عرض مشاركة واحدة
قديم 09-10-21, 04:02 AM   #7

ألحان الربيع
 
الصورة الرمزية ألحان الربيع

? العضوٌ??? » 492532
?  التسِجيلٌ » Sep 2021
? مشَارَ?اتْي » 2,297
? الًجنِس »
?  نُقآطِيْ » ألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond reputeألحان الربيع has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثاني ((الهجرة))


"أبي..."

"أبــي!!!"

ضاعت الكلمات بين ثلاثة حروف...لرؤية من يقف أمامنا...
نعم أنها هي حبيبته...هل يمكن أن أخطِئُها ؟!.... مستحيــــل.......هي بذاتها بالحروف المطرّزة عليها.... مشتقّه من أسماءنا (عائشة وهادي ودنيا)....بعد أن وُلدت شقيقتي جعل أمي تطرّز حروفنا تجمعها بكلمة (عهد)..
ابتلعت ريقي أحاول استيعاب المشهد...حدّقت بالواقف أمامي....رجل غريب في ريعان شبابه....ماذا تفعل بندقية أبي معه؟؟!!....وقع نظري على يده الأخرى....إنه مصحفه!!.....المصحف الذي لا يفارقه بمعاركه!!.....كان يضعه بالجيب الداخلي لسترته قرب قلبه , غلافه من المخمل الأخضر....
جحظت عيناي بعد أن لمحتُ لوناً أحمراً يدمغ على زاويته....
تعاقبت أنفاسي....أصابني الوجوم....اختلج شيئاً في صدري......


مـ مـ ما هذا ؟" "

كان صوت جدتي المخنوق الذي دفعني من الخلف بقوةٍ لأجتثّ السلاح والمصحف منه صارخاً:

"أين أبـــــي؟!....أجبنـــي!....هل هو آتي؟"

لم انتظر ردّه وانطلقت متخبطاً بخطواتي للخارج كغزالٍ صغيرٍ تائهٍ عن أمه...أبحث في حدقتيّ علّني أقتنص إشارة ترشدني إليه أو أشتم عطره الذي يسبقه ليطمئنَني على قدومه.....
هدأت الرياح التي اصطحبها معه مخلّفة فراغاً قاتلاً....

عدت أجرّ أقدامي...مسكت تلابيبه بقبضةٍ واحدةٍ...أكاد أنهار متوسلاً:

"أرجوك...أخبرنا أين أبي؟"

أسدل جفنيه يحاول إخفاء نظراته ثم أجابني بانكسار متلعثماً:

"السيد...السيد محيي الدين...استشهد....البقاء لله"

هل هو زلزال من تحتنا؟ أم انفجار بركاني يحرقنا؟! أم أطبقت
السماء على الأرض؟!
هي صرخات من خلفي اخترقت جدران البيت أحدثت اهتزازاً في المكان ....

ذهب عامود بيتنا ...رحلَ مصدر أماننا...كيف السبيل الى السعادة من بعده ؟.... آخر ليلة معنا قبل اسبوعين شدّد من احتضاننا...كان يمسّد على بطن أمي ويداعب أخي في جوف رحمها يسأله متى سينير حياتنا ....كم كان متحمساً للقائه !!...أما المدللة (دنيا) خرج ليشتري لها الحلويات والوقت متأخر والأمطار غزيرة ولم يبالي فتلك هي دنياه..... لا يناديها الا دنيانا ....أذكر مررت عنه في غرفة المعيشة كان يجهز بندقيته ويلمعها وكأنّها عروساً يوم زفافها ...ناداني وأجلسني جانبه....وضعها في حضني وقال

// هذه البندقية هي شرفنا فحافظ عليها من بعدي , قيمتها ترتفع عند استعمالها ضد الظلم... ولنصرة الحق, الدين, الوطن.. ولا قيمة لها اذا رفعتها بوجه ضعيف، أعزل، مظلوم، امرأة، عجوز وكل من يحمل في قلبه شرع الله \\

كانت عيناه تلمعان تحكيا حكاية بطل ,حكاية حب الوطن ,حكاية تسطّر الطريق لنصرة الحق والدين....هل يا ترى كان يشعر بدنوّ أجله؟؟!!....آااه يا أبي ...لو كنت أعلم بفراقنا الأبدي لقضيت تلك الليلة أنعم بأحضانك واتنفس أنفاسك ...لأخبرتك في كل ثانية كم أحبك وسأبقى احبك الى آخر نبضة في فؤادي...
~~~~~~~~~~~~~~

في بلاد الخارج تجلس بأريحية على الأريكة تضع ساقاً فوق الآخر ...تحتسي قهوتها مستمتعة...فهي بأقرب مكان لقلبها.... ببيت صديقتها (ايمان) التي تعرّفت عليها قبل أربع سنوات في مؤتمر يختص بشؤون المهاجرين واللاجئين ونشأت بينهما علاقة وطيدة...كانت من المهاجرين المقيمين في كندا وانتقلت الى تلك الدولة منذ عشر سنوات....لقد عوضها الله بشقيقة لم تلدها أمها بعد ان فقدت اختها (كريمة) والدة (ألمى)....


"كيف استطعتِ ترك ألمى؟"

سألت (ايمان) بتعجب فهي أكثر من تعلم ماذا تعني ابنة شقيقتها لها...ولن تتركها ولو على قطع رأسها!!

وضعت فنجانها الفارغ على الطاولة برقةٍ وأسندت ظهرها للوراء...تنهدت وقالت بثقة مستنكرة:

"أتظنين أنني اتركها بالفعل؟؟"

نظرت إليها بتساؤل تنتظر أن تفسر لها....فمدّت يدها تربّت على ساقها وتابعت:

"أريد أن أعاقب تلك الشمطاء عن طريق زوجها...فرغم بغضي له إلا أنني أدرك انه لن يتخلى عني"

تبسمت بسخرية وأضافت:

"ليس محبة لي طبعاً إنما للاهتمام بابنته فهو يرى مدى تعلّقها بي وهذا يخفف من حمله ...وأيضا لا يسمح لتلك بالاعتناء بها"


"كيف سيعاقبها ؟"

سألت بفضول...


"عندما يفتقدني ويعرف عن رحيلي بسببها وبالطبع سيرى أميرته منهارة سيخرج شياطينه عليها"
اجابت بمكر وضحكت تتخيّل انفجاره عليها فكم من مواقف شاهدته يعنّفها إذا مسّت أحد خطوطه الحمراء وكيف ان كانت مدللته (ألمى)...

تابعت (ايمان) بتحقيقها تظن أنها بمقابلة لكتابة مقال مع احدى الشخصيات الشهيرة:

“والآن ما هي خطتك؟؟"

ردت ببرود وثبات:

"انتظري ...قبل حلول المساء سيكون هنا معتذراً لعودتي من اجل ابنته"


"ويحــك"

هتفت باستنكار وأردفت:

"لا اظن انه سيأتي بنفسه فنحن نتكلم بالنهاية عن عاصي رضا المغرور المتعجرف"

صمتت لبرهة ثم أكملت:

"بالتأكيد سيرسل السائق"


"لننتظر ونرى"

قالت(فاتن)باختصار...


"اذاً لنرى"

أكّدت (ايمان) بتحدّي...

