عرض مشاركة واحدة
قديم 24-03-22, 08:14 PM   #7

عائشة بوشارب

? العضوٌ??? » 485881
?  التسِجيلٌ » Mar 2021
? مشَارَ?اتْي » 38
?  نُقآطِيْ » عائشة بوشارب is on a distinguished road
افتراضي

الفصل السابع
خرجت من الغرفة راكضة بسرعة فتعثرت ليرتطم جسدها بالأرض بقوة، لكنها نهضت دون أن تفكر في تفقد موضع الارتطام، توجهت مباشرة إلى منزل جارها الطبيب لتدق بابه بكامل قوتها، ما أحدث ضجة هزت سكون الليل.
*****
ماذا لو كان هذا كله حلمًا؟ كيف يعقل أن يختفي أبي كلمح البصر؟ ماذا لو أنه لم يكن موجودًا في حياتي! نعم هذا منطقي لا يوجد تفسير آخر، ربما أنا الوحيدة التي على قيد الحياة في هذا العالم وكل من حولي مجرد صور ليس لها وجود! لماذا لا تجيبني الجدران؟ بالأمس فقط كنت تصرخين بوجهي لمنعي من فعل الأشياء التي تبرد قلبي، حتى أنك كنتِ تتآمرين مع ضميري ضدي! أين اختفت عيناك اللا مرئيتان اللتان كانتا توبخاني دون أن تنطق عندما أرتكب خطأ؟ حتى أنك كنت تؤنسي وحدتي فأين أنت الآن؟
آخر ما تبقى لي منه رائحته الزكية الملتصقة بثيابه التي أصبحت مدمنة عليها، وزوايا المنزل التي تحمل كل ذكرى سعيدة مررنا بها معًا، بات الاشتياق يخنقني وروحي الحزينة تحوم حول المنزل باحثة عن روحه لعلها تتواصل معه وتأخذني إليه.
*****

جثت على الأرض أمام والديها واغرورقت عيناها بدموع تساقطت على خديها الورديين كطفلة صغيرة، غير مكترثة بتراب المقبرة الذي لطخ ثيابها، راحت تحاول بكامل جهدها إخراج الكلمات الحبيسة فخانتها، انهارت باكية وهي تمسح شاهد قبر أبيها بيديها قائلة:
أنت الآن نائم مع حبيبتك زينب كما طلبت في وصيتك، وكم تمنيت لو أنك طلبت فيها وجودي إلى جانبكما، صدقني يا أبي، كل ما أريده الآن هو أن أنام بجانبكما ثلاثتنا، فنحن طيبون لا ننتمي لهذا العالم السيئ، لكن ليس قبل أن أحقق حلمك.
مسحت تانيلا دموعها بصمت، ورتبت الزهور على قبر والدتها، زحفت إلى أن توسطت قبريهما ألقت بجسدها بعد أن تمزق قلبها حزنًا ثم قالت وهي تهذي: أنت السبب الوحيد الذي أبقاني حية بعدما توفيت أمي، والآن ليس لدي سبب كافٍ لأعيش من أجله، لم أكن أريد الكثير من هذه الدنيا، آمالي وأحلامي تحطمت، لكن، لا تشغل بالك عليّ، إني أبكي فقط لأنني سعيدة فأنا أعلم بداخلي أنه لم يتبق لي الكثير حتى نجتمع مجددًا، انتظراني كما فعلتما دائمًا، سأعتني بنفسي جيدًا تمامًا كما تحبان.
غمرتها ضحكة ممزوجة بالدموع ثم أضافت:
وسأطفئ الأنوار كي لا ترتفع فاتورة الكهرباء.
تدفقت الدموع من عينيها بغزارة لكن البكاء هذه المرة لم يرحها، هيهات، البكاء لم يعد يجدي! ربما تحتاج إلى الصراخ، أو إلى صفعة تيقظها وتعيدها إلى الحياة من جديد، جاهدت لتنقذ نفسها من الغرق في بحر الحزن.
*****
باتت تانيلا تخشى النظر إلى انعكاس صورتها في المرآة، لأنها صارت تكشف عن وجه لم تعرفه من قبل، وجه ملأه الحقد والحزن والغضب والوحدة والألم، والانتقام اللذيذ.
كل ما شغل بالها هو الانتقام من الذي دمر حياتها وقضى عليها بعد أن سلب منها طفولتها، وها هو ذا ثانية يسلب ما تبقى من مستقبلها، أرادت تحطيمه، حتى خطرت ببالها فكرة تعطي لحياتها معنى، تمسكت بها على الرغم من أنها تخالف كل ما تربت عليه، فشرعت في الإعداد لها دون تردد، بدأت ببرمجة صفحة مزورة تمهيدًا لإرسالها إلى ضحايا مواقع التسوق، ليفاجئوا بتنبيه من المواقع يدعوهم إلى تدوين معلومات حساباتهم البنكية دون أن يشككوا في شيء، وبهذا تتمكن من جمع النقود التي احتاجتها لتنفيذ خطتها.
مرت ثلاثة أيام بلياليها ولم تنم صديقتنا سوى سويعات قليلة، تمكنت خلالها من سرقة 700 دولار، وعلى الرغم من أنه لم يكن المبلغ الذي رغبت في جمعه إلا أنه كافيًا نوعًا ما للشروع بالجزء التالي من الخطة.
بات الانتقام همها الوحيد، وأن تذيق هذا المجرم مرارة خطيئة غيرت مسارها، هل القدر من فعل بها هذا؟؟ هل حقًا خلقت لتكون حياتها بهذا الشكل؟!
تناقضات كثيرة تدور في عقلها الصغير الذي لم يستطع استيعاب كل هذه الصدمات، فأصبح الانتقام ملاذها الوحيد.
لم يعد لحياتها طعم بعد أن وجدت نفسها محاطة بالحزن وشاشة حاسوبها التي لا تبادلها الإحساس، عينٌ تدمع وأصابع ترتجف قهرًا، قلبٌ منكسر وعقلٌ صغير لم يستوعب معنى الوحدة والفقد والموت، أما الشاشة فلم تحرك ساكنًا وهي تنتظر أن تعزف أناملها لحنًا مشفرًا.
توقفتْ الدموع وحل ضجيج لوحة المفاتيح، ها هي تانيلا تقوم بما لم تفعله من قبل، تخاطر بجرأة كبيرة وتضغط على الأمر الأخير الذي سيغير الكثير من الأحداث، ربما ليس في عالمها لكن في حياة الآخرين.
غفت تانيلا على لوحة المفاتيح التي باتت صديقتها الوحيدة.
*****
استفاقت تانيلا ببطء على صوت منبه ذو رنة ضعيفة تبدو ملائمة لطرازه القديم، وبعينين نصف مغمضتين نظرت حولها لتجد نفسها نائمة في غرفة أبيها محتضنة وسادته التي تحمل رائحة عطره، نظرت إلى الساعة لتجدها الثامنة صباحًا فنهضت تغتسل وتغير ثيابها السوداء بثياب أكثر بهجة لتبدو جميلة.
"لأن هذا اليوم مهم بالنسبة لي".
وأضافت: أقف الآن بالقرب من حلمك يا أبي.. "شركة جميل الجزائري للتصميم". عند دخولي أحسست بأنني خارج البلاد، إذا كانت هذه مجرد شركة فكيف ستكون الجنة! السقف مرتفع جدًا، أما الأرض فلامعة لدرجة تمكنني من رؤية انعكاس وجهي الشاحب وعيناي اللتان أحاطتهما هالتان سوداوان، لم أنته من وصفه بعد، يجب أن ترى هذا بعينيك إنه لا يصدق يبدو كالحلم!
يوجد مركز تجاري كبير مزين بأدوات زينة لم أر مثيلًا لها في حياتي، تَحف جنباته المطاعم الفخمة ومحال الملابس الفاخرة، تجولتُ قليلًا محاولة عدم جذب الانتباه ولكني لم أستطع اكتشافه أكثر لأن الوقت لم يكن لصالحي، وكان قد قارب نصف يومي على الانتهاء ووجب عليّ إكمال مهمتي، كان هدفي خداع أحد الموظفين للحصول على معلومات مهمة عن الشركة، أو الحسابات الإلكترونية لعملائها لكي أستخدمها ضدهم، لأتمكن من القضاء على الشركة بأكملها! لكن الموظف الغبي كان حريصًا جدًا بحيث لم أستطع أن أظفر بكلمة واحدة تفيدني!!
*****
خرجت مسرعة من الشركة والعصبية الشديدة تتملكها، ثم توقفت لحظة وأخذت تحدث نفسها: "يجب ألا أفقد الأمل، إنها محاولتي الأولى فقط، لا يزال لدي العديد من الطرق".
لم تكمل كلامها حتى رأت مجموعة من الموظفين أمام مدخل الشركة، وفي المقدمة منهم رجل قصير ذو لحية بيضاء يوجه الموظفين بيديه كقائد فرقة موسيقية، كان يرتدي طقمًا مميزًا جعله يبدو كقبطان سفينة، وما إن انتهى من توجيه الموظفين البسطاء حتى توقفت سيارة فارهة فأدركت أن مسؤولًا كبيرًا قد جاء للتسوق.
ترجل السائق من السيارة بطقمه المرتب ليفتح الباب، كانت نظرات الموظفين وأنا معهم مرتكزة نحو السيارة، وهم ينتظرون نزوله للترحيب به، وضع رجله اليمنى على الأرض فرأيت حذاءه اللامع، وما إن وقف حتى لفت نظري رجل يرتدي بذلة فاخرة، ينظر إلى ساعته بملل، وكأنه لا يرى أمامه أحدًا، تقدم "القبطان" نحوه والابتسامة المصطنعة بحرفية تكسو وجهه.
"إنه هو! جميل"
تجمدت في مكانها، لم تستطع تحريك أي شيء، أحست وكأن روحها تلاشت، لم تستطع أن تشيح نظرها بعيدًا عنه، كيف ذلك وهو الوحش الذي قتلها وقتل أمها وملأ قلب أبيها حزنًا؟! سيطرت على عقلها فكرة واحدة وحسب.
"أستطيع أن أذهب إليه وأقتله الآن بيدي وأنهي كل شيء! لكن لا؛ لن أفعل! لأن خطتي ستفشل هكذا، سأعذبه ببطء ليموت على نار هادئة، مهلًا ما هذا؟ لمَ ينظر نحوي؟ يا ترى هل سمع ضجيج أفكاري؟ ألهذا السبب ينظر ناحيتي؟ إذا استطعت أن تقرأ أفكاري فأريدك أن تعلم أن نهايتك ستكون على يدي، أوه لا، هل شعرت فجأة بأن ابنتك البيولوجية تقف مباشرة نحوك!!"
بسط يديه عاليًا ناحية تانيلا وعلت وجهه ابتسامة عريضة تدعو للاحتضان، وكأنه يخبرها بابتسامته أنه يريد معانقتها، "لكن ما به، لمَ فعل هكذا، ما الذي يحدث بحق الجحيم!"
تساؤلات كثيرة هبت على رأسها كالرياح في ثوان قليلة فقط، حتى مر من أمامها شاب لم تتمكن من رؤية وجهه، فقد ذهب راكضًا إلى جميل معانقًا إياه بسعادة قائلًا بأعلى صوته: "أبي اشتقت إليك!"
أخ!، لدي أخ؟!

يتبع..


عائشة بوشارب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس