عرض مشاركة واحدة
قديم 25-05-22, 04:03 PM   #2616

أغاني الشتاء..

كاتبة في منتدى قصص من وحي الأعضاء


? العضوٌ??? » 472215
?  التسِجيلٌ » May 2020
? مشَارَ?اتْي » 585
?  نُقآطِيْ » أغاني الشتاء.. has a reputation beyond reputeأغاني الشتاء.. has a reputation beyond reputeأغاني الشتاء.. has a reputation beyond reputeأغاني الشتاء.. has a reputation beyond reputeأغاني الشتاء.. has a reputation beyond reputeأغاني الشتاء.. has a reputation beyond reputeأغاني الشتاء.. has a reputation beyond reputeأغاني الشتاء.. has a reputation beyond reputeأغاني الشتاء.. has a reputation beyond reputeأغاني الشتاء.. has a reputation beyond reputeأغاني الشتاء.. has a reputation beyond repute
Icon26


[..الجـــزء الثــالث عشـر..]
_الفصل الثـاني_

*
*
*
استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم و أتوب إليه
*
*
*


كان يجلس في هدؤ هذا الصباح البارد وحيداً .. لا يقطع سكونه النرجسي المعتاد حوله .. سوى تسرّب أحاديثهم المتفرقة .. التي تعلو حيناً .. و تخمد حيناً ..
يتسللون كل نهار إلى صباحه .. يحشرونه رغماً عنه في تفاصيل يومهم .. عاداتهم .. و شخصياتهم ..

.. مازالت مزن لا تصحو رغم نداءات والدتها .. و تهديداتها ! حتى يصل الغضب بها لتهددها بأنها لن ترى هاتفها طوال اليوم .. فتصحو تلك أخيراً ..
.. مازال فارس يخطيء حين يصل إلى البيت الرابع من تلك القصيدة ! و لم يراجع له أحداً للآن مسألة الرياضيات التي قام بحلها ..
.. و مازالت سحاب تخبرهم منذ صحوها .. أن تلك الغابة الرائعة التي صنعتها .. تبدو حقيقية .. لدرجة أنها بدأت تسمع أصوات الحيوانات في رأسها .. ليمتد خياله بخيالها الساخر .. وهو يخشى أن تفترسها تلك الحيوانات حين تؤكد أنها حقيقية في كل مرة !!

يعبره صباحهم ككل يوم .. وهو يراقب زجاج النوافذ أمامه .. لا يزال يحمل بضع قطرات من المطر الذي تساقط قبل ساعات .. تاركاً السماء ممتلئة بالغيوم البيضاء الوفيرة من بعده ..
تنهد بإرتياح حين هدأ صخبهم الصباحي .. الذي بات يردد على نفسه أن عليها أن تعتاده .. إلى أن يعود به الحال .. للحياة التي غادرها ..

بدأ يرتشف قهوته .. التي عبقت رائحتها العطرية في المكان .. و يدلل صباحه بقطعة كعك شوكولاتة دافئة .. كان يتناولها بإمتنان .. وهو يتذكر رتيل حين سألته عما اعتاد أن يأكله في عشائه .. و غدائه .. حتى فطوره .. حتى توصيهم بعمل ما يرغب في أكله ..
مذهلة في الإنتباه لأدق التفاصيل في حياة من حولها .. في حين الجميع يدرك أنها تركن آلاف الأحاسيس الثقيلة في قلبها .. بلا إهتمام ..

لكن مهما كان يشغل باله من أفكار .. و يحشر من أناس في عقله .. يظلّ ذات الموضوع الذي يدور بذهنه منذ الأمس .. يعاوده من جديد ..!!

لما لايزال ذاك الموقف معها عالقاً برأسه ..!!
هل السبب عدم منطقية ذاك الحب؟
أم هي تلك الشخصية المزدوجة لها ؟!
تلك الفتاة ! كم تملك من الإحساس .. و الإهتمام .. لتتعدى كل تلك السنوات بينهما .. تتناسى تلك الحياة التي يتعداها بها .. لتهتم به .. و تحبه !!

تنهد بإنزعاج .. كم يبدو شامتاً في نفسه .. هل وصل به الفراغ في هذه الحياة الرتيبة .. التي فُرضت عليه .. أن يحشر نفسه في قصة حبها تلك !
لكنها استمرت تنساب لعقله رغماً عنه .. كما ينساب صوتها الصاخب .. في صباحاته .. و لياليه ..

سحاب !! يكاد لا يعرفها ؟؟
فهي كانت لا تتحدث أبداً في تلك المرات القليلة التي كان قد اجتمع فيه ببنات عمه ..
لكنها طفلة !!
كل تلك الأحاديث التي تنهال فوق رأسه منذ أيام .. تدل على أنها لا تزال طفلة .. فأي رزانة عقل و عظيم قلب .. جعلاها تحمل همّ حاتم و حزنه ..!

يحاول أن يتذكر شيئاً من ملامحها .. شخصيتها .. في تلك الطفولة البعيدة التي جمعتهم في لحظات متباعدة .. متفرقة .. بسبب سفر والده و والدته الدائم ..
بدأ يسترجع بعض الأحداث .. الذكريات .. ملامح من وجوه ماضية بدت ضبابية .. تتوه بين تلك الوجوه الكثيرة التي يعج بها عمره .. و سفره .. و خياله ..

لتغزوه من بين كل تلك القصاصات التي عجز أن يجمعها بملامحٍ كاملة .. ذكرى بعيدة كانت منسية حتى هذه اللحظة .. جمعته معها و مع حاتم ..
حتى ارتسمت بغرابة في خياله .. ذكرى لطفلة بفستانها الوردي المنقوش .. خصلات شعرها الحريرية تنسدل على كتفيها .. و غرة كثيفة تغطي جبينها .. بوجه ممتلئ .. و خدين متكورين كقطعتي مارشميللو برقتهما .. كان قد خطف منهما قبلته الأولى !!


:: ::


حين كان طفلاً .. و في بداية صباه وهو يميل للعب مع الفتيات .. و الإهتمام بهن أكثر من الأولاد ..
عدم وجود أخت له .. جعله ينبهر برقة الفتيات من حوله .. أحاديثهن اللطيفة .. أصواتهن .. ملامحهن .. ضحكاتهن .. سرعة غضبهن .. بكائهن ..
لذا كان دوماً حينما يعود إلى منزل جده .. من تلك الرحلات الممتدة مع والديه .. يحرص أن يحضر هدايا لجميع بنات عمه .. و عمته ..

كانت قد غادرتاها غزلان و صبا .. لتبقى هي كعادتها تلعب مع الأصغر سناً .. مزن و ديمة و بنان .. و التي بدت بملامحها الطفولية .. و قصرها .. كواحدة منهن ..
حين اقترب منهن .. ليوزع عليهن تلك الهدايا التي كانت مميزة لديهن .. وهو يأتي بها من بلدان بعيدة .. فيطرن فرحاً بها .. و ينهالون عليه بالأحضان .. و القُبل ..
إلا هي وقفت قريباً منه تلتقط تلك الهدية بخجل .. و صمت .. و تردد ..
حينما لم تقبّله تلك الحلوة .. الخجلى .. .. سحبها ليضمها إليه و يقبّلها هو .. و ما إن رفع رأسه حتى قابل ملامح حاتم المنعقدة بإستنكار وهو يتقدم منهما ..
لحظة .. حتى سمع صرختها به .. أعقبتها بركلات متتالية على ساقه .. و هي تجهش بالبكاء .. و ينهال سبابها عليه ..
حتى أرخى نظره إليها بدهشة .. و إرتباك .. و إستغراب كبير ..

كانت وجنتيها .. و أذنيها قد اشتعلتا بلونٍ أحمر .. و هي تصرخ به لتغطي إحراجها .. رغم أن صوتها كان ينتفض من شدة خجلها .. و غضبها ..
تدخّل حاتم بينهما .. في محاولة للسيطرة على فورة غضبها اللامنطقية .. محاولاً تبرير فعلته .. لكنها لم تكن لتستمع حتى له ..
: معليش سحاب ما......
بدأت بالصراخ حتى عليه .. و هي تلتفت له لتشكو إليه غاضبة ..
: هذا مايستحي ماااايستحي والله لأقول لأبوي حماد وش سوى!! والله أخليه يضربك!!
غادرتهما بغضب زاد أضعاف حين علمت أن حاتم شهد هذا الموقف أيضاً .. ليلتفت هو له بإستنكار ..
: وش فيهم بزرانكم كذا؟
زفر حاتم بضيق .. و عيناه تراقبها من بعيد حين غادرت ..
: هذي سحاب...بنت عمتي زينة
مازال لا يفهم سبب ردة فعلتها الجامحة .. إتجاه تصرفه الذي بدى له عفوياً .. حسبما برر لنفسه ..
: طيب! يعني ممنوعة من اللمس
التفت حاتم إليه .. ليوّضح أكثر .. فيبدو أنه لا يتذكرها حتى يتذكر عمرها ..
: ترى البنت كبيرة مو صغيرة...انحرجت
كبيرة! كان يعتقد أن حاتم يبالغ .. ليسأل ساخراً ..
: ليه كم عمره هالكتكوت؟!
هز رأسه ساخراً .. من لا مبالاته ..
: بالمتوسطة...كبر صبا و غزلان

اتسعت عيناه بإستغراب و إحراج منها و من حاتم الذي شهد هذا الموقف .. لا يستوعب هذا العمر .. على تلك الهيئة الطفولية ..
كان هناك إحساس غريب معها .. حين أسرها بين يديه .. و قابلت عيناه عيون تشع بملائكية فرحتهما النقية ..
كانت وجنتاها زهرتان توردتا .. أغرته رقتهما التي عبقت برائحة الفانيليا و المسك .. ليدنو منها بلا شعور ..


:: ::


و استحدثتها له الصباح .. مع تسلل أشعة الشمس من بين الغيوم .. تسللت هي أيضاً إلى المشهد .. لتبدو كالحلم الذي نسجته أفكاره بها .. لترتسم من رقة الذكرى أمامه ..
اتسعت عيناه بتمعّن .. وهو يراها تعبر من أمام حديقته .. بعبائتها و حقيبتها .. و لا زالت تحمل كيساً مملؤاً .. كحالها كل يوم ..

قبل أن تضيق عيناه بترقب .. وهو يراها تعود عدة خطوات للخلف .. عيناها تراقب شيئاً ما في حديقته .. أطال التحديق بها بإستغراب .. و هي تقترب من حديقته ..
و من ذاك الزجاج الذي يفصله عنها .. و الذي لم يسمح إنعكاس الشمس عليه .. أن يجعلها ترى جلوسه في الداخل أمامها ..
ابتسم ساخراً على سذاجتها .. وهو يراها تراقب المدخل بوجل .. خشية خروجه .. غافلة عن تواجده الكامل بالقرب منها ..

رآها تنزل الكيس الذي تحمل .. و حقيبتها الصفراء .. التي تحمل ميدالية كبيرة لأرنب لطيف .. و تجلس قريباً من تلك الأشجار لتمد يدها خلفها ..

وقف بلا إرادة .. ليقترب من الشباك الذي يفصله عنها ليراقب بفضول مالذي تفعله .. ليجدها تسحب قطةً صغيرة كانت تختبيء خلف أصيص النباتات المصطفة في حديقته .. و تربت عليها بين يديها .. و هي تتفحصها بإهتمام ..
هذه القطة التي كانت تزعجه بموائها منذ الصباح .. ها هي أيضاً تحصل على مراعاتها .. و إهتمامها !
تركتها فجأة .. لتغادر تاركة خلفها حقيبتها .. و كيسها .. إذن هي تنوي العودة من جديد !!

وقف مطولاً بإنتظارها دون أي يدرك .. حتى راقبها تعود .. و هي تحمل صحناً سكبت به حليباً لتضعه أمام تلك القطة ..و يصله همساً لصوتها من بعيد و هي تتحدث معها ..
ظلت تربت عليها للحظة .. قبل أن تقف تلتقط أغراضها التي رمتهم أرضاً .. و تنفض الغبار عن أطراف عبائتها .. لتغادرهما مسرعة ..
وهو لايزال يقف يرقب مكانها بشرود .. يراقب تلك القطة التي كانت تنعم بحنان يديها ..
قبل أن ينتبه إلى نفسه .. فيعود إلى قهوته التي بردت ..
يالهذه الفتاة! التي كانت لها القدرة على أن تفسد صباحه منذ بدايته !!



~*~*~*~



بالأمس اختفى طوال اليوم .. كعادة جديدة بدأ يتقنها .. حين تفيض أوجاعه الثائرة .. فينأى عنهم بروحه .. التي يدرك جيداً أن أوتاد صبرها العتيدة .. بدأت تتهشم ..
كان منذ صباح الأمس يبحث عنه .. وهو لا يرد على أحد .. و لا يُطمئن أحداً .. حتى أتاه قبل ساعة إتصال من مدير مكتبه .. يخبره أنه أتى للعمل .. و بدأ حملة غضبه المعتادة على الموظفين .. ليتعجل الطريق قلقاً عليه .. حتى وصل ..

