عرض مشاركة واحدة
قديم 07-02-22, 09:54 PM   #200

نورهان الشاعر
 
الصورة الرمزية نورهان الشاعر

? العضوٌ??? » 477398
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 2,761
?  نُقآطِيْ » نورهان الشاعر has a reputation beyond reputeنورهان الشاعر has a reputation beyond reputeنورهان الشاعر has a reputation beyond reputeنورهان الشاعر has a reputation beyond reputeنورهان الشاعر has a reputation beyond reputeنورهان الشاعر has a reputation beyond reputeنورهان الشاعر has a reputation beyond reputeنورهان الشاعر has a reputation beyond reputeنورهان الشاعر has a reputation beyond reputeنورهان الشاعر has a reputation beyond reputeنورهان الشاعر has a reputation beyond repute
افتراضي



الفصل الخامس عشر

نظل ننتظر عفو القدر علينا عله يمنحنا بعض اللحظات السعيدة، لتبدد بنورها القليل من هذه الظلمة، و تنشر بنسيمها الحلو السكينة في أرواح أرهقتها الأحزان، و يطول إنتظارنا المرهق دون جدوى، فالأمر يضل بعيدا بعد النجوم، وعلى الرغم من ذلك نرتاح حينما نتذكر أن هناك من وصل القمر، فتصبح النجوم حلما قريبا و نتأكد أن الصعب ليس مستحيلا، فقد وصلت الإنسانية لأبعد من حلمها الكبير بالنجوم لتتوج احلامها بالقمر العالي الذي ينير دوما سواد الليالي، فما ظل بعدها شيء مستحيل، فما المستحيل إلا معادلة تحتاج لموازنة لنحصل في الأخير على الحل المرجو، فوازنو الظروف للمستحيل، لتصبح السعادة للحزن بديل.
سحابة ودية تطوف بالقصر اليوم وكأن الجدران تحتفل هي الأخرى بعودة فرد منها، حينما تفرح نفوسونا نرى كل ما أمامنا يرتدي فساتين البهجة و يتزين بألوان السعادة، و حينما نحزن نرى العالم أجمع موشحا بثوب الحداد، فعين الروح لها عدسة تعكس نفسها على كل الموجودات.
أصبح المنزل مجهزا لحفل إستقبال أحد أفراد عائلة نرمين الصغيرة، عائلة أصابتها لعنة فقدان أفرادها واحدا، واحدا فضلت تتضاءل و تصغر يوما بعد يوم، فهل مع عودة فارس ستعود أسترنا لتزهر من جديد؟! تأتي المصائب دوما متتالية، واحدة تسحب ورأها أخرى، فهل تملك السعادة هذه القدرة لتجر معها أفراح أخرى؟ الأحزان كثيرة لها جمع، لكن السعادة واحدة لا جمع لها. تأتي دوما وحيدة يتيمة فتغلب أمام جيش الأشجان العتيد.
ستكون الحفلة مفاجأة لفارس و وجدان، رغم محاولتي لإقناع أمي بتأجيل الحفلة حتى يرتاحان بعد سفرهما الطويل و يستقران معنا، إلا أنها رفضت رفضا قاطعا، مؤكدتا أن فارس و زوجته يستحقان أفضل إستقبال و أن الراحة لن تطير أبدا، فهي لم ترى إبنها منذ سنين و لا وقت لديها للتعب فلا مكان الأن إلا للأفرح والمسرات.
بدت الحديقة رائعة بديكوراتها الرقيقة، و قد تلبستها روح أخرى ، و كأنها عروس إستيقظت اليوم من سبات طويل، و كأنها بعد سنين الموت هذه إسترجعت روحها الدافئة من جديد.
الأنوار الفضية متنثرة في كل مكان كنجوم غزت الأرض، وقد تناغمت كثيرا مع الستائر البيضاء و أغطية الموائد المرصعة بالأحجار البيضاء و الفضية ليكتمل سحر الجو بالخطوط السوداء للليل الذي بدأ في نسج حلة أنيقة للسماء.
بينما وسط كل هذا بدت الزهور الصفراء التي إخترتها غريبة مثلي في هذا المكان، و على الرغم من ذلك إلا أنها إستطاعت فرض هيمنتها هنا لتضفي لمحة سحرية على المكان، و كأنها بقايا من أشعة الشمس أبت الليلة الإنسحاب.
بدأ الضيوف بالتوافد على الحديقة واحداً تلو الأخر، أخر تجمع كان للناس هنا يعود لثمان سنوات حين أقيمت جنازة أبي و أخي، و شتانا بين ذلك اليوم و هذا. أهو عهد جديد يسطر كلماته على لوحة القدر؟ أهي بداية جديدة تمنحها لنا الحياة؟! ما كنت أقدر على التكهن فمن كثرة نكبات الدهر، صرت أخشى السعادة، لأنها غالبا ما تكون غشاءا برقا لمآسي أكثر قسوة و سطوة.
كان وائل و شروق مع إبنتهما من أوائل الواصلين، إستقبلتهم بحرارة السعادة التي إنتابتني لرؤيتهم، وقعت في غرام هذه الأسرة الصغيرة، التي تشع دفئا و حبا و وئاما، بقدر بساطتها هي جميلة بطريقة تحبس أنفاسي و تجعل الدمعة تقف في عيني، أتعلم أنني رغما عني أغار من هذه الأسرة الجميلة؟ كم مرة تمنيت أن نكون الأن مثلهم، زوجين سعيدين وتطوف بهما صغيرتهما الجميلة، التي وددت تسميتها أو كنت أود تسميتها في ما مضى شمس، و لم أدرك أن على المرء أن يخشى ما يتمناه، في بعض الأحيان دون قصد منا نمنح مآسينا أسماء جميلة أعددنها قبلا للسعادة.
ومع تجمع الضيوف الذين لم يطؤو أرض قصر أهل رائد منذ جنازته، كانت الأجواء تشع حياة، و الأحاديث الصاخبة تملأ المكان، الكل يتكلم و يضحك هناك، أتعلم قد إكتشفت اليوم أنني ربما لا أحب الهدوء كثيرا، فربما نحتاج للقليل من الصخب أحيانا كي نعرف أن الحياة لا تزال مستمرة، رغم سعادتي بهذه الأجواء إلا أنني لم أستطع التركيز في ما كان يجري أمامي، و ذكرى أبي و أخي تعود لتجتاح فكري من جديد، تلك السعادة التي كانت تغمرنا و لم نعرف معها للحزن طريقا إلى أن فرقتنا الأيام. دائما اللحظات السعيدة تعيد إحياء الأحزان بداخلنا و تذكرنا بما فقدانه، فتحمل حلاوتها حموضة لاذعة للروح.
كنت أنظر بشرود لزينب و رؤى و هما تلعبان بمرح في المكان، لا يعرفان لهموم الدنيا طريقا، أه! كم إشتقت إلى تلك الأيام التي كنا نتسابق فيها أنا و زياد وفارس برفقة حنين و وجدان، حينما كنا نعلب سويا هنا غافلين عن ما تخبؤه لنا الأيام، تتعالا ضحكاتنا وسط أرجاء القصر، و ترتفع أصواتنا في صخب طفولي محبب،. كثيرا ما كان أبي يلاعبنا ويحملنا فوق كتفيه هنا، كانت تجتاحنا وقتها سعادة غامرة، ليت الحياة كلها طفولة، أحقا كنا نتمنى أن نكبر و يملؤنا الفضول لمعرفة عالم الكبار الذي ننظر إليه بإنبهار؟ لو كنا حينها نعلم ما ينتظرنا لما قررنا الخروج أبدا من تلك الأيام، يا وجع قلبي ليت ما فات يعود، ليتنا نبقى أطفالا لأبد الدهر محميينا عن ضربات العالم في أمان بظهر العظيم أبي، و غارقين في جنة الحنان في صدر الغالية أمي
_زينب
إنتفضت بعد ما عدت من شرودي، لألتفت إلى حنين التي كانت تقف ورائي و أنا أضع كفي على قلبي قائلة
_اه! حنين هذه أنت؟!
نظرت حنين إلي تتفحص وجهي و هي تقول لي بهدوء
_ما بك يا زينب أنا أناديك منذ فترة لكنك لست هنا أبداً. أرجوك أترك الحزن و لو لهذه الليلة فقط من أجل أمك. فأنت سيدة الحفل و يجب أن تكوني أكثر إنفتاحا.
إبتسمت بحزن و أنا أقول لها بشرود
_صعب أن تقول للألم إذهب قليلا و عد بعدها، أفراحنا لم تعد أفراحا و قد فارقنا من كانو يشاركوننا بها.
ظهر الألم على عيني حنين التي كانت بدورها تتجلد بصعوبة، هي تطلب مني أن أكون قوية بينما الضعف ينهش صدرها، هي تنصحني بما لا تقدر على تطبيقه، تحاول مؤازرتي بينما هي الأكثر إحتياجا لها، يحدث أحيانا أن نقدم الدعم للأخرين في أشياء عجزنا عن فعلها لأنفسنا، إبتسمت لي رغم حزنها قائلة
_ليس صعبا عليك يا زينب، فدوما ما كنتي أقوى من ذلك. فكفاك تشاؤما حبيبتي، لا تتركي الضعف يتسلل إلى نفسك، فهو مرض لا يخرج من الجسد إلا و قد أتلف كل أعضائه.
ثم ضربت جبينها و هي تقول متذكرتا، بصوت حاولت أن تلبسه رداء البهجة.
_اه كدت أنسى ماجئت إليه لقد إتصل بنا السائق الذي ذهب لإحضار فارس و وجدان وقال أنهما قد إقتربا.
حركت رأسي و أنا أقول بإبتسامة
_حسنا دعينا لنذهب عند أمي لإستقبالهما، أخاف أن تنهار من السعادة.
إبتسمت حنين لي و هي تميئ برأسها لتتجه إلى أمي تسبقني بعدة خطوات، لم ألاحظ إلا في هذه اللحظة فستان حنين التي كانت تبدو به أية في الجمال، كانت فاتنة بمعنى الكلمة في ثوبها الأخضر الملكي، أذكر أن هذا كان اللون المفضل لأخي زياد و قد كان يعشق رؤيته عليها، أذكر هذا الفستان جيدا، فقد كان هدية لها من أخي في عيد ميلادها الثاني و العشرين، و ها هي ترتديه الأن إمرأة في الثانية و و الثلاثين من عمرها، وردة فقدت أورقها في فصل الربيع، حينما كانت الورود الأخرى تزهر و تتفتح في هذا الموسم، حتى الطقم الفضي المرصع بالجواهر الخضراء الذي ترتديه كان هدية من أخي، كان هدية خطوبتهما و التي توفي بعدها بأيام قليلة، أعلم جيدا أنها مضمرة تماما من الداخل، أعلم أن جرحها لن تداويه السنين أبداً بل سيظل ندبا عميقا في روحها إلى نهاية الدهر، هي تصفني بالقوية، بينما أراها أقوى مني كثيرا، فقد ضاقت طعم الخسارة منذ كانت طفلة صغيرة، و حين وقعت في الحب شابة و ظنت أن الحياة ستجود عليها أخيرا بالسعادة، كان للقدر حينها رأي أخر و هو يسرق منها حبيب عمرها، قبل أن تمتلكه فعليا، و بعدها قررت إيقاف حياتها هناك، معتزلة كل البشر، فما عاد قلبها قادرا على تحمل خسارة أخرى، لم أكن أريدها أن توقف حياتها على شيء ذهب و لن يعود، كان يحز في نفسي دائما أن أراها تدفن شبابها بيديها و هي لاتزال زهرة صغيرة، رغم حبي الشديد لأخي زياد، إلا أنني لا يمكن أن أتقبل ما تفعله حنين بنفسها، أريدها أن تكمل حياتها و تفتح قلبها لحب ربما يعيد لها الحياة، لكن أكنت لأنصاحها نصيحة أنا نفسي لا أعمل بها؟ غريب هو الإنسان يرى بوضوح أخطاء الأخرين، لكن عينيه تعمى دوما عن أخطائه المماثلة . وقفت لحظة أناديها ببعض التوتر
_حنين.
إلتفتت حنين تنظر إلي بعينيها العسليتين في تساؤل، نظرت إليها بحنان، عينيها كانتا في لون العسل الصافي، زادهما الحزن فتنة و بهاءا، للحزن سحر غريب على العيون، يجعلهما يتألقان في عالم الأرواح، في الحزن روحانية غريبة تسمى بالنفوس إلى عالم مجرد من الماديات. قد حددت عينيها بكحل أسود أبرز لون عينيها الأشبه ببريق رمال البحر تحت الشمس، و صبغت شفتيها بلون ترابي فاتح، قد لاق كثيرا مع شقرتها.
شعرها الأشقر الطويل كان يتدلى على كتفيها و يصل إلى ما قبل خصرها بقليل، هي لم تتركه هكذا حرا طليقا منذ مدة طويلة، منذ ذلك العهد الذي كان يتغزل فيه زياد بالسنابل الذهبية الخاصة بها، هي منذ ذلك الوقت، لم تتزين أبداً بهذه الطريقة.
_أناديتني لتظلي هكذا تنظرين إلي، بإبتسامة الأم الحنون هذه؟!
إتسعت إبتسامتي و أنا أقول لها بتأثر و عاطفة قوية تجتاحني.
_أنت جميلة جدا يا حنين، تبدين فاتنة الليلة، تستحقين السعادة حبيبتي، لن تكون خيانة إن فتحت قلبك للحب مرة أخرى، قد مات زياد لكنك لا تزالين حية!
إبتسمت لي إبتسامة مريرة و هي تقول
_حينما تستطعين أنت نسيان جاسر و تجاوزه، دليني على الطريق التي سلكتها، و سأتبعك فيها.
لم أجد ما أقول فقط أطرقت رأسي للأرض بقلة حيلة.
_حتى أنت يا زينب جميلة جداً من الداخل و الخارج، هو الخاسر إذ فرط بك. رغم أنني كنت أتمنى رؤيتك في لون أخر إلا أن الأسود يليق بك كثيرا.
رفعت إليها عيني المغورقتين بالدموع و أنا أقول
_لون الحداد من إختارني و لم أكن أنا من إخترته.
مدت يدها إلى شعري لتزيل عنه مشبكا صغيرة جمعت به خصلاتي الأمامية و هي تقول
_دعيه هكذا اليوم تبدين أفظل .
ثم نظرت إلي عاقدة حاجبيها و هي تقول
_زينب ألا تبدين أقصر قليلا؟ أنت لا ترتدين كعبا عاليا!
رغم عني إحمرت وجنتي، فإبتسمت حنين قائلة
ببعض سخرية
_تطبقين نصائح الأستاذ، جميل و تأتين لنصحي الأن؟!
حركت رأسها و هي تقول
_عموما دعينا من هذا، ها هي أمك تلوح لنا بيديها تناديني.
بعد لحظات قليلة دخل كل من أخي و وجدان ليتفاجؤو بحفل الإستقبال الذي كان في إينتظارهما، لكن ما كان لفارس وقت للإندهاش، فسرعان ما وقفت أمي من على كرسيها لترتمي في أحضان فارس، التي تراجع قليلا و قد كاد يفقد توازنه، لكنه بعدها أمسكها بقوة يشدها إلى صدره و هو يقبل رأسها بشوق، دموعه الرجولية قد فرت من عينيه رغما عنه، تشبتت أمي به و هي تبكي بمرارة و فرح في آن واحد. خارت قوى أمي و هي لا تقف على رجليها الخاويتين بل تتعلق بكل ثقلها به، كان هو يقبل رأسها و هو يشاركها بكاءها بلوعة الإشياق و اللقاء، بينما يتمتم لها بكلمات الإعتذار. ليسقط معها على ركبتيه و هو لا يزال متشبتا بأحضانها، كمنفي عاد أخيرا لأرض وطنه، أبعدته أمي قليلا لتحيط وجهه بيديها تمسح دموعه، بينما عبراتها هي تسيل كشلال محبة و ألم صافي، تحدثت فخرجت كلماتها مثقلة بمشاعر جياشة لا وصف لها
_أه يا ولدي! أه يا حبيبي و يا قرة عيني كم إشتقت إليك، فلذة كبدي أنت، روحي فكيف بالله تروح عني؟ هكذا يا فارس هنت عليك بهذه السهولة؟ هكذا أيها الغالي رخصت أنا عليك؟! كيف بالله عليك قد إستطعت أن تبتعد عني كل هذه السنين، ألم يساوي حبي لك شيئا؟! أهان عليك ألمي يا قطعة قلبي.
قبل فارس باطن كفيها اللذان يحيطان وجهه بمحبة جياشة يغلفها الندم الشديد، تحدث من بين دموعه و قد خرج صوته ضعيفا متألما منكسرا، كطير جريح يئن من الألم
_اه يا أمي! اه أيتها الغالية و أي كلام في الدنيا سيشفع لي ذنبي العظيم هذا؟! ذنبي عظيم و حبك منه أعظم، و لو كرست حياتي كلها تحت رجليك لأكفر عن تقصيري أتجاهك ما أوفيت، لو أعطيتك روحي و قلبي و أيام عمري لن أسدد هذا الدين الذي أحمله في رقبتي أتجاهك أبدا، ذنبي هذا لا يغتفر لكنني أبتغي منك الغفران يا موطن الرحمة و أرض السلام، أنا آسف، أنا آسف يا نبض القلب، فجودي علي بعفوك أترجاك. سامحيني، سامحيني أتسول إليك
عادت أمي لجدبه إلى صدرها تعانقه بقوة و عاطفة أمومية تدمي القلوب، بينما حشر هو رأسه في رقبتها يبكي كطفل صغير. تحدثت بلوعة العشق السموية
_اه يا صغيري، كيف سأسامحك و أنا في الأصل ما غضبت منك يوما، أو حلمت لك في صدري غير الإشتياق، لا تحتاج، لا تحتاج أبدا يا حبيبي لطلب العفو مني، فقلبي يسامحك قبل أن تذنب يا قرة عيني، لكن بالله عليك لا تتركني مجددا، سيكون في ذلك موتي إن حدث.
قبل كتفيها و هو يهمس بصوت متحشرج من بين دموعه.
_أطال الله في عمرك يا نور حياتي، أطال الله في عمرك يا موطن الحب و المسرات، لن أتركك، لن أتركك أبداً حتى تغادر هذه الروح الشقية هذا الجسد الهش، أبداً لن أفارقك إلا بمفارقتي للحياة.
بكت أمي و هي تحرك رأسها بنفي قائلة بلوعة
_لا يا حبيبي. لا تذكر الموت أرجوك، جعل الله يومي قبل يومكم جميعا، فهذا القلب يا صغيري قد إكتف من الفراق.
رفع فارس يديها الإثنين يلثمهما بشفتيه قائلا
_أطال الله في عمرك حبيبتي. أطال الله في عمرك يا نور عينينا.
إحتوت أمي وجهه بين يديها الناعمتين التي إجتاحتهما بعد خطوط الزمن، تقبل كل إنش بوجهه، بعاطفة أمومية مشتعلة، تمسح على لحيته الخفيفة، و شفتيها تحتويان دموعه، لتنتقلان إلى كل جزء من وجهه و كأنها تستعيد ذكرى تفاصيله الحبيبة، و كأنه توثق محبتها العميقة على صفحة وجهه، و مرت أخرى تبتعد عنه لتعيد النظر إلى وجهه خشية أن تكون واهمة. إبتسمت له بحنان و هي تجدبه مجددا لأحضنها، و كأنها لا تعرف الطريقة الصحيحة التي تعبر عن سعادتها أو تروي بها إشتياقها، بينما كنا جميعا نتابع ذلك المنظر بقلوب خافقة من كثرة التأثر، وقد فاضت عيون الحاضرين دمعا صادقا في هذا المنظر الذي يبكي الحجر. و هل في الدنيا أعظم من حب الأم لولدها؟ أجعل الله الجنة هكذا تحت أقدامها هباءا؟ كانت وجدان تقف بجانبهما و قد ضمت إليها إبنتها، تطوقها بحنان و لهفة و الدمع يملأ مقلتيها، أليست أما كذلك؟ و بالتأكيد تعرف ما تعنيه الأمومة؟ إن كانت هي قد إفتقدت إبنتها كل هذا و لم تغب عنها إلا أسابيع قليلة و هي تعلم أن إبنتها في أياد أمينة، فكيف بأمي التي فقدت صغيرها لسنوات طويلة و هو في أحضان المجهولة، لا تعلم هل لا زال من أهل الدنيا، أم أن جسده غطاه التراب؟
كنت أقف بمكاني قرب حنين، و قد إخترق خطين من الدمع الملتهب وجنتي، كان كل نصيبي من الدموع دمعتين فقط، و كأن عيني دوما تجافيني و لا تمنحني حقي من العبرات لأسكبها على جراحي، أعطتني الدنيا نصيبا وافرا من الحزن لكنها أخذت مني نصيبي من الدموع، إرتجفت مشاعري تأثرا كورقة في مهب الريح، لكن السماء الملبدة بالغيوب ما كانت لتمطر في خريف عمري الجاف.
على عكس الناس أنا لم تكن دموعي تنزل حزن أو تأثرا، بل دوما حينما يسيل الدمع من عيني يكون ذلك من ثوران الغضب بداخلي، و هو ما لم يكن بي في هذه اللحظة.
كنت أتشبت بيد حنين و عيني تراقب لوحة اللقاء الحار هذا، أسيكون لي يوما حظ في لقاء كهذا معك، أم أن هذا الفراق ما كان ليتوج أبداً بلقاء، نفضتك عن تفكيري التي لا تتوقف عن إجتياحه في كل المواقف التي أتعرض لها في حياتي، عيناي ترمقان الجسدين المتعانقين أرضا بعاطفة هي أسمى ما جادت بها السماء، لتطول اللحظات، و الجسدين لا يزلان ملتحمين، لا حوار بينهما إلى دموع صامتة تحمل بين طياتها كلاما لا تغزله الحروف، بل ترسمه الروح بدمها النازف، بعد مدة ما كنت قادرة على حسابها أنهت أمي عناقها مع فارس الذي ساعدها في النهوض من على الأرض ليجلسها على كرسيها، طبع قبلة أخيرة على جبينها قبل أن يستقيم و هو يمسح عينيه من الدموع، رفعت أمي عينيها الغائمتين بدمع السرور لتنظر إلى وجدان برقة ثم تفتح يديها تدعوها إلى حضنها قائلة بحنان
_وجدان تعالي إلي يا إبنتي العزيزة لا تتصورين كم أحسست بالسعادة حينما علمت أن فارس تزوجك، فلطلما تمنيتك له وتمنيت حنين لزياد
لم تخف علي موجة الألم التي إجتاحت حنين من كلام أمي الذي صدر منها عفويا دون معرفتها بوجود حنين بقربها، أحسست بضغط يديها في حركة لا شعورية على يدي، لكني حين رفعت عيني لأنظر إليها لم أجد علامة لتأثرها غير تقلص بسيط في عينيها، لقد إستطاعت بنجاح إخفاء ألمها عن العيون، لكن أين كان ذلك سيفيد؟ إن إستطاعت أن تخدع الجميع هل كانت لتخدع نفسها؟
تركت وجدان زينب الصغيرة بعدما طبعت قبلة على شعرها الذهبي، ثم إقتربت من أمي ترتمي في حضنها و هي تختبؤ فيه كطفلة صغيرة، هناك نساء أمهات بالفطرة و هكذا كانت أمي دائما، قلبها الكبير يتبنى الجميع، لتغمرهم بعاطفة أمومية دافئة، قادرة على أن تشافي كل الجراح، و وجدان التي فقدت حنان الأم بوجود أمها قد وجدت السلوى في حضن أمي منذ كانت صغيرة.
_حبيبتي كيف حالك؟!
إلتفتت بإبتسامة إلى فارس الذي كان يقف أمامي ينظر لي بحنان أبوي إشتقته، إرتميت في حضنه أتعلق برقبته، و قد نزلت في هذه اللحظة دمعتين أخريتين من عيني، تعلقت برقبته أدفن رأسي في تجويف عنقه و أنا أهمس بصوت خرج مني مبحوحا
_إشتقت لك يا أخي، إشتقت إليك كثيرا يا حبيبي.
طبع فارس قبلة دافئة على شعري، و هو يبعدني قليلا ليمسك وجهي بين يديه بينما يقول بحنان
_وأنا إشتقت إليك أكثر أميرتي.
مسح تلك الدمعتين اليتيمتين من عيني و هو يقول بمزاح
_يا الله! ما هذا اللقاء المليئ بالدموع؟! أي إستقبال هذا؟! إمسحي دموعك يا وردة قد إنتهى زمن الحزن.
حركت رأسي و أنا أقول بإبتسامة مرتعشة
_إن شاء الله. إن شاء الله حبيبي.
و مضى الوقت و أنا أتحدث مع فارس و وجدان و أمي وحنين، جميعنا إجتمعنا معا، نترتر معا و لم تكن فحوى الحديث مهمة، بقدر أهمية تبدلنا له، قد تراجع عني كل شعور غير الفرح و الراحة، أنظر بسعادة لوجه أمي الذي كان يشع نورا و بهجة، كما لم أراه منذ سنين، إبتسامة قد نسيت مذاقها رسمت على ثغري و أنا أتمتع بهذا الدفئ الأسري الجميل، رفعت عيني فجأة لا أدري أي قوة جعلتني الأن بالضبط أترك وجوه أحبتي لأنظر إلى نقطة بعينها.
لتتبدد إبتسامتي في لحظة و يفتح فمي صدمة،و أنا أراك يا معذبي تدخل الحفل متأبطا يد زوجتك الحسناء كالصورة التي عرفت فيها بزواجك لأول مرة. و كأن شيئا لم يحدث تدخل بشموخ مرفوع الرأس، و هي بجانبك تعود شمسا مشرقة كما كانت دوما، تأتي لتحظر حفلة عشيقة زوجها بكل هذه الثقة و الإسترخاء، أي نوع من النساء هذه المرأة؟ و أي نوع من العلاقات هي هذه العلاقة التي تربط بينكما؟ و تأتي دوما لتفسد أجمل اللحظات في حياتي، قد سلمت بخسارتك فلما كل هذا العذاب لما؟
لم يخفى على أحد ممن كان بجانبي الشحوب الذي علا وجهي فجأة، و إرتعاشة كأس العصير في يدي الذي أنزلته بسرعة على المائدة قبل أن أفرغ محتواه على نفسي بيدي المهتزة، إلتفتت أنظارهم جميعا إلى النقطة التي شردت فيها، كنت حينها قد إقتربت منا لتلقي علينا التحية بلامبالاة تحسد عليها، بلامبالاة تعصر قلبي غيظا و ألما
_مبارك رجوعك سالما سيد فارس نورت المكان
إبتسم فارس لك على مضض و هو يجيبك برسمية
_المكان منور بأصحابه سيدي.
إبتسمت له موميئا برأسك، قبل أن تنتقل بنظرك إلي، تتفحصني من أعلى رأسي إلى أخمس قدمي قبل أن تعود للتركيز على عيني سائلا
_كيف حالك أنسة زينب؟
يلا وقاحتك يا معذبي تسألني هكذا عن حالتي يا عديم الإحساس. و أنت أدرى بما فعلته بي؟! إغتصبت إبتسامة على شفتي و أنا أجيبك
_بخير سيد جاسر أشكرك.
ثم إستدرت لأرحب بزوجتك. و قلبي يعتصره الألم، أشعر بصغر نفسي أمامك و أمامها، كم أشعر بالحقارة!
_أهلا سيدة شمس كيف حالك بخير؟ مرحبا بك.
أومأت لي الشمس برأسها دون أن تنحصر إبتسامتها التي تزين ثغرها بينما تقول
_أشكرك أنسة زينب.
ثم توالت سلسلة الترحيبات و السلمات الفارغة من أي روح. أه! كم أكره هذه المسرحية الكاذبة، إلقاء السلام كواجب خالٍ من أي إحساس. إلقاء السلام بالشفاه و القلوب في حروب عاتية لا تذر ورأها أخضر أو يابس، و الله تعبت من كل هذا، لكن قدري يصر على إرغامي للعيش في حياة أنا لا أريدها أبدا تركتهم معتذرتا و أنا أقول
_أسفة علي الذهاب إلى وائل وشروق.
كنت أظن أنني بذلك تمكنت من الهرب منك إلا أنني صدمت بك تنسحب من المجمع و أنت تقول موجها حديثك لي
_إنتظريني سأتي معك.
همست بشيء في أذن زوجتك التي إبتسمت لك و هي تومئ برأسها بتفهم! نظرت أنا إليك بصدمة فارغة فاي من وقاحتك العلنية، لتضحك أنت دون إهتمام، ضحكتا إستفزتني جدا! حتى تمنيت بعدها تكسير أسنانك البيضاء الجميلة! وضعت يدك على ظهري تحثوني على السير، لتنحني في لحظة خاطفة تهمس في أذني خلستا، لتلفحني أنفاسك الحارة مع صوتك الرخيم.
_إفردي وجهك قليلا يا حبيبتي يفترض أن تكوني سعيدة بمجيء أخيك.
تجاهلت تعليقك ثم قلت من بيني أسناني أكثم غيظي بصعوبة
_كيف أتيت يا جاسر؟!
إبتسمت و أنت تجيبني
_لا تحتاج لذكاء بالسيارة طبعا!
عضضت على شفتي أمنع نفسي من سبك سبا لاذعا و أنا أقول من بين أسناني بأنفاس مكبوتة
_جاسر كفى تغابيا!
أعدت سؤالي و أنا أكمل مسيري
_لماذا أتيت إلى هنا؟
أجبتني بنفس لامبالاتك التي تقتلني قتلا
_أيعقل أن أفوت فرصة لرؤيتك يا حبيبتي، و خصوصا بعد قانون البعد المتجبر الذي فرضتيه علي؟!
إبتسمت بإستهزاء و أنا أقول
_تقصد فرصة لحرق دمي أليس كذالك؟!
قلت بمزاح و أنت تدعي الحزن
_ﷲ أنت تسيئين الظن بي يا زينب، هل هذا جزائي لأنني أحبك؟!
كم كان يلزمني من الصبر كي لا أستدير الأن و أمزق وجهك الوسيم بيدي مفتعلة فضيحة لن تخرس صداها العاكر السنين. بللت شفتي بلساني قبل أن أقول.
_حسنا يبدو أنه علي أن أغير طريقة سؤالي، بأي صفة أتيت سيد جاسر.
أجبتني
_بصفتي حبيبك زينب.
صرخت بك بصوت مكتوم و أنا أصر على اسناني
_جاااسر!
قلت بلطف مستفز و أنت تحاول تهدئتي
_حسنا. حسنا لا داعي لكل هذا الغضب، أنا أتيت بدعوة حبيبتي.
رفعت حاجبي بإستهزاء و أنا أسألك
_و ممن إن شاء الله لا تقول لي أن حبك هو من دعاك؟
إبتسم لي و أنت تقول
_اه يا زينب تستهزيئين بحبنا عموما ليس هو الوحيد، بل إن حماتي العزيزة هي من دعتني.
طوال هذا الحوار و أنا لا أنظر إليك مباشرة، أتعمد إبعاد عيني إلى أي مكان سواك. إلا أن جملتك الأخيرة صدمتني، فرفعت لك أعيني المدهوشة و أنا أسألك بصدمة
_كيف؟!
قلت و أنت تضحك
_يبدو أنه كان علي إخبارك بهذا منذ الصباح كي تنظري إلي حبيبتي
_جاسر لا تغير الموضوع هل أمي حقا من دعتك؟
إبتسمت لي قائلا
_منذ متى و أنا أكذب عليك يا زينب؟ ثم هل ظننتي سأحضر للحفل حقا دون دعوة؟!
حركت رأسي و أنا أجيبك
_أحقا تريد أن تعرف يا جاسر متى بالضبط قد كذبت علي؟! عموما أجبني بقدر سؤالي.
حركت رأسك و أنت تقول
_حسنا سأتجاهل الجزء الأول من حديثك، و سأجيبك عن سؤالك السابق، لا علم لي إلا بقدر علمك. أمك دعتني و انا لبيت الدعوة.
أدرت رأسي للجهة التي كانت فيها أمي، لأصدم أنها تركت فارس و وجدان و جلست رفقة زوجتك! قلت بصدمة
_يا إلهي!! ماذا تفعل أمي مع تلك المرأة؟
نقلت نظرك إلى حيث كنت أنظر لتقول
_تقصدين شمس؟! هي ضيفتها ربما تحاول الترحيب بها و التعرف عليها.
حاولت تجاوزك و أنا أقول بقلق
_علي أن أذهب إليهما الأن ربما يزل لسان أمي!
أمسكتني من ذراعي قائلا
_كلا لا تخافي الأمر لا يهم.
نفضت يدك عني و أنا أقول بعدم تصديق عاقدة حاجبي
_لا يهم؟! أتريد أن تصيبني بالجنون يا جاسر! بالله عليك فهمني ماذا تفعل!
إبتسمت لي بتلك
_نجاك الله حبيبتي من الجنون، المهم لا تخافي خالتي نرمين إنسانة عاقلة و حكيمة.
أجبتك رافعة حاجبي
_وما أدرك بهذا؟ إنها أمي أنا!
مجددا قد إبتسمت لي و أنت تقول ببساطة
_أمك هي أمي أي شيء نملكه هو مشترك لكلانا، على أي ألم نكن نود الذهاب إلى وائل و زوجته؟!
_وهل تركت لي عقل؟ ثم ما دخلك بي إذهب إليهما رفقة زوجتك و تركني أشرت لي بعينيك، قائلا
_أنظري كم هي سعيدة برفقة أمك. لا أريد ان أقطع عليها هذه السعادة.
إستدرت لأرى أمي و زوجتك تضحكان بقوة حتى أدمعت عينهما، لكن قبل أن أفعل أي ردة فعل. أتى أحد رجال الأعمال الذين كانو في الحفل ليتحدث معك، ألقيت أنا عليه تحية مقتضبة، لأنسحب من أمامكها و من الحفل كله، توجهت إلى مكان نائ في حديقة القصر، تحت شجرة صفصاف كبيرة، كانت تحمل بين أغصانها أسرارا أكثر مما تحمله من أوراق قد جلست فيها طفلة و مراهقة و شابة يافعة، و هأنا أجلس بجانبها إمرأة ناضجة، نكبر فتكبر معنا أحزاننا و ألامنا و تهجرنا السعادة على مر العمر، لما دائما تخرج لي بكل قسوتك و جبروتك ما إن أظن أنني إستطعت أن أنحيك قليلا من تفكيري و بالتالي من حياتي؟! دمعة باردة قاسية قد إخترقت وجنتي، مددت يدي المرتجفة لأمسحها و أنا أعض بألم على شفتي.
_زينب.
وقفت من مكاني لألتفت إليك بعد أن قطعت مجددا خلوتي، لم أتحدث و أنت أيضا لم تقل شيئا، لثواني نظرت إليك بصمت قبل أن افعل ما أملاه علي عقلي بلحظة جنون، و هو يهيء لي أني بذلك قد أرتاح قليلا، رفعت يدي لأنزل على خدك بصفعة قوية جعلتك وجهك يستدير قليلا من شدتها، و بغليل قلت و أنا أنظر إلى عينيك المصدومتين
_تستهلها يا جاسر، تستهلها على تطاولك و تجاسرك علي في المكتب، كان يفترض بي أن أفعلها هناك بعد أن تجرأت بكل وقاحة علي، لكن قدوم زوجتك قد منعني حينها، ربما الأن أرتاح قليلا!
ألقيت بكلماتي النارية التي كانت تقطر ألما في وجهك، ثم تجاوزت لأكمل طريقي، بينما ظللت أنت متسمرا في مكانك دون حراك.
أخذت نفسا عميقا و أنا أضع يدي على صدري، أحاول تهدئة قلبي الذي يضرب بجنون خشيت معه أن يخرج من مكانه، نظرت إلى يدي المرتجفة التي صفعتك قبل قليل، و رغما عني أحسست بألم رهيب يفتك بصدري، و مع ذلك فلا أنكر بأنني بفعلتي هذه قد إرتحت قليلا، ضممت قبضة كفي أغرس أضافري في راحتها قبل أن أعود مجددا للحفلة.



انتهى الفصل الخامس عشر
قراءة ممتعة لكم حبيباتي
موعدنا يوم الإثنين القادم إن شاء الله




نورهان الشاعر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس