عرض مشاركة واحدة
قديم 22-10-21, 01:31 AM   #70

فايزة العشري لوزة
 
الصورة الرمزية فايزة العشري لوزة

? العضوٌ??? » 472964
?  التسِجيلٌ » Jun 2020
? مشَارَ?اتْي » 393
?  نُقآطِيْ » فايزة العشري لوزة has a reputation beyond reputeفايزة العشري لوزة has a reputation beyond reputeفايزة العشري لوزة has a reputation beyond reputeفايزة العشري لوزة has a reputation beyond reputeفايزة العشري لوزة has a reputation beyond reputeفايزة العشري لوزة has a reputation beyond reputeفايزة العشري لوزة has a reputation beyond reputeفايزة العشري لوزة has a reputation beyond reputeفايزة العشري لوزة has a reputation beyond reputeفايزة العشري لوزة has a reputation beyond reputeفايزة العشري لوزة has a reputation beyond repute
افتراضي الفصل الثالث عشر

الفصل الثالث عشر

استيقظت في نشاط وقلبها يرسل ضرباته في صدرها في قلق من مقابلتها لزاهر.
صحيح تشعر بسعادة، ولا تزال مكالمة الأمس تعزف لحنا شاعريا على أوتار قلبها المقطعة، إلا أنها تحاول جاهدة ألا تستسلم لهذه المشاعر التي تسيطر عليها، بل وستخفيها بمهارة وراء قناع هادئ لا مبالٍ غير مكترث بأي شيء، لا يجب عليها أن تستسلم حتى لا تفقد نفسها في طرقاته الوعرة، التي تعرف جيدا أنها لن تكون طرقاتها.
أما عن ذاك الإحساس الذي يعبث بقلبها عند رؤيته، فستتركه يتلاعب بدقات قلبها، فهي لا تملك وسيلة لإيقافه، ولا التحكم به، لذا ستدعه يدغدغ قلبها ببراءة الإحساس، وحلاوة الشعور.
وبطريقة لا إرادية وقفت أمام خزانة ملابسها تفكر فيما سترتديه، لتبدو أنيقة وجميلة في هذه المقابلة، ووقع بصرها على فستانها المخصر ذي اللون السماوي، والفراشات الدقيقة الرقيقة المنتشرة على صدره، وذيله، وطرفي أساوره في انتشار بديع قد زادت من حلاوته ورقته.
بدّلت ثيابها سريعا وارتدته، ثم وقفت أمام المراَة تنظر لنفسها وتتحرك يمنة ويسرة بإعجاب، فقد كان وجهها كقمرٍ أخلف موعده ليلا، وتجلّى وسط زرقة سماء صافية تملؤها الفراشات.
لكنها عقدت حاجبيها وهي تسأل نفسها:
-أتتأنقين لأجله؟!
زفرت بضيقٍ وحرّكت وجهها يمنة ويسرة نافية ذلك وهي تجيب سؤال نفسها:
- لا لا إنها مقابلة عمل وعلى كل حال يجب أن أبدو أنيقة، ليس لأجله بالطبع، بل لأجلي لأشعر بالثقة بنفسي أكثر.
ابتسمت عندما اقتنعت بإجابتها، ونفت شعورها الوليد تجاه زاهر في أقصى منطقة بقلبها وحبسته بها، لا يجب أن يطفو هذا الشعور على سطح حياتها، لأنه إذا طفا قد تغرق هي!
بسرعة لملمت شعرها المسترسل، وارتدت حجابها ليكتمل وجهها جمالا وإطلالتها جاذبية.
خرجت من حجرتها لتخبر أمها من دون الخوض في تفاصيل أنها ذاهبة لإجراء مقابلة عمل، لعلها تحظى بفرصة أفضل.
فما كان من أمها إلا أن ألحقتها بسيل من الدعوات راجية من الله لها التوفيق والسداد والسعادة، والرزق الوفير، مما كان له أطيب الأثر في نفسها وهي تخرج من منزلها فتلقي السلام على "عم عامر" فيزفها هو أيضا بدعوة جميلة:
- صباح الفل يا ست البنات، ربنا يستر طريقك.
فابتسمت، وحثت الخطى فرفرفت أطراف فستانها من حولها كجناحي فراشة، لكن سرعان ما تعكر صفو بداية يومها على إثر ذاك الغزل البذيئ، الذي زفها به بعض الشباب الفاسد الذي كان يقف على ناصية حارتها كقطاع طرق. صحيح أن أذاهم لم يطل بنات حيهم بعد، لكنهم يكتفون بتلك الكلمات المتغزلة الرخيصة ليلقوها على مسامعهن منهن من تلتفت وتفسح لهم المجال لتخطي الحدود بنظرة أو ضحكة، ومنهن من تفعلن كما فعلت هي ينطلق كالسهم مبتعدا عنهم لكن هذا لا يمنع أن ضيقا أحاط صدرها، وأفسد صباحها بسبب كلماتهم، حاولت أن تزيله بشهيق عميق وزفير متقطع.
حالفها الحظ ووصلت سريعا إلى المكان الذي حدد "زاهر" لملاقاتها.
عندما دقت الحادية عشر تماما كانت تتقدم خطواتها نحو سيارته التي رأتها بآخر الشارع، يقف مستندا عليها، مراقبََا تقدمها نحوه مما أسعدها، وأربك خطواتها في الوقت نفسه.
وما إن أصبحت أمامه حتى مد يده لمصافحتها وهو ينظر لها بابتسامة جذابة.
لم تكن معتادة على مصافحة الرجال، بل إنها لم تفعلها من قبل، لكن شيئا خفيا حرّك ذراعها نحوه، وجعلها تمد كفها الصغير إلى كفه المبسوطة أمامها، فتسكن به للحظات أشعرتها بالأمان!
غريب أن لمسة الكف وضمته قد تمنح كل هذا الشعور بالطمأنينة والأمن!.
سحبت كفها من يده بخجل عندما انتبهت إلى أنها قد أسقطت مبدءا من مبادئها وصافحت رجلا غريبا!
نعم هو غريب .. غريب بصفاته، وحضوره، ولمعة عينيه التي تتوهج لمرآها، لا يمكنها أن تخطئ فهم تلك اللمعة، لكنها أيضا تخشى تأويلها!
أما هو فقد شرد بجمالها الملائكي الأخاذ، حضورها الطاغي رغم بساطته سلب عقله، ونشر فراشات سعيدة حول قلبه تشبه تلك الفراشات التي انتشرت على فستانها، ماذا لو أنه كان بإمكانه أن يخطفها ويهرب بها بعيدا عن حدود العالم والعقل والتعقل، وحدود الزمان والمكان أيضا؟ تنحنح عندما شعر أنه أطال النظر إليها مما أربكها وزاد من حرجها، فأفاق نفسه من أفكاره عنوة والتف حول السيارة لكي يفتح لها بابها المجاور له، وهو يقول بتعقل يخفي ما يفكر به:
-تفضلي.
لكنها خافت .. خافت من دقات قلبها المتسارعة، خافت من الوقوع بشباكه التي قد تخنقها، خافت أن يفضح ارتباك نظراتها مكنونات قلبها؛ لذا عاندت وقررت الهرب بعيدا عن وجوده؛ لذا لم تتقدم نحو مقعدها المجاور له بالسيارة بل وقفت قليلا وأخذت شهيقا عميقا لتضبط به أنفاسها المتلاحقة وقالت:
- لا ... شكرا يمكنك أن تخبرني بالعنوان وسألحق بك وحدي.
في لحظة اختفت بسمته، وبدا الغيظ يسيطر على ملامحه، لكنه حاول أن يسيطر على أعصابه وهو يسألها بانزعاج مستنكرا مطلبها:
- نعم .؟! أي عنوان هذا الذي تريدين معرفته ؟ وماذا تفعل هذه ؟ ثم أشار إلى سيارته .
خامرها شعور بالقلق من غضبته التي يكتمها لكنها أخفت ذلك وأجابته ببساطة ظاهرة خلاف ما يخفيه صدرها من اضطرابات وتقلبات عاصفة قائلة:
- نعم عنوان الأكاديمية .. أما هذه -مشيرة إلى السيارة مثله-فستذهب بها أنت. هذه فائدتها- قالتها وهي ترفع كتفيها وتخفضهما ببساطة ثم أكملت- واﻵن اعطني العنوان من فضلك، ويكفينا جدالا لأننا، وكما تعرف ملتزمون بموعد لا نريد التأخر عليه.

قبض كفيه بقوة جعلت عروق ظهر كفه تبرز وتتجلى للعيان.
عنيدة هي، وتتفنن في الهرب منه بشتى السبل، ولا يعرف متى ستكف عن تصرفاتها تلك وما السبب الحقيقي وراءها؟! ولولا رغبته في عدم تعكير صفو مزاجها قبل تلك المقابلة، لما كان تركها تذهب بمفردها حتى لو اضطر على إجبارها جبرا للركوب معه، لكنه سيطر على أعصابه، وزفر بقوة وهو ينظر لها بغضب مكتوم، نظرة جعلت قلبها أوجس خيفة من ردة فعله، وحمدت ربها سرا لأنها أقصر منه قامة، وإلا لو كانت قد أحرقتها زفرته المشتعلة غضبا وغيظا.
لم تتوقع بعد صمته القصير أن يذعن لرغبتها في الذهاب وحدها! إلا أنها وجدته يخرج قلما، وورقة من جيب سترته الداخلي ثم كتب عليها عنوانا مفصلا وأعطاه لها قائلا لها باقتضاب:
- تفضلي… ستكون هذه المرة الأخيرة التي سأدعك تفعلين ما يدور برأسك.
أخذت منه الورقة وشكرته، لكنه لم يجبها، وإنما صفق باب سيارته الذي فتحه لها منذ قليل ثم دار للجهة الأخرى، واستقل سيارته وأدار محركها منطلقا إلى مبتغاه.
تبعته هي بنظرة حزينة ولائمة، لأنه تركها هكذا وحدها وذهب قبل أن تذهب هي! لكن ألم تكن هي من طلبت ذلك؟! فلا داع للحزن طالما قد نفذ لها رغبتها التي سعت لها؟! لِمَ لَمْ يعد يرضيها أي تصرف يأتيه؟ فإذا تباسط معها بالحديث تضجر وتهرب، وإذا جفا ونأى بجانبه عنها تهفو إليه روحها، وكأنها تستحلفه بالبقاء لكنها لا تنطق حرفا ولا كلمة ولا تعطيه نظرة تدعوه للبقاء!!
أي الطريقين تريد هي وأي الطريقين تسلك؟! تأففت بضجر وحثت الخطى هي الأخرى لتلحق به عند مكان المقابلة.
*****
مرت ساعة على وصوله أمام الأكاديمية، لكنه لم يرها تنتظره، ولم يصل له منها خبر، مما أشعره بالقلق عليها فهاتفها، استمر الاتصال حتى انقطع الرنين لكنها لم تجب! خبط بيده مقود السيارة بغيظ وهو يعاود الكرة، لكن سرعان ما فتح الخط من الجهة الأخرى فسألها بصوت حاد يكتم في طياته قلق وغضب:
- أين أنتِ؟
فأتاه صوتها مضطرب قائلة :
- لا أعرف يبدو أني ضللت الطريق.
--------

كان يوما شاقا ولكنها سعدت باستقبال أطفالها لها بفرحة بعد غيابها لمرضها مما قلل كثيرا من وطأة إرهاقها.
نظرت لساعة هاتفها فوجدت أنها الثانية عشر والنصف ظهرا، تأففت بضجر، فلم يزل باقيا مدة من الزمن قبل انتهاء اليوم الدراسي الطويل، ولا يزال شعورا بالإنهاك يلازمها، لكن عليها الصبر على كل حال، ورغم أنه كان يوم عمل موفق إلا أنه كان ليكتمل بوجود "مريم" التي تنتظر منها مكالمة تعرف من خلالها ماذا فعلت في مقابلة العمل الخاصة ب"زاهر" وتمنت لها التوفيق والسداد.
فكلاهما بحاجة إلى العمل، كلاهما تحتاج مالا لتنفق به على نفسها، وترفع أعباءها عن كاهل أمها. أسندت ظهرها لمقعدها بإرهاق، وتنهدت بأسف متمنية في نفسها ألا يسامح الله ذاك الذي دعا إلى عمل المرأة وتحررها، فبدعوته احتلت النساء جميع الأعمال وركن الرجال للدعة والخمول، وتخلوا عن دورهم في القوامة والنفقة والإعالة متعللين ببطالتهم وأنهم لم يعد لهم مكانا بالوظائف إلا النذر اليسير، لأن النساء قد احتتلن كل الوظائف الكبيرة منها والصغيرة؛ لذا استسلموا للبطالة، وصارت المرأة تحصد جزاء عملها فتدور في ساقية العمل لأنها استولت على وظائف كثيرة كان أولى بها الرجال، وتدور في ساقية بيتها، لتنهي مهامها كامرأة وتدور في ساقية تربية الأطفال لأن الأم لها الدور الأكبر بالتربية، وتدور، وتدور، وتدور بلا توقف، ولا راحة، ولا وقت للالتقاط الأنفاس ولا خيارات لديها لتقف رافعة راية الاستسلام لتعلن أنها قد تعبت.
أهذا ما جنته المرأة من وراء عملها؟
أجنت تبادل الأدوار؟! و ال…
وقبل أن يستمر سخطها على دعاة عمل المرأة، دلفت زميلة لها لتجلس على مكتبها الخاص بإنهاك وتقول لها:
- المدير يريدك يا فريدة .
تعجبت فريدة، وسألتها رغم علمها المسبق بإجابة سؤالها وأنه بالطبع سيكون بالنفي:
- لا تعرفين بالطبع لم؟
أجابتها وهي تلقي بدفاترها على مكتبها وتجلس بتعب واضح:
- لا أعرف أستاذة ريهام سكرتيرته قابلتني أثناء صعودي إلى هنا وطلبت مني أن أخبرك بذلك .

وجل قلب فريدة و لم تستطع تنبأ لما يريدها مديرها؟ لكنها إن ذهبت إليه اﻵن ستعرف بالتأكيد فيم يريدها؟ لذا شكرت زميلتها وخرجت من مكتبها متجهة نحو مكتب المدير لتجد أستاذة "ريهام" تلك المرأة التي تتفنن في صبغ وجهها بالمساحيق، وسكب زجاجة عطر كل يوم على ملابسها قبل ذهابها للعمل، فتعتقد- مخطئة بذلك- أنها صارت أجمل نساء الكوكب فتزداد غطرسة وتعاليا في الحديث!
كانت تجلس في مكتبها موجهة تركيزها للحاسوب الموضوع أمامها، ولم تلتفت للتحية التي ألقتها "فريدة" عند دخولها، وإنما قالت لها ببرود ودون النظر إليها:
-تفضلي بالدخول، أستاذ "أبو الفضل" خرج من مكتبه منذ دقيقة، وسيعود في الحال، أخبرني أن أدعك تدخلين ما إن تأتي، تفضلي أحد أولياء الأمور ينتظره بالداخل أيضا، وأشارت لها بيدها أن تذهب.
تعجبت "فريدة" من الأمر، أحد أولياء الأمور بالداخل واستدعاها المدير ماذا في الأمر أتكون شكوى موجهة إليها من أحد طلابها؟!
ولا إراديا صار القلق ينتشر بأرجاء قلبها، لكنها حاولت أن تسيطر على وجلها، وتوجهت نحو باب مكتب المدير، مهدئة نفسها أنه سيعود بعد دقائق وتفهم كل شيء.
طرقت الباب، ودلفت فوقع نظرها على ظهر رجل عريض البنية يرتدي حلة سوداء، ذو شعر منمق وعطر فواح عبق الحجرة به، وقبض قلبها من استنشاقه فهو عطر ليس بغريب عليها!
دارت على عقبيها لتغلق الباب ورائها، وهي تحاول أن تستدعي من ذاكرتها أين استنشقت هذا العطر؟! لكنها لم تحتج وقتا طويلا للتذكر، فما إن اعتدلت حتى رأت الضيف واقفا وراء ظهرها يفصله عنها خطوتين، فشهقت في فزع من مفاجئتها به خلفها، وررفعت رأسها لوجهه ليعتلي وجهها الذهول، وتعلن دقاتها طبول الحرب وتلتحم نظراتها المفزوعة بنظراته الصقرية الحادة، وقد ضيق عينيه وهو ينظر إليها من علِِ، وشبح ابتسامة يعلو وجهه، وهو يفتح لها ذراعيه قائلا:
-اشتقت لكِ يا فريدتي .
******
- ضللتي ماذا؟!
صرخ بها "زاهر بغيط وهو يضرب مقود سيارته بغضب، وهو يكمل مقلدا إيّاها بغضب :
- " اعطني العنوان من فضلك، ويكفينا جدالا لأننا، وكما تعرف ملتزمون بموعد لا نريد التأخر عليه" نحن تأخرنا عن موعدنا أكثر من ساعة، وكله بسبب عنادك.
أين أنتِ اﻵن؟ اسألي أي شخص حولك حتى تعرفي أين أنتِ بالضبط ؟
- لا تصرخ بي هكذا، يمكنك أن تنصرف ولن أذهب لهذه المقابلة ومن الأساس .
صمت هنيهة ليسيطر على غضبه وهو يأمرها من بين أسنانه ويضغط على كل كلمة يقولها ببطء،
- قلت اسألي أحد المارة عن مكانك بالضبط يا "مريم"
سمعها تسأل أحد المارة وتنصاع لأمره، وما إن سمع جوابه حتى قال لها :
- لا تتحركي من مكانك فقط نصف ساعة وأكون عندك وأجيبي على الهاتف فورا إذا هاتفتك .
لم يتلقَ جوابا منها ولم ينتظر حتى يأتيه جوابها؛ لأنه كان قد أغلق مكالمته معها، وشعور بوخز الضمير يملؤه نحوها لأنه انفعل عليها، لكنها عنيدة بشكل يصيبه بالجنون، زفر بقوة وهو يدير محرك السيارة لينطلق بقوة ليصل إليها سريعا ولا يدعها تنتظر طويلا وحدها، لو أنها لم سمعت كلامه من البداية لما حدث هذا، ولكنه سيروض عنادها هذا بالتأكيد!.
----
وصل إلى وجهته في وقت أقصر مما توقعه، دار بعينيه عليها ليراها من بعيد تقف أمام أحد واجهات المحلات تبحث بعينيها الواسعتين عن سيارته وعلى وجهها ارتسمت علامات الحزن والقلق، وكأنها اﻵن فتاة أخرى غير تلك العنود التي كانت تحدثه على الهاتف منذ قليل.
رأت سيارته هي الأخرى فانطلقت نحوه كطفلة تاهت عن أبيها وما إن رأته حتى هرعت إليه لتشعر باﻵمان.
زال عبوس وجهه عندما رآها تحث الخطى نحوه، وتبدل العبوس ببسمة؛ لذا قرر ألا يعاتبها بشيء حتى لا تنفجر دموعها المحتقنة في بؤبؤيها؛ ترجّل من سيارته، وفتح لها الباب المجاور لكرسي القيادة دون أن يتفوه بكلمة، وهو ينظر لها بصمت، وقد أخفى بسمته وراء قناع لائم. إلا أنها نظرت له ورفعت رأسها بشموخ، وكأنها تخبره أنه لن يملي عليها أوامره، ثم تحركت، وفتحت الباب الخلفي، وركبت في صمت!
أغمض عينيه بقوة عاصفة، يا لها من فتاة تجمع بين جميع المتناقضات ففي لحظة تأسره برقتها، وفي التالية تحنقه بعنادها! تعصف بقلبه بضعف مظهرها، ثم تثير جنونه بقوة نظراتها الشرسة .
تحيّره هي وتربكه بين الحب أو اللا حب، ففتاة مثلها كم تجمع بداخلها من التناقضات ولا تبديها؟!
عاد إلى كرسيه أمام مقود السيارة وهو يقول ليغيظها كما أغاظته:
- ها أنت رافقتيني بالسيارة في النهاية، لو كنت فعلتيها من البداية، لكنا وفرنا الوقت والجهد الذي أهدرتيه يا عنيدة.
قطبت جبينها بضيق، ولم تجبه، وأدارت وجهها للجهة الأخرى تتابع من النافذة تسارع المحلات والشوارع والبشر كما تتسارع دقات قلبها تماما.
انطلق في طريقه وقد آثر الصمت حتى يدعها تلملم شتات توترها، الذي يلاحظه كلما نظر بالمراَة نحوها، يكفيهما شدا وجذبا إلى اﻵن.
وصلا إلى وجهتهما فترجلا، ودلفا معا إلى مكتب المدير بعد أن أخبرتهما سكرتيرته أنه كان على وشك الانصراف لتأخرهما.
فنظر "زاهر" إلى "مريم" نظرة جانبية لائمة تحملها مسئولية تأخرهما عن الموعد.
دلفا إلى مكتب المدير وما إن رأى "زاهر" الرجل الجالس وراء مكتبه حتى صاح ضاحكا:
- "مراد" باشا اشتقنا للقياك يا رجل .
احتضن الرجلان بعضهما البعض، وهما يضحكان ثم التفت كلاهما لمريم فنظر إليها "مراد" بابتسامة مرحبة وبدأ "زاهر" في تعريفها له:
- أستاذة "مريم" معلمة الموسيقى التي حدثتك عنها، ثم نظر لمريم قائلا:
- "مراد" صديقي وأخي .
ابتسم "مراد" لمريم" مرحبا بها.
كان رجلا أنيقا مقارب لزاهر في العمر أو أكبر منه قليلا، طويل القامة مقبول القسمات، ذو شعر أسود داعبه بعض الشيب فزادته وقارا.
بعكس زاهر الذي حافظ شعره على لونه البني دون شيبات أو ربما هناك بعض الشعرات التي أصابها الشيب وهي لا تراها لأنها تخجل من النظر إليه بتمعن.
مدّ "مراد" يده لمصافحتها، وقبل أن تفكر في مد يدها لمصافحته حتى لا تحرجه، وجدت زاهر قد مد يده وصافحه عوضا عنها وبدأ يلهيه بالحديث حتى يزيل الحرج عنه، أما هي فقد أغاظها تصرفه فهي لم تكن ستصافحه من الأساس، أيكون تصرفه هذا علامة على غيرته؟! عندما راودها هذا الشك تبخر غضبها وبدأت تمنح مديرها كامل تركيزها حتى مواصفات وظيفتها الجديدة.
كان المدير ودودا معها، أو ربما هو كذلك لأن "زاهر" ألحقها بتوصياته. أفهمها أنها ستعمل أربعة أيام بالأسبوع قد يبدأ عملها من الصباح للظهيرة أو يبدأ من الظهيرة لوقت الغروب، وهذا حسب جدول الأكاديمية التعليمي، أما عن الراتب فستحصل على ضعف ما كانت تحصل عليه بالمدرسة، ونصف مما أغراها بأن العرض لا يرفض فما كان منها إلا أن وافقت على العمل، لكنها طلبت منه أن يكون جدولها في الفترة الصباحية، وإن لزم الأمر فيكتفي بيوم واحد في الفترة المسائية، وقد تبادر في ذهنها عند هذا الطلب منظر شباب الحي الفاسد الذين يفقدون عقلهم مساء بعد تناول جرعات مكثفة من المخدرات فيصيرون كالكلاب الجائعة !

حمدت ربها أنه وافق على طلبها وأخبرها بما يحتاجه العمل من أوراق رسمية، وتجاوزا لأجل صديقه "زاهر" يمكنها أن تعمل إن شائت من غدهم وتقوم بتجهيز كافة أوراقها أثناء مداومتها بالأكاديمية، أو يبدأ دوامها من أول الأسبوع الجديد، وتكون قد أنهت استخراج أوراقها. صمتت تفكر قليلا فيما تختاره ثم أجابته بابتسامة لطيفة:
- شكرا لك .. سأداوم من أول الأسبوع حتى يتسنى لي إعداد كل الأوراق المطلوبة .
- حسنا كما تشائين.
نظر له "زاهر" وهو يقول:
- حسنا سننصرف اﻵن، ودع في اعتبارك أننا سنتقابل قريبا لنتحدث بأمور كثيرة
ضحك"مراد" وهو يقول :
- لا مانع لدي المهم أن تصدق بعرضك وألا نراك في المناسبات فقط- ثم وجه حديثه لمريم قائلا- أنا شاكر لك مجيئك فلولاك لما كنت رأيت هذا النذل.
ضحك ثلاثتهم وتبادلوا التحية، ثم انصرف " زاهر" تتبعه "مريم" كان سعيدا لأن الأمور تسير على ما يرام وها هو بدأ يدخلها دائرته رويدا رويدا، ومع الوقت يمكنه تحديد خطوته التالية تجاهها.
أما هي فرغم سعادتها بالوظيفة الجديدة إلا أن التفكير أنهكها في سبب اختيارها تحديدا لهذه الوظيفة، وكيفية معرفته أنها تلائمها.
لذا ما إن وصلا أمام سيارته حتى وقفت والتفتت نحوه تسأله:
- كيف عرفت أن هذه الوظيفة ستناسبني رغم أنك سألتني في البداية عن المادة التي أقوم بتدريسها في المدرسة، لم اخترتني أنا تحديدا؟
فاجأه سؤالها، ولم يكن باستطاعته أن يخبرها بالحيلة التي سلكها مع مدير مدرستها، ليعرف وظيفتها وجد نفسه يقول لها.
- عرفت بالصدفة، وأردت تقديم فرصة أفضل لك، هل أخطأت في ذلك؟
شعرت أنها تسبب له في الإحراج لذا منحته ابتسامة ساحرة وهي تقول:
- بالطبع لا.. شكرا لك .. شكرا من أعماق قلبي.
فاجأه ردها كما فاجأه سؤالها، في لحظة تحولت القطة الشرسة في عينيه إلى عصفور رقيق رفرف بالشكر على عتبات قلبه، وها هو قلبه يفتح بابه إلى هذا العصفور ليسكن حبه في جنباته ويملؤه تغريدا.
ابتسم لها وهو يقول:
- لا تشكريني يا عنيدة.
ابتسمت رغم تقطيب حاجبيها، فندت عنه ضحكة قصيرة وهو يفتح لها باب سيارته بالمقعد الخلفي
لكنها تنحنحت قائلة:
- سأعود بمفردي .
سألها في استنكار مضيقا عينيه ناظرا لها بتحدِِ:
- ماذا قُلتِ؟
ابتلعت ريقها في قلق من رد فعله وأجابته:
- سأعود وح...
قاطعها آمرا أياها بحسم:
- تفضلي بالركوب آنسة مريم
ابتلعت ريقها وقد سقط عنادها أرضا أمام أمره الحاسم، فركبت وهي تتأفف بغضب.
عادت بسمته تحتل وجهه وانفكت عقدة حاجبيه قليلا، وهو يذهب لمقعد القيادة وما إن جلس وبدأ في تدوير محرك السيارة حتى التفت لها بوجهه قائلا لها بابتسامة:
- لا تخافي يا آنسة مريم صدقيني أنا لن آكلك، فلا داع للالتصاق باب السيارة هكذا، وكأنك تستعدين للفرار، أعدك الذئب الذي بداخلي لن يقوم بافتراسك، ولكن إن استمر عنادك فلا أعرف كيف ستكون العواقب؟
قالت بدهشة ممزوجة بالخوف والغضب:
- ماذا؟ انزلني فورا.
قالتها وهي تحاول فتح باب السيارة لكنه أمسك ذراعها يعيدها مكانها وهو يقهقه عاليا ويقول:
- لا تخافي أمزح معك .. اهدأي
جلست وأنفاسها تتلاحق بغضب ووجنتيها المتوردتين بخجلِِ تلفح المكان بحرارتهما.
أدار محرك السيارة، ثم نظر لها بالمرآة وهو يقول ما رأيك أن تسمعي شيئا؟!
نظرت له نظرة جانبية مبتسمة وصمتت فقال:
- السكوت علامة الرضا إذن، أتمنى أن تروقك الخدمة سيدتي
انتقى غنوة محددة، ثم ضغط زر التشغيل وهو يبتسم وينظر لها بالمرآة فانطلقت موسيقى مميزة لغنوة تعرفها لكن عقلها المشوش منعها من تذكر كلماتها، لم ترهق عقلها كثيرا بالتذكر حتى انسابت الكلمات
"كلك على بعضك حلو
والأحلى الخجل الي بعيونك
تزعل أو ترضى حلو
شوكة بعين اللي يحسدونك
وجهك حلو طولك حلو قلبك حلو
أه كلك على بعضك على بعضك
على بعضك حلو ..*

زادت تورد وجنتيها عندما التقت عينيها بعيني "زاهر" في مرآة السيارة، فتلاقيا في حديث قصير يشي بما يعتمل بقلبيهما، فالعيون تفضح المحبين ولا تخفي لهم سرا.
-----------------
اقترب بهدوء منها يضمها بذراعيه فيلصقها بصدره، يشم عطرها الذي يحبه. طبع قبلة طويلة على شعرها الكثيف الغجري وأسند ذقنه على رأسها بينما أمالت هي جبينها فأراحته على صدره باستكانة وهدوء، في حضنه الذي كان لها وطنا.
- صغيرتي الشاردة فيمَ تفكرين؟
تنهدت قائلة:
- أفكر بك أنت .. أنت سيد واقعي خيالي.
- يا الله .. ما كل هذا الرضا؟!
ضحكت بدلال، وهي تنظر لعينيه ذات النظرات الثاقبة التي تخترق فؤادها فيسقط قتيلا في هواه ويكشف له عن كل قصائد حبه وعشقه التى أخبئتها بقلبها المتيم بنظرة عين.
أحاط وجهها بكفيه، وقال لها اَمرا بصوته القوي الرخيم،وهو يحاصر عينيها بسهام عينيه:
- غني لي.
أخذت شهيقا عميقا من نسيم الليل البارد لعله يطفىء خجلها المشتعل، وأغمضت عينيها لتحلم، لتشعر بتلك اللحظة الحلوة بروحها وتراها بقلبها لا بيعينها، وشدت له بصوتها العذب الهادىء :
"
بص في قلبي يا عيون قلبي
شوف كام حاجة بتتمناك
فرحة وشوق وأماني كبيرة
وليالي حب بتستناك
بحبك حب خلاني بخاف من فرحتي جنبك
يشوفها حد يحسدها ويحسدني على حبك
وبحبك حب ياويلي منه مسهرني محيرني وروحي فيه
وبحبك حب ياويلي مدوبني وحبيته واخذت عليه
آه لو تعرف
آه لو تعرف ياحبيب قلبى
وانت معايا باحس بايه
خلي شوية لبكرا يا قلبي
لبكرا يا قلبي الحب ده ما اقدرش عليه*"

صاح بإعجاب:
- الله .. الله يا ست، ولا أنا أقدر على هذا الحب.
ثم مال لينثر قبلاته العاشقة على وجهها كأنه يكافأها على غنائها له ولكن بطريقته الخاصة.
xxxxxxxxxxxxxxxxxxxxxxx x
***
تذكرت سكونها وسكنها بحضنه في أيام مضت عندما رأت ذراعيه المفتوحتين لها في إصرار وكأنه ينتظر أن تلقي بنفسها في حضنه كما كانت تفعل يوما، لكنها التصقت بباب المكتب وعينيها مثبتتين بعينيه الصقريتين، كانت فزعة، خائفة، لم تكن تتوقع أن تراه أمامها هكذا بدون سابق إنذار. لم تكن تتوقع أن يأتي إليها اﻵن والثقة تملأه بأنها ستعود لتسكن ذراعيه! وكأنه لا يدرك أن أحضانه بعدما كانت لها وطنا صارت لها غربة!
أبعدت عينيها عنه، وحاولت أن تخفي خوفها وتلاحق أنفاسها وهي تبتعد عنه لكنه عاجلها بسحبها من ذراعها ليضمها إلى صدره وهو يقول لها بصوت هادئ:
- لا تتدللي علي .. لقد اشتقتك حقا.
شهقت وهي تدفعه بعيدا عنها وتبتعد للجهة الأخرى من المكتب قائلة بصوت مرتعد:
- إياك أن تقترب مني، وإلا صرخت وفضحتك.
ضيق عينيه بدهاء وقد فاجأه رد فعله الذي يخالف طبيعتها المستكينة الضعيفة، لكنها لا تعرف الغافلة أنها بهذا الشكل الشرس صارت تروقه أكثر،وصار يستهويه أكثر اللعب معها قليلا قبل إحكام قبضته عليها لذا صفق ببطء لها وهو يقول:
- أبهرتيني بتغيرك .. لكنك بهذا الشكل صرتي تجذبيني إليك أكثر، ولكن لا بأس من التمنع قليلا ولكن لا تطيلي الأمر، ولا تعافري كثيرا، فأنت لي، أنفاسك .. عطرك .. جسدك .. روحك، كل خيرك .. كل ما فيك ملكي أنا وحدي .. أتفهمين يا فريدتي.
تبعته بنظراتها المذهولة المرتعبةوهو يتجه لكرسيه الذي كان يحتله من قبل وهو يقول :
-سأنتظرك اليوم الساعة الخامسة في مطعم(….) أريد أن أتحدث معك على راحتنا والمكان هنا لا يسمح.
غاظها جبروت حديثه فسألته بغيظ من بين أسنانها:
- ومن أنت لتأمرني هكذا؟!
ابتسم ببرود وهو يضع ساقا على أخرى :
- أنا اَمر فأطاع يا حلوة.

هربت دمعة مقهورة من جفنها تتبعها أخرى ودلف المدير ليقطع عليهما حربهما المحتدة قائلا وهو يلهث بسرعة كخرتيت خرج لتوه من مسابقة للعدو :
- اَسف لتأخري عليكما .. تفضلي يا أستاذة فريدة بالجلوس لم تقفي بعيدة هكذا؟، أعتقد أني لست بحاجة لأعرفك بسيد "سيف" فهو غني عن التعريف خاصة لك - قال ذلك مقهقها وكأنه قال دعابة تستحق الضحك !
غصت بدموعها واستأذنته بالانصراف:
- من فضلك أريد الذهاب اﻵن.
- ولكن يا أستاذة كنت أريدك في …
أعادت رجائها مقاطعة كلامه وهي تقول:
- من فضلك ..
فسمح لها بالانصراف وهو ممتعض،وجلس وهو ينظر لسيف معتذرا منه وهو يكمل حديثه معه أما "سيف" فقد كان منشغلا عن حديثه وقد اتسعت ابتسامته لشعوره بالانتصار عليها بجولته الأولى، وهو لا يتوقع منها تحديه لوقت طويل، والأيام بينهما وستثبت له صدق تنبوئه.

يُتبع…
_______________________________________________

*1الغنوة الأولى لكاظم الساهر كلمات:عزيز الرسام
*2 الغنوة الثانية غناء : نجاة الصغيرة كلمات: حسين السيد
اعتذر لتأخر ساعة النشر لسوء الانترنت، بانتظار اَرائكم وانتقادتكم البناءة دمتم بحب
بقلم/ فايزة ضياء العشري


فايزة العشري لوزة غير متواجد حالياً