نزل من سيارته التي صفق بابها غاضباً .. وهو يرى تلك الصدمة المريعة في سيارته .. و حين دخل رأى بقايا غضبه الذي أتى به كانت آثارها واضحة في معالم وجوه من حوله ..
ليستفز بروحه غضباً و حديثاً .. كان بالكاد يواريه عنه إحتراماً لمدى جرحه حتى يُطيبه .. لكن تلك الإمتدادات لديه .. بدت تُصبح كالمتاهة وهو يراه يوماً عن يوم يغرق فيها أكثر .. و لا يقوى على الخروج منها .. و فقد حتى الطريق لمحاولة النجاة منها ..

حتى حين أصبح الحلم المفقود من عمره .. بجانبه .. قصّ أيادي الشوق قسراً .. كي لا يمدها إليها !!

لذا استفزّ بغيابه قهر سنوات الصمت التي تجرّعها معه .. ليجعله يقرر أن ينسف أخيراً هذه الحواجز .. و يُخرجه من قاع ذنبٍ يبدو أنه ألف العيش مع قهره !!
حتى بات لا يعرف درباً للحياة من غيره .. و رأى أنه لا يستحق العيش من بعده ..

زفر حانقاً بإختناق أنفاساً تلتهب بقلق .. يستعيذ الله من شياطين عقلهما حين تحتدم في حرب ستثور بعد قليل .. فحين رآه كما كان يظن ليس في مكتبه ..
تأكد أنه صعد لينشر أساه مع رياح البرد العاتية .. لكن الصمت بدأ يتهشم .. و ينتهي .. فما هو الإسقاط التالي .. الذي ينوي الهروب إليه من وجعه ؟!

دخل على مدير مكتبه محذراً بلا تحية أو سلام .. قبل أن يصعد إليه ..
: حسين لحد يطلع لنا السطح حتى أنت...لو تسمعنا نتذابح مابي أشوف أحد منكم قدامي

و غادره بغضبٍ مكتوم .. بالكاد يسيطر عليه بحديثه الواثق .. المتكبر .. ليتعاظم القلق في صدر مدير مكتبه .. من تلك العاصفة التي ستثور بينهما !!
دائماً عصبية رياض كانت مفزعة لهم .. لكن غالب دائماً كان من يرمم ذاك الإنهيار الذي يحدث في روحه كل حين ..
لكن عينا غالب هذه المرة كانت توازي غضبه .. و لا يتخيل شكلاً لمواجهة قد تحدث بينهما .. كيف ستنتهي ؟؟

.
.
.

ما إن فتح الباب حتى هاجمت أنفاسه الساخنة .. الحانقة .. دفعة ريحٍ باردة .. و قوية .. لتبرّد قليلاً من تلك النار التي تشتعل بصدره رثاءً له .. لكنها لم تكن لتُطفئها ..
تقدم ليقف بجانبه .. فلا يتحرك في جسده ساكناً .. فقط ضيق اعتلى ملامحه بشدة حين أحس بوقوفه جانبه .. جعله يسحب نفساً أطول من تلك السيجارة المشتعلة بين يديه ..
كان غير قادر على إخراجه ليختنق بها .. و يسعل بشدة للحظات .. فلا يهتم وهو يعاقب أنفاسه الخائنة .. التي وشت له بضيقه .. بنفسٍ آخر منها ..

حاول أن يبتلع قهره .. و يبدأ معه بلينٍ يعرف أنه لن يصل إلى أي نتيجةٍ به ..
: خير إن شاءالله...وش فيك؟

لم يرد عليه .. لم يلتفت حتى .. و نظراته تتحجر للأمام تصد قلقه عليه ..

.. كم بدى مُرعبُ له .. كيف بدأ يهلك تحت أنقاض همومه و أساه .. بعيداً حتى عنه .. لكنه يعرفه .. يدرك حد القهر الذي وصل إليه .. و لن يحتمله أكثر ..
كما تخلى عن حقه في تلك الإبنة و هي بجانبه .. أحسّ أنه سيتخلى حتى عن حقه في صداقتهما .. كمضاعفة لذاك العقاب الذي يفرضه على نفسه .. و يهلك بإزدياده يوماً بعد يوم ..
كان قلبه .. الذي يعرف جيداً طرق الخراب في هذا القلب الهالك به .. يُخبره أنه إن لم يُوقفه عن الإنسياق في دوامة الندم التي بدأت تتضخم بروحه .. و أخذت تتسع بقهرها .. حتى تكاد تلغي أي صوت لعقله عليه ..
أنه قريباً سيتخلى حتى عمّن أبقته من ضمن أشباه الأحياء .. ليتركها و يرحل .. ظناً منه أنه يرحمها بهجره ..

لذا ثار به الخوف عليه .. و الغضب منه .. ليمد يده لتلك السيجارة التي أشعلها للتو .. و ينتزعها من بين أصابعه .. ليرميها تحت قدمه .. و يدوس عليها وهو يلتفت إليه سائلاً بإصرار ..
: خلّ عنك هالبلى اللي أهلكك! و قول لي ليه مختفي من أمس ؟

رأى غضبه الذي لا يحتاج حتى سبباً ليشتعل يُقتم ملامح وجهه .. حين توقّد في نظرته الغاضبة التي صوّبها نحوه كسلاحٍ يهدده به أن يتراجع ..
وجهه احتقن سواداً مريراً .. و حذّره من بين أنفاسٍ خانقة .. بالكاد كانت تخرج من صدره الذي بدأ يعلو و يهبط بشكلٍ ملحوظ ..
: غالب اقصر الشر...و انزل شوف شغلك...في راسك عناد مو من صالحك تطلعه علي اللحين..روح طلعه على موظفينك اللي عافسين الدنيا

أنهكه هذا الحديث معه .. و كأن الكلمات بدأت هي الأخرى تفقد حقها معه .. ليخرج علبة السجائر من جيبه .. و لكن قبل أن يلتقط منها شيئاً ..
كان قد سحبها من يده بقوة .. ليقذفها بغضب بعيداً من أعلى السطح .. ليحس بتفجّر الغضب في صوته .. و كفه تضرب كتفه بقوة وهو يدفعه بعيداً عنه .. و يصرخ فيه .. بشتيمة جارحة ..
: على.........يالـ...........

هل تجيد العصبية يا رياض؟ يبدو أنك نسيت كيف هو شكل غضبي حين يثور !
لذا حين كان ينوي مغادرته محترقاً بغضبه .. و ذهوله .. لم يكن ليرحمه .. أو يتراجع ..وهو يسحّبه بشدة من مرفقه .. ليعيده بقوة إلى مواجهته ..

كان غضبهما يتنافس بحدته .. يتصاعد لدرجات خطرة .. حتى بدأ يثور بسواد قهر مفزع بوجهيهما حين وقفا بمواجهة بعضهما ..
و سنوات من الرفقة تقف متشفّعةً بين قلبيهما .. تخشى هوان الإخفاق !

و أخيراً ..سُفك الحديث الذي حرّمه الصمت .. و الحرمان لسنوات بينهما ..
حتى تناثرت بينهما الشتائم بصوت صاخب .. وهو يجرّه إلى حديث يعلم أنه يمر على حروقه المتقيّحة .. كاللهب الجارح ..
الجدال معه كان صعباً .. فكلما يرميه بحمم قهره المتوقدة بروحه .. كانت تحرق يديه قبل أن تصل له .. لتوجعه ..
و يديه العاجزة لسنوات تمتد أخيراً لذاك الجرح المتواري بينهما .. لينبش أسبابه ..
لكنه ما إن توغّل أكثر في مسّ الجرح العتيد بأيامه على علن .. حتى ضعفت تلك القوة التي يجابهه بها في شتائمه ..

ليقبض بكفيه بشدة على ملابسه .. حتى كادت أظافره تُغرز في عظام صدره .. ليهدده بصوتٍ يحترق .. يكاد يرى الدخان ينفذ من بين كلماته .. و عرق برقبته ينفر بشدة من غضبه ..
: خلااااص اسكت يا غالب خلي هاليوم يعدي على خير
لم يحاول حتى أن يخلّص نفسه من تلك الأنياب التي يغرزها بحنق في جسده .. ليرفع وجهه له و يكمل بمرار ..
: افهم يا رياض عمي الله يرحمه مات لأن هذا يومه...بسببك أنت أو غيرك هذا يومه!...كل اللي تسويه هذا في نفسك و في بنتك إعتراض على قدر ربك!! أنت لو ميّت أرحم لك من العيشة اللي أنت عايشها من سنين..خلاص يكفي...يكفي يا رياض ارحم نفسك و ارحم اللي ميتّمها و أنت عايش
نفضه من بين يديه بقسوة .. يتمسك بآخر رمق فيه للغضب .. و قدرة إحتماله على تحمل هذا الحديث تنقضي .. ليصرخ به غيضاً من محاصرته له ..
: غالب فيك خير طلع هالقوة على مرتك اللي هاجة عنك شهور و موب قادر حتى ترجعها بيتك
أجابه بتأكيد .. لا يهتم لدفاعاته التي يصده بها ..
: ولو تجلس سنين متمسك فيها لأنها بنت عمي قبل تكون زوجتي... أحسن من اللي رامي قطعة منه تتشحذ الرعاية من البعيد سنين وهو راسه يشم الهواء

سدد له لكمة قوية على وجهه لعلها تضع حداً لكلماته التي بدأت تقض جذور الصبر التي حفرها بقهره لأعوام بعمق روحه ..
لكن لا الألم في روحه انتهى .. و لا الألم في جسده ساعده ..
لينهال عليه بلكمة أخرى حين بدى أنه لا ينوي التراجع وهو يكمل نسف روحه بحديثه ..
ليتفادى الأخرى وهو يقيد يديه و يدفعه بقوة بعيداً ..
ليتهالك على الأرض طوعاً فما عاد راغباً بعراك .. أو جدال ..
وهو لايزال يقف ليتحدث بإنهاك .. بعد عصف الأحاديث الجارحة بينهما ..
: اللي صار كله مكتوب علينا من رب العالمين لك ذنب فيه أو مالك ذنب خلااااص أنت دفعت الثمن و زيادة..عوضت رتيل و عوضت عمي الله يرحمه بكل الخير الي تسويه بإسمه...بس حرمانك لبنتك مالها دخل بكل هذا! متى ناوي ترحمها و ترحم روحك! رياض أنت تعالج خطاك بخطأ أكبر...تهرب من ذنوب لذنوب أشد...هالبنت مو هدية جايتك عشان تفكر أنت تستاهلها أو ماتستاهلها..هالبنت لحمك و دمك..هالبنت مسؤليتك قدام الله سبحانه..اتقي الله في نفسك و فيها تراك محاسب على اهمالك لها و على اللي تسويه فيها

اخفض رأسه له .. وهو يتحسس بملامح مقطبة بألم .. الجرح الدامي بطرف فمه .. ليعود إلى حديثه المتكبر .. وهو يمد له يده ليساعده على النهوض ..
: ماضربتك على وجهك لأن بنتك بتشوفك اليوم...بس شايلها بقلبي لك_لتبرق بعينيه نظرة تحذير شديدة اللهجة_معك اليوم و بكره بالكثير...لو ما جيت البيت و شفتها بحضنك...والله يا أبو وتين لأجيبها لك هنا

:
:

فرغت طاقته .. فرغت أنفاسه .. فرغ حتى غضبه .. لتبقى تلك الجراح النازفة في قلبه مشرّعة الأسى .. لا يجد أي شيء يحميها به .. أو يواريها للنسيان ..
لتجيء على ضعفه و إنهياراته .. تلك الكلمة .. ناسفة للبقايا المتشاضية من روحه التي كان يحاول لملمتها .. و الإبتعاد بها ..
أخذ يرتدّ صداها بعذوبة قسوتها بين جوانحه .. تكاد تنسكب لها من إنصهار شوقه دمعة أثقلت رؤيته .. وهو يكبّلها بمرار يرجوها أن تموت كما كانت بداخله ..
لكن الضغط الهائل الذي كان يصهر روحه .. راح يُصلّب أوردته لتنهار قدرته على التحكم بها .. لتفرّ هاربة من أسى عينيه .. لتلسع خده بوجع مسعور ..

لينفض يده التي يمدها أمامه .. و ينهض متهالكاً بنفسه ..
و يغادره .. متعب .. موجوع .. مرهق .. يحمل بين خطواته رنين حزن يسع المدى بهمه .. و حرمانه ..
رغم أن غمامات حديثه .. و تلك الكلمة .. بدأتا تظللان قلبه .. بسكون عجيب .. لتفتر شيئاً فشيئاً تلك النار التي كانت تضطرم بصدره .. و كادت تنهيه منذ لحظات ..

:
:

راقبه يبتعد ..بإنهاك تلك الأكتاف المعتاد .. بخُطي يُثقلها قيد الندم الذي يجرّه دوماً لذات الليلة ..
لكن قبساً من أملٍ خافت .. راح يبرق بإلتماعة تلك الدمعة التي فرت من جور ندمه .. ليفر بها بعيداً عنه ..

وقف بعده وقتاً طويلاً .. تُطفيء نيران غضبه و أساه تلك الرياح التي بدأ يشعر بها تجمّد أطرافه ..
قبل أن يتحرك أخيراً ليلتقط أشمغتهم المُلقاة على الأرض إثر عراكهما .. و يغادر المكان .. آملاً أن يكون هذا الفصل الأخير ..
لملحمة وجع و وفقد .. لطالما شهدت على لهيب صمتها .. هذه الجدران من حوله ..



~*~*~*~



كان يجلس في الصالة .. يتناول فطوراً متأخراً لوحده .. فجده و جدته ينهيان إفطارهما مبكراً .. وقت خروج أخواته إلى مدارسهن ..
وهو اليوم .. لن تبدأ محاضراته إلا من بعد الظهر .. لذا كان يأخذ وقتاً طويلاً في التكاسل قبل أن يخرج .. لسببين ..
الثاني .. أن البرد هذا اليوم شديدٌ جداً .. يكاد يصل بدرجاته المنخفضة جداً .. إلى ما دون الصفر ..
و الأول .. و الأهم .. عيناه التي ترقب كل لحظة فارسة ذاك الممر .. التي لم تخرج للآن .. لتعدو كعادتها في ميادين قلبه ..

يشعر بإنطفاءٍ ما في حركاتها .. و حديثها منذ عودتها .. رغم أنها باقية كما كانت شجرة وافرة .. تغرس جذورها في حياة كل من في هذا البيت ..
لكن الحديث معها .. و حولها .. بدأ يفقد عفويته مع الجميع .. لتتوارى الجراح الكامنة في صدورهم عليها .. تُكمل لها ملامح الحياة التي خسرتها بلا سبب ..

انقطع شروده المثخن بها .. حين توالت إشعارات تلك الرسائل على هاتفه .. ليلتقطه بإستغراب وهو يراها من مجموعة كبار الحي ..
ليبتسم بمودة و حنين .. و فيضٌ من ذكرى تأخذه لتلك الأيام المندثرة في قلبه ..لكنها باقية رغم تزاحم الكثير من الأيام .. و الأوجاع .. و الأسرار فوقها ..
ذاك الإسم الذي عاد لحياته لايزال عزيزاً على قلبه .. رغم سنوات الإبتعاد .. ليُشارك الجميع .. المباركة لأبوراجح .. في عودة ابنه من السفر .. بعد سنوات طوال من الغربة ..

:
:

و رآها تخرج .. الّلينة .. الصامدة ..
ترفرف حولها رايات سلامٍ .. تلوّح بها إكراماً لقلقهم ..
تداري بروحها عتمةً أطفأوها بها .. فتشتعل ملامحها من قبس نور يعوضونه دوماً لها ..
نقيضٌ موجع أنتي يا رتيل .!!

وقفت قريباً منه يخترق صباحه أثير صوتها .. لترسو مرافئها آمنة على قلبه ..
:صباح الخير
ابتسم بأقل درجة ممكنة .. من تلك السعادة التي تغمر قلبه وهو يتحدث معها ..
: صباح النور
سألته بلهفة .. و ذاك الحماس يرد الحياة لصوتها الهاديء .. يرد شقاوة طفولتها في ذاكرة سمعه ..
: عرفت مين اللي رجع ؟
اتسعت إبتسامته أكثر .. وهو يُجيبها ..
: ايه أنا أقول شيباني وش عندهم صحصحوا فجأة على هالصبح...طلع أبوراجح يعزم على العشاء يوم الجمعة
ليخفت صوتها بتراجع ..
: يعني عرفت! خسارة كنت أنا أبي أبشرك

دقت نواقيس الخطر في قلبه .. وهو يتناسى أخيراً فرحته بقربها لقلبه .. ليستوعب مدى حماستها التي أسعدته للحظة .. متناسياً نبش سببها .. لتُمحى إبتسامته .. وهو يرد عليها ساخراً ..
: ليه تبشريني فيه! ولدي هو؟
بررت له .. لكن جوابها كان مبهماً .. قصده .. حائراً بينهما ..
: راجح! صديق الطفولة!

شرد منها للحظات بضيق .. بتلك الكلمة التي كانت قادرة على هزم سعادته بهما ..
(صديق الطفولة)!!!
لا يدري إن كانت تقصد نفسها ؟ أو تقصده هو ؟ فراجح كان الأقرب لهما من بين أولاد الحي كافة ..
كان عميلاً ثالثاً لتلك المؤامرات التي تهوى عقدها .. و التخطيط لها .. و تنفيذها معهما .. كان رفيق مكرهما و المغامرات رغم بلاهته .. و إندفاعه المتهور دائماً ..
همس بضيق .. يُنبهها .. أنه ما عاد ذاك الصبي الذي كانت تسيطر عليه .. رغم أنه يكبرها سناً ..
: عشر سنين اللي غاب فيها! يمكن حضرة الدكتور ما يذكر أسمائنا حتى!
لتضحك .. و هي تناقض حديثه بتأكيد .. يملأ صوتها حنين الأيام المُفتقدة من سعادتها ..
: ههههه ما أحس راجح يتغير! الله يستر بس ما أشوفه في الشارع و أسلّم عليه
أطال النظر إليها بشك .. ليتأمل بتلك الأريحية التي تتحدث بها .. لا تحمل له شعوراً خاصاً .. و إلا لما تحدثت بهذه العفوية .. و المزاح عنه .. أليس كذلك يا قلبي؟!
لكنه رغم ذاك رد ساخراً بغيض خفيّ ..
: سلّمي لا تخلينها بخاطرك...يا عساك تلتفتين و تلقين رياض وراك يسلم عليك و عليه
تراجعت بذعر مصطنع ..
: لا و على أيه الأذية...ما تسوى علي

كان يعتصر هاتفه بيده بحنق .. ليرتد عليها بغيرته .. أملاً أن يسكن قلبها .. قلقاً بسيطاً بسببه .. كالذي ملأته به من كلمة .. ليستدركها قبل أن تذهب ..
: قبل تروحين...شوفي لي الرقم هذا بإسم مين؟
عادت له .. لتسأله و هي تخرج هاتفها من جيب عبائتها .. كما تضعه دوماً .. ليسهل عليها الوصول إليه بسرعة .. و الغرق في سيل من التساؤلات عن حياة كل من حولها .. و التي جعلت نفسها جزءٍ منها في جميع أمورهم ..
: ليه؟ جايك إزعاج منه!
إنشغالها بفتح هاتفها .. جعله يراقب بكثب نظرة عينيها وهو يخبرها .. لتحتبس الأنفاس وسط صدره بترقب ..
: لا...يغازلوني منه...شكل فيه معجبة ودها تعترف لي و مستحية
رفعت له نظرة مستنكرة .. هازئة .. لتتحدث بصوت.. لخيبته! .. لم يهتزّ أبداً ..
: عطني الرقم نشوف معجبتك مين تطلع !

أنا حق من حقوقك أيتها الحمقاء في تخليك عنها .. و عني ..
هل سيوجعك الرحيل إن رحلت يا رتيل ؟
أم تأمنين قربي .. لأنك تدرين أن لا سبيل لي في درب لا يؤدي إليك !
.. أخال أنك لا تتخيلين حتى .. أننا مقبلين على مفترق طرق ..
لذاك العمر الذي تمرّد بحنينه .. و فاض بأيام الذكرى التي لا تنطوي يوماً بيننا ..
أتسألين؟
من المرأة التي ستتحملني .. و أنا أذهب إليها أحملك بجسدي .. و ملامحي .. و حديثي؟؟
و أنا آتيها بقلب مليء بأرفف ذكريات زاخرة .. جميعها متكدّسة بإسمك ..!!
لم تبقيني صالحاً للإستهلاك العاطفي ..
فأنا أعاني ذات العطل الصامت .. الذي يجعلني دوماً أدور بذات الإتجاه الخاطيء معك ..

:
:

حالما سجلت الرقم بإبتسامة متحمسة .. و بدأت البحث .. انمحت ابتسامتها الهازئة و تعالت دقات قلبها بوتيرة مرتبكة ..
.. و هي ترى إسم غزلان يتكرر في تلك النتائج التي تخرج لها .. و لا يظهر لها إسمٌ غيره .. يُهديء تلك الأفكار التي بدأت تُقلقها .. و تعصف بقلبها المتوتر ..
ليمحو كل شك .. ذاك التأكيد الأخير .. و يظهر بإسمها كاملاً .. غزلان بنت فاهد !!!

لا تتخيل كيف فعلتها؟؟
أي جنون يجعلها تعترف له بهذه الطريقة!!
و تراسله بجرأة تُقلل من قيمتها أمامه إلى هذا الحد !!

لتبتلع ريقها .. و تجاهد لتجعل صوتها ثابتاً .. ساخراً .. و هي تسرد من رأسها نتائجاً كاذبة .. تستحضرها من النتائج التي كانت دوماً تظهر لها على هذا البرنامج ..
: لا ترد...ازعاج...ازعاج...نصابين... سباك هندي..._لتلتفت إليه ساخرة_هذي معجبتك! الظاهر محد معطيها وجه غيرك

و غادرته سعيدة بذاك الإتصال الذي قطع الحديث بينهما ..
آملة أن لا تتهور غزلان بأكثر من تلك الرسالة .. حتى تتحدث معها ..
و أن ينشغل فضوله هو عن ذاك الرقم .. و لا يبحث خلف صحّة تلك النتيجة التي سردتها أمامه ..



~*~*~*~


أغاني الشتاء.. غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس