عرض مشاركة واحدة
قديم 23-03-22, 09:01 PM   #3

عائشة بوشارب

? العضوٌ??? » 485881
?  التسِجيلٌ » Mar 2021
? مشَارَ?اتْي » 38
?  نُقآطِيْ » عائشة بوشارب is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الثالث

في طريق عودتها للبيت استوقفها الشاب ونظرات الحيرة بادية على وجهه، شكرها كثيرًا على ما فعلته وهو يعلم أن الحارس لو رآها لأقْصيت من فورها من الامتحان.
لا عليك، لو كان غشًا لما ساعدتك، على الرغم من عدم معرفتي بك جيدًا فإنني علمت عند جلوسنا أنك ذكي، أصلًا كنت تحفظ الدرس بالكامل وصدعتني بتكراره، لذا أنا متأكدة من أن التوتر الشديد هو سبب عجزك عن الكتابة والتركيز داخل الامتحان. وابتسمت نصف ابتسامة وأضافت قائلة: لذلك حاول ألا تتوتر في الغد لأنني لن أقوم بمساعدتك مرة أخرى.
انصرفت تانيلا من أمامه والشوق الكبير لوالدها يدفعها إلى الإسراع إلى البيت، وبينما هي تحث الخطى رأت أمامها قطة صغيرة سوداء تنظر إليها نظرات غريبة، للوهلة الأولى خيل إليها أن القطة تريد إخبارها بشيء أو هذا ما جرى بالفعل.
وصلت تانيلا إلى البيت ووضعت يدها على مقبض الباب ثم أغمضت عينيها بعد أن شعرت وكأن إبرة وخزت قلبها، دخلت البيت ثم توجهت إلى غرفتها، رمت حقيبتها فوق سريرها ودخلت بسرعة إلى غرفة الضيوف.
الغرفة التي لطالما أحب ذلك العجوز الجلوس فيها وحيدًا مع ذكرياته، رأته جالسًا فوق كرسيه الهزاز رافعًا رأسه إلى السقف سارحًا في شيء ما، حتى إنه لم ينتبه لوصولها.
قطعت حبل أفكاره قائلة:
أبي! ما بك أيها الوسيم؟ ألم تشتق إلي؟ يبدو أنك ارتحت من غيابي وحديثي الممل.
رفع حاجبيه دَهشًا من رؤيتها ثم ضحك لحديثها وقال متنحنحًا:
كيف لا أشتاق إلى قرة عيني، طمئنيني كيف صار الأمر يا بنتي؟ كيف كان يومك الأول؟
تقدمت تانيلا نحوه وجلست تحت كرسيه الهزاز ممسكة قدميه تداعبهما بحنان: حسنًا يا أبي، سأسرد لك كل ما جرى.
راحت تحكي له عن كل صغيرة وكبيرة من لقائها بذلك الشاب، وكيف شرحت له الدروس التي لم يستطع استيعابها، حتى قطع حديثها سعال والدها، كان يسعل بطريقة غريبة جعلت قلبها يقفز خوفًا عليه.
ما بك يا أبي، هل أنت على ما يرام؟!
لا عليك يا بنتي، إنها نزلة برد فقط، هيا تابعي حديثك، ماذا جرى بعدها؟
هزت رأسها بالنفي بعد أن سيطر عليها القلق: لا يا أبي، هيا، أريدك أن تأخذ قسطًا من الراحة في غرفتك، تعالى لأساعدك على النهوض، وبعدها سأذهب لأحضّر لك النعناع لعلك تتحسن.
اتكأ مصطفى على عصاه وكتف تانيلا وهو يسير بخطوات قصيرة بطيئة وهو ينظر إليها بنظرات تشي بالكثير.
كيف يمكن لنظرة عين أن تلخص ألف جملة دون أن تنطق بكلمة واحدة؟
وما إن أجلست والدها على سريره، حتى غادرت من فورها إلى المطبخ.
لم يستطع العجوز كتم سعاله فوضع منديلًا على فمه كي لا تسمعه ابنته، فهو لا يريد أن يقلقها خلال الامتحانات، وما إن هدأت نوبة السعال حتى رفع المنديل ليأخذ نفسًا عميقًا فإذ بالمنديل ملطخًا بالدم، ابتسم وراح يحدث نفسه: معك حق أيها الطبيب، لقد عاد المرض ولم يتبق لي الكثير لأعيشه، يجب أن أخبرها الحقيقة قبل أن تصعد روحي إلى السماء ويفوت الأوان.
بعد لحظات أنهت تانيلا تحضير النعناع ومعه وجبة العشاء، فنادت والدها للنزول لتناول الطعام والسهر معًا وتبادل أطراف الحديث كعادتهما.
نزل العجوز بخطوات قصيرة مستندًا في مشيته على عصاه التي هرمت مثله، وجلس إلى طاولة العشاء قبالة تانيلا التي كانت تراودها الشكوك حول حالته الصحية، لكن لم تشأ أن تبوح بقلقها كي لا تؤثر على معنوياته.
مر الوقت وهما يتناولان وجبتهما البسيطة والصمت مطبق على غير عادته، انتبهت تانيلا إلى شروده منذ أن وصلت إلى المنزل فقررت الخروج عن صمتها: ما بك يا أبي، لماذا كل هذا الشرود؟ أهناك شيء يزعجك؟ ألم يعجبك الطعام؟ أخبرني أرجوك ما بك؟
أخرجت أسئلة تانيلا العجوز من شروده وأنسته ما يفكر به، وبابتسامة هادئة قال: لا شيء يا بنتي، لا تعيري اهتمامًا إلى السعال، أنا فقط متعب وأريد النوم قليلًا.
لم يكد ينهي كلامه حتى نهضت تانيلا من فورها واقتربت منه قائلة:
تعال، دعني أساعدك على الصعود إلى غرفتك، لقد تأخر الوقت بالفعل.
صعد العجوز إلى غرفته وهو يتكئ على كتف تانيلا وعيناه لا تفارقانها، كانت نظراته حزينة تخفي الكثير من الأسرار التي لم يستطع البوح بها ولم يعد قادرًا على كتمانها.
تانيلا، يا بنيتي!
لا عليك يا أبي، أنا أحبك، والآن لا ترهق نفسك بالحديث حتى لا تعود نوبة السعال، نم الآن وسنتحدث في الغد بحول الله.
دخلت غرفتها وجسدها يرتعد خوفًا على صحة أبيها ثم أوصدت الباب واتكأت عليه والدموع تغمر عينيها.
أما العجوز مصطفى فقد ظل تلك الليلة محدقًا في سقف غرفته يفكر كيف سيتمكن من إخبارها الحقيقة.
*****
حل الصباح ولم تذق عيناها طعم النوم بعد، نهضت تانيلا كعادتها مبكرًا لتعد وجبة الإفطار ثم وضعتها قرب سرير والدها الذي لا تقوى على العيش من دونه، وطبعت قبلة صغيرة على جبينه تحمل حبًا بحجم العالم.
مر ذلك اليوم ولا جديد فيه، فقد التقت بذلك الشاب وساعدته كعادتها على الرغم من أنها قالت عكس ذلك، وأجابت عن كل الأسئلة بتمعن شديد.
حل الصباح من جديد وجاء معه امتحان جديد.
تانيلا جالسة في مقعدها تنتظر توزيع أوراق الأسئلة فيما تبدو مفعمة بالارتياح، بعد لحظات وزعت الأوراق، مرت ساعتان أنهت تانيلا خلالهما الإجابة عن كل الأسئلة وبدأت تراجع ورقتها.
الساعة تشير إلى الرابعة عصرًا، إنه آخر سؤال في امتحان اللغة العربية.
السؤال كان غريبًا نوعًا ما، فقد توقفت تانيلا كثيرًا عنده دون أن تكتب شيئًا.
يقول السؤال: اكتب نصًا تذكر فيه واجباتك نحو عائلتك ووالديك.
تانيلا تنظر إلى السؤال بشرود حتى إنها لم تشعر بالدمعة التي نزلت على خدها، لم تكن دمعة حزن أو اشتياق، بل كانت دمعة بلا شعور، مر الوقت المتبقي دون أن تكتب حرفًا واحدًا.
كان آخر سؤال في امتحانات البكالوريا وأول سؤال لم تجب عنه.
عند الانتهاء من الامتحان خرج الطلاب وهم في غاية الفرح من التحرر من أعباء الامتحان وكأن حملًا ثقيلًا سقط من على ظهورهم، إلا تانيلا والشاب فقد خيمت الكآبة على وجهيهما، حتى أن الشاب لم يستوقفها كعادته ليسألها كيف سارت الأمور معها.

*****
في العام 2016، لا أذكر تاريخ ذلك اليوم بالتحديد.. هذا ما كتب في المذكرة.
كان لقاءً غريبًا ومفاجئًا نوعًا ما، كعادتي نهضت يومها مبكرًا، كان أسبوعي الثاني في العمل وكادت خطتي تكتمل، كنت أرتدي ملابس العمل أحمل إسفنجة ومعقمات ليستوقفني شاب أسمر قائلًا بنبرة مفعمة بالشك: لقد التقينا ثانية، مرت السنوات سريعًا!
تملكني خوف شديد حينها وبدا عليّ الارتباك، هل اكتشف خطتي يا ترى؟ هل ستكون نهاية كل مخططاتي هنا وبهذه السرعة؟
"مذكرات بقلم تانيلا"
*****

يتبع..


عائشة بوشارب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس