عرض مشاركة واحدة
قديم 14-03-22, 11:12 PM   #128

مروة سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية مروة سالم

? العضوٌ??? » 482666
?  التسِجيلٌ » Dec 2020
? مشَارَ?اتْي » 1,756
?  مُ?إني » مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » مروة سالم has a reputation beyond reputeمروة سالم has a reputation beyond reputeمروة سالم has a reputation beyond reputeمروة سالم has a reputation beyond reputeمروة سالم has a reputation beyond reputeمروة سالم has a reputation beyond reputeمروة سالم has a reputation beyond reputeمروة سالم has a reputation beyond reputeمروة سالم has a reputation beyond reputeمروة سالم has a reputation beyond reputeمروة سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   ice-lemon
?? ??? ~
Why so serious?
Rewitysmile21 وانطوت صفحة الهوى - القصاصة الخامسة: القسم الثاني

لا تصدقوا من يزعمون أن البحر أقوى من أمواجه، وأنه قادر على ابتلاعها وقتما شاء، فحين تثور أنواؤها تطلق الأمواج ألسنة لهيبها الأزرق لتفرض هيمنتها على الشواطئ وتطوّق البحر نفسه وتخضعه لجبروتها..

ورغم سنتين من البُعد وجدار جليدي بسُمك مئات الأقدام نصبه بينهما بدقة، إلا أن بحر لا يزال غير مقتنع بقدرته على مواجهة أمواج، لذا فقد عمد إلى خطة الطوارئ التي يلجأ إليها عادة عندما يريد أن يفرغ جزء كبيرا من طاقته حتى يصبح جامدا كالصخرة عندما يلاقيها..

حين أنهى ورديته، لم يقرر العودة للمنزل مباشرة استعدادا لسفره في الغد، وإنما سارع بطلب رقم معين خزنه باسم "Organizer" (مُنظِم) على هاتفه، ثم هتف بعزم في محدثه: "أريد أن ألعب الليلة"، فأملاه الأخير عنوانا وأخبره أن يتواجد فيه في تمام الحادية عشرة مساء..

في الموعد المحدد تماما، كان بحر يقف منتظرا أمام الكورنيش في البقعة التي حددها له (أورجانايزر)، والذي آتى لاحقا بدراجة بخارية ليركب بحر خلفه..

قطعت الدراجة البخارية مسافة غير قصيرة في عدة طرق رئيسية قبل أن ينحرف بها قائدها لطريق مظلم متعرج إلى أن وصل مع راكبه الإضافي أخيرا إلى أرض فضاء محاطة بسور حديدي خارجي، تشبه المرآب أو أرض فضاء مسورة تم تخصيصها لتشييد بناء في طور التأسيس..

حين دلفا للداخل، كان المكان مضاء بالعديد من مصابيح النيون البيضاء المتوهجة، وهناك الكثير من الشباب الحاضرين كمشاهدين وأصحاب رهانات على المتنافسين في تلك اللعبة السرية..

تم الإعلان بواسطة شخص بدا كحكم عن بداية المباراة القتالية بين بحر ومنافسه الذي يبدو أضخم منه بشكل ملحوظ، ليشرع الاثنان في المواجهة في لعبة ملاكمة سرية بلا قوانين ولا ضوابط.. البقاء فيها للأقوى.. ولا يهم أن يؤذي المنافس خصمه بإصابة خطِرة.. المهم هو الإعلان عن فوزه في النهاية ليربح جائزة مادية مجزية نظير لعبه وفوزه بالرهان..

لم يكن بحر يشارك في تلك اللعبة من أجل الربح المادي، فالخسارة فيها كانت أخطر كثيرا من عائدها الذي ينفقه الفائز في أغلب الأحيان على علاج إصاباته في تلك المنافسة غير النزيهة..

وإن كان البعض يشارك بها من أجل احتياج مادي مُلح.. أو لحاجته لمصدر تمويل لشراء المواد المخدرة التي يدمنها.. فإن بحر كان يخوض تلك المباريات من أجل إدمان من نوع آخر..
إدمان الخطر..

بحر صار يعيش على هامش الدنيا.. لا يكترث بأي شيء ولا يشعر أنه حي من الأساس.. ولكن في بعض الأحيان - كاليوم تماما - تتكالب عليه الانفعالات والمشاعر المرهِقة التي لا يعرف كيف يتصرف بشأنها، فيلجأ لهذه الوسيلة لكي يهدأ عقله قليلا بعد أن يعبر من معركة طاحنة تترك في الأغلب آثارها بوضوح على جسده..

استمرت المباراة حوالي عشرين دقيقة، تلقى خلالها بحر العديد من اللكمات في وجهه وأعلى بطنه وجانبيه، حتى أن إحدى اللكمات قد طالت خصره لتصيبه بآلام حادة أشعلت جسده بالكامل.. لكنه في النهاية، نجح في توجيه لكمة قاضية لمنافسه أسقطت بعض أسنانه الأمامية، وأصابته بما يشبه الارتجاج الخفيف بعد سقوطه أرضا، ليتم الإعلان عن فوزه..

لم يتوقف بحر للاحتفال، بل سارع بمعاودة ارتداء كنزته القطنية، ثم غادر دون حتى أن يلملم أرباح فوزه..
لقد حصل بالفعل على ما جاء هنا من أجله..

وحين عاد بحر إلى منزله، كان حريصا على التحرك بشيء من الخفة رغم آلامه، كيلا يوقظ والديه.. خصوصا والده الذي إن اكتشف حالته تلك لن يجعل ليلته تمر على خير أبدا.. فدلف بخفة إلى حمامه واغتسل من بقع الدماء التي جفت على جلده، ثم وضع بعض الكريم على الأماكن المتورمة أعلى بطنه وعند الخصر، وبدأ في عمل كمادات مياة مثلجة للكدمة المتورمة أسفل عينه اليسرى، والتي لحسن حظه لم تتورم بشدة، لكن لونها كان داكنا بعض الشيء..

لم ينم بحر سوى ساعتين فقط، إذ أمضى ما تبقى من ساعات الليل يحاول معالجة كدمة عينه حتى يبدو شكله مقبولا أمام مديرة مدرسة ابنته..

ومع شروق الشمس، نهض من نومته المتملمة، ثم لف شريطا من الرباط الضاغط حول ضلوعه المكدومة، وارتدى بدلة عصرية بدون رابطة عنق، ثم تحرك
إلى القاهرة بسيارة شقيقه بعد أن استأذنه في استعارتها..



في القاهرة، كانت أمواج تمضي ساعات الصباح التالية لتوصيلها ابنتها إلى المدرسة بداخل أحد المقاهي تحتسي بعضا من قهوتها السريعة المفضلة "Flat White" بنكهة الإيسبريسو الغنية مع شطيرة صغيرة من مزيج من الجبن ومعجون الزيتون، حتى تشحن جسدها ببعض الطاقة استعدادا للعودة للمدرسة من أجل اجتماعها مع المديرة في تمام الحادية عشرة، والذي ستلاقي طليقها خلاله.. ربما في أول لقاء علني بينها بعد أن دأب على التهرب من كل لحظة يمكن أن تضمهما، خاصة حين كانت تزور بيت والديه في السويس..

كدأبها كلما شعرت بالتوتر، كانت أمواج قد أوصلت سماعتي الهاتف بأذنيها لكي تستمع إلى إحدى الأغنيات وتسافر معها بعيدا عما يؤرقها.. وهذه المرة اختارت أغنية عبد الحليم حافظ (كل ما أقول التوبة)، فأخذت تسمع إلى مقطع محدد بشكل متكرر وهي تتنهد بوجع يجثم بين ضلوعها..

القلب الأخضراني يا بوي.. دبلت فيه الأماني يا عين
ولا قادر طول غيبتكوا يا بوي.. يشرب من بحر تاني يا عين
وأنا كل ما أقول التوبة يا بوي.. ترميني المقادير يا عين
وحشاني عيونه السودة يا بوي.. ومدوبني الحين يا عين


وبرغم أن أمواج كانت تخصص لنفسها ساعة واحدة تحصل عليها كل بضعة أيام، لكي تقضيها بمفردها بعيدا عن الجميع - طفليها ووالديها وصديقاتها - لتبحر قليلا داخل عقلها كي تهدّىء من تقلباته النزقة حتى تستعيد هدوءها وتتمكن من إدارة حياتها بنجاح وفاعلية..
ويا لها من مهمة عسِرة..

واليوم، كانت ذكرى قد أشفقت عليها وعرضت أن تجالس الصغير كنان طوال ساعات الصباح وحتى موعد عودة أمواج من الاجتماع الذي سيتزامن مع توقيت مناوبتها في المستشفى..

أمواج كانت ممتنة كثيرا لاقتراح ذكرى، خاصة وأن زهو قد تلقت هي الأخرى رسالة مماثلة من إدارة المدرسة تطالبها بالحضور لاجتماع هام في تمام الحادية عشرة والنصف.. أي بعد نصف ساعة فقط من الاجتماع الخاص بأمواج.. ما جعل كلتاهما تتساءلان عما إذا كانت هناك صلة تربط بين الاجتماعين.. كون كيان وساري في نفس المرحلة الدراسية – السنة التمهيدية المؤهلة للصف الأول الابتدائي..

وبهذا تحولت ساعة العزلة الأسبوعية لأمواج إلى بضع ساعات، سبحت خلالها داخل تيارات أفكارها المتصارعة بين مدٍ وجزر، وجميعها تدور حول مركز واحد لكل الأعاصير..
بحر..

أمواج ليست ساذجة.. تعرف جيدا أنها وبحر أصبحا الآن على مفترق طرق.. فقد تباعدت الآن المسافات بينهما أكثر من أي وقتٍ مضى..

خلال العامين الماضيين، ظلت أمواج تعتنق الصبر وتتمسك بخيوط الأمل الواهنة علّها تجمعها لتنسج منها ميثاقا غليظا تعيد ربطه بها من خلاله، ولكن بحر كان يتملص من كل فرصة تزرع بداخله نبتة أمل خضراء، كمذنب ينتظره الجحيم على الضفة الأخرى وقد قُطعت عليه جميع سبل الغفران..
وهي بالنهاية.. تعبت..

أمواج متعبة بالفعل.. ليس منذ طلقها بحر، ولا منذ عاد من الجحيم، ولكن منذ تزوجته بالفعل وقبلت أن تحمل عبء تأسيس الأسرة والحفاظ على أعمدتها بمفردتها، مع زوج يسافر أغلب الوقت في مهام لا تدري عنها آية تفاصيل لأنها أسرار قومية.. بل لا تدري إذا كان هو نفسه سيعود إليها أم لا..

تحملت كثيرا وكثيرا، ولكنها استنفدت جُل طاقتها على الاحتمال مع قوله: "أنتِ طالق"، ورغم ذلك فإنها تحاملت على نفسها واستغلت البقية الباقية من تحملّها لتقنعه بالعودة عن قراره الفردي، لكنها فشلت تماما..

ليبدأ بينهما نظام روتيني بائس تقوم هي فيه بدور العاشقة المتفانية التي تنتظر أن يستفيق حب عمرها من غيبوبته ليعود بين أحضانها ويفرد جناحيه حول عائلته..

أما هو، فقد أنس تماما لدور العائد من الجحيم، يتستر بعباءة من الظلام تخنق مشاعره وتلزمه الجمود..

وبعد ما حدث بينهما مؤخرا في آخر مقابلة جمعتهما في السويس، لم تكن أمواج مهيأة تماما لمقابلته اليوم، لولا إصرار إدارة المدرسة على الجمع بينهما على الرغم من عدم تواجده خلال مقابلة انضمام ابنتهما كيان لها، حين تعللت أمواج بأنه قد سافر إلى مدينة قصيّة من أجل العمل..

فكل ما يشغل تركيزها حاليا هو أن تعرف ما المشكلة التي تخص كيان، وكيف ستقوم بحلها.. وحدها..

حين قاربت الساعة الحادية عشرة، لملمت أمواج أشياءها وتحركت صوب المدرسة، فدلفت إلى غرفة المديرة التي استقبلتها بابتسامة رسمية، لتجلسا معا في انتظار وصول بحر الذي تأخر كعادته..

مرت حوالي ربع ساعة من وقت الاجتماع، فبدأت المديرة تبدي انزعاجها وتطلب منها الاتصال به وإلا ستضطر لإلغاء الاجتماع واتخاذ إجراءاتها دون الرجوع للوالدين..

هنا، شعرت أمواج بالتوتر وبدأت تساورها الشكوك حول نيته في الحضور، فأرسلت له رسالة عاجلة تسأله عن مكانه، ليأتيها الرد منه هو شخصيا بعد أن دلف لداخل مكتب المديرة بصخب، تتسارع كلمات الاعتذار على لسانه متعللا بعدم قدرته على العثور على مكان لصف السيارة في هذا الوقت من النهار..

جلس بحر أمام أمواج، ثم خلع نظارته الشمسية الضخمة، وخص المديرة باهتمامه الكامل مركزا نظراته عليها، فاستغلت أمواج الفرصة لكي تتفحصه عن قرب..

لم تكن هي على مقربة منه بهذا الشكل منذ شهور طويلة، بل ربما منذ أن ألقى عليها يمين الطلاق في لحظة جنون، وحتى حين وضعت ابنهما كنان، اكتفى فقط بالتمتمة ببعض كلمات الحمد من موقعه بزاوية غرفتها في المستشفى بالقرب من الباب، بينما كانت هي في الزاوية الأبعد ترقد بإعياء على سريرها، والفرحة تأبى أن تزور قلبها وثغرها..

كان وقتها يبدو أنحف من وزنه الطبيعي، لكنه أصبح مؤخرا أكثر نحافة من أي وقت، ربما بسبب استطالة خصلات شعره ولحيته التي تجعله يبدو هزيل البنية خاصة مع اتساع ملابسه القديمة عليه، ولكن عضلات ذراعيه ظلتا بارزتين، لأنه يمارس مجهودا متكررا بعمله في شركة الشحن..
أما وجهه فقد.. شاخ..

وجنتان غائرتان تبرزان عظام الفكين ولحية كثة غير مدرمة برغم نعومتها..
وكأن وجه شيخٍ عجوز قد كسا جسدا شابا ليزيد هيئته وهنا، فيثير فضول الناظرين عما يمكن أن يكون قد حدث له!

توقفت نظرات أمواج المتفحصة عند عينيه اللتين تشتاق إليهما كثيرا، والآن تختلس النظر إليهما كلصة لا تمتلك الحق..
لكن ما رأته أوجع صدرها، فقد غابت عنهما الحياة واختفى الدفء من لونهما البني لترحل معه بحار الشوكولاتة الدافئة التي كانت تختطفها دائما بمجرد
نظرة.. ولم يتبقى سوى آثار القهوة المرة الحالكة على مقلتيه اللتين كانتا تركزان انتباههما حاليا على كلمات المديرة..

أجبرت أمواج نفسها على استعادة تركيزها نحو السبب الرئيسي لتواجدها هنا اللحظة.. ابنتها كيان..

قالت مديرة المدرسة: "في الحقيقة لم يمضي وقت طويل على انضمام كيان لمدرستنا، وهي أظهرت بالفعل اندماجا مع زملاءها وتجاوبا مع الدروس التي تتلقاها في مرحلتها التمهيدية، ولكنني طلبت اجتماعكما اليوم لكي أتناقش معكما بشأن سلوكها"..

هلعٌ سيطر على ملامح أمواج التي هتفت بقلق وصل كاملا إلى ذلك الذي يجلس إلى الجانب الآخر من مقعدها: "ما به سلوكها؟ هل فعلت شيئا مسيئا؟"، ثم تابعت بنبرة مكتومة ذاهلة: "لقد ربيتها جيدا"..

ردت المديرة بنبرة عملية: "لقد لمسنا تصرفا عدوانيا تكرر كثيرا في الفترة الأخيرة من جانب كيان، خاصة إذا تعلق الأمر بـ ساري صديقها في نفس الصف، والذي فهمت أنه بمثابة ابن عمها"..

أومأت أمواج رأسها مؤيدة، ثم أوضحت: "نعم ساري ابن المرحوم نبيل ابن عمي.. وكان بمثابة العم لكيان قبل استشهاده.. وهي وسارى كالشقيقين.. تقريبا لا يفترقان.. فساري ووالدته يسكنان بالشقة التي تعلو شقتنا"..

قالت المديرة بنبرة محللة: "وهنا المشكلة.. إن كيان تأخذ على عاتقها مسئولية حماية ساري وكأنها امرأة ناضجة وليست طفلة في مثل عمره تحتاج هي الأخرى للعب والدلال وتكوين الصداقات.. إنها تتصرف مع الجميع وكأنها حارسته الخاصة، ولا تسمح لأحد بمحاولة التداخل معه.. لا أقصد أن زملاءهما
يحاولون إيذاءه، ولكنها شديدة الحمائية فتجعل الأجواء دائما محتقنة"..

فغرت أمواج شفتيها دهشة، ولم تسعفها صدمتها أن تلاحظ رد فعل بحر المماثل لها والذي تشكلت على وجهه علامات الاستغراب، خاصة بعد أن تابعت المديرة: "كما أنها تدخلت أكثر من مرة واعتدت على بعض زملائهما.. صفعة أو ركلة أو دفعة أو حتى عضة.. ذلك السلوك العدواني غير مقبول.. خاصة أن كيان ذكية وليست لديها مشاكل في التخاطب.. ما يجعلني أتساءل لماذا تلجأ للعنف كردٍ فعلٍ أولي لها!!"..

أطرقت أمواج رأسها بأسف، ولو كان قلب بحر قد ذاب الجليد حوله، لتمزق كمدا على كليهما الآن.. لكن النابض بداخله لم يعد سوى آلة ميكانية باردة تضخ الدم برتابة بجسمه لتطيل حياته البائسة التي لا طائل منها..

لكنه رغم ذلك لن يجلس هنا ويستمع لكل ذلك اللوم والتوبيخ موجها إلى أمواجه التي تحملت بمفردها مسئولية طفلين بينما ينشغل هو بدفن رأسه في التراب والهرب من آية صورة من صور المسئولية، لذا رمق إلى المديرة بواحدة من نظراته الجادة.. المخيفة، ثم قال: "وماذا إذا كانت البنت تريد حماية من تعتبره أخاها من بعض زملائهما.. ربما كان فعلا لديها الحق في التدخل"..

ردت المديرة بصرامة: "حتى وإن كانت تظن أن لديها الحق.. لا يحق لها استخدام العنف كوسيلة للتعبير عن وجهة نظرها.. إذا كان ساري يتعرض مثلا لمضايقات.. فعليها إخبار المشرفة أو معلمة الصف كي تتصرف هي كما يجب.. لكن إن كانت طفلتك ستتصرف بهمجية هكذا.. فإن الأمور قد تتحول لكارثة في وقتٍ ما"..

ثار بحر باهتياج وجموح – غير مدرك أن منبع فورانه هذه المرة ليس كلمات المديرة تحديدا، وإنما غضب ذاتي لما آلت إليه نتائج زهده في دوره كأب تجاه ابنته، فاستطرد منزعجا بصوته الأجش المخيف: "عفوا.. ابنتي ليست همجية.. إنها.. إنها.."..
إنها.. ماذا؟؟

صمت بحر.. لأنه ببساطة لا يدري أي شيء عن ابنته منذ تركها لوالدتها قبل نحو عامين.. لا يعرف هل تغيرت شخصيتها اللطيفة؟ هل تحول سلوكها المهذب الأنيق؟ هل صارت أكثر اندفاعا وثورة مثل أمها؟ أم أصبحت تتصرف بحمق وتميل للعنف مثل أبيها؟

إطراقته المستسلمة بقنوط، ارتدت لعينيّ أمواج لتسقط بقلبها تدميه، لكنها استجمعت قوتها، لكي تقول للمديرة بكياسة وتهذيب: "ما الذي يجب أن أفعله لكي أهذب هذا السلوك بها قبل أن يتفاقم؟ هي لم تكن هكذا أبدا.. ولا تتصرف بهذا الشكل داخل المنزل أو حتى حين نخرج للنادي.. بل تكون مثالا للتهذيب وحسن التصرف"..

لم يفت بحر أن أمواج قد قالت (أفعله) وليس (نفعله).. يبدو أنها أخيرا قد صدّقته وتوقفت عن محاولة إعادته إليها.. بل إلى أسرته..
لقد حدث ما كان يريده، ويئست منه تماما..

قالت المديرة التي لم تنتبه أبدا لحديثهما الصامت دون حتى أن يتبادلا النظرات: "الأمر لم يخرج عن السيطرة بعد.. لا تخافي يا مدام أمواج.. كنت أود
اقتراح عزل كيان عن ساري ووضع كلٍ منهما في صف منفصل، ولكن تلك التجربة لم تفلح عند تجربتها في بعض الحصص والأنشطة.. فساري أيضا لديه مشكلة، وسأتحدث مع والدته عنها عندما أجتمع بها بعد قليل.."..

رمقتها أمواج بنظرة متسائلة تنضح بالقلق، فأردفت المديرة: "ساري بغياب كيان يتحول إلى كتلة جامدة.. لا يتحدث مع أحد ولا يشارك في الأنشطة بحماس.. بل ينزوي عن الجميع وكأنه يريد الاختباء.. أما هي فحين تبتعد عنه يكون تركيزها مشتتا وتختفي تماما رغبتها في الإبداع، فتنهي أنشطتها
بروتينية فقط كي يمر الوقت وتعود للاجتماع مع صديقها.. أي أنهما بطريقة ما.. يعتمد كلا منهما على الآخر.. وهذا شيء له إيجابياته، لكن كما لاحظنا له أيضا سلبياته، وهذا في اعتقاده مبعثه أن كلا منهما يفتقد وجود الأب بحياته، فيعتمد على الآخر لتعويض تلك الفجوة"..

أنهت المديرة كلماتها وهي ترمق بحر بنظرة عاتبة، كونها فهمت أنه يحرص على أن يكون خارج الصورة تماما بالنسبة لابنته، دون أن تعرف سبب مشكلته مع طليقته..

سألت أمواج بنبرة عملية ساعية للوصول للب المشكلة وطرق حلها: "وماذا نفعل بخصوص الأمر؟"

طلبت المديرة من مساعدتها عبر الهاتف الداخلي أن تدلف الأخصائية الاجتماعية إلى المكتب، ثم قدّمتها للثنائي الجالس أمامها، وطلبت منها أن تحدثهما حول بعض الإرشادات للتعامل مع كيان وساري..

بعد أن وعدت أمواج المديرة والأخصائية الاجتماعية بتطبيق إرشاداتهما بالتعاون مع زهو، والتواصل معهما بشكل متتابع حتى يتخطى الطفلان تلك المرحلة، تحركت أمواج بالخروج يلحقها بحر صامتا..

حين وصلت أمواج للبقعة التي تصف بها سيارتها بالقرب من المدرسة، استدارت لكي تتوجه لمقعد القيادة، لكنها توقفت جامدة حين لمحت وجه بحر ورأت ما لم تلاحظه داخل مكتب المديرة..
تلك البقعة الداكنة أسفل عينه اليسرى المنتفخة قليلا..

شهقت أمواج بذعر والانطباع الأول لها كان الإشفاق المشوب بالقلق، لكنها عادت واستعادت جمودها، ثم ناظرته بتوبيخ لا يخفي النفور المتدفق بين طياته، وهي تهتف مشيرة بيدها نحو عينه المصابة: "ما هذا المنظر؟ هل لهذا السبب تأخرت عن حضور اجتماع يخص سلامة ابنتك ومستقبلها؟"

باندفاع لا يصيبه إلا معها فينفض عنه بعضا من الجليد الذي يكسوه، هتف بحر بامتعاض: "وما به منظري؟ ألا أليق بحضرتك؟"

بادلته أمواج الهتاف بغيظ: "بهذا المنظر؟ بصراحة لا.."، ثم لم تسيطر تماما على جنونها، حيث ركلته بمقدمة حذائها الرياضي الثقيل في كاحله وهي تهتف: "أهكذا تقضي وقتك بعيدا عنا؟ كيف لك أن تحكم بالإعدام على سنوات عمرنا القادمة لكي تضيّع ما تبقى من عمرك في ذلك الهراء؟ ألا تقدّر نعمة الحياة؟"

تمالك بحر نفسه من الآلام التي انبعثت من كاحله إثر ركلتها العنيفة، وهمس بداخله بلا كلمات
(على الأقل لم تيأس مني بعد)

لكنه عاود الكرّة بكلماته اللاذعة من جديد، أملا في أن ينجح في وأد أي أملٍ متبقٍ لديها، حيث قال ممازحا بنبرة جافة لا حياة فيها: "والآن عرفنا من أين اكتسبت ابنتك شراستها؟"..

غير أن أمواج لم تتلقى كلماته كما اعتاد هو..
لم تشاكسه أو ترد عليه بكلمات أقسى وأكثر وقعا مما سدده إليها.. بل صمتت تماما تسيطر على ارتجافة بسيطة سرت إلى مفاصلها..

حرّك عينيه صوب مقلتيها، فلم يجد بداخلهما سوى نظرة جريحة، اهتز لها شيء بقلبه.. وكأن طبقة الجليد السميكة قد تصدعت قليلا لتتصاعد من تشققاتها أبخرة باردة تلسعه كسياط جلدية..

لم يعرف كيف يتصرف بتلك المشاعر الغريبة التي سكنته..
جليد حارق.. نار زرقاء..
الأضداد تتكالب عليه وتنحره ببطء..
هذه لم تكن لعبتهما..

كانت اللعبة أن يثير هو حنقها ويتمادى في تجاهلها ويكيل لها الكلمات القاسية، وهي تظل متماسكة وتعامله بندية وشراسة ولا تستسلم.. أبدا..
لكنها الآن.. بدت وكأنها قد استسلمت أخيرا..
ربما لأن ما بينهما لم يكن لعبة..

ما بينهما كان حياة صاخبة لم يتسلل الملل لآية لحظة فيها.. لكن كل شيء انهار بعد عودته من الأسر في تلك البقعة من الجحيم..

الآن لم يعد ما بينهما لعبة.. بل معركة.. يحاول كلا منهما أن يخرج منها منتصرا ليثبت أن خياره كان الأصوب..

ورغم اضطراب أفكاره بين زمان آخر والآن، إلا أنه لم يملك أن يتراجع عن وقاحته.. ليس الآن.. لذا فقد أنهى النزال سريعا هذه المرة وهو يقول بنبرة جافة: "أثق أنك ستتعاملين جيدا مع مشكلة كيان.. كما تفعلين دائما.. ستكون بخير.. لستُ قلقا عليها"..

حين التفت للمغادرة سمع همساتها المجهدة تحذره: "ربما عليك أن تقلق"..

يتــــــــــــــــــــــب ع


مروة سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس