عرض مشاركة واحدة
قديم 14-10-21, 03:09 AM   #9

Cigarno

كاتب في قسم قصص من وحي الاعضاء


? العضوٌ??? » 459381
?  التسِجيلٌ » Dec 2019
? مشَارَ?اتْي » 85
? الًجنِس »
?  نُقآطِيْ » Cigarno is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الثالث: (الحر المستعبد)

وفي صباح اول ايام عمل غالب عند حرب بن ورد ومع بزوغ الفجر يستقيظ غالب وابيه من نومهما وينظر غالب الى ابيه وهو يعرف ان هذا اول يوم سيفترق هو وابيه عن بعضهما البعض وان ابيه سيرعى وحيدا فحبس الدموع لكي لا يشعر ابيه الذي بدوره كان حزينا جدا ويستشعر حزن غالب وغصته من نبرة صوته.

ثم اصطحب غالب ابيه الى مبيت الابل والرعيان فطلب من احد الرعيان الذين يعرفهم من قبل ان يرعى ابيه في غيابه فاجابه ذلك الراعي بالقبول لحسن معاملتهم له من قبل وودع الابن ابيه والغصة ضاقت انفاس الاثنين لمثل هذا اليوم.

ومشى غالب بخطى متثاقلة وقد اغرورقت عيناه بالدموع وبدأ يمسح وجهه باطراف الاكمام ليجفف تلك الدموع التي لا تكاد والا انسكبت من عينيه في مجراها القديم فوق الخدود وبجنب العارضين الذان لا شعر لهما لحداثة سنه ومن كان في مثل سنه في هذا الصباح الباكر والطقس البارد لا يكون الا في حجر امه آمنا، ولكن الاقدار هي من وضعت لهذا الفتى طريقا اخر مختلف عن اترابه من الفتيان.

فوصل غالب الى باب دار حرب بن ورد وكان بيته كبير عريضا مرتفع عن الارض ومن خلفه حديقة كبيرة منخفضه عن الارض كما ان اختيار البيت تم بعناية من قبل اسلافه سليلي ملك الجنوب ولا عجب لمثل اولاءك ان يختاروا بعناية ويحسبوا حساب كل الامور، فجلس على باب حرب بن ورد منتظرا ان يخرج احد من البيت فيخبره بامره الا ان غالب قد جاء مبكرا جدا والطقس قارس البرودة فجلس بجوار البيت منتظرا وطال انتظاره الى ان سمع قلقلة المفاتيح تالها صرير الباب فقام من مكانه وتهيأ فخرج احد العبيد ومعه اكياس فارغة فقال غالب.

غالب : الا تخبر السيد حرب بن ورد انني واقفا على بابه وقل له ان غالب بن سعد في بابك.

العبد : اعذرني ايها السيد الصغير اني في عجلة من امري الى السوق قبل ان يكتظ الناس به فيأخذون اطيب ما فيه ويبقى الاقل منه فيوبخني مولاي على هذا انتظر قليلا هاهنا وسيأتيك من بعدي من يرى امرك.

ثم طأطأ رأسه غالب وعاد للجلوس ولم يمكث طويلا حتى سمع صوتا خطوات اقدام قادمة فقام من مكانه ورأى رجلا ومعه فرسين فتوقف على باب صغير بجانب البيت فذهب اليه غالب وطلب منه كما طلب من الاول فقال له.

السائس: يا فتى اني سائس لخير حرب بن ورد وقليلا ما اراه وان رأيته ساكلمه بشأن امور تعنيني انا فاكفني ما تريد وسل غيري.

فعاد الى الجلوس وظل منتظرا وكل ما وجد احد طلب منه يعتذر منه فتفكر بنفسه وقال كل اولاءك الخدم يخدمون رجلا واحدا وهو من هو وقد قال لابي انه يحتاج عمال هنا ادرك غالب رغم حداثة سنه ان هناك طبقات بين الناس يكاد يصل مداها مابين السماوات والارض.

ولما انتصفت الشمس كبد السماء سمع قلقلة المفاتيح وصرير الابواب ولكنه هذه المرة لم ينهض ولم يهيأ نفسه لانه شعر باليأس بكل مرة يقوم فيها فاكتفى بان يرفع نظره تجاه الباب ملتفتا غير مكترثا واذ بحرب بن ورد هو الذي خرج من البيت فوجد غالب وقد جهل منظره ولم يتعرف عليه، وظل غالب ساكنا فالتفت حرب بن ورد الى داخل البيت وقد كان نصفه خارج البيت وقال

يا مرجان: احضر لهذا المحتاج طعاما واسقه ماءا واصرفه من على بابي بعد ان تنهره لكي لا يعود ويسنها سنة بين الفقراء يتسكعون ها هنا.

فلما سمع غالب هذا الكلام نهض ونفض ثيابه وقدم نفسه لحرب بن ورد قائلا.

غالب: مهلا يا سيدي انا لست فقيرا ولست متسكعا انما انا غالب بن سعد وقد اتيتك بعد الاتفاق الذي بيننا.

حرب: اجل اجل ذكرتك حسنا وماذا تجيد من الاعمال.

غالب: الرعي

حرب: ولكننا قد نحتاجك لغيرها .. اسمع اذهب لخلف البيت ستجد بستانا وبه عبد اسمه ابن الرباب وقل له اني ارسلتك ليرى عملا يناسبك تشغله وفي كل يوم تأتي به الى العمل فلتأتي من باب البستان لا من واجهة البيت.

فذهب حرب منصرفا لشغله ومضى غالب الى خلف البستان ووجد بن الرباب فقال له ما قاله حرب، وبدأ بن الرباب يسال غالب ماذا يعرف عن كل الاعمال فوجده لا يفقه بها شيئا فقرر ان يعمل غالب في كل حين عملا معينا ليرى ماذا تجيد همته اكثر من غيره.

ففي اليوم الاول وضعو غالب في تشذيب الشجر اي في البستان الداخلي وانشغل غالب في نصف يوم عمله الى ان قاربت الشمس على الزوال فلما اراد الرجوع لبيته وجد بن الرباب يعطيه مرتبه وكان ربع مرتب العامل وكان غالب يرى بن الرباب يعطي العمال درهمين بينما اخذ غالب نصف درهم فقال.

غالب: يا بن الرباب ان اتفاقي والسيد حرب بن ورد هي اني اخذ نصف مرتب العامل العادي وانت اعطيتني الربع.

بن الرباب: نعم هذا صحيح ولكنك بدأت العمل من نصف النهار لا من اوله فعليه تاخذ الربع فالمرتب عندنا درهمين وانت لك النصف وقد اتيت بنصف الوقت فنصف نصف الدرهمين هو نصف درهم.

فغضب غالب لهذا الكلام لانه كان متواجدا عند باب حرب بن ورد قبل ان يستيقظ اغلب العمال ومع ذلك اخذ الربع، ولكنه لم يجادل وعاد الى بيته متشوقا لأبيه فدخل الى البيت ولم يجد اباه فشعر بالقلق على ابيه لان الشمس غابت والسماء مالت الى الظلام فاخذ القنديل المعلق واخذ القداح فاشعل النار فيه وخرج من البيت وذهب الى مبيت الرعيان والابل فبحث عن ذلك الراعي الى ان وجده وقال له.

غالب: يا برد اين ابي هل جرى له شيء انه لم يعد الى البيت الى الان ونحن في غسق الليل؟؟

برد: يا غالب ان اباك طلب مني ان اوصله الى بيت حرب بن ورد لكي يصطحبك منه لان لا يطيق دخول البيت وانت لست فيه فخرج اليك قبل ان تعود فتعودان معا.

ثم فزع غالب من مكانه وراح يركض الى بيت حرب بن ورد والقنديل الضئيل بيده يكاد لا يضيء ابعد من ذراعه والدموع في انهمار من عينيه ويكاد بكاءه يضج المكان لولا حبسه لتلك الدموع وكبح جماع عواطفه وهو متفكرا في ابيه الحنون كيف له ان بهذا الحنان ووصل الى بيت حرب بن ورد ورأى شيخا متكئأ على الجدار بجوار الباب في نفس المكان الذي جلس فيه حرب اول النهار وقد مالت رقبته الى الامام يرفعها ثم لا تصبر الا ان تعود ويميل رأسها بها الى الامام كمن يصارع النوم فيغلبه تارة وتارة هو يغلبه ولما وصل لابيه احتضنه ووضع وجهه في صدر ابيه واجهش بكاءا وهو يقول.

غالب: لمَ يا ابتي تاتي الى بيت حرب وهو بعيد والاولى ان آتي انا اليك مكان مبيت الابل والرعيان والليل بارد وانت منهك القوى لا تهتدي لطريق.

فلما سمع سعد هذا الكلام بكا هو الاخر وضم جسد ابنه الهزيل بحنان ومسح من وجه ابنه الدموع ورفع ابنه رأسه ينظر الى وجه ابيه الكفيف والدموع تسيل على خديه وهو مبتسم وقال لابنه.

سعد: لم احب ان اكون كفيفا طوال عمري تمنيت البصر الا اليوم فقد الشكر العمى لكي لا ارى وجهك وقد نصب التعب عليه وعبثت الدموع والاحزان بملامحه.

فزاد بلوعة ابنه فقام غالب بتقبيل يدا ابيه ورجليه ورأسه، فقاما وذهبا الى المنزل فنامو ليلتهم تلك وفي النفس لوعة مما حدث ولكنه قدر محتوم.

فمرت الايام وهم على ذلك الحال وغالب في بيت حرب في كل حين يتولى عمل امر معين فتارة يذهب للوسق يمتار لاهل بيت حرب المؤنة وتارة يحمل الاشياء من والى داخل الدار وتارة يجهز الخيل مع السائس وينظف اسطبلهم او يعمل في البستان.

وفي احد الايام لاحظت خالصة بنت حرب بن ورد وجود هذا الفتى الذي يكبرها بعام او عامين في البستان وكونها وحيدة ابيها ومكانة ابيها منعها من ان يكون لها اصدقاء بمثل عمرها يلعبون معها فنزلت الى البستان ورأت غالب وهو منهمك في تشذيب الاشجار وقطف الازهار ووقفت غير بعيد عنه تنظر اليه وكلما نظر اليها اختبأت خلف غصن من الاشجار كونها لم تالف ان ترا من هو مثله في مثل هذا المكان وعادت الى ابيها وسالته عن خبره فاخبرها بانه احد العمال فطلبت الاذن من والدها باللعب معه فوافق ابيها على هذا الامر.

فنادى حرب على غالب واخبره بانه يريده ان يرافق ابنته ويؤانسها في وحدتها وكانوا اطفالا دون الحلم، فبدأ غالب عملا جديدا في هذا البيت فكانت تلعب معه فكان وقت غالب في هذا البيت اوله عمل ثم لعب وما ان تنتهي خالصة من اللعب حتى يعود غالب الى العمل كما كان قبل ان يلعب معها.

وكان يلازمها في بعض اوقاتها ويخرج معها الى السوق وعلمها طرق حياة العامة من الناس وبين لها المسافة بين الطبقات الاجتماعية فكانت تلازمه اغلب اوقاتها اما باللعب معه او بمتابعته من شرفته المطله على البستان.

ومع مرور الوقت بدأت خالصة تعجب بغالب ولكنها لا تدري ان كان هو معجب بها ام لا والى ان كبر الاثنين وبلغا صد حرب بن ورد غالب عن خالصة ومنعها من اللعب كما تلعب الفتيات الصغيرات ولكنها كانت تنزل البستان وتمضي وقتا مع غالب يتبادلان الاحاديث فكانت تخبر وصيفاتها بان يخبرن غالب بان خالصة قادمة فتراقبه من بعيد ماذا يفعل فما ترى منه الا ان بنفض ثيابه ويفرك يديه بالورد ويمسح على شعره فعرفت انه معجب بها كما هي فتتبسم وتحب ان تراه في كل مرة يتهيأ للقائها وبالفعل كان غالب معجبا بها ولكن يكتم اعجابه كما يكتم الميت انفاسه صابرا على لوعته.

وكان غالب يخصص يوما من كل اسبوع للرعي مع والده وكان يخبره بما يجري له من امور يستشيره فيها وفي يوم ما اخبر ابيه عن امر خالصة واعجابه به وانه يظن بانها معجبة به وهو لا يدري هل يبادرها بمشاعر كما تكنه له من مشاعر ام يواصل الكتمان فقال له.

غالب: يا ابتي اني لا ادري ما اصنع والله ما صبرني على عملي هذا الا خالصة واني انتظر الوقت القصير الذي يجمعني بها والحديث معها واني لاشعر بان الوقت يتوقف وان النشاط يتجدد بروحي بعد تعب كما يفعل الماء للظمآن وانا اعلم ان لي موضع قدم في قلبها ما ان تحدثني حتى تلعب باطراف شعرها باصابعها وهي من قال لي بان المرأة حينما تحب تلعب باصابعها باطراف شعرها حينما ترى من تحب ولا ادري يا ابتي هل ابادرها وهل لوصلها من سبيل وهي من بني غائلة ونحن من بني ركاب الا ان لا عداوة بيننا انما احقاد قديمه وسيوف من الدماء سليمة(يقصد لم تقع حرب بينهم او يقتل احدهم الاخر).

سعد ابو غالب (متبسم): يابني ان الايام تركض كما تركض بنات الريح واني اذكر اليوم الذي حملتك به رضيعا وكانه ما مضى عليه الا يوم او يومين واليوم تحدثني بصوت الرجال وتخبرني عن الحب والغرام ما اسعدني اليوم بعد ان اصبحت رجلا كبيرا وقد جعلت مني شيخ كبير وها انا قد وهنت وضعف قوتي وبدأت يداي بالارتعاش الا اني اشعر بالفخر والسعادة تغمرني حيث اديت ما علي من هذه الدنيا .. فاسمع يابني النصيحة مني فالحقيقة لا اثارة فيها والواقع لما انت عليه مواقع فانت من بني ركاب وهي من بني غائلة لعلك تتحدث من قلبك ولم تستمع الى عقلك فالنساء لهن كيد لو علمته عظيم، وهي من هي اليوم لانك لم تأتها بقبيح او شيء بخالفها لانها لا تراك الا العبد وهي السيدة ولعل السيدة تحب عبدها لتمكنها منه وهذا حالها لانها لا تباعد منزلها ولم ترى غيرك وما كان لك من اعجاب في نفسها قد تهديه لغيرك كما فعلت لك وهن ناكرات العشير فخذ حذرك منها انها لتلاطفك كي تلاطفها فالنساء يحببن الملاطفة والغزل والغنج فما في قلبك اليوم اعجاب لا تربي اعجابك كيلا يكبر ويصبح حبا لان الاعجاب يسهل استخلاصه ام الحب يستحيل علاجه ولعلك تنكر كلامي وستبدي الايام لك مالم تكن به عالم.. واما الامر الاخر يابني فما يعيب المرء عملا يقتات منه واذكر انك لست بعبد وانما حر بن حر واعمل بجد واخلاص لترضي نفسك لا لترضي سيدك ومتى استنقصك القوم او حاولوا النيل منك بتقليل شأنك او اهانتك فارحل عنهم وتذكر قول الشاعر

لَعَمرُكَ ما في الأَرضِ ضيقٌ عَلى اِمرئٍ
سَرى راغِباً أَو راهِباً وَهوَ يَعقِلُ

ثم انقضى ذلك النهار عليهم فعادوا الى المنزل من المرعى ونامو ليلتهم سعيدين واصبح الصباح فقام غالب كعادته قبل ابيه وانصرف لبيت حرب بن ورد للعمل وبدأ اعماله اليومية المعتادة ينتظر الوقت الى ان ترتفع الشمس الى الموعد المرتقب بنزول الخالصة وقضاء الوقت معها الا انه يتذكر كلام ابيه لما نصحه فاصبح متردد المشاعر ويعيش صراع بين قلبه وعقله.

واذ باحد العبيد معه رسالة وذهب بها الى حرب بن ورد فدخل عليه وقال هناك جمع من الناس في الخارج سلموا لي هذه الرسالة وسلمها الى احد قراء الرسائل وبها:

من عروة بن محارب السمري الى ابن العم حرب بن ورد فاعلم يابن العم ان ما حدث لسمرة بن غائلة بن عاديا لا يخفى عليكم امره غير بعيد عن زماننا وزمانكم واني عروة ابن عمك وقد اشتقنا للقياكم وهممنا بالعودة من اكثر من حين ولكن خفنا الفتنة بين الحيين وتكبيد الاكابر ماء الوجوه وها وقد مضى قرن على تلك الواقعة وازلف جمع كثير من بني ركاب عن الديار فان من بقي منى تفرقوا في الارجاء وها انا كالهائم في كل حين في ارض وقد ضاقت بنا السبل فنطلب الاذن منك اولا ثم من حجر بن ثعلبة فانك معذور فيما استعملت رأيك فينا.

وكانت الرسالة مختومة بختم بني غائلة واما السمري سمي سمري نسبة لسمرة بن غائلة في واقعة السباق المشهورة، فلما نظر حرب تلك المخطوط ووجد عليها ختم كالذي يلبسه هو طار بالرسالة الى حجر بن ثعلبة ومعه عروة بن محارب السمري يستأذنه في ابناء عمومته وقد فرح فرحا كبيرا حرب بهم فأذن له حجر بن ثعلبة دون الرجوع الى بني ركاب.

فارسل حرب بن ورد الى الجواري بنصب الزينة وتعليق القناديل وتهجيز الولاءم واستدعى اهل الطرب وطلب من الجواري لبس احسن الثياب واخبر ابنته كذلك لاستقبال ابناء عمومته.

وهم كذلك غالب كان منهمكا في اعماله اليومية وكان يلحظ الاضطراب في ارجاء القصر فاتاه بن الرباب(العبد) وطلب منه الذهاب للسوق لشراء اطيب المعطرات والمشاريب والفواكه ويعود باسرع ما يكون ففعل غالب ذلك.

واما الخالصة فكانت متحمسة لانه يوم مثير بالنسبة لها ولايامها المتشابه التقليدية، فوصل الركب الى دار حرب ومعهم حرب وحجر بن ثعلبة ودخلوا الى البيت يصحبهم نقر الطبول ودف الدفوف وصفق الكفوف والاهازيج والتغاريد ترحب بهم في موكب عظيم حتى ذاع خبرهم وبدأ يسال غالب عن الامر فاخبروه بامر القوم، فدخل الرجال مجلس الرجال ودخلن النساء على الخالصة ووصيفاتها ورأتها زوجة عروة وكان اسمها - اسماء بنت ضرار الاشيبية ( الاشيب قبيلة من قبائل الجنوب) وكانت لديها بنتين وولد اما البنات تماضر و وتيماء واما الولد فكان اسمه شيبان وكان بعمر ال15 عاما بعمر غالب وكان مليحا لبقا كان وجهه القمر في منتصف الشهر- وكانت اسماء وبناتها ينظرن الى خالصة متعجبين من جمالها وكان نفوسهم لم تعي ما ترى ان كان انسان ام ملاكا.

وبعد ان انتهت مراسم الحفل وذهب المدعويين وبقي خاصة الخاصة طلب حرب اليوم ان يبقى عماله لوقت اطول وسيعطيهم اجرة يومين لهذا اليوم وبقي العمال ومن جملتهم غالب كونه سيعطيهم وكون اليوم يوم فرح وبعد ان فرغ غالب من اعماله اراد ان يستمتع باخر هذا الحفل فوجد خالصة جالسة مع تماضر وتيماء وكانت الفتيات يتحدثن في سيرة اخين شيبان وكيف انه قد قتل ضبع قبل عامين اي بعمر الـ13 وعن شجاعته وفروسيته وكانت خالصة تستمع الى حديثهن وهي لم ترى شيبان الى الان وحينما تقدم اكثر غالب وتكسر الاعواد من تحت قدمه شعرن الفتيات به، ولما رأينه وعرفن من ثيابه ان ليس من المدعويين او الخواص فعرفن انه احد العمال فاشمئززن من تقربه منهن فلما شعر غالب ذلك الضيق على محياهم ابتعد وجلس ينتظر ان ينتهي هذا الحفل بخواصه كي يعود لابيه وهو يرى الولائم التي تكفي للقرية برمتها ولكنها محللة فقط لقلة من ذوي المال.

وهنا اتى شيبان الى اخواته ومعهن الخالصة فحياها وردت تحيه ونظر كل منهم الى الاخر فهامت الخالصة في جماله وتأملته وهو يراها كما تراه وغالب غير بعيد عنهم ينظر الى تلك النظرات فحاول ان يقتحم تلك النظرات الطويلة وكل منهم شاخص بوجه الاخر فقال.

غالب: يا خالصة هل لي ان اطلب منك شيء.(فأشار بيده ان تعالي وهو يبتسم)

فالتفت خالصة الى غالب ونظرته فقالت من مكانها.

خالصة: يا فتى هل انت سفيه ام قليل الادب كبير الجرأة؟؟ اولا يسبق اسمي لقب السيدة؟؟( وكانت غاضبة عابسة الوجه ولم تنظر الى غالب في وجهه)

هنا فوجئ غالب بهذا الامر فتذكر كلام ابيه حينما نصحه فتبسم وقال في نفسه (لقد صدق ابي) فعاد الى حيث يجلس العمال وانتظر الى ان انتهى هذا الحفل فقام حرب بن ورد وقام بتوزيع الاكل على العمال واعطاهم اجرة يومين وامر لاخيه ببيت بجوار بيته.

هنا قام غالب واخذ اجرته واخذ حصته من الطعام بعد ان وصل الليل الى عتمته وعاد المنزل بخطى متسارعة لانه يعلم ان ابيه ينتظره وقد احضر لابيه طعاما شهيا يريد ان يتقاسمه معه فدخل غالب البيت ووجد ابيه وقد غلبه النوم فحزن غالب وقال في نفسه (لعله اكل شيئا قبل النوم فانه ما نام الا ان النوم قد غلبه) ثم اكل شيئا يسيرا ولكنه لم يستطع النوم وكان يفكر بما حصل اليوم من خالصة وكيف اقصته ويتذكر كلام ابيه حينما قال انها ما ان ترى غيري حتى تصرف مشاعرها له كان لم يكن بيننا مشاعر وهام في فكره يجول الى ان نام وهو لا يشعر من شدة التعب.

وفي اليوم التالي قام غالب من النوم وذهب الى بيت حرب كعادته يعمل ويقول لعل اليوم تأتيني غير الذي أتتني به البارحة وكان يشذب القتاد من تحت شرفة خالصة فنظر واذ بخالصة تنزل العتبات المؤدية الى ساحة البستان بالقرب من غالب فكان ينظر اليها ولكنها لم تنظر اليه ولم تاتي اليه بل راحت وجلست في مكان اعتاد الاثنين الجلوس فيه وقت راحة غالب فوضع المنجل واراد الذهاب الى ذلك المكان يقول في نفسه لعلها تعتذر مني اليوم بعد الذي عاملتني به في الامس ولما تقدم اكثر بدأ من خلف الاغصان في رؤية خالصة وهي جالسة ما ان تقدم اكثر ورأى شيبان وهو جالس في مكانه يتحدث وخالصة قد وضعت يد على كفها تنظر اليه وهو يتحدث فعُصر قلب غالب وطأطأ برأسه وعاد الى حيث اتى متحيرا كيف لمثل هذا ان يحدث واخذ المنجل يعمل به وهو يجول في فكره بالتساؤلات كيف ان الفتاة التي بقي ملازما لها طول 5 سنين تعامله كما يعامل الغريب الغريب وكأن ما كان بينهم من ود ما كان ثم بدا يراها تاخذه في جولة على البستان وتشير بيدها على زوايا الحديقة كلها والبيت وتشير بيدها للعمال كانها تصف العمال الى ان اشارت بيدها من بعيد على غالب وكان ينظر لها لا يدري ما تقول ثم اشارت للذي بعده وكانه قطعة من اثاث في بيتها.

وانتهى هذا اليوم الغريب بالنسبة لغالب وعاد الى منزله يسحب رجليه وقلبه مازال معلقا في بيت حرب يتسائل ان كان تمادى في الاعجاب الى ان دخل مرحلة الحب وحديث ابيه كيف ان الاعجاب يسهل الخلاص منه واما الحب فيستحيل علاجه لانه كان مصدوما بما يرى من خالصة من سوء معاملة ووصل الى باب بيته وهدفه ان يحدث ابيه بما جرى له لانه مكتوم الانفاس وبه الغصات لعل ابيه يريحه بكلامه وحكمته مما هو فيه وفتح الباب فوجد ابيه نائما فخاب امله في الحديث مع ابيه فدخل بحذر كي لا يوقظ ابيه فجل فاخذ القنديل للخارج وقدحه فاشعل القنديل ووضعه خارج البيت وكان يريد الاكل فلم يستطع الاكل من لوعة الحب ومكث في الخارج يفكر بماذا جرى له وهو يتفكر في خالصة ويتذكر كلام ابيه.

بينما كان كذلك شعر بصعقة في رأسه شديدة كادت تقتلع رأسه لشيء كان يراه دون ان ينتبه له او يعيره اهتمام لشدة انشغاله بخالصة وذلك الشيء ان اباه منذ يومين نائم بنفس الوضعية تماما نائما على جانبه الايمن ووجه على الحائط فارتعدت فرائصه ثم وثب من لحظته فاسقط القنديل فكسرت عروته واقتحم البيت وهو ينظر ابيه وهو على نفس الوضعية فتقدم اليه بحذر وهو يرتعش الى ان وصل اليه فجلس على ركبتيه ووضع كفه على كتف ابيه وقال ( ابي ...ابي ...) فسحب ابيه فمال اليه كخرقة بالية تقلبها الايدي دون مقاومة فنظر الى ملامح ابيه وقد ذهب ضياءه وتيبست ملامحه وجف ريقه وغالب ينظر الى ابيه يد ممسكة كتفه ويد ممسكة كفه ذلك الكف الحنون الذي لطالما عانا وقاس صعاب الحياة لاجل ان يعيش ابنه حياة كريمة تلك الكف التي عطفت عليه وربته صغيرا واغرورقت عيناه وهو ينظر الى اباه يحاول ان يكون فيه رمق يهزه هزا حنونا يناديه بصوت متقطع (ابي...) فوضع قبضتيه على ركبتيه وحنى رأسه الى الاسفل ودموعه تتساقط من عينيه وتسقط على جبين ابيه فصاح صيحة ايقظت الجوار واعول بالبكاء فاسمع الارجاء.

فقام على رأس ابيه يبكيه الى الصباح فتجمع الناس على بيته ودخل الراعي برد عليه فوجدهم على هذا الحال فبكى لسعد وذهب يخبر الناس ان سعد قد مات وذهب برد على بيت حرب بن ورد اخبر العمال الذين فيه فاخبرو سيدهم ان يمشوا في جنازة زميلهم ولكن حرب لم يأذن لهم بذلك لكثرة اشغالهم مع قدوم ابناء عمومتهم بل وطلب ان يخبروا غالب ان له ثلاث ايام مرخوص هو فيها.

فذهب الى بني ركاب فاخبرهم بالامر ولكنهم اعتذروا بل ولاموا سعد لانه جاور بني غائلة وكانوا يرون ذلك جحودا منه لهم ونكران وتبرؤ منه لهم.

فقام غالب وجاء بالكفن فكفن اباه وحمله ووضعه على مسطبة بجوار منزله طويلة ينتظر برد ان يعود بمن يشيع اباه الى لحده ولم يأت غير برد واخبره انه لن ياتي معهم احد، فزاد الهم والغم بغالب فحمل اباه هو وبرد ومشو الى قبره فانزلوه وسكبوا عليه الرمال وعاد سعد الى البيت لا يكاد يرى من شدة البكاء ودخل البيت وكانت هذه المرة الاولى في حياته كلها يبيت وحيدا في بيته ولم يستطع النوم وكان مسندا ظهره للحائط ينظر الى المكان الذي ينام فيه ابيه ويجلس وياكل ولشدة التعب يخال له خيال ابيه فيمعن النظر فلا يرى احد وهو كذلك يغلبه النوم فنام وحلم ان كل ما حدث لابيه لم يكن الا مجرد حلم ولما استيقظ وجد انه ما كان مجرد حلم ماهو الا حلم وبقي على هذا الحال لمدة اسبوع كامل وبرد كان يمر عليه كل يومين الى ثلاثة ايام ويحضر له الطعام ولكنه لا ياكل الا يسيرا.

بعد الاسبوع وهو يتفكر في كيف ان ابيه افنى عمره من اجل ان يعيش ابنه كريما يبنغي عليه الاصرار والمواصلة لكي لا يكون تعب ابيه هباء منثورا فعاد الى بيت حرب للعمل وهناك وجد واثناء العمل وجد خالصة وهي تمشي بين اشجار البستان مبتسمة مشرقة وبيدها منديلا قد رآه من قبل مع شيبان وكانت تشم المنديل فتبتسم، فقال في نفسه ( لعلها لم يأتيها خبر وفاة ابي) فتقدم اليها ووقف امامها فقال.

غالب: يا خالصة هل لي بحاجة عندك؟

خالصة: ماذا تريد ولماذا يصعب عليك ان تناديني بالسيدة خالصة لم اعد طفلة بعد الان وانت لم تعد طفل بعد الان.؟

فغصت الكلمات التي قالتها خالصة في صدر غالب ثم قال.

غالب: انك تعلمين ان ابي توفي منذ اسبوع وهو سبب غيابي وانقطاعي واني عمل في هذا البيت 5 سنين وكما تعلمين ان ابي كان يرعى نوقه في الخضراء والان ليس للنوق احد سواي ارجوا ان تتفضلي وتخبري السيد حرب بان يأذن لي بالرعي في مراعيكم كما كان يفعل ابي.

خالصة: وما شأني انا حتى احدث ابي بشأنك ثم انك من بني ركاب وانت تعلم ان لا مرعى لكم في الخضراء وكان المستثنى منها ابوك فقط لا انت وها قد مات والمزايا لا تورث فإن شئت حدثه انت بنفسك لا تقحمني بامرك وارجوا ان ترحل من امامي وان لا تعرضني حديثك.

غالب: هكذا اذاً... لما لا تشترينها مني فتهدينها من تشائين.

ففكرت خالصة بان تهديها شيبان مع جملة مهور هي تملكها.

خالصة: ربما في ذلك ارى ولكني دعني اراها اولا اذهب واحضرها بعد ان ينتهي عملك واربطها في اطراف البستان وعد انت للنوم وغد احدثك بامرها، ففعل غالب وربطها وعاد ونام واتى من غده ووجد خالصة وعرضها عليها فوافقت ان تشتري الناقتين ولكن بنصف ثمن الناقة العادية كونهن كبيرا في العمر وواحدة منهن عرجاء، فوافق عليها وما ان اشترتها خالصة حتى رمى منجله وقال

غالب: قلي لابيك ان لا اتفاق بيننا

وهنا توقف غالب عن العمل لدى حرب بن ورد بل لقد مات به شيء وولد به شيء اخر ورأى اصناف القسوة بالحياة وكيف لخالصة ان لعبت بمشاعره ولم تبدي اي تعاطف تجاه مأساته ووفاة ابيه وكيف لما كان بينهم من ود وعشرة ان يكون كأن لم يكن، وبعد ان اخذ المال منها توجه الى السوق للعمل ليجد طريقا يكافئ كفاح ابيه له في الدنيا.




Cigarno غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس