أن تلقاه كل صباح ومساء دون أن تتمكن من غرز أظافرها الحادة في عيونه!
بعد قليل من وصولهم دخل محسن ومعه زوجته وكذلك ابنه ونسرين.
التفتت مروى إلى أمها بعتاب وهمست لها باستياء: لماذا دعوته؟
كانت تقصد محمود، فأجابتها: محسن ومحمود أصدقاء لنا منذ زمن... وبسبب والدك تضررت العلاقة بيننا. أحببت دعوتهما لنعيد المياه لمجاريها وقد لبيا الدعوة كما ترين!
كزّت على أسنانها قهرا: لؤي سيجن!
نهرتها بتعجب: أوليست تجمعه علاقة طيبة مع محسن!.. لا أرى في الأمر عيبا... هو مع زوجته وأنت مع زوجك... كفى الآن!
قالت هذا وتركتها لترحب بضيوفها، بينما اكتفت هي بإلقاء تحية باردة على الجميع واقتربت من لؤي: لم أعلم أن أمي ستدعوهما...
حاوط خصرها بذراعه: أعلم...
ثم نظر إلى عيونها الخائفة: ما بك؟
عبثت بأزرار قميصه بشرود قبل أن تقول: أخاف أن تغضب مني وأن تغار بسببه وتشاجرني هذا المساء.
ابتسم رغم الغيرة التي بدأت حقا تزحف إلى قلبه بسبب وجود محمود هناك. ثم شدها إليه أكثر: لا شيء سيجعلني أشاجرك إلا تلك التقطيبة على حاجبيك!.. هيا ابتسمي حبيبتي.
ابتسمت في وجهه برقة فتمالك نفسه حتى لا يقبلها أمامهم جميعا ثم التفت من حوله وأخذها معه ليجلسا في القاعة ريثما يحين موعد العشاء.
شاركته نفس الأريكة العريضة وانشغل هو بالتحدث إلى محسن حول العمل وبعض المشاكل بينما كانت نسرين جالسة إلى ياقوتة تتحدثان: كيف هي أخبار حملك؟
أجابتها: جيدة... نسأل الله أن يتم لنا على خير...
سألتها مجددا: وكيف كان لقاءك مع أهلك؟
تنهدت بملل: لم يكن سيئا لكن الوضع يتسم بالبرود... صحيح أنهم لم يرفضوني مثل المرة السابقة لكن يستلزم الأمر وقتا لترجع الأمور إلى مجاريها.
أومأت متفهمة: من المؤكد أن الأمر سيحتاج لوقت... المهم أنهم قبلوا بك بينهم من جديد...
نادى عليها محمود فقامت لتجلس بجواره وبقيت ياقوتة وحيدة حتى وقف فريد بالقرب منها: لماذا أنت حزينة!
لم تجبه بل طرحت عليه سؤالا آخر: أين كنت؟
قال وهو يجلس بقربها: سلمت على بعض أصدقائي ممن يعملون هنا...
بنصف ضحكة قالت: نسيت سيدك القديم!
شحب وجهه ليقول بملل: ربما هو في حاجة لخدماتك أكثر مما هو محتاج لسلامي.
حدجته بنظرة شزراء لتقف من فورها وتترك المكان له وحده.

عندما التف الجميع حول طاولة الطعام دخلت ليلى تدفع بعجلات كرسي متحرك. يجلس به بشير خائر القوى لا يستطيع الحراك... مترامي الأطراف كجثة هامدة ليس فيه إلا عيونه ترى ما يجري من حوله... بدى بائسا شاحبا ضعيفا... ولم يكن أي منهم يشعر بالشفقة من أجله. ريماس تسعد دائما عندما تجعله شاهدا على سعادتهم لأنها تعلم أن هذا أشد ما يوجعه...
سقوطه في ذلك اليوم على الزجاج الصلب تسبب في إتلاف عموده الفقري ليفقد القدرة على الحركة نهائيا... منذ ذلك اليوم وهو يعاني من كثرة العمليات الجراحية لينتهي به الحال على هذا الكرسي بعد أن يئس الطب في علاجه... لم ينفعه لا ماله ولا جاهه ولا ما كنز لنفسه... انتهى به الأمر ذليلا لا يملك أن يمسح قطرة عرق واحدة تنساب على جبينه ولا حك أنفه أو طرد ذبابة تزعجه...
ولأن ليلى كانت تبحث عن عمل بعد أن استغنى محسن عن خدماتها رمتها الأقدار هنا لتصبح هي ممرضته الخاصة... ربما هذا هو جزاء خيانتها لمحسن، أن تطعمه وتشربه وتمسح من تحته وتحممه وتعتني به كطفل صغير. لكنها أبدا لم تكن راضية بما تقوم به لقد قرفت منه على كل حال ولا تقوم بواجبها إلا مكرهة. حتى أنها في إحدى المرات صرخت فيه من قهرها: "حلمت أن أنجب أطفالا وأربيهم، لا أن أعتني بغوريلا في مثل طولك!"
وكان هو يناظرها بسخط واضح... عيونه المتجبرة المليئة بالقوة أضحت مجرد بئرين لا ينضبان من الذل والمهانة... يراقب الآخرين وهو يعي حقيقة ما يدور من حوله دون مقدرة على اتخاذ أي قرار في حقهم أو حتى الاحتجاج... يتأمل قدميه المرميتين أمامه بعشوائية دون مقدرة على تحريكهما قيد أنملة ولا يديه اللتين تلقي بهما ليلى ذات اليمين وذات الشمال وهي تصرخ بوجهه: "تبا لك مد يديك أكثر!" ولو كانت لديه القدرة على مد يديه لالتفت أصابعه حول عنقها تخنقها...
لا أحد يعرف السبب الحقيقي في فقدانه المقدرة على النطق وإن كانت علته بسبب مضاعفات إثر الحادث الذي تعرض له أو من صدمة شلله!
لكن الجميع كان بإمكانهم أن يجزموا أنه عقاب من الله جل وعلا أنزله عليه بعد أن أمهله طويلا دون أن ينهج الطريق السليم... استمر في غيه طويلا وظن الجميع أنهم لن يستطيعوا الخلاص منه بتلك السهولة... خططوا طويلا وحاولوا بشتى السبل لكن نهايته كانت بيد رب العباد أبسط من أن يتخيلها أحدهم... زجاج طاولة جعله ينهي كل جبروته وغطرسته ويضع حدا لجرائمه وساديته... لم يكن الأمر يحتاج لأكثر من شظية واحدة صلبة وقاسية تكسر عموده الفقري وتتلف نخاعه الشوكي... لينتهي مجده وتأفل شمسه دون رجعة... الملهم في الأمر أنه لم يمت... ظل حيا يرجو الموت دون أن يجد إليه سبيلا... أن يتذوق الهوان بعد كل العز الذي بناه لنفسه وعاش فيه... أن يصبح ذليل قومه بعد أن كان سيدهم..
لطالما صرح لضحاياه أن الموت راحة هي أبعد ما تكون عن أيديهم... كان يتوعدهم بعذاب طويل يرضي غطرسته وتعطشه للأذية. وها هو يلقى نفس المصير غير منقوص...

إِذَا مَا ظَالِمٌ اسْتَحْسَنَ الظُّلْمَ مَذْهباً
وَلَجَّ عُتُوّاً فِي قبيحِ اكْتِسابِهِ
فَكِلْهُ إلى صَرْفِ اللّيَالِي فَإنَّها
ستبدي له مالم يكن في حسابهِ
فَكَمْ قَدْ رَأَيْنَا ظَالِماً مُتَمَرِّداً
يَرَى النَّجْمَ تِيهاً تحْتَ ظِلِّ رِكابِهِ
فَعَمَّا قليلٍ وَهْوَ في غَفَلاتِهِ
أَنَاخَتْ صُروفُ الحادِثَاتِ بِبابِهِ
فَأَصْبَحَ لا مَالٌ وَلاَ جاهٌ يُرْتَجَى
وَلا حَسَناتٌ تَلْتَقي فِي كتَابِهِ
وجوزي بالأمرِ الذي كان فاعلاً
وصبَّ عليهِ الله سوطَ عذابه

أرادوا البدء بتناول العشاء لكن ياقوتة لم تكن هناك فاضطر فريد للبحث عنها وكانت تقف في الحديقة تتأمل النجوم في السماء فوقف من خلفها ليقول بدعابة: لو كنتِ أصغر بقليل كنتُ تزوجتك!
أجابته بملل: لو كنتَ أكبر بقليل كنتُ علمتك الأدب...
ثم التفتت إليه فمد يده لمصافحتها: هدنة مؤقتة...
كررت وراءه: هدنة!.. ومؤقتة أيضا!!!
ثم تأملت يده الممدودة في الهواء لبعض الوقت قبل أن تصافحه: اتفقنا.
ليقول مع ابتسامة: هيا إلى العشاء.
عندما اجتمع الكل حول طاولة العشاء التي يرأسها بشير على كرسيه المتحرك وليلى بقربه تستعد لإطعامه، وقفت ريماس في فستانها الذهبي الجميل لافتة أنظار الجميع: مرحبا جميعا... لقد دعوتكم هذا المساء لأنني أحضر لمفاجأة.
وصلت ريم وبقيت واقفة عند الباب فدعتها للجلوس، ألقت التحية على الجميع وأخذت مكانها على نفس الطاولة فأكملت ريماس بفرح: لقد عملت طوال الأشهر السابقة بمساعدة ريم على التحضير لفكرة... لحلم صغير سنجعل منه حقيقة بإذن الله.
انتبه الجميع بإنصات والفضول يتملكهم ليعرفوا ما الذي تحضران له. لتكمل أخيرا: سنفتتح قريبا مركزا للعناية بالنساء ضحايا العنف والاغتصاب... مع تكفل نفسي ودعم معنوي... لنعيد للمرأة ثقتها بنفسها ونؤهلها في مختلف المجالات حتى تصبح امرأة منتجة....
انبهر الجميع بالفكرة وصفقوا لها بإعجاب مطلقين عبارات دعم وتقدير. ليقول محمود: هذه فكرة جيدة... وإن احتجت لأي دعم نحن هنا...
ليكمل محسن: طبعا سنقف إلى جانبك وندعمك...
شعرت سهام رغم حرجها برغبة ملحة في الكلام لتقول بصوت يغلب عليه الخجل: لا تتصورين كم ستكون هذه الخطوة دعما لعديد من النساء الجريحات المهمشات في هذا المجتمع... اللواتي تبكين وحيدات دون أن تمتد لهن يد تنتشلهن من القعر الذي هن فيه.
كانت نسرين تعرف أن سهام عانت الكثير في زواجها السابق وهي تقول هذا من باب التجربة. لتنطق ياقوتة: أن تعيدي دمج هذه الشريحة في المجتمع حسنة ستؤجرين عليها طيلة حياتك.. النساء اللواتي لا تجدن الدعم ترتكبن بحماقة جملة من الأخطاء... المجتمع لا يرحم ويزيد وزرهن أوزارا ليجدن أنفسهن يتخبطن في الخطيئة دون خلاص...
وجدت نسرين نفسها تنطق رغم أنها قررت التزام الصمت الحذر: لو أننا فقط نستطيع أن نحسس الأولياء بضرورة تعليم البنات، خصوصا في الأرياف والقرى... لو أنهم فقط يحسنون معاملة المرأة.
كانت ريماس تستمع لهن بإنصات لتقول أخيرا: ساعدنني إذن لتحقيق هذا...
صمتن يحدقن ببعضهن البعض لتنطق سهام: أيمكننا هذا؟
أجابها محسن مانحا إياها الاذن لتحقق هذا الهدف النبيل رفقة ريماس: طبعا يمكنك حبيبتي...
شعرت بسعادة غامرة تتملكها وراحت تناظره لتتأكد من أنه حقا لن يمانع خروجها للعمل، بينما قالت ياقوتة: أنا سأدعمك... لدي كثير من الكلام أخبر به البنات ليتعلمن من أخطاء غيرهن... هناك كثير من الأمل بداخلي أريد أن أبثهن إياه ليقفن على أقدامهن بكل عزم وإصرار ويواجهن الحياة...
بقيت نسرين صامتة فهمس لها محمود: ما رأيك؟
أجابته بصوت مختنق بالبكاء: لا أستطيع تخيل كم القهر الذي سأقابله هناك...
قالت هذا وهي تمسح دموعها فحاوط بذراعه كتفيها وربت عليها بحب: أهذا يعني أنك موافقة؟
هزت رأسها بالإيجاب فقال بصوت مرتفع: زوجتي موافقة يا ريماس... أحسني الاعتناء بها فهي رغم شراستها امرأة حساسة...
ابتهجت ريماس من هذا التجاوب الذي لقيته من ضيوفها وحدقت بابنتها مروى التي كانت تشعر بسعادة غامرة وهي تشاهد أمها تقف على قدميها من جديد من بعد كل ما عانته في حياتها... إن كانت الفتيات المعنفات ستحتجن لقدوة فهي أكبر قدوة تقف أمام أعينهن على قدميها الاثنتين.
قالت لابنتها بانفعال وحماسة: وأنت يا ابنتي... ما رأيك؟
وقفت لتعانقها بتأثر مكبرة فيها جرأتها وقوتها... أن تأخذ زمام الأمور من أبيها وتحول دماره زهورا فتية سيشتد عودها مع الزمن هو في حد ذاته خطوة عظيمة تحسب لها... أن تجمع شتاتها بعد سنوات الضياع وتبني نفسها ثم تفكر في بناء غيرها هو قمة الأخلاق ونبل المشاعر.
صفق الجميع بهتاف في تلك اللحظة التي بدأت فيها ريماس بذرف دموع الفرح وهي تعانق ابنتها بحب وهللوا لهما بحماس حتى انفصلتا عن بعضهما البعض، ثم دعت ريم لتعانقها أيضا وتشكرها على دعمها لها و صبرها على ما أصابها. بينما جلست مروى قرب زوجها الذي ضمها إلى صدره لتتوقف عن البكاء وهو يهمس لها: هل تريدين مشاركتهن؟
أومأت نفيا: لا أصلح لمثل هذه الأمور... دعني أبقى معك وحسب.
شدد من احتضانها: أحلى سكرتيرة يا قلبي.

كان بشير يتأملهم جميعا ولسان حاله يقول: "يا ليتني أتمتع بكامل صحتي، لكنت دققت أعناقكم جميعا بدءا بك يا نحيلة الساقين يا من تريد أن تنفق نقودي على غيرها من النساء اللواتي لا يصلحن إلا لبعض المتعة وحسب!" كان ينظر إلى لؤي الذي يمرر كفه فوق ابنته مواسيا دون أن يغفل نظراته الشغوفة إليها، كم يحرقه أنه استطاع أن ينال ما يريد ويحظى بحب ابنته الوحيدة بعد أن خانه وأراد قتله... أما تلك العاهرة التي كرهها منذ زمن والتي تجرأت وطعنته بقوة لتقتله... تلك التي لم تنظر لشكله المخزي وكأنه كائن يبعث على القرف هناك بينهم تجلس بكل وقار وتشارك زوجته في تبديد أمواله... الفتاة الصغيرة التي اغتصبها قد أصبحت قدوة يُحتدى بها وقد تبنتها ريماس كابنة لها... أما محسن فقد كان ينظر إليه بشموخ... وكأنه يخبره أن من يضحك أخيرا يضحك طويلا... رفقة زوجة شابة لا يتردد في منحها الحب والاهتمام أمام الجميع... يبدو أنه وجد ضالّته أخيرا! محمود الذي كان يريد أن يقتله، وزوجته التي أراد العبث بجنينها قبل أن يقتلها يجلسان هناك أيضا وقد اختفى بريق الخوف من عيونهما... كيف لا وهو ليس سوى مسخ فوق كرسي لا يصلح لشيء... عالة على كل من يهتم به حتى وإن كان يتقاضى في المقابل أجرا!
فريد ولؤي "الخائنان" تملكته رغبة عارمة في إطلاق النار عليهما لكنه لا يملك سوى عينين تمسحان تلك الكراسي بجُلاّسها وترجع إليه بفيض من الدمع بسبب عجزه المُضني... لو عاد الأمر إليه ما جلس قبالتهم لينظروا إليه بإشفاق... لكان اختبأ في مكان لا يجده فيه أحد... لكن ريماس تصر على إذلاله بطريقة دبلوماسية وجعله يدفع ثمن أخطائه قطرة قطرة...
الجميع يتناولون طعامهم بفرح ويتهامسون بحب...
كل واحد أنشأ لنفسه مستقبلا وهو يسعى للحفاظ عليه، الكل سعداء تملؤهم الحماسة ويطمحون لغد أفضل مع بريق أمل يشع في الأفق البعيد.

النهاية♡



كانت رحلة ممتعة جمعتنا معا بأبطال روايتنا.
نسرين التي عانت طويلا من أجل حريتها... وكادت أن تهلك كل حياتها بفرارها من المنزل... لأن الهرب لم يكن يوما حلا للمشاكل... بل على العكس العالم مليء بالذئاب البشرية...
أهلها، الذين أهملوا رعايتها وكانوا سببا في نفورها وهروبها.
محمود، الذي دافع عن مبادئه حتى النهاية رغم كل الخوف والمعاناة...
محسن، الذي تعلم متأخرا من أخطائه واستطاع أن يصبح إنسانا من جديد...
سهام، المرأة المكافحة التي ظلت تصارع من أجل حقها في الحياة حتى افتكت السعادة من بين براثين القدر.
فادي، الوغد المقرف الهارب من العدالة الذي سيعيش في خوف وترقب على الدوام حتى تلقي عليه الشرطة القبض ويلقى جزاءه.
وأهله الذين يكفيهم الخزي من ولد مثله...
ياقوتة، التي تابت عن ماضيها وبدأت حياة جديدة أكثر نقاءً...
مروى التي وجدت حب حياتها أخيرا.
ولؤي الذي اتقى الله فجعل له مخرجا ورزقه من حيث لم يحتسب.
وبشير الوغد الذي دمر حياة الآخرين فدمره الله... فمن يزرع الشوك يجني الجراح...

تحية حب ومودة لكل من قرأت هذه الأسطر وعاشت معاناة أبطالها لكل من أعطتها من وقتها وحرصت على إتمامها، سعيدة جدا أنني حملتكم في مركبي لنبحر سويا في هذه الأحداث راجية من الله عز وجل أنني قد أفدتكم ولو قليلا فالقلم رسالة قبل أن متعة...





نلتقي في أعمال أخرى عن قريب إن شاء الله.:
قصة من جزئين:

قبلة بلا شغف

وفي عينيك الحب كله



ونوفيلا
أهداني في ضمة وطنًا


بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس