الموضوع: على شرفات الحب
عرض مشاركة واحدة
قديم 28-01-22, 12:56 AM   #48

شهر'زاد.

? العضوٌ??? » 492944
?  التسِجيلٌ » Sep 2021
? مشَارَ?اتْي » 100
?  نُقآطِيْ » شهر'زاد. is on a distinguished road
افتراضي على شرفات الحب

الفصل الرابع عشر

في اليوم التالي..
فتحت باب المنزل وهي تحك جبهتها بإرهاق بعد يومها الطويل بالعمل، تُحدث نفسها بأنها تحتاج إلى حمامٍ ساخن تريح به أعصابها، لكن آمالها تبخرت في الهواء حين أبصرت ذلك الجالس في حجرة الضيوف.. توقفت خطواتها لثانيتين قبل تجبر قدميها على التقدم، دخلت الغرفة بملامح واجمة
( كريم )
نهض من مكانه يستقبلها بابتسامة جذابة لم تؤثر بها، احتفظت ملامحها بجمودها رغم محاولتها في إظهار بعض اللياقة.. لم تره منذ تلك الليلة المشؤومة، حين تركها تعود بمفردها إلى المنزل دون حتى أن يكلف نفسه عناء الاطمئنان على وصولها.. شعرت بالحنق ناحيته فجأة وهي تتذكر الرعب الذي عاشته وما كان من الممكن أن يحدث لها ليلتها..
وصلها صوت والدتها تقول بهدوء
( لقد أتى كريم كي يتحدث معكِ يا صبا )
حركت نظراتها تجاه المرأة التي نهضت مِن مكانها واقتربت تربت على كتفها بحنان
( اجلسي مع خطيبكِ يا حبيبتي وأنا سأحضر لك مشروبًا فأنتِ تبدين مرهقة )
أومأت صبا على مضض ثم تحركت لتتخطاه إلى أحد الكراسي وتجلس عليه بهدوء.. بينما أوشكت مريم وملك اللتان كانتا تتابعان الموقف بصمتٍ على التحرك لتركهما بمفردهما، إلا أن صبا هتفت بعناد
( انتظرا )
ثم أمرتهما بعينيها ألا تتحركا، متجاهلة شرارات الغضب المتطايرة من كريم ناحيتها، جلس بالقرب منها فرفعت رأسها وقالت بحدة
( خير يا كريم.. ما هي حجتك الجديدة هذه المرة؟ أعلم أنكَ قد أعدت ما ستقوله جيدًا، فأنت بارع جدًا في تلك الأمور )
ألقى نظرة ناحية أختيها كي يحذرها بعينيه من التمادي، لكنها تمسكت بموقفها، كتفت ذراعيها وعلامات التمرد تتراقص على وجهها.. زفر كريم بحنق قبل أن يحاول تخطي الأمر بهدوء
( أنا أُقدِّر سبب غضبكُ.. وأعلم أنني تماديت قليلًا ليلتها، لكن هذا لا يمنع أنكِ أيضًا أخطئتِ ! )
ارتسمت علامات الذهول على وجهها وهتفت بعدم استيعاب
( هل جئت اليوم لتتهمني بأنني مخطئة !! )
رد بعصبية
( وهل يصح أن تتركي المطعم بتلك الطريقة وتجعليني أركض خلفكِ ! لقد لفتِ أنظار الجميع )
هزت رأسها بنفس الذهول
( مجددًا ! لا تهتم سوى بالواجهة الأنيقة.. ولأذهب أنا للجحيم !! )
صرخت بجملتها الأخيرة فتوترت الجلسة، بينما تابعت صبا وقد فقدت هدوئها
( ماذا كنت تنتظر مني بعد ما حدث أمام عيني.. هل كان عليّ أن أصفق لكَ وأنا أرى تلك الوقحة تقبلك أمامي وتتقرب منك بتلك الطريقة التي أقل ما يقال عنها أنها مبتذلة ! )
لم يستطع الرد عليها أمام سيل كلماتها الغاضب، ولم تنتظر منه ردًا فقد تابعت
( أنت حتى لم تكلف نفسك عناء الاطمئنان عليّ بعد أن رحلت بمفردي في ذلك الوقت المتأخر )
تدخلت مريم كي تهدئ الوضع
( طالما أن الأمر قد مَر بسلام فلا داعٍ لكل هذه المشاكل يا صبا.. لا تسمحي لتلك الفتاة أن تتسبب في مشكلة بينكما، أنتِ تفهمين تلك الأمور )
نظرت لها صِبا بصمت وهي تحاول تمالك أعصابها كي لا تصرخ أمامهم جميعًا بأن الأمر لم يمر بسلام في تلك الليلة، لكنها صمتت والتفتت لكريم الذي استرسل في حديثه وتبريراته لإصلاح الأمر، استمعت لما يقوله دون حماس، لم تهتم حقًا بمبرراته الفارغة، فقد بدأت تشعر أن تلك القشرة اللامعة التي كانت تزينه بدأت في التصدع.. شيء ما بداخلها يخبرها أن علاقتها بكريم تتجه نحو الهاوية، وأن الأمر بات مسألة وقت حتى تحسم الأمر نهائيًا، أو بمعنى أصح يحسمه هو بقطع آخر خيوطه معها...
أنهى حديثه الذي لم تهتم بسماع حرفًا منه، نهض من مكانه واتجه إلى لفافة ضخمة كانت موضوعة بعيدًا، تناولها وعاد إلى صبا التي طالعتها دون حماس وكأنها متيقنة مما بداخلها، فتحها كريم فبرزت لمعة ساحرة لفستانٍ أسود..
ابتسم لها وهمس بتملق
( والآن هل ستعفو عني أميرتي وتوافق على مرافقتي إلى الحفل؟ )
التوت شفتيها ببسمة ساخرة، حدثت نفسها بأنها لم تكن تتوقع غير هذا.. كالعادة، حديث لطيف وهدية مبهرة وسهرة راقية، هي كل خطوات كريم نصار للوصول إلى مبتغاه.. وكأنها لا تساوي عنده غير هذا..
تنهدت ولم تكشف عن أفكارها، قالت بهدوء
( لكن هذا الفستان مكشوف الأكمام، أنت تعرف أنني لا أرتدي فساتين مكشوفة )
اعتبر جملتها موافقة على طلبه فسارع يقول بلهفة
( إنه بنصف أكمام حبيبتي.. لقد اخترته خصيصًا كما يناسب زوقكِ )
فركت كفيها وهي تسحب كُم بلوزتها الفضفاضة بحركة غير ملحوظة، قالت بإصرار
( لم أحبه.. سأحتاج لتبديله بواحدٍ آخر )
نقل كريم نظراته بتعجب ناحية مريم يسألها بعينيه عما يجري، إلا أنها لم تنتبه له وعينيها مثبتتين على يد أختها التي تسحب طرف كُم بلوزتها حتى غطت منتصف كفها.. ابتلعت صِبا ريقها وهي تلقي نظرة خاطفة ناحية مريم قبل أن تنتبه لوالدتها التي تقف بصمت عند باب الغرفة..
نظرات صامتة تبادلتها كلتاهما لعدة ثوان قبل أن تقطع والدتها ذلك التواصل وهي تندفع مبتعدة عن باب الغرفة، بينما ملامحها تعكس ألمًا واضحًا و شعورًا بالذنب كالحجر يجثم فوق صدرها.

**************************

طرقت باب غرفته بخفة لتدخل ما إن سمعت إذنه بالدخول، أطلقت صفير إعجاب واقتربت تغازله
( سيدي يا سيدي.. ما كل هذه الأناقة؟ )
استدار إليها ضاحكًا
( كل هذا المزاج الرائق لأنكِ ستتأتين معنا للحفل؟ )
ابتسمت زهرة ومدت يدها لتعدل له ياقة قميصه
( بل لأنني أخيرًا أنهيت اختباراتي وسأبدأ في الاستمتاع بالعطلة )
هز رأسه متعجبًا
( وهل يُعقل أن تكون أولى خططتكِ في الاستمتاع بالعطلة أن تأتي إلى حفلٍ يخص العمل؟ )
أجابته ببساطة وهي تنثر على قميصه بعض العطر
( أنتَ تعلم أنني أستمتع بصحبتك في أي مكان أخي العزيز )
ابتسم لبساطتها المحببة، وأذنيه تلتقط لفظ
"أخي" الذي يكاد لا يسمعه من غيرها، بل هو فعلًا كذلك.. تلك المشاكسة الصغيرة تمنحه طاقة غير مشروطة من الحنان والأخوة، بطريقة تجعله لا يمانع في إعطاءها عينيه لو أرادت..
انتهت من وضع لمستها الخاصة على ملابسه ثم ابتعدت قليلًا تسأله بزهو
( والآن ما رأيك في فستاني؟ )
ابتسم بخفة ومدحها بإعجابٍ حقيقي
( ربما لدينا عروس هنا الليلة ! )
توردت وجنتيها بخجلٍ وقد زادت ثقتها بنفسها وهي تتخيل رد فعل مروان ما إن يراها.. الحقيقة أنها بالغت في الاهتمام بزينتها ما إن علمت بمرافقته لهما وهي تحدث نفسها أن الفرص تخدمها هذه الأيام حتى تتقرب منه بشكل أكبر..
طرقات هادئة على باب الغرفة تبعها صوت الخادمة تخبرهما بوصول السيد مروان.. سار أمجد متوجهًا إلى الأسفل تتبعه زهرة التي همست لنفسها بحماس مرتبك
( أليس هذا فألًا جيدًا ! )

*****************************

نظرت حولها تتطلع إلى ذلك الحفل الفخم، ملامحها عابسة وقد بدأت تشعر الملل، إنها تجلس بمفردها منذ أكثر من نصف ساعة بينما أمجد منشغلًا في الحديث مع بعض ضيوف الحفل.. ألقت نظرة يائسة نحو مروان الذي يجلس أمامها بصمت وشرود.. منذ بداية الليلة وهو على هذه الحالة من الهدوء على غير عادته، طوال الطريق وهي تحاول مشاكسته ليلتفت إليها إلا أن ردوده كانت مقتضبة وقد التهى بشروده طوال الطريق.. نظرت لفستانها الرقيق الذي انتقته بعناية وقد كانت تأمل أن تستطيع لفت انتباهه، إلا أن كل آمالها ذهبت أدراج الرياح وقد أحبطها أن تراه غير منتبهًا لوجودها تقريبًا.. تنحنت تجلي صوتها وهي تنوي سؤاله عما به، لكن قاطعها تدخل مفاجئ من إحدى فتيات الحفل التي اقتربت من مروان وبدأت في التقرب إليه بميوعة، تجمدت زهرة في جلستها وقد ضربها إحساس بالتقزم في حضرة تلك الفاتنة التي تجاهلت وجودها، اشتعلت غيظًا من ذلك العرض المكشوف واتجهت أنظارها لمروان.. لكنه
بدا غير مباليًا وقد منعه شروده من اقتناص الفرصة، ابتسم بسخرية وهو يرى تلك الفتاة تتلاعب بشعرها في محاولة مبتذلة لجذب انتباهه.. لتقتحم عقله صورة أخرى لأصابع رقيقة تتلاعب في خصلاتها ببراءة خلبت لبه دون أدنى مجهود منها.. تنهد بعمق وهو يتذكر وجهها في آخر مواجهة بينما، طريقتها الجامدة في الحديث معه أكدت له أن هناك شيئًا لا يعرفه، ومنذ ذلك اليوم وهي تتجنبه تمامًا، بينما يكاد يجن وهو يحاول أن يفهم ما يحدث معها.. زفر بإحباط ونظر بطرف عينه لتلك الفتاة الحمقاء التي بدأت تثرثر رغم تجاهله لها، ودون اكتراث نهض عن كرسيه ليتجه نحو طاولة المشروبات، وقف يتلاعب بالأكواب بشرود لترتسم على شفتيه ابتسامة خفيفة وهو يرفع كأسًا من عصير البرتقال لشفتيه يشربه بتلذذ.

**************************

استقر أمجد بجانب زهرة التي كانت تستند بمرفقها على الطاولة وهي تريح وجنتها فوق كفها شاعرة بالإحباط من تلك السهرة المملة، سألها مستفهمًا
( ماذا بكِ صغيرتي؟ هل تشعرين بالملل؟ )
زمت شفتيها وعاتبته دون أن تلتفت بوجهها إليه
( أنا أجلس هنا بمفردي منذ مدة )
تعجب أمجد وهو يبحث بعينيه بين الحضور
( لماذا؟ أين ذهب مروان؟ )
أجابته بسخرية وهي تنظر إلى زاوية بعيدة
( يقف أمام طاولة المشروبات منذ أكثر من ربع ساعة، وقد قضى على عصير البرتقال كله )
راقبه أمجد بتمعن وتأكد بفطنته أن صديقه ليس على طبيعته، إنذارات الخطر في عقله تحذره مما لاحظه سابقًا حول علاقته بمريم، لم يعطِ الأمر اهتمامًا كبيرًا في البداية فهذا ليس جديدًا على صديقه، لكن هذه المرة يشعر بأن الأمر حقًا مختلف، وتغير حال صاحبه هو أكبر دليل.. انتبه لصوت زهرة التي صاحت فجأة بحماس
( أليست هذه صبا؟ )
نظر إلى حيث أشارت فتحفز مكانه وقد رآها أمامه، لكنها لم تكن بمفردها، بجانبها وقف كريم يتحدث مع أحدهم.. تعلقت عيناه بها رغمًا عنه، ترتدي فستانًا لامعًا من اللون الأسود يغطي جسدها بالكامل، يلتصق بقوامها الرشيق لينسدل عند آخره بطبقة من الشيفون حتى آخر قدميها، وشعرها مرفوع في لفة أنيقة أبرزت نعومة ملامحها.. انحدرت نظراته لكفها وقد تعلقت بذراع خطيبها، أشاح بوجهه عنها بسرعة وهو يشعر بالغضب من نفسه ثم أخذ نفسًا متشنجًا، مد كفه يرتشف من كوب الماء البارد أمامه بينما أتاه صوت زهرة التي نهضت من مكانها بحماس
( سأذهب لأسلم عليها )
قالتها وأسرعت تجاه صبا، بينما هب أمجد من مكانه حيث يقف صديقه أمام طاولة المشروبات.

****************************

وقفت تبتسم بدبلوماسية لصاحب الحفل وزوجته، كانت تشعر بعدم الارتياح وتلوم نفسها على مجيئها.. نظرت ناحية كريم الذي انهمك في حديثه معهما لتشرد قليلًا وهي تشعر بنفسها عاجزة لأول مرة عن اتخاذ قرارًا حاسمًا.. لقد وافقت على المجيء إلى الحفل والعودة لشخصية "خطيبة رجل مهم" كما تقول أختها ملك، رغم أنها لا تستسيغ فكرة الحفلات والمظاهر الكاذبة، كانت أجبرت نفسها على تقبل مجتمع كريم منذ أن تمت خطبتهما، لكنها الآن لا يسيطر عليها سوى شعورًا بالاختناق وهي تجبر نفسها على تقبل كريم ذاته !!
أنهى حديثه ليلتفت ناحيتها مبتسمًا
( ما رأيكِ في الحفل؟ )
جاملته بابتسامة لم تصل لعينيها وحاولت إبداء إعجابها بأجواء الحفل، انتبهت لصوت رقيق يناديها فالتفتت متفاجئة وهي ترى زهرة أمامها.. عانقتها الأخيرة بسعادة
( وأخيرًا شخص أعرفه في هذا الحفل الممل؟ لم أتوقع أن أراكِ هنا )
ابتسمت صبا وقد هدأ توترها قليلًا شاكرة ظهور زهرة، أجابتها بمودة
( لقد أتيت مع خطيبي )
حيَّته زهرة بإيماءة خفيفة، لكنه مد يده مُصافحًا
( مرحبًا بالجميلة جارة صبا )
ابتسمت له ببرود ثم سحبت كفها سريعًا وهي تشعر بعدم الارتياح ناحيته، التفتت تكمل حديثها مع صبا بتلقائية
( لم أكن أعلم أنكِ تهتمين بهذه الحفلات المملة، أنا عن نفسي لن أكرر هذه التجربة، يكفيني حفلات أبي )
سألتها صِبا بفضول
( مع من أتيتِ إذًا؟ )
أشارت زهرة إلى حيث يقف أخيها ومروان
( لقد اصطحبني أمجد، لكنه منشغلًا منذ بدء الحفل.. )
أكملت ثرثرتها في حين نظرت صِبا إلى حيث يقف أمجد، تقابلت عيناهما في لقاء قصير قبل أن تشيح ببصرها نحو زهرة، تحدثتا قليلًا فى بعض الأمور قبل أن تنصرف زهرة شاعرة ببعض الحنق من خطيب صبا الذي أقحم نفسه في حديثهما بصفاقة ضايقتها.

**************************

نقر على كتف صديقه ليلتفت له الآخر متسائلًا، فرفع أمجد حاجبًا واحدًا، وقال بسخرية
( ألم تكتفِ بعد؟ لقد شربت أكثر من نصف كمية البرتقال المجهزة للحفل كله )
لم يرد مروان ورفع الكوب يشرب نصفه دفعة واحدة.. زم أمجد شفتيه وأردف بجدية
( بيننا حديث لم نكمله )
أومأ مروان قائلًا بشرود
( عندما أعود من السفر )
اعترض أمجد بنبرة حازمة
( لا.. لن أنتظر كل هذا، يجب أن أفهم منك ما يحدث )
نظر مروان لصديقه وهو لا يزال يحتفظ بهدوءه
( دعنا ننتهي أولًا من هذا المشروع.. موضوعي أنا أعرف كيف سأتصرف فيه )
وقبل أن يحتج قاطعه مروان وهو يربت على كتفه ببعض الخشونة، متشدقًا بمشاكسة
( لا تقلق يا صديقي.. هل فشلت أنا يومًا في حل مشكلة؟ )
زفر أمجد وهو يعرف أنه يتهرب من الأمر، غمغم بصوت مسموع
( استر يا رب )
ضحك مروان ضحكة قصيرة تبعتها تنهيدة عالية.. وبعد لحظات من الصمت تساءل
( أين أختك؟ )
نظر أمجد ناحية زهرة التي وقفت تتحدث بانطلاق مع صِبا، فالتفت مروان حيث أشار صديقه، ثم قال بلؤم
( المعلمة الفاتنة هنا.. يالها من صُدف )
تكلم أمجد من بين أسنانه
( اخرس يا مروان )
هتف بتذمر واهٍ
( ماذا ! هل كلما نطقت ستحجر عليّ !! )
خبطه أمجد في كتفه بغلظة، وزجره بتقريع
( يا بني آدم احترم نفسك وركز في خيبتك )
دلك مروان ذراعه بألم، ثم قال بترفع
( تأدب يا ولد وأنت تكلِم عمك.. عن أي خيبات تتحدث !! أنا بعون الله سأستحوذ على مخزون البرتقال كله )
نبس بجملته الأخيرة وهو يلاعب حاجبيه بخبث وقد استعاد روحه المشاكسة، بينما ضحك أمجد بيأس قبل أن يعود بأنظاره إلى حيث تقف أخته..
( خطيبها هذا ****.. كان الله في عونكِ يا صبا )
غمغم مروان بجملته بهدوء وهو ينظر ناحية كريم.. ليلتفت أمجد لصديقه بصدمة ما إن التقط ما قاله، غير غافلًا عن اللفظ الذي ذكره، هتف بذهول
( هل تعرفه؟ )
أومأ مروان وهو يوضح ببساطة
( والده رجل أعمال من عائلة عريقة وثرية.. وهذا المدلل ابنه، يساعده الآن في الشركة، لكن سُمْعته لا تتوافق مع مظهره اللامع )
ألقى أمجد نظره متفحصة ناحية كريم ثم عاد ببصره إلى صديقه الذي أردف بتعجب
( أتساءل من أين تعرفت عليه صبا.. الفتاة تبدو محترمة وليست من شاكلته )
عقد أمجد حاجبيه، متحيرًا من هذا اللغز، قال بعدم فهم
( عن أي شاكلة تتحدث ! ألم تقل أنه من عائلة محترمة؟ )
لم يُجبه مروان مباشرة، بل أخذ وقته في تناول قطعة حلوة بتلذذ، ثم رد ببساطة
( نعم.. لكنه هو ليس محترمًا )
رفع أمجد حاجبه وقبل أن ينطق بشيء هتف مروان بغضب
( لماذا تقف زهرة معهما كل هذا الوقت؟ )
أجابه أمجد بذهنٍ منشغل بينما نظراته تتركز على كريم
( تتحدث مع صديقتها )
انفعل مروان بحنق
( وبالنسبة لخطيب صديقتها ! )
التفت له أمجد بحدة، وقد ظهرت علامات عدم القلق تظهر على وجهه، تكلم بتوجس
( ما خطب هذا الرجل يا مروان.. أفهمني ! )
رد يهدئه
( سأفهمك فيما بعد.. المهم لا تتحدث أمام زهرة، حتى لا تثرثر بشيء أمام صِبا بالذات )
أومأ برأسه مضطرًا وهو يلمح زهرة تقترب منهما، والتي اختفت ابتسامتها وهي تطالع الوجهين العابسين، فتساءلت بقلق
( هل هناك مشكلة؟ )
لم يرد أمجد وهو يذهب بنظراته ناحية كريم يتفحصه بتمعن، بينما اندفع مروان يسألها بخشونة
( لماذا أطلتِ في الحديث مع صبا بينما خطيبها اللذج يقف كحارس المرمى بجوارها؟ )
رفعت حاجبها وقالت متهكمة
( وما المشكلة لا أفهم ! ألا يكفي أنني أجلس بمفردي منذ بداية الحفل ! قلت لنفسي أن أستغل فرصة وجود صِبا لأستمتع بوقتي مثلكما )
رد مروان متأففًا
( ليس وخطيبها معها )
رفرفت فراشات صغيرة في معدتها وقد فسرت جملته على أنها غيرة، احمر وجهها ببلاهة وهي لا تصدق أنه بدأ يشعر بها أخيرًا.. ولذلك أجابته بتشدق ترغب في إثارة غيرته أكثر
( وما به خطيبها؟ إنه لطيف جدًا )
تهكم مروان وهو يكرر جملتها بطريقة ساخرة
( نعم لطيف جدًا.. حتى أن لُطفه دخل في عيني.. انظري )
همَّت بالرد عليه لكن كلاهما انتفض على صوت أمجد الذي صاح بقلة صبر
( اخرسا أنتما الاثنين.. هيا سنغادر الآن )

***************************

دخل كلاهما إلى المنزل بعد انتهاء السهرة، كانت العائلة متجمعة على غير العادة في غرفة المعيشة أمام التلفاز، تقدمت زهرة وهي تلقي بحذائها بعيدًا وتدلك رقبتها متأوهة.. سألتها رحمة التي تجلس بجوار فارس
( كيف كانت السهرة؟ )
أجابتها وهي تتثاءب بنعاس
( رائعة بكل المقاييس، والحمد لله لن أكررها مرة أخرى )
ضحكت رحمة متعجبة.. بينما وبخ فارس أخته بحدة مبالغ بها
( هل خرجتِ بهذا الفستان القصير ! )
نظرت زهرة لفستانها ثم رفعت رأسها باعتراض
( ليس قصيرًا لهذه الدرجة.. كما أنني كنت مع أمجد )
همهم فارس بسخرية وهو يلقي نظرة مستهزئة ناحية أمجد، فلكزته رحمة وهي تحدجه بنظرات محذرة.. أما أمجد فلم يلتفت لما يحدث، ألقى تحية المساء وأوشك على الصعود لغرفته، لكن زوجة والده التي دخلت الحجرة لتوها أوقفته تسأله
( انتظر يا أمجد.. كيف حال جرح يدك؟ )
ثم اقتربت منه لتفحص الجرح.. فقال أمجد بهدوء
( لقد أوشك على الالتئام )
ثم أردف وهو يحاول التملص من ذلك التجمع
( سأصعد للنوم.. تصبحون على خير )
لكن السيدة مشيرة لم تسمح له بالتحرك وهي تجذبه ليجلس على الأريكة بينما تقول باهتمام
( ابقَ قليلًا حتى أضع لك لفافة جديدة على الجرح.. أين وضعتِ القطن يا رحمة؟ )
غمغم أمجد برفق
( لا داعي لذلك )
لكن رحمة كانت قد نهضت بالفعل لتحضر القطن ثم ناولتها إياه وعادت تجلس مكانها متجاهلة نظرات فارس النارية نحوها... بدأت المرأة في تغيير اللفافة بينما تنهد أمجد وقد طافت ذكرى قديمة بالمكان
"قبل عشرون عامًا"..
( انتبهى يا رحمة كي لا تسقطي )
هتف بها أمجد ذو العشر سنوات وهو يركض ناحية ابنة عمه التي تلعب بالدراجة، وقبل أن يصل إليها وجد يدًا صغيرة تدفعه بحدة كي يتراجع فارتطمت ساقه بالدراجة بجانبه.. بينما هتف فارس بتذمر
( ابتعد أنتَ )
وضع يده على ساقه يتلمس ذلك الخدش، بينما صدح صوت والده الغاضب
( فارس ! ألم أحذرك من تلك التصرفات من قبل ! تأدب وأنت تحادث أخيك )
في حين اقتربت السيدة مشيرة تمسح ركبة أمجد بمنديل وهي تحدث ابنها موبخة
( اعتذر فورًا يا فارس وإلا عاقبتك )
حرك الصبي عينيه الصغيرتين بينهم وقد لمع بهما التمرد، وصاح بعناد
( لا أريده أن يلعب معنا.. فليذهب ليعيش مع أمه )

تقابلت نظراتهما وذكرى ذلك اليوم تقتحم مخيلة كلاهما، كانت نظرات أمجد ثابتة جامدة لا تظهر ما يشعر به، بينما اهتزت حدقتيّ فارس قليلًا قبل أن يستعيد ثباته ويشيح بوجهه بعيدًا..
قطع ذلك الصمت صوت زهرة تقول بعتاب
( هل كان يجب عليك أن تستخدم السكين في تلك الليلة؟ )
التفت نحوها بتشتت وهو يلتقط جملتها التي اختلقها سابقًا
( أردت تحضير شيئًا سريعًا فحسب.. كنت أشعر بالجوع )
دنت منه زهرة لتسحب كفه من يد والدتها وبدأت تكمل وضع اللفافة وهي تقول بحنان
( لماذا لم توقظني حتى أحضر لك ما تريد؟ )
مصمصت السيدة مشيرة شفتيها وتهكمت
( مَن يسمعكِ هكذا يقول أنكِ أستاذة طبخ.. ألا تتذكرين الحريق الذي كدت تتسببين به؟ )
احتجت زهرة بطفولية
( كان ذلك منذ عامين.. أنا الآن أجيد الطبخ بمهارة.. أليس كذلك يا أمجد؟ )
ربت على على شعرها برفق
( طبعًا يا صغيرتي )
ثم استقام واقفًا واتجه إلى غرفته وهو يشعر بانتهاء طاقته لهذا اليوم.

****************************

أوقف سيارته أمام منزلها والتفت ناحيتها يحدثها برقة
( كانت سهرة رائعة، أليس كذلك حبيبتي؟ )
أجبرت نفسها على الابتسام وهي تومئ برأسها بمجاملة كاذبة، تعلم أنه الآن يشعر بالرضا من نفسه بعد نفَّذ ما أراد واصطحبها معه للحفل ليتحرك بها كالدمية بينما يتحدث إلى باقي الضيوف.. أخذت صبا نفسًا وهي تكاد تشعر بالاختناق من تلك الأجواء المفروضة عليها.. صدح صوت رنين هاتفه فمد يده ليطفئ الصوت بلا مبالاة، نظرت صبا للهاتف الذي لم يتوقف عن الرنين منذ بداية الليلة، سألته بهدوء
( ألن تجيب؟ )
أجابها ببساطة وهو يتجاهل الرنين الذي صدح مرة أخرى بإلحاج وكأن المتصل قد فقد صبره
( لا يهم.. فالمكالمات لا تنتهي )
قالت وهي تمد يدها تنوي الإمساك بالهاتف الموضوع أمامهما
( ربما يكون هناك أمرًا هامًا )
لكن سبقتها يده التي أمسكت بكفها قبل أن تصل إليه وهو يقول بنبرة ناعمة
( لا يوجد ما هو أهم منكِ عزيزتي )
نظرت لكفها المستقر في يده ثم حادت بعينيها للهاتف بينما قال كريم وهو يداعب أصابعها
( سأمر عليكِ غدًا في العمل لنتناول الطعام في النادي )
سحبت كفها وتكلمت ببرود
( غدًا لدي جلسة مع ليان بعد العمل )
تجاهلت الضيق الذي ظهر على وجهه وهي تتمنى أن يعترض، إلا أنه خالف ظنها وقال بإصرار
( لنجعلها بعد غد )
حكت جبهتها بملل، تعلم أنه لن يتوقف عن إلحاحه فاضطرت للموافقة.. ألقت تحية سريعة وهي تفتح باب السيارة بعجلة، وقبل أن تصل لبوابة منزلها أوقفها كريم بنداءه فاستدارت له متسائلة، اقترب منها ورفع كفه يزيح خصلة من شعرها ويهمس برقة
( أتمنى ألا تكوني ما زالتِ غاضبة )
أبعدت رأسها قليلًا تتحاشى لمساته وتمتمت بتململ
( لقد انتهى الأمر ولا داعي لفتحه مرة أخرى )
لم يبالِ بنبرتها المتأففة ولا بإشارتها الواضحة لرفضها لمساته، بل اقترب منها وقد انتقلت أصابعه لوجنتها يمسدها بخفة
( على العموم أنا سأعرف كيف أحصل على صفحكِ كاملًا )
رفعت كفها ترجع خصلة من شعرها للخلف وقصدت أن تبعد يده عنها بلباقة مُنهية حديثها معه وقد استبد بها الإرهاق...
انصرف أخيرًا فراقبت ابتعاده بشرود شاعرة برأسها يكاد ينفجر من فرط التفكير، كانت تدلك وجنتها التي مستها أصابعه منذ لحظات غافلة عن ذلك الظل الذي يقف في شرفته العالية، يراقب الموقف منذ بدايته و عيناه تشتعلان ببريق غاضب، أنفاسه تعلو بشكلٍ ملحوظ وهو يقبض كفيه حتى ابيضت مفاصله وملامحه تتوحش أكثر بينما يغزو مخيلته ذلك المنظر الذي شاهده منذ قليل حين رآها تقف مستسلمة لتلك اللمسات.. طحن أسنانه وهو يضرب يده بالحائط المجاور في حنق منها ومِن نفسه قبلها غير مباليًا لجرح يده، نفخ زفيرًا عاليًا وهو يغلق زجاج نافذته بعنف فأصدرت صوتًا عاليًا وصل إلى مسامع صبا التي كانت على وشك إغلاق بوابة منزلها، انتفضت وهي ترفع رأسها لمصدر الصوت، لكن لم يقابلها سوى الظلام المحيط بالمكان، هزت كتفيها متجاهلة الأمر واتجهت داخل المنزل.

**************************

فتحت عينيها بخمول ورمشت عدة مرات حتى استفاقت، سكنت مكانها تتطلع في سقف غرفتها لعدة دقائق حتى استعادت وعيها لتستقيم جالسة وهي تفرك عينيها الناعستين، نظرت إلى ساعة الحائط التي تشير إلى الثانية ظهرًا، نهضت من مكانها بكسل وهي تلملم خصلات شعرها المبعثرة ثم توجهت لحمام غرفتها..
بعد دقائق كانت تهبط الدرج وهي تدلك معدتها بجوع، لم تأكل شيئًا منذ البارحة، رغم أن الحفل كان مليئًا بالمأكولات إلا أنها لم تستسيغ تلك الأطعمة الأجنبية التي تأتي من الخارج خصيصًا لأجل تلك الحفلات.. ابتسمت بهيامٍ وأنفها يلتقط رائحة طعام شهي يأتي من مطبخ منزلهم فاتجهت ناحيته مباشرة، وقفت تستند برأسها إلى الباب تتأمل والدتها تحضر الطعام، ابتسامة دافئة لوَّنت شفتيها وهي ترى والدتها ما زالت محتفظة ببساطها رغم فخامة المنزل الجديد، حتى أنها أصرت أن يكون المطبخ بالذات على الطراز القديم الذي اعتادته.. تحركت صبا لتقبل رأس والدتها وقالت تداعبها
( صباح الخير على سيدة مطبخنا الأولى )
ابتسمت المرأة وقالت
( أي صباح هذا أيتها الكسولة.. ألم تنظري في الساعة؟ لماذا لم تذهبي للعمل اليوم )
مدت صبا يدها تلتقت قطعة من الخضروات المقطعة تلتهمها بنهم وأجابت ببساطة
( ألا يحق لي بعض الراحة يا "جوجو"؟ لقد تأخرت بالأمس في الخارج وأنتِ تعلمين أنني أكره الاستيقاظ مبكرًا )
أجفلت كلتاهما على هتاف عالٍ لتلك الشعلة التي اقتحمت المطبخ ساخطة
( طبعًا تكرهين الاستيقاظ مبكرًا فلا يوجد لديكِ اختبارات مثلي، وتقضين وقتكِ في السهرات والحفلات مع خطيبكِ اللامع )
اقتربت منها تقرص بوجنتيها بمشاكسة بينما تحاول ملك إبعاد وجهها دون فائدة
( تلميذتنا النجيبة.. كيف كان الاختبار؟ )
أبعدت يد صبا عنها بأعجوبة وأخذت تدلك وجنتها التي احمر لونها، صاحت بصضيق٦
( حسبي الله ونعم الوكيل في تلك المعلمة.. دائمًا تكون اختباراتها هي الأصعب.. أتعلمين؟ إنها تشبه تلك المرأة حماتكِ )
قهقهت صبا بينما هتفت جيهان توبخ ابنتها لتتذمر ملك
( ماذا؟ هل كلمتي هي التي تقف في الحلق ! ها هي ابنتكِ تضحك ولم تعترض )
ضربتها والدتها بخفة ثم سألت صبا
( كيف كان الحفل؟ هل استمتعتِ؟ )
تداعت ابتسامة صبا وقد تعكر مزاجها لترد بكلمات مقتضبة محاولة عدم إثارة قلق والدتها.. منذ الأمس وهي تغلق هاتفها لتتحاشى اتصالات كريم، تحتاج لتصفية ذهنها بعيدًا عن وجوده الدائم في حياتها حتى تفكر جيدًا.. مدت يدها تتناول قطعة من الخضروات وفعلت ملك المثل، بينما زجرتهما والدتهما
( سيجهز الطعام بعد قليل، لا داعي للتصرف كالقطط )
زمت ملك شفتيها وفمها ممتلئ بالطعام.. تساءلت صبا فجأة
( أمي، هل لدينا دقيق؟ )
بعد دقائق وقفت صبا عاقدة شعرها بعشوائية وقد انهمكت في الأوانى أمامها بعد أن أصرت على إعداد بعض الحلوى، هوايتها المفضلة منذ أن كانت في سن المراهقة وقد علمتها والدتها إعداد بعض الأصناف لتتخذ من الأمر طريقة للتخلص من الطاقة السلبية، وبالفعل بدأت تتخلص تدريجيًا من الضغط الواقعة فيه وهي تنهمك في إعداد الحلوى تساعدها ملك وقد ارتفعت أصوات ضحكاتهما.

***************************

دخل إلى المنزل ليتجه مباشرة إلى الدرج المؤدي لغرفته، لكنه اصطدم في طريقه بالصغير إياد، فتوقف مكانه وهو ينظر للفتى الذي تكلم بتهذيب
( آسف عمي أمجد )
انحنى أمجد ليجلس على عقبيه، أمسك بذقن للفتى عاقدًا حاجبيه من منظر وجهه الذي يلطخه الطعام وسأل بتعجب
( لماذا يغطي الطعام فمك يا إياد؟ لو رأتكَ جدتك ستعاقبك )
قاطعه الصغير ببراءة ونبرة خافتة
( ششش أخفض صوتك حتى لا تسمعك "نانا".. لقد أعطتني الفتاة هذه الحلوى وأنا وعدتها أنني لن أخبر أحدًا )
رفع أمجد حاجبه مرتابًا
( أي فتاة تقصد؟ )
أشار له إياد بيده أن يقترب ففعل أمجد ما طلبه
وهو يكتم ضحكاته منتظرًا السر الخطير الذي سيقوله، بينما همس الطفل بنبرة جادة مضحكة
( تلك الفتاة التي تأتي وتلعب مع ليان.. ذات الشعر الطويل )
همهم أمجد وقد أدرك مَن يقصد، ليستأذنه الصبي وأكمل ركضه إلى الحديقة بينما استقام أمجد وسار يبحث بعينيه عن "صاحبة الحلوى" .. سمع ضحكات تأتي من المطبخ فاقترب بهدوء، لمح زهرة التي تجلس على كرسي في المطبخ وقد التصقت بها كل من نادين وليان، تتناولن بعض الحلوى بنهم، وأمامها تجلس صبا تضحك بصوت عالٍ وهي تستمع إلى زهرة التي تروي شيئًا ما، اقتربت خطواته إلى داخل المطبخ وعينيه على تلك التي تضحك بعلوٍ غير منتبهة له، وما إن هتفت زهرة بِاسمه حتى رفعت وجهها ناحيته وبدأت تتحكم في ضحكاتها..
نهضت زهرة تتجه لأخيها تقبله بخفة ومازحته
( السيد أمجد بنفسه في مطبخنا؟ ما هذه الزيارة السعيدة )
ثم سحبته مِن كفه تحثه كي يجلس على الكرسى المقابل لصبا والذي كانت تحتله هي منذ قليل، ثم أردفت بنفس المرح
( يبدو أن حماتك التي ما زلنا لا نعرفها تحبك.. هيا تذوق تلك الحلوى وأخبرنا رأيك )
نظر أمجد للطبق الموضوع أمامه ثم رفع عينيه لصبا فوجدها تحدق به بترقب وكأنه تنتظر رأيه، وما إن تلاقت نظراتهما حتى ارتبكت وأخفضت عينيها سريعًا.. ثم تنحنحت وهي تمد يدها ناحية الطبق لتقربه منه في دعوة صامتة للتذوق.. استجاب لدعوتها ومد يده ليلتقط إحدى القطع وما إن وضعها داخل فمه حته سألته زهرة بلهفة
( ما رأيك؟ هل أعجبتك؟ لقد أعدتها صبا بنفسها )
نظر لها أمجد بصمتٍ بينما يمضغ الحلوى بهدوءٍ متلذذ وقد راقه أن يتناول شيئًا من صنع يدها، شعور غريب اجتاحه وقد غمرته الألفة لفكرة أنه يتناول شيئّا أعدته هي بينما تجلس الآن أمامه في منزله وهو يعلم أنها تنتظر رأيه حتى وإن أظهرت عدم الاهتمام.. ارتفع صوت نادين الصغيرة التي هتفت بحماس طفولي
( لقد أخبرتني صبا أنني عندما أكبر سيصبح لدي شعرًا طويلًا مثلها )
تلقائيًا حادت نظراته ناحية شعرها الذي صففته على هيئة ذيل حصان استقر بنعومة فوق كتفها.. تنحنحت صبا وقد توترت مِن نظراته لشعرها، فرقعت أصابعها بحركة عصبية وهي تشعر بوجنتيها تشتعلان احمرارًا..
رن هاتف زهرة فاستئذنت منهما وابتعدت إلى خارج المطبخ تتبعها نادين.. عضت صبا شفتيها وتلفتت حولها لتدرك أنها تجلس معه بمفردها، شعرت بنقرات خفيفة فوق ركبتها لتنتبه لـ ليان التي تنظر لها ببراءة، ابتسمت لها صبا بمحبة ثم رفعتها ببساطة لتجلسها على ساقها.. راقب أمجد حركتها العفوية فتسارعت نبضات قلبه وهو يتأمل تلك اللوحة الجذابة أمامها، هي بكل فتنتها تجلس أمامه بملامح صافية وقد انعكست أشعة الشمس فوق وجهها فأظهرت لون عينيها الصافي لامعًا، بينما يدها الرقيقة تداعب شعر ليان بحنان، تركزت نظراته على تلك الأصابع التي تغوص في شعر الطفلة، ليفقد فجأة السيطرة على أفكاره ويشرد أكثر متخيلًا تلك الأصابع الرقيقة تداعب شعره هو !
ارتفعت حرارة جسده وقد داعبت الفكرة رجولته، فابتلع ريقه ليكتشف فجأة أن فمه ممتلئًا بقطعة حلوى، استعاد سيطرته على نفسه وتخلص من أفكاره المجنونة، حاوى ابتلاع ما في فمه قبل أن يقول بهدوء ظاهري لا يعكس ما به
( إنها لذيذة )
رمشت بعينيها حين انتبهت لما قاله بعد أن كانت شاردة تفكر في طريقة تهرب بها من أمام نظراته، تنحنحت تجلي صوتها وشكرته بلطف، قسألها فجأة
( هل أنتِ من أعددتها حقًا؟ )
أومأت برأسها ليردف هو بتعجب
( لم يبدو لي أنكِ تجيدين الطهي )
على الرغم من جملته العفوية لكنها وكعادتها تفترض سوء النية لتقنع نفسها أنه يتندر عليها،
ردت بتحفز
( لماذا؟ هل أبدو لك فاشلة؟! )
رفع حاجبه بتعجب من هجومها الغير مبرر وكاد يرد عليها ردًا ساخرًا بحق، لكنه وبدلًا من ذلك وجد نفسه يرفع قطعة أخرى لفمه يتناولها ببطء متلذذ في إجابة صامتة على سؤالها الغاضب بينما يثبت عينيه أمام عينيها.. أخذ وقته في تناول قطعة الحلوى ثم قال ببساطة ونبرة هادئة
( بالعكس )
عقدت حاجبيها وقد تاه منها تركيزها، بينما تابع أمجد بصدق
( لا تبدين فاشلة يا صِبا )
صوته الهادئ وطريقة مدحه البسيطة أربكتها قليلًا، لكنها وبخت نفسها تنهرها على التفكير كالمراهقات، لتستعيد وقارها وهي تنوى النهوض لتغادر إلى منزلها، لكنه سبقها ونهض من مكانه يقول ببساطة
( قهوة؟)
لم تفهم مقصده فقالت باستفهام
( عفوًا؟ )
أجابها وهو يلتقط بعض المحارم الورقية يمسح بها فمه
( سأعد بعض القهوة.. هل ترغبين في القليل؟)
ماذا يحدث معه اليوم؟ ما باله يتصرف وكأنهما أصدقاء قدامى متخليًا عن وجهه الجامد معها ! شهقت دون صوت وهي تراه يخلع سترته ليظهر من تحتها قميصه الأبيض وبدأ يرفع أكمامه وهو يتحرك في المطبخ يبحث عن بعض الأشياء ليشرع بالفعل في إعداد القهوة دون أن ينتظر ردها... تفحصته بينما يعطيها ظهره منشغلًا فيما يفعله لتلحظ طول قامته الذي لم تنتبه له مسبقًا.. ثم نظرت لقامتها التي لا تتصنف كقصيرة، لكنها بالطبع دون كعبها العالي الذي باتت ترتديه كثيرًا مؤخرًا بالكاد تصل إلى كتفيه، رمشت بعينيها وأخذت تضرب جبهتها بيدها عدة مرات متتالية توبخ نفسها على ما تشغل تفكيرها به، ثم أبعدت نظراتها عنه واستطالت برأسها ناحية باب المطبخ تبحث عن شخص ينقذها.. زفرت وقد قابلها الهدوء الذي يحيط بالمكان بينما زهرة تبدو وكأنها تبخرت، تنهدت بإحباط ونظرت للطفلة التي تجلس بين أحضانها بوداعة وكأنها تسألها عما يجب أن تفعله، بينما التفت هو ناحيتها عندما التقط تنهيدتها بأذنيه المستشعرة لحركتها المتململة، كان قد انتهى من إعداد القهوة ليحمل الفنجانين ويتوجه إلى الطاولة مرة أخرى، جلس أمامها وقرب أحدهما إليها.. تنحنحت صبا وأخذته تلتقطه منه ثم وضعته أمامها وبدأت تتلاعب بحافته دون أن تشرب منه شيئًا.. ارتشف أمجد قهوته وهو يراقبها بصمت ثم قال بهدوء
( لا تحبين القهوة )
كانت جملته تحمل لهجة التقرير أكثر منه سؤالًا، لترفع في نظراتها ناحيته وتقول ببساطة
( لا أفهم لماذا يحب المرء شيئًا يحمل كل تلك المرارة؟ )
ثم ضحكت ضحكة خفيفة مرتبكة وأردفت
( وبصراحة لا أقتنع بإرتباط القهوة بالمزاج الرائق، في نظري هي مشروب كئيب لكثرة ما يحمله من مرارة )
ارتشف أمجد رشفه أخري وتكلم ببساطة
( ولماذا لا نقول أن مرارتها تحمل معنى آخر )
هزت رأسها مستفهمة فأوضح
( كأن تخبرنا مثلًا أن طعمها المُر يحمل بين طياته لذة خفيفة لمن يريد حقًا أن يتذوقها )
إنه حقًا يصرف اليوم بغرابة، وحديثه المليء بالألغاز هذا يثير ريبتها وهي لا تعرف كيف تجاريه.. هزت كتفيها ولا تزال تتلاعب بفنجانها
( حتى وإن احتوت على بعض اللذة، مرارتها التي تصدمنا في البداية ستفسد الأمر )
ابتسم ابتسامة جذابة وتحدث يوضح لها، وقد راقه جدًا أن يوضح لها
( هل جربتِ يومًا أن يحدث لكِ شيئًا سيئًا؟ يشعركِ بالغضب مثلًا.. ثم بعدها تكتشفين أن الأمر لم يكن بهذا السوء، وأنه فقط كان مجرد بداية لشيء آخر؟ شيء أقل ما يقال عنه أنه.. )
بتر جملته دون أن يكملها، فهزت رأسها تحثه ليكمل وهي تقول بفضول
( أنه ماذا؟ )
تعمقت نظراته أكثر وقد تركزت نظراته داخل عينيها وهو يجيب بصوت رخيم
( رااائع )
رمشت بعينيها عدة مرات وهي تسمع وصفه الذي قاله بنبرة ممطوطة وكأنه يتذوق الكلمة بينما يحدق بها بطريقة مربكة.. صمت قليلًا قبل أن ترد بتبلد وخشونة
( لا، لم يسبق لي شيء كهذا )
عبست ملامحه وقد صدمته بجلافة ردها، واستشعرت هي ذلك فضحكت رغمًا عنها لكنها كبحت ابتسامتها وأخفضت نظراتها سريعًا وهي تزيح خصلة من شعرها.. ثم نظرت للفنجان الموضوع أمامها لعدة ثوان قبل أن ترفعه لشفتيها وترتشف منه رشفة خفيفة باحثة عن تلك اللذة التي يتحدث عنها، لكن يبدو أنها لم تجد ضالتها فقد زمت شفتيها وانكمشت ملامحها وهي تهز رأسها ثم تركت الفنجان ومدت يدها بتلقائية لتأخذ كوب الماء الموضوع أمامه تشرب منه القليل حتى يضيع ذلك الطعم المُر.. نظر هو لحركتها العفوية وهي تتصرف كطفلة تناولت طعامًا لم يعجبها.. وضعت صبا الكوب أمامها هتفت بامتعاض
( يا إلهي يا أمجد إنها مُرة جدًا )
سعل قليلًا وهو يستمع إلى اسمه الذي نطقته بعفوية، تنحنح يسيطر على انفعالاته ثم تظاهر بالامبالاة وهو يقول متهكمًا
( ما هذه المبالغة ! أنا لم أضع بها شطة )
برمت شفتيها وهتفت بحنق
( نعم لم تضع بها شطة، ولم تضع بها سكر.. لم تضع بها شيئًا أصلًا )
ضحك عاليًا حتى دمعت عيناه وهز رأسه بيأس من ردودها بينما رفعت صبا حاجبها وهي تراه يضحك بهذا الانطلاق أمامها، لا تذكر أنها رأته يضحك هكذا من قبل، بل لا تذكر أنها رأته يضحك إطلاقًا وخاصة أمامها هي، لكن ولما العجب ! هو يبدو غريبًا منذ فترة ولذلك عليها أن تتوقع منه أي شيء... هدأت ضحكته تدريجيًا وانتبه للطفلة التي ما زالت تجلس في حضن صبا ليجدها تنظر ناحيته بعينيها الواسعتين ثم ابتسمت له فجأة وكأنها تشاركه ضحكاته، ابتسم لها بحنان وانجذابه لتلك الصغيرة يزداد أكثر.. ثم رفع رأسه ناحية صبا يسألها باهتمام
( ما هي أخبار دروسكِ مع ليان؟ ألاحظ تقدمًا في حالاتها لكنها ما زالت تمتنع عن الحديث )
تنهدت وأخفضت نظراتها للطفلة
( ستتكلم.. ربما يستغرق الأمر بعض الوقت لكنها ستتكلم، هي فقط تحتاج لبعض الاهتمام، تحتاج لمن يتحدث معها كثيرًا حتى لو لم يتلقَ إجابة.. كما أن وجودها في الجلسات العائلية مفيد جدًا، ليس من الجيد ترك الاطفال وحيدين لفترة طويلة )
أومأ برأسه وعاد ينظر للطفلة ثم قال بشرود
( نعم.. ربما فعلًا تكمن المشكلة في عدم وجود من يتحدث معك )
قطع جلستهما الهادئة دخول صاخب لزهرة تتبعها فتاة أخرى.. تحدثت الأولى وهي تنهت قليلًا
( آسفة على التأخير )
زمت صبا شفتيها وهي تمنع نفسها عن القول بها بأنها تتحدث في الهاتف منذ أكثر من نصف ساعة
( مرحبًا يا أمجد.. كيف حالك؟ )
عقدت صِبا حاجبيها وهي تنتبه لصاحبة الصوت التي تقف بجوار زهرة.. فتاة شابة ترتدي ملابس ضيقة وقد غطت وجهها بمساحيق التجميل فبدت مثل دمية أنيقة خاصة مع قامتها الممشوقة وكعبها العالي..
أما أمجد فلم تقل دهشته وهو ينظر لتلك الفتاة التي وجههت تحيتها إليه وكأنها تعرفه.. ضَيق عينيه يحاول تذكر أين رآها من قبل فهذا الصوت لا يبدو غريبًا على أذنيه، لتريحه زهرة من حيرته وتقول بمشاكسة
( ألا تتذكر ناريمان؟ إنها ابنة صديقة أمي.. لقد كانت موجودة في حفل عيد ميلادي )
أومأ برأسه وقد تذكر ما تحكي عنه.. إنها الفتاة التي أصرت زوجة والده أن يقف معها ويستمع إلى والدتها تعدد في مزاياها في عرض مكشوف لتوفيق "رأسين فى الحلال" كما يقولون...
تنحنح أمجد ورحب بالفتاة بتحفظ
(أهلًا.. )
صمت يحاول تذكر اسمها فبادرت الفتاة بنبرة محرجة وقد أصابها الإحباط
( ناريمان )
حياها برأسه بينما جذبت زهرة كرسيًا للفتاة وآخر لها لتجلس كلتاهما، حدجها أمجد بنظرة مغتاظة قابلتها هي بأخرى مشاكسة وهي تحرك حاجبيها بشقاوة.. ثم أشارت لصبا وهي تقول موجهة حديثها للفتاة
( لم أُعرفكِ.. صبا جارتنا، صديقتي ومعلمة ليان )
ابتسمت لها صِبا بسماجة بينما رحبت بها ناريمان ببرود وهي تعطيها نظرة تقييمية من رأسها حتى أخمص قدميها.. فجأة تململت ليان في جلستها وهي تشير ناحية طبق الحلوى، لتسألها صبا بحنان
( ماذا تريدين يا حبيبتي؟ هل أحضر لكِ بعض الحلوى؟ )
أومأت الطفلة فأعطتها صبا ما تريد.. بينما غمغم أمجد بتهكم
( أين أنتِ يا ريهام كي يكتمل الوضع الرائع )
سمعته صبا فمنحته نظرة نارية، ثم أشاحت عنه ووجهت حديثها لناريمان وهي تشير نحو طبق الحلوى
( تفضلي )
هزت الفتاة رأسها بتأفف
( لا أتناول الحلوى حتى أحافظ على حميتي الغذائية )
رفعت صبا حاجبها وهي تمصمص شفتيها فكتم أمجد ضحكة كادت تفلت منه، ثم اتسعت عيناه وهو يراها ترفع قطعة حلوى كبيرة لفمها تتناولها دفعة واحدة وهي لا تزال تنظر للفتاة بينما تمضغ ما تناولته بتحدي.. لم يستطع أمجد منع ضحكاته أكثر فسعل بقوة من منظرها العفوي وقد أثارت اشمئزاز ناريمان بطريقة مضحكة.. التفتت ناريمان ناحيته وهي تراه يسعل بقوة فمدت يدها ناحية الكوب الذي شربت منه صبا منذ قليل، أعطته له وهي تقول بلهفة
( سلامتك.. تفضل بعض الماء )
أخذ منها الكوب ليشكرها بتهذيب ثم ارتشفه فهدأ سعاله أخيرًا.. راقبت زهرة تراقب الوضع بخبث، بينما لم تتحمل صبا تلك الجرعة الزائدة من الميوعة التي تمقتها فنهضت من مكانها واستأذنت للرحيل، لكن زهرة تمسكت بها بإصرار
( اجلسي لمزيدٍ من الوقت يا صبا، لم نأخذ وقتنا الكافي في الحديث )
قالت صبا بوعد
( فلنؤجل حديثنا لوقت آخر.. بصراحة مرارتي توشك على الانفجار )
ثم نظرت لناريمان وتابعت بجدية مصطنعة
( يبدو أن كثرة الحلوى يتعب المرارة أيضًا )
قلبت ناريمان شفتيها بينما ضحكت زهرة وهي تصطحب صبا ناحية باب المنزل، ودعتها وعادت إلى أمجد الذي ما إن رآها حتى أسرع بالنهوض من مكانه متملصًا من تلك الثرثارة التي تجلس بجانبه
( يجب أن أصعد لغرفتي فلدي الكثير من الأعمال.. استمتعا بوقتكما )
ثم أسرع يهرب إلى الأعلى تاركًا خلفه ناريمان التي تهز ساقها بعصبية بينما زهرة تكتم ضحكاتها.

****************************

بعد مرور عدة أيام...
أنهت صلاتها لتنهض وتخلع ملابس الصلاة ثم اتجهت لشرفتها تفتح نافذتها سامحة لنسمات الفجر بالدخول، تحركت لتخرج من غرفتها إلى الغرفة المجاورة، طرقت الباب بهدوء ثم دخلت لتجد أختها أمام حقيبة سفرها المفتوحة وما إن رأتها حتى هتفت بدهشة
( ما الذي أيقظكِ الآن؟ )
اقتربت منها صبا لتلكزها في كتفها مستنكرة
( هل ظننتِ أنني سأترككِ تسافرين دون أن أراكِ مثلّا ! )
ابتسمت مريم لذلك الحنان المتدفق من عينيّ أختها رغم طريقتها الجافة.. ثم قالت موضحة
( أقصد أن الوقت لا يزال مبكرًا، فأنا لن أتحرك قبل أربع ساعات )
جلست صبا على السرير وتحدثت ببساطة
( لا يهم.. سأساعدكِ في ترتيب ما ينقصكِ )
أومأت مريم برأسها، لكنها أجفلت حين هتفت صبا فجأة بتذمر
( هل كان من الضروري أن تسافري؟ )
اتسعت عينا مريم بدهشة ثم ضحكت تقول
( هل سأسافر في نزهة؟ إنه أمر يخص العمل )
اعترضت صبا بملامح مبتئسة
( لكنها المرة الأولى التي تبتعدين فيها عن المنزل، كما أنني لا أشعر بالراحة وأنا أعلم أن ذلك السمج الذي يدعي مروان سيكون معكِ )
توترت مريم وهربت بنظراتها وهي تقول بارتباك
( إنه المشرف على المشروع يا صبا.. ونحن لن نكون بمفردنا، سيرافقنا باقي فريق العمل )
زمت صبا شفتيها مغمغمة
( أتمنى ألا يحاول مضايقتكِ مرة أخرى )
طمأنتها مريم وأوضحت لها أن مشكلتها معه قد انتهت منذ مدة، ثم شردت وقد تذكرت لقاءهما الأخير، منذ ذلك اليوم وهو يلاحقها بنظراته لكنها تتجاهله عن عمد، بعد ما سمعته مِن تلك الوقحة غادة وهي لا تعرف كيف تتعامل معه.. حتى الآن لا تصدق أنها لم تكن سوى فريسة ساذجة كادت تقع تحت أنيابه، بل لا تصدق أن يكون بمثل هذا السوء، هو حتى لم يحاول التطاول معها بأي تصرف خارج.. هل كان ذلك أيضًا ضمن خطته للإيقاع بها؟
( متأكدة أنكِ جهزتِ كل ما تحتاجينه؟ )
سؤال صبا أخرجها من شرودها فأومأت برأسها مجيبة بـ'نعم'... مَر بعض الوقت الذي قضته صبا في إعطاءها عدة نصائح كي تتبعها في فترة سفرها وهي تؤكد عليها أن تعتني بنفسها جيدًا.. وبعدها توجهت صبا لغرفة والدتها التي تعلم أنها تستيقظ باكرًا.. طرقت الباب ودخلت بعفوية قبل أن تسمع الإذن بالدخول، لتعقد حاجبيها حين وجدت والدتها تجلس في سريرها وقد انتفضت ما إن رأتها وأسرعت تدس يدها تحت وسادتها وكأنها تخفي تحتها شيئًا ما.. اقتربت منها صبا
وهي فلمحت احمرار وجه والدتها وعلامات البكاء تظهر واضحة عليه !! دهشتها جعلت لسانها ينعقد فلم تفهم ما يجري، نقلت نظراتها بين الوسادة وبين والدتها المرتبكة، وما إن وجدت صوتها حتى رفعت يدها تربت على كتف والدتها وتسالها بقلق
( ماذا بكِ يا أمي؟ هل أنتِ مريضة؟ )
تنحنت المرأة وحاولت رسم ابتسامة على وجهها قائلة بمواربة
( لا يا حبيبة أمكِ أنا بخير )
ثم نهضت من مكانها وسألتها بنبرة لا تزال تحمل الارتباك
( هل انتهت مريم من تجهيز أغراض سفرها؟ )
أومأت صبا برأسها ودققت النظر لوالدتها تحاول أن تستشف ما بها، لكن الأخيرة لم تمنحها الفرصة وقد سحبتها من يدها تحثها كي تتبعها إلى خارج الغرفة بينما تتكلم بنبرة مهتزة
( تعالي معي كي تساعديني في إعداد الأفطار لنتاوله سويًا قبل أن تسافر أختكِ )
استسلمت صبا ليدها التي تسحبها بعيدًا، لكن نظراتها ظلت متعلقة بالوسادة وانشغل ذهنها بما أخفته عنها والدتها وتسبب في بكاءها.

****************************

بعد دقائق كانت تتسلل خلسة إلى غرفة والدتها بعد أن استغلت انشغالها في المطبخ، أغلقت الباب بهدوء واتجهت نحو السرير، ودون تفكير دست يدها أسفل الوسادة وهي تبحث عن ذلك الشيء المجهول، وما إن وجدت ضالتها حتى سحبتها لترفع ما وجدته وما جعل عيناها تتجمدان بقسوة وقد استعادت نظراتها الثلجية القديمة، أنفاسها تعلو بتشنج بينما يدها تقبض على تلك الصورة التي تحمل ذلك وجهه، وجه والدها، عبد الرحيم مأمون.. ذلك الوجه الذي لطالما أرعبتها نظراته ولا تزال تفعل !! عضت شفتيها بقوة كادت تدميها ونظراتها مثبتة على عينيه وكأنها تتحداه، نظرات عينيها تزداد قسوة بينما لونهما الأزرق يلمع ببريق مخيف.. مدت يدها الأخرى في جيب بلوزتها لتخرج هاتفها كي تتأكد من شيء ما، وقد صدق حدسها وهي تقرأ تاريخ اليوم.. إنها ذكرى وفاته إذًا.. وهذا ما جعل والدتها في هذه الحالة البائسة فجلست تبكيه خفية كعادتها، تلك العادة التي ظنت أنها انتهت بعد انتقالهن لمنزلٍ آخر، لكن يبدو أن والدتها تصر على سحب أقدامهن إلى شِباك الماضي رغم محاولات صبا المستميتة في الخروج بهن جميعًا مِن تلك الدائرة.. أخذت نفسًا عاليًا تستعيد به سيطرتها على أعصابها ثم أعادت الصورة في مكانها بحرصٍ وخرجت مسرعة من الغرفة بينما تشعر بوخزة مؤلمة في صدرها.


انتهى الفصل

يتبع..


شهر'زاد. غير متواجد حالياً