~~~~~~~~~~~~~

تناثرت الملفات أمامه بعد أن عصف بها غضباً....لا يصدق!!
قبل أيام قليلة أخبره عن إتمام الأمر بنجاح ويريد الحلوان!! ....ماذا تغير؟؟
هل كل مخططاتهم أصبحت هباءً منثورا؟!!....لقد سعى جاهدا ليزيل العقبات من طريقه حتى يصل لهدفه....شعرة واحده تفصله لتحقيق حلمه ...نهض عن كرسيه الضخم يضع يديه على خصريه ....صفع جبينه بقهر ...آخر مهماته كانت الأصعب!!....جازف وخاطر بها ....أنفق أموالاً طائلة لإنجازها......ليتلقى في النهاية اتصالاً آخراً من والد زوجته في عاصمة الوطن وهو رئيس الوزراء يخبره عن انفكاك الحكومة بعد انقلاب جنود الدولة عليها لتشتعل الحرب مجددا في مثلث زواياه ,الثوار ,الجنود وحلفاء الحكومة الحالية..!

مرّت ساعتان دون أن يبرح مكتبه....يحاول جمع شتاته...عليه العمل على ما تبقى من أمل....يهاتف هذا وذاك...يبحث ويخطط....

وبينما هو بمعركته الفكرية علا رنين هاتفه الأرضي...استَلّه دون تردد ليجيب:

" من معي.؟؟ "

"............"
كان هذا والد زوجته الذي عاود الاتصال به لحاجة....

لوّى فمه باشمئزاز فهذه المرة الأولى التي ينعته ببنيّ وتوقع أن يسمع طلباً ثقيلاً بعد هذه المقدمة الزائفة فردّ بنبرة زاجرة:

" نعم!!....ماذا تريد؟؟"

"........."

تعالت ضحكاته غيظاً وأجاب متهكماً:

" هل جننت؟!....بالطبع مستحيل"

"........."

"لا شأن لي بذلك!!......سوف اغلق الآن لديّ مشاكل أهم لأحلّها"

اغلق بوجهه قاطعا اخر رابط هاتفيّ به....

~~~~~~~~~~~
في قصر العنكبوت عاد ( عاصي رضا) بتثاقل عيناه تضيء بالأحمر تنذر وتحذّر من الاقتراب منه ....حتى انه لم ينتبه لعدم وجود أميرته التي تسارع لاستقباله والقاء نفسها في احضانه....صعد الى غرفته ينفث لهباً.....انتبهت زوجته للاشعارات الصادرة منه ....ازدردت ريقها رهبةً ...تسللت بهدوء تنزل تسبقه الى غرفة الطعام تجنّباً منه واستعداداً لتناول العشاء....لحق بها بعد وقت قصير وبدا على وجهه الاسترخاء بعد أن اخذ حماماً دافئاً......تجلس على يمينه زوجته وبجانبها ابنها (كرم) ومقابلاً لهما المربيّة السيدة (سهيلة)....بدأت الخادمة بتقديم اطباق الطعام....كان يتكئ بمرفقيه على الطاولة ويشبك كفيّه ببعضهما....رفع احد حاجبيه باستغراب بعد ان مرّ وقت قليل لوجوده وسأل موجهاً كلامه للخادمة:

"أين ألمى وفاتن؟؟"

ابتلعت ريقها ونظرت للجالسة أمامها والتي كانت تعطيها إشارات للصمت تنهاها عن الكلام.....ولما لم تجب وهمّت بالانصراف لفّ وجهه بتوجس لزوجته يكرر السؤال...حاولت التملّص بإشغال نفسها بسكب الطعام لابنها فصرخ بها :

" أظن أنني أتكلم معك....اجيبيني أين هما ؟؟"

تنحنحت المربيّة وشاركت الحديث مجيبة بهدوء:

"عذراً سيد عاصي.... السيدة الصغيرة ترفض الطعام لحزنها على ترك خالتها للمنزل"


"ماذا؟؟...فاتن تركت المنزل ؟؟....لمَ؟؟"

سأل بنبرة مرتفعة متعجباً وهو يوّزع نظراته بينهم يحاول سلب الإجابات من افواههم...

" نعم سيدي...بعد صراعها هي وألمى مع السيدة سوزي"

أجابت بتردد...


"صراع ؟!...ما السبب؟!"

قالها ولم ينتظر الإجابة من كليهما بعد أن فزّ متوجهاً للأعلى الى غرفة ابنته....


"عزيزتي."


" حلوتي..."


"حبيبتي لوما..."

نادى بها بحنان وهو يطرق الباب بلطف ثم ولج الى الداخل بعد أن سمع صوتها تأذن له بالدخول وجلس على طرف السرير بجانبها أحاط كتفيها بذراعه ...يمسّد على شعرها ويهمس لها:

" ما بك أميرتي حزينة؟؟...أخبريني وسأعاقب من كان السبب"

تربّعت على فراشها تواجهه وكتّفت ذراعيها قاطبة حاجبيها تسأل باستنكار:

"حقا؟....هل ستعاقبها؟؟"



"من هي؟"



أجابت بعبوس منفعلة:

"زوجتك أم كرم "

ضحك لانفعالاتها البريئة ولم يعلّق على اجابتها فهو لم يجبرها يوماً على الارتباط بها وبناء علاقة بينهما لأنها لم تهمه كزوجة ...وان كانت تتعامل معها برقيّ واحترام فذلك يعود الى شخصيتها الطيبة وتربية وتوجيهات خالتها والمربية لها....

سحبها الى حضنه يدفن وجهها بصدره عندما رأى احتقان عينيها بدموع القهر ,همس لها :

" حسنا صغيرتي اهدئي....اخبريني ماذا فعلت لكِ؟"

قصّت عليه الموقف بأكمله في الحديقة....قاطعها ناهراَ بلطف :

" حبيبتي لا يجوز أن تلعبي مع أولئك الخدم....من الممكن أن يضروكِ فبالتأكيد يغارون منك ..."

تنهد وأضاف بتجبّر :

"لا يؤتمن لأي شخص ليس من مستواكِ أميرتي....فجميعهم يسعون لأذيتنا من حقدهم وحسدهم على ما نملك.."

رفعت رأسها تنظر له دون أن تهتم لما قاله وتابعت:

"كانت تهددني دائماً بطردك لخالتي.....والآن فقدتها فيمكنني اخبارك كل شيء"

أخبرته بمعاملتها معها ومنعها من اللعب بغير غرفتها ونعتها بألفاظ بذيئة....كانت تسرد له روايتها ....تشدّ من احتضانه تستغل هذه الدقائق التي يتكرّم بها عليها يختصها وحدها دون ازعاجات خارجية فكم تحتاج لحضن يسندها ,يحتويها يشعرها بأنها ليست وحيدة ...حضن الأب أو الأخ الذي لا يقارن بآخر لأنه يعني القوة والأمان لكن لانشغاله بأموره يبقى احتياجها معلّق في الهواء....هي تتحدث وهو يصكّ على فكيّه ...دماؤه تغلي في عروقه...حاول السيطرة بدايةّ وفي النهاية خرج مسرعاً يهبط السلالم بخطوات كبيرة ...يتجه صوْب طاولة الطعام ...يمسك بذراع(سوزي) غير مكترث لمن حولها ...يضغط عليها بقوةٍ صارخاً:

"كيف تسمحين لنفسك بفعل ذلك لابنتي وأنا حذرتك بعدم التدخل في شؤونها ثم منذ متى يحق لك قرار من يبقى ومن يذهب ؟؟"

أجابت وهي تحافظ على برودها ..ترفع رأسها بغرور:

"أنا سيدة القصر والجميع هنا في غيابك تحت أمري...يبدو أنك نسيت ابنة من أكون.."


سحبت المربية (كرم) معها وتركتهما على انفراد.......


أفلت يدها يصفق كفاً بالآخر ..مطلقاً قهقهات ساخرة ثم استقام في وقفته وقال متهكماً:

"كنتِ.."

توسعت عيناها بفضول فتابع:

"كنتِ سابقاً ابنة رئيس الوزراء...أما الآن والدك بلا منصب بسبب انفكاك الحكومة وبما انه متورط ببعض الأعمال سيفر هاربا للخارج ويصبح مشرداً بعد الحجز على ممتلكاته"

سعل من شدة الضحك يضع يده عصدره وأضاف بغرور:

"مشغول حاليا يبحث عن مأوى يهاجر اليه.....تصوري ظنّ أنني سأستقبله في قصري ؟!"

سألت بصدمة:

"ماذا تقول؟..ألم توافق على ذلك؟!"


"بالطبع لا....هل مكتوب على بوابة قصري مأوى للمشردين؟!...يكفيني احتواء ابنته وحفيده من غير فائدة تُرجى "


"لم أكن أعلم أنكَ بتلك الدناءة والقذارة"

ردت عليه بازدراء...


"الطيور على اشكالها تقع ايتها القذرة"

ألقى جملته الأخيرة وتركها مدبراً لابنته ....وبعد لحظات نزل يمسك بيدها قاصداً الخارج...

~~~~~~~~~~~~~~

قرع جرس الشقة بإصرار بينما كانتا تتناولان وجبة العشاء بجوٍ أليف، دافئ، لا يخلو من مرح صديقتها (ايمان)....

"نعم نعم لقد جئت....لحظة"

هتفت (ايمان) وهي تمسك منديلاً تزيل عن فمها بقايا الطعام متوجهة لتفتح الباب....

نظرت بذهول للواقفين أمامها وحدثت نفسها "اذاً فاتن معها حق!!" .

دخل (عاصي رضا) مع صغيرته للاعتذار الجاف الذي كان مضطر له من اجل ابنته فقط وهذا يعد اذلالاً بحقه والّا لم يكن ليسأل عنها البتّة ...بعد انصرافهم أغلقت الباب واتكأت عليه بظهرها ...تكتّف ذراعيها وتحرّك اصبعيها على ذقنها شاردة بأفكارها تهمس بخفوت :

"هكذا اذاً يا سيد عاصي رضا....كنت اعتقد أن لا شخص يعنيك في الحياة ولا حتى ابنتك!!....فقط منصب ومال!!...ربما تكون هي السلاح الذي سنضربك به يوماً ما...من يعلم؟!......الأيام بيننا اذا أراد الله لنا ذلك..."

~~~~~~~~~~~

يومان ونحن في حالة توقف عن الحياة...كأنّ عـقـارب الساعة بقيت مكانها وأبقتنا معها....ننتظر وصول جثمانه الطاهر لنواريه الثرى في مدينته ومسقط رأسه ليحتضنه ترابها الذي أفنى عمره لأجله ...ليضاف شهيداً آخراً فخرا لبلدته....
جدتي دخلت في صدمة تركتها طريحة الفراش.....نبض الحياة أمي تأخذ المهدئات بعد الانهيار الذي أصابها....أخي الرضيع حُرِمَ من حليب امه بعد أن جفّ من حزنها وحدادها على زوجها, بطلها, سندها, أبيها وأخيها بل عائلتها بأكملها التي فقدتهم في الصغر...
ربما كنت أنا الأكثر تحملاً رغم حزني الدفين في كل شعيراتي الدموية.....
استجمعت قوايَ راضيا بقضاء الله لأتولى رعاية أختي , فخالتي (مريم) توّزع اهتمامها بين أمي و(شادي) الذي أجبر على تناول حليبه المصنّع من الزجاجة.....

جاء اليوم التالي المتفق عليه لاستلام الجثة....
جميع أهل البلدة والأصدقاء ومن يُكِنُّ لأبي المحبة والولاء ساروا في جنازة مهيبة تليق بانسان عاش ومات شريفاً خادماً للدين والوطن...

[[ أبــي...
مشيتُ خلفك شامخاً والبلبل يشدو بالغناء
فداءً للوطن حارساً لتُفتح أبواب السماء
بين النجوم وجهك متلألئاً كبدرٍ ساطع في بهاء
سيبقى اسمك خالداً شهيداً بصحبة الأنبياء ]]

~~~~~~~~~~~~

" لا اصدق انك تتعمد اهانتي!!...كيف تعيدها الى البيت؟!"

هتفت(سوزي) باستياء وهي تمشي خلفه تتبعه الى مكتبه بعد عودة (فاتن) الى القصر...

رد دون ان يلتفت لها:

"هذا بيتي أنا....اياك الاقتراب منها او من ابنتي...هما في حالهما وأنت وابنك في حالكما...لا أريد مشاكل....هذا ليس وقت الانشغال في تفاهاتكم جميعاً"

اخذت الجزء الأخير من كلامه وقالت بضيق:

"بالطبع فماذا تعني لك العائلة؟!...المهم هو الحصول على الأموال ونَيْل أعلى المناصب"

استدار خلف مكتبه يجلس على كرسيه..يقول ببرود متهكماً:

" اوه سيدة سوزي منذ متى تغيرت ميولك ولم تعد الأموال أكبر اهتماماتك؟!"

احمّر وجهها حرجا ..فتابع ببروده:

"ثم لا شأن لك بذلك.."

كان قد طفح الكيل معها وصلت ذروتها من الاهانات....فمن جهة كسر كلمتها امام(فاتن) ومن جهة أخرى رفض استقبال والدها في بيته حتى يصلح اموره....لقد تكلمت معه فور خروج زوجها وأمطرها الآخر بوابل من الاهانات ...يتبرأ منها... فبنظره لا نفع منها كابنة مادام لم تستطع اقناع زوجها بشأنه... قرر الرحيل الى ابنيه في هولندا مرغماً فهو لا يطيق زوجتيهما فإحداهما أجنبية والأخرى من عامة الشعب الذي رفض نسبها ولكن ابنه عصاه وتزوجها ورحل وها هو يتلقى نتائج افعاله وتربيته الفاشلة وسعيه وراء المظاهر الكاذبة ومال الحرام ...


" هل تعتقد أنك ستحصل على ما تسمو إليه؟!...انه حلم ابليس في دخول الجنة"


ألقت قذيفتها بغباء ففزّ من مكانه متجها نحوها.. يرمقها باحتقار.. يهدر بفظاظة:

"اصمتي يا وجه النحس!!...سأحصل على ما اريد وعندها ستكونين ملقاة مع والدك في الشارع"


" لا تثق بنفسك كثيرا وتنغر....لا بد من ظهور شخص ما يرسلك الى قعر الأرض لتعود في حال أسوأ مما كنت عليه قبل زواجك من (كريمة)...أوَتظن أن لا علم لي بماضيك؟؟"


دوت صفعة على خدها هزت الأرجاء من شدتها بعد أن أنهت كلامها بحماقة ...أيعقل انها لا تدري مع من تلعب؟!...فنقاط ضعفه المال , ابنته , وماضيه الغير مشرّف....تركها وخرج ينفث لهيباً من احشائه ...تعرّق جبينه قلقاً...سيتحدى الجميع ولن يسمح لأي شيء بالوقوف في طريقه والتأثير على أحلامه التي فعل المستحيل لأجلها....

هوَت (سوزي) بجسدها على أريكة موجودة في مكتبه... تتحسس مكان الصفعة....عيناها غارقتان بالدموع....تفكر بنفسها وابنها...أعادت شريط حياتها السابقة....ابتداءً من والد باعها وهي بعمر الزهور لرجل يكبرها بعشرين سنة من اجل المال لم تذق معه طعم السعادة ...كانت كمومس له يفرغ بها رغباته ثم يلقيها يذلها بابيها ويضربها وبالكاد استطاعت الانفصال عنه....
عادت مع ابنها لأهلها الذين اجبروا على استقبالها متثاقلين, مع أنهم من الأغنياء ولا ينقصهم شيئاً...طلب يدها(عاصي رضا) وكان بنظرها المنقذ من بطش والدها....تعترف بداخلها انها هنا على الأقل تعيش برفاهية وكامل الحرية مع ابنها بغض النظر انها مجرد كرسي في البيت بعين زوجها...لا تشعر بأنوثتها...لا كيان ولا وجود لها في صفحات حياته.....هي صفقة اعتقدها رابحة لغايته ولكنه خرج منها بخفيّ حُنيْن بعد طردِ والدها من منصبه....
كانت الصفعة بمثابة منبه لاستيقاظها من تهورها...عليها اصلاح ما افسدته قبل أن تصبح متسولة تجول الشوارع....
الآن ليس وقت البكاء على الاطلال...يجب أن تتحرك الى الامام...يجب ان تكون اقوى من اجل ابنها....بحثت في عقلها عن طرف خيط لضمان مستقبله....هي تعلم أن أكثر ما يعلّي شأنها بنظر زوجها هو احضار ولائم غنية بالصفقات الدسمة التي تغذي مشاريعه ومسار حياته....هكذا تكسب صفّه وتحافظ على مكانتها في بيته....
لمعت عينيها وأمالت زاوية فمها بمكر بعد أن وجدت ضالتها...
زفرت أنفاسها تستجمع قواها وصعدت الى حمام غرفتها تغسل وجهها بالماء البارد لتنتعش وتبدأ بتنفيذ مخططاتها بدايةً من رفع الهاتف لتدقّ لصديقتها:

" مرحبا...كيف حالك عزيزتي اسراء؟"


" أهلا بالغالية سوزي أنا بخير واشتاق لك كثيرا ما هي اخبارك؟"

استرسلت بالحديث مع (اسراء) صديقتها من الوطن التي لم تنقطع علاقتهما ابدا مع ان كل واحدة بدولة...هي زوجة رجل أعمال شهير يدعى (رائد السيد) ...يقيمون في استراليا حاليّاً...فهم دائمو التنقل بين البلدان ولهم ولدٌ وحيد اسمه (صلاح) البالغ من العمر اثني عشر عاماً.... قررت محاولة اقناعها للإقامة معها في تلك البلاد بعد ان اخبرتها سابقا باستيائها من وضعها فابنها يتعلم لغة يتقنها ثم ينتقلون الى دولة أخرى ولغة أخرى... وانهم يريدون اختيار بلد يستقرون بها....

"لم لا تأتون هنا ؟! بلد جميلة، متطورة، شعبها راقي والأهم تناسب أعمال زوجك.... يستطيع فتح مشاريع كما يحلو له...وربما يتشاركان هو وزوجي...وهكذا نلتقي انا وانت كالسابق وابنينا يصبحان صديقين"

أدلت بصنارتها لعلّ وعسى تُخرج السمكة الذهبية، فتحمست الأخرى هاتفة:

"لم تخطر في بالي سابقاً...من حسن الحظ أنك اتصلتِ بي فنحن كنا على وشك اتخاذ القرار.... سأخبره حين يعود وأعلمك بقرارنا..."

أغلقت الهاتف بعد ان ودعتا بعضهما ....انجزت مهمتها وفقط عليها الدعاء لتصيب صنارتها....

~~~~~~~~~~~~~~

جلس مقابلا له في شركته بعد أن دعاه لأمر عاجل....تبادلا أطراف الحديث العام....نهض السيد(سليم) يضع يديه على خصريه واقترب ينظر للخارج من نافذة مكتبه ثم تنحنح هاتفاً بصوته الجهوري:

" كما أخبرتك سابقاً....حان موعد سفرك"


"متى؟؟"

سأل السيد(ماجد) وهو صديق الثوار ومساعدهم إعلاميا ومعنويا والمرسال بين القادة السريين والمعسكر...

استدار نحوه ثم خطا ليجلس على الكرسي المحاذي له وقال:

"خلال يومين....."


"حسنا...أعطني وقتاً لأرتب أموري.."


"ألم تخبر عائلتك؟؟"


"بلى وهم مستعدون لذلك ,لكن تبّقى بعض الإجراءات الرسمية في المصرف وإخبار أهلي....فإرضاء والدتي واقناعها سيأخذ بعض الوقت لأنني لم افترق عنها من قبل."

~~~~~~~~~~~~~~~~

بعد أسبوع من وفاة أبي عادت أصوات الانفجارات تدوي في كل مكان...ليلة تلو ليلة والحرب تشتد.... قصفٌ هنا وضربٌ هناك!!...بيوت تهدم, أرواح تزهق , أطفال في حالة رعب, عائلات تتشتت, نساء تترمل , أمهات ثواكل...دُمرت بلدان كاملة!!...من سيعمّرها؟! من سيعيد الأزواج لنسائهم؟! من سيواسي الأمهات؟! من سيعوض الأطفال؟!
كان القصف مازال بعيداً عن منطقة سكننا , ولأن أمي لم تفِقْ من صدمتها بعد ...اضطرت عمتي(لبنى) وهي زوجة السيد(سليم الأسمر) صديق أبي ورفيق دربه ومخزن أسراره لأخذ جدتي التي تفاقم عليها المرض والانهيار الى بيتهم في مدينتهم الأقرب للحدود الجنوبية الغربية بعيداً عنا....
×
×
×
تلى الأسبوع أياماً قليلة ووصل الى مسامعنا اقتراب الجنود الى بلدتنا لأنها رحم ولادة الثوار ...بدأوا بالزحف الى مركزها لتدمير المقرات السرية وتهديد عائلاتهم.....

" خُذ شادي لتطعمه....والدتك مشغولة على الهاتف وعليّ الاهتمام في الطبيخ"

طلبت مني خالتي (مريم) الاهتمام به بعد أن رأتني متفرغاً لتتابع عملها في المطبخ ...ما لفت انتباهي هو انشغال امي على الهاتف!!....كانت قد بدأت بالتحسن منذ يومان....الغريب في الأمر انها ليس من عادتها الإطالة بالحديث عبر الهاتف!!....

أطعمتُ الصغير ورفعته على كتفي أربّت على ظهره بخفة ليتجشأ في حركة بتّ أعرفها...فمكوثي في البيت جعل مني حاضنة له ولشقيقتي....

التفتُّ الى يميني حيث الباب الواسع لغرفة المعيشة عند سماعي خطوات أمي وخالتي تقتربان منا.....كان وجه أمي شاحب ونظراتها تتكلم!!... ويبدو أيضا على خالتي أنها مثلي لم تفهم سبب سحبها معها الى هنا!!.....اقتربت مني تحمل أخي وجلست بجانبي وأنا اتأمل تقاسيمها أحاول قراءة ما يدور في رأسها....أومأت بعينيها لخالتي لتجلس فردت:

"لا يمكنني ترك الطبخة على النار....ستحترق"


"اذهب ياهادي واطفئ الموْقد وعد فوراً"

امرتني والدتي بصوت مرتجف...

اطفأته وعدتُ لمكاني ...فهتفت خالتي بتوجس:

" ما بكِ عائشة وجهك اصفرَّ بعد مكالمتك مع لبنى.."


" لم أكن أكلم لبنى بل زوجها السيد سليم"

ردت امي في الحال توضّح سبب شحوبها...


"السيد سليم؟؟!!....ليس من عادته الكلام معك مباشرة!!"

قالت خالتي باستغراب...فهو رجل ملتزم غيّور وبغياب والدي وبعد وفاته كانت عمتي(لبنى) همزة الوصل بينهما عندما يكون امراً طارئاً ليخبرنا به.....


"ماذا يريد عمي سليم؟!"

سألتُ بفضول.....

أخفضت أمي عينيها للأسفل وابتلعت لعابها وهمست بتلعثم:

"علينا..أن...أن نهاجر"


"ماذا؟!"

صرخت خالتي أما أنا كنت أترجم كلمتها في عقلي فتابعت بنبرة يائسة:

"أخبرني أن لا وقت لدينا...فالعساكر سيحاصرون الجبل خلال أيام قليلة وعلينا الاختيار بين الاستسلام لهم من غير مقاومة او النزوح الى مكان آمن حفاظاً على ارواحنا وشرفنا..."

تنهدت وأضافت:

"أنتم تعلمون الاستسلام يعني الاستسلام لبطشهم والله وحده يعلم ماذا سنواجه تحت أيدي أولئك الطغاة..."

رفعت وجهها اليّ نظرت بعيون دامعة ازدردت ريقها وأكملت:

" أنت شاب ومن الممكن أن يأخذوك الى التحقيق لتقر عن أشياء تعلمها ولا تعلمها ....ونحن نعرف ماهي اساليبهم لسحب الكلام او الاجبار على قول ما يريدون لصالحهم "

سكت الكلام...لم أجد أي تعليق يعبّر عن مشاعري....هل هذه حقيقة التي أسمعها؟!....من قرر ذلك؟!..أيمكنني أن أتنفس هواء غير هوائي الجبليّ؟!...ألا يدركون انني انا سمكة في بحر وبإخراجها سأنتهي؟!!...هل سأترك خمسة عشر سنة عشتها في بيتي وحارتي تذهب أدراج الرياح وكأنها لم تكن يوماً؟؟!....بل أصدقائي أيعقل أن افترق عنهم بعد أن اتفقنا لنكون معاً لآخر العمر , حتى أننا بنينا أحلاماً وصلت حدّ السماء !!.....بالله عليهم ماذا يهذون؟؟!!...هذه ترّهات لن أقبل بها !!!!


" كلا وألف كلا"

صرخت بعد عودتي لواقعي أحمل تلك الكلمات....

نظرت لي أمي نظرات رجاء , ضعف , وكأنّها تستنجد بي!!...اغرورقت عينيها بالدموع..ضمّت الصغير الى صدرها بقوةٍ وهمست بصوت مختنق:

"ارشدوني ماذا افعل ؟؟.....هل نجلس هنا ننتظر حتفنا؟!....إن متنا جميعاً فلا بأس, ذلك لا يهمني...أما....أما...."

بترت كلماتها وسط عبراتها وبدأت ترتعش توشك على الانهيار ثم رفعت صوتها تخفي ضعفها وراءه وتابعت :

"أما ان فقدت أحدكم سأموت في الحياة ...أنا لا أقوى على هذا...فلتشعروا بي ......ذهب حبيبي تاج رأسي وتركني اواجه هذه الصعاب لوحدي!!....يكفيني ما عانيت من رحيل الأحبة "

دفنت وجهها بأخي وعلا نحيبها ....كانت كل دمعة تقطر منها تغرز كخنجر في فؤادي وصوت بكائها يمزق روحي.....اقتربتُ منها أضمُ كتفيها بذراعي مقبّلاً رأسها هامساً باستسلام :

" كما تريدين يا نبض الحياة...فلترضي عنا... أرجوكِ لا تبكي"


خالتي تضمُ(دنيا) في حضنها بعد أن رأت الوجوم يعتريها من بكاء امي....


تظاهرتُ بالقوة وسألت:

"متى سنرحل ؟!! وهل يوجد حديث عن عودة أم أن علينا نسيان شيء اسمه وطن ومدينتنا الجبلية وقصرنا العريق؟!"

مسحت امي دموعها بأطراف اناملها وأجابت بين شهقاتها:

"بعد غدٍ ان شاء الله وبإذن الله سنعود عندما تهدأ الأوضاع ..هكذا وعدني السيد سليم.."

أملتُ فمي ببسمة ساخرة وقلت في سرّي "وهل من أملٍ لتهدأ الحرب مادام يتنفس على هذه الأرض الجبناء والأوغاد"
×
×
×
أشعلتُ النار بعد أن جمعتُ بعض الأغصان اليابسة الصغيرة أضعها بين الحجارة لأتدفأ, أنتظر وصول صديقاي (سامي وأحمد)...
كان الوقت هو العصر من اليوم التالي لقرار الهجرة في بيتنا....قمتُ بالاتصال بهما لنلتقي بأعزّ مكان على قلوبنا...جمَعَنا دوْماً لسنوات....كان عبارة عن مرتفع يطلّ على القسم الأسفل من مدينتنا , فتضاريسها تبدأ بالارتفاع تدريجياً حتى تصل حيّنا الموجود في أعلى نقطة منها المحاط بأشجار السرو الكثيفة وكأننا في غابة....
أما مكاننا هذا فهو بطريقٍ ترابيٍّ جانبيٍّ كأنه تلة صغيرة تزيّن رأس الجبل ونبتت فيه شجرة من أشجار الخروب دائمة الخضرة التي نستظل بها ...نجلس على صخور تحتها...نشاهد منظر الغروب منها ونتسابق في القاء الحجارة من يحصّل على أبعد نقطة....كانت هذه أفضل العابنا التحدّي....
كنتُ جالساً بسكون ..تارةً أحرّك النار بعودٍ رفيعٍ وتارةً أخرى أسرح بمنظر مدينتي الحبيبة.....

"السلام عليكم..."

ألقى (أحمد) التحية وتبعه (سامي)الغليظ بـ:

" ما بك تبدو كالأرملة التي فقدت زوجها لتوّها؟! ...بقي عليك أن تولوِل"

" وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.....هيا اجلسا"

قلتُ وأنا أخفي نظراتي المحترقة عنهما....أتمالك نفسي.....

جلس كل منهما على جانبيّ ننظر بنفس الاتجاه الى الأمام....فتنحنحتُ لأحافظ على اتزان حبالي الصوتية قائلاً بدون مقدمات:

"سنهاجر.."

رمقني (احمد) بنظراتٍ مصدومة قاطعها (سامي) باستهزاء وهو يلوّح بيديه أمام وجهه :

"هِيـه هل صدقت هذا الأحمق أيها المغفل؟!...هو لا يمكن أن يتنفس غير هواء جبلنا"


"بلى...أنا لا أمزح"

قلت بصوت ضعيف.....


"لماذا؟!"

سأل (أحمد) بعتاب...


كان (سامي) يحدّق بجانب وجهي الأيمن حيث يتواجد فأجبتُ بقهرٍ ظهر بنبرتي:

"هذا قدرنا لنحمي أنفسنا.."

وعند آخر حرف غدرتني دمعة ظلّت عالقة محاصَرة في زاوية عيني اليمنى ...لمحها من كان بهذا الجانب فأدرك صدقَ قولي وأنقضّ يحاوطني بذراعيه وكأنه يحميني من الهروب ...انضمّ معنا (احمد) يحاوطنا نشبك أيدينا على أكتاف بعضنا ...نلصق جبهاتنا في بعضها ....نبكي بصمت دون أن ننبس ببنتِ شفة.....
دقائق ونحن نشد من احتضان بعضنا قطعتُها أنا ...أضربهما على كتفيهما ..أمسح دموعي مبتسماً بتصنع أجاهد لإخفاء احتضار روحي هاتفاً:

"ما بنا نبكي كالنساء؟؟....هيا امسحا دموعكما قبل أن يرانا احد ويشيع الخبر بالحيّ!!....لا تفرحا كثيراً سأعود قريباً ان شاء الله لأنكد عليكما عيشتكما"

ضحكا وعدّلا جلستهما وبدأت اسرد لهما تفاصيل رحلتنا ثم وصيتهما على بيتنا.....بقينا حتى الغروب وتفرّقنا عند بوابة منزلي بعد أن تعانقنا نودّع ونوصي أحدنا الآخر بالاعتناء بنفسه حتى نلتقي مجدداً....

دخلتُ بيتنا وارتميت على الأريكة في غرفة العائلة شارداً بالهجرة....

الهجرة؟!!

الهجرة هي كلمة ربطتها دائماً بالطيور المهاجرة بين الفصول...!!...كنت أشرحها لشقيقتي(دنيا) ونحن نراقب هجرتها في الخريف واستقبالها في الربيع....
أما هجرة بني البشر كنت أسمع عنها في وسائل الاعلام لأخوة لنا تهجّروا....بيننا وبينهم مسافات كبيرة.....أدعو لهم بصلاح الحال وأقلب المحطة من بعدها على برامج مسلية....فأنا أنعم بكامل الرفاهية في بيتي...احصل على كل ما أتمنى...بيت بارد في الحر ودافئ في البرد.....لا أكترث لشيء ....أصحابي حولي....أزور أقاربي...مطبخنا مليء بأشهى أنواع الطعام....لدينا مركبة فخمة...أدرس بأفضل المدارس....لم أشعر يوماً أو حتى أفكر ماذا عاشوا من تذوّقوها....

نعم الهجرة هي الآن مـ ـلاذّنا الوحيد لننجو اذا قدّر لنا ذلك....بعد أن اقنَعَنا زوج عمتي السيد(سليم الأسمر) بخطورة البقاء لانتمائنا لاسم القائد المجاهد (محيي الدين)....

كيف أصبح إسم أبي يشكّل خطراً علينا بعد أن كان مصدر الأمان الذي نفتخر به؟!.....أين كنا وأين وصلنا؟؟!!

آهات حبيسة تختلج صدري ..تضغط على أنفاسي...وددت لو أطلقتها لأرتاح!!....لكني خشيت على عائلتي فيكفيها ما فيها....

لا أريد لأمي أن تذبل مجدداً بعد عودتها للحياة رويداً رويداً بفضل الله ومن ثم دعم الأحباب...
خالتي العزيزة(مريم) لم تشأ تركنا بعد أن فقدت زوجها قبل سنوات عدة...كانت تلازم امي وتساندها رغم أنّها تصغرها بسنواتٍ...

" رتبتُ حقائبنا ووضعتها عند المدخل كي لا نتأخر في الصباح"

وجّهت أمي كلامها لخالتي التي نهضت من مكانها قائلة:

"حسناً وأنا سافرغ الخزنة من المال والمجوهرات..."

عند سماعي كلمة مجوهرات عدتُ في ذاكرتي لأيام ليست ببعيدة أسمع بها أمي تطلب المال من ابي لاقتنائها لتذخرها بحجة [قرشك الأبيض ليومك الأسود]....يبدو أنه جاء هذا اليوم الأسود لتَخْرُج هذه المجوهرات....

"أنا اريد أخذ بندقية أبي "

هتفت بها عند مروري من جانبها وهي معلّقة مكانها على الحائط فشهقت أمي بفزع ..تضع يدها على صدرها... عيناها تلمعان قائلة :

"مستحيل لن أسمح لك ....يكفي ما خسرنا"


"لكن يا امي هذه رائحة أبي وأوصاني بالمحافظة عليها..أرجوكِ"

قاطعتني بحزم:

" لا استطيع المجازفة بك وبأخوتك....ثم من قال لك أنهم سيسمحون لك بنقلها؟!....تحتاج لتصاريح!!....اقفل الموضوع"

زفرتُ بضيقٍ واستسلمت لقرارها ....دنوت منها أقبّل جبينها وقررت ايداعها بمكان آمن...
بعد منتصف الليل الجميع في سبات باستثنائي !!..أتململ في فراشي...أفكر بالغد والمستقبل المجهول....قبل أيام كنت أطير فرحاً لتحمّلي مسؤولية تافهة ...والآن بعشيةٍ وضحاها أصبحت رجل البيت لأرعى عائلة كاملة رغم صغر سني....
أثقلني التفكير وغلبني النوم في النهاية....


تعالت مآذن البلد بكلمة الله اكبر...
نعم الله اكبر على كل ظالم ..الله اكبر على من طغى وتجبّر...حي على الفلاح والصلاة خير من النوم....إنه موعد صلاة الفجر...

كانت امي في هذه الاثناء تطعم أخي (شادي) ...توجّهت الى المطبخ بعد أن نام الصغير لتغسل زجاجته ثم أقبلت لتوقظنا أنا وخالتي للصلاة وللاستعداد للانطلاق....

أشرقت شمس يومنا الأخير في وطننا لا نعلم ماذا يحمل في طيّاته!!

خرجتُ الى الحديقة قاصداً تلك الشجرة المباركة...شجرة زيتون كبيره معمّرة...حفرتُ تحتها واضعاً البندقية ناثراً التراب عليها بإحكام ومع نثراته تناثرت في قلبي غصّات...فهذا الموقف أعادني الى لحظة مواراة أبي الثرى...دفنتُ أبي ودفنتُ العهد معه...

لم أسمح لدمعي بالنزول...رفعت بصري ناظراً للسماء متذللاً لخالقها:

" ياا رب أنت العالم بحالي...ياا رب إني استودعك مِن أغلى ما أملك...ياارب أحيّني لليوم الذي سنطّهر به الوطن كما رغب أبي"

مسحتُ دمعة خانتني وتوكلت على الله داعيّاً:

" اللهم إنا نسألك خير ما في هذا اليوم ونعوذ بك من شره"

دلفتُ بيتي رافعاً رأسي بثقةٍ وقوةٍ لم أعهدهما من قبل....فاليوم يوم مصيريّ....يجب أن ابثّ الآمان لعائلتي وأُشعرهم أنهم بإمكانهم الاعتماد عليّ لأتولى رعايتهم من بعد الله....

وصلت مركبة تابعة للسيد(سليم الأسمر) كما اتفقنا لتقلّنا الى مرفأ السفن بعد أن رتّب أمورنا مع معارفه وقاموا بكافة إجراءات النقل الرسمية ودفع مبلغ طائل من المال لحجز مقاعد لنا بسفينةٍ على مستوى رفيع فيها شتّى وسائل الرفاهية....

وضعنا الحقائب في صندوق السيارة وركبتُ أنا المقعد الأمامي جانب السائق وبقية عائلتي في الخلف....لنسير على دربِ الهجرة!!

[[سلامٌ على مدينة تنفست هواءها , شربت ماءها ,سجدت على ترابها , أكلت من خيراتها , هاجرتُ منها ووعدي ألّا أنساها, فعمري ودمي كله فداؤها]]

********** (انتهى الفصل الثاني) **********

اللهم صلّ وسلّم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم


ألحان الربيع متواجد حالياً   رد مع اقتباس