عرض مشاركة واحدة
قديم 11-06-22, 11:22 PM   #85

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم

*
*

لا تلهيـكم الرواية عن الصـلاة

*

الفـصل الثامـن عشـر



شهقت أم حاتم وهي تشدد احتضانها لحنان ، إن كانت شعرت بالسعادة تغمرها من انتظار ابنها لطفله أخيرًا
فقلبها تلّون بالغبطة لحمل ابنتها .. همست في إذنها بصوتٍ متهدج لم يسمعه سواها :
الله أراد تجيبي 3 وأنتِ بعيدة عني .. واليوم الله يهديني هالفرحة وأنتِ في حضني ! ياربي لك الحمد والشكر
اختنقت حنان بدمعها وكلام والدتها يذكرها بذّنبها القديم ، ذنب هروبها برفقة عبدالمجيد وإنقاذ زواجها من الهدم
لكنّ نبرة صوت والدتها أنستها ما كان من ألم وما سيكون .. بل لن يكون هُناك سوى الأمل
بارك لها حامد بضحكاته المندهشة ليردف :
ما شاء الله عليش أنتِ وأبو سيف اخترتوا التوقيت الصح تمامًا ، مالي فكّة منش الظاهر لا أنتِ ولا أولادش
ضحكت هي الآخرى ، تدفّ كتفه بشبة دفاشة :
احنا دايم في التوقيت الصح ، واحذرني ولدك ينافس الشيوخ عيال عبدالمجيد .. ترا المنافسة من الحين بتصير فاشلة
تعالت الضحكات من حولها لتأمرهم والدتهم بالجلوس حتى يحتفلون بهذه المناسبة ، فتعذّرت حنان بعجلتها وإنتظار عبدالمجيد لها فهم سيعودون أخيرًا لشقتهم
قادها حامد للخارج ويده تحتضن كتفها ليُردف بجدية حانية :
المرة الجاية لا بغيتي تجي عندنا ترا بيتنا أوسع لش من قلوبنا
غرفتش موجودة ، وإن بغيتي نأثثها لش ولعيالش فما طلبتي شيء
ابتسمت بحنّو أخوي عميق :
الله يخليك لي فديتك ، حتى وإن جيت ما أظن إني بطوّل مثل هالمرة
عبدالمجيد استنزف إجازاته والعيال محبوسين هنا لهم فترة
-ثم التفتت له بمغزى-
بس بانتظر زيارتك لبيتنا المتواضع ، خلي بركتك تنوله
حافظ على جمود ملامحه لوهلة ، فعلاقته بعبدالمجيد ما زالت كما هي قبلًا .. يعجز عن مسامحته وخنجر غدره ما زال مغروسٌ في ظهره وينزف
لكنّ حنان علمت ما يجول في خاطره ، فلذلك أردفت بجدية :
أظن جاء الوقت عشان تصفّون اللي بينكم .. إذا كان لأختك خاطر عندك
التفت لها بجدية أكبر :
لا تحاولي تستخدمي ورقة غلاش عندي وتساوميني فيها ، أنا أفهم رغبتش في إصلاح اللي بيني وبين زوجش
بس مب الحين .. مب الحين يا حنان
اجترعت غصّة كادت تخرج من حلقها لتردف بعتب :
إذا مب الحين ، متى ؟
تنّهد حامد وهو يقف مواجهًا لها وكفّاه على كتفيها :
الأيام كفيلة بمداواة الجرح ، والجرح لابد يتحول بيوم لندبة
همست حنان بخفوت مؤلم :
تقصّ على نفسك بهالكلام يا حامد .. الندوب مهما اختفى ألمها ، فأثرها يبقى يذكّرنا باللي مضى !
رغبتك بس هي اللي قادرة تحوّل الندوب لذكرى .. إما سعيدة أو تعيسة
ربّت على كتفها بابتسامة ، منهيًا النقاش في هذا الموضوع :
أبو سيف وصل ، روحي له ولا تنسي توادعينا قبل لا تروحي
-قبّل جبينها ثم ابتعد بخطواتها-
وجيبي سعود السكنّي ، ما شفته من كم يوم !
تنّهدت حنان وهي تُتابع بذبول ظهره المنصرم
واختفائه خلف الباب ليتركها وحيدة وسط منزلهم ورغباتها تتصارع حولها
بين إنكسار زوجها وكرامتها المهدورة ، وبين جرح أخيها وشعوره بالغدر
خرجت لعبدالمجيد ثم ركبت سيّارته ، ردت على سلامه الشغوف بشرود لم يلتقطه !
هي وحدها المحطمة هُنا .. هي شاركت روحها ألمها واحتوته قبل أن ينقضّ عليها وينهشها كمدًا
لكنّها اليوم ما عادت قادرة على هذه الفجوة الكبيرة بين أعز اثنين على قلبها .. أصبحت تشعر بالوهن ! باتت مشاعرها تتصارع وتتقاتل وتتناحر في ما بينها
أيُحتم عليها أن تُجابه الأسى بكل قوتها ، وعند أول نقطة ضعف تنهار ؟
وقبل أن يتحرك خطوتين أوقفته حنان بيدها التي وضعتها على يده لتُردف بإختناق :
لحظة مجيد !!
التفت لها عبدالمجيد والقلق تسلق لأسوار قلبه من نبرة صوتها التي لم يستشعر سوى في سنواتها الأولى
لتُكمل وهي تنظر له بعينين ملؤها الدموع :
لو جاك رزق من الله ، وفي نفس الوقت سبب إنك تمحي القطاعة وتوصل خيوط الوصل يا ترى وش بتكون ردة فعلك ؟
فهم شطرها الأخير جيدًا ، وكبت جماح ضيقه وغضبه
فحنان في كل مرة تعود فيها من منزل والدها ما تنكفئ عن فتح هذه السيرة :
وش الطاري يا حنان ؟
قالها بنبرة محايدة رغم حنيّة ملامحه ، نبرة باتت تسمعها كثيرًا في الآونة الاخيرة
تناولت يده .. ووضعتها بكل رقة على بطنها وهي تهتف رغم ذلك بابتسامة مرتجفة :
ولدنا ما يستحق المخاطرة عشانه ؟ ما يستحق إنه يشوف أبوه وخاله على حُب ووفاق !
راح من عُمرنا 5 سنين يا مجيد ، لا تخلّي السنين الجاية مرتع آلامنا في أعمارنا وعيالنا .
تجمدت يده على بطنها وعيناه على عيناها الدامعتين ، لم يستوعب حتى الآن ما تقول أو ما تهذي فيه بالأصح
أكملت هي بإصرار عميق :
اللي بينكم ما بيتصلّح لو ما اتخذ واحد فيكم خطوة صغيرة لإصلاحه ، أما اثنينكم تشدّون الحبل من كل صوب بعنادكم فهذا ما ينفع !
همس والصدمة ما زالت تشلّ حركاته :
أنتِ حامل ؟
ابتسامة ابتسامة صغيرة شغوفة :
حامل من 4 شهور تصدّق ، أول حمل يمر عليّ ما تكشفني فيه قبل نفسي .. وأول حمل يمرّ علي بهالخفة
حسيّت فيني مجيد ؟ حسيت بروحي كيف لقت سلواها وانعكس أثره على جسمي ؟
-شدّت يده التي على يدها بقوة-
مجييد .. عطي نفسك فرصة ! التسامح والغفران عمره ما كان ضعف للرجولة
على العكس ، أنت بتكبر في عيني وفي عين أبوي ! وتكسر خجل حامد من إقدامك
سحب يده من يدها ، قبّلها بعمق وفرحته الآن لا توازيها فرحة
عاش هذه السنوات في تخبّط بين نعيمٍ دائم وجحيم منقطع
ساند حنان بكل خطواتها وقراراتها التي اتخذتها بقوة شخصيتها
فهو يعترف؛ لم يكن ليسقط في شبّاك هواها لو لم تكن بهذه الشخصيّة القوية المختلطة بمرحها
أهدته 3 نِعم .. وسنين بين مدٍ كان هو في جسرًا ، وبين جزر كانت هي له إنقاذًا
بارك لها بوافر الحُب في قلبه لها .. وتمتم بنبرة تنمّ عن سعادته متجاهلًا موضوعها التي تتحرقص إليه :
الحمدلله الحمدلله ، الله يطلعش بالسلامة أنتِ وهو !
شدّت على كفّه بتأثر ، ما بال هؤلاء الرجال يتجاهلون أهم موضوع تُريد أن تجد له حلًا
فآنًا حامد ، وآنةً أخرى عبدالمجيد :
جاوبني على أسئلتي ! لا تعلقني بين شدة أحبالكم تعبت أحاول أرخيها لكم ..
تحرك بسيارته وهو يصدّ عنها ويقول بجدية لا تقبل النقاش :
تنسيّنا الأيام يا أم سيف ، تنسيّنا وتداوينا
وكأنهم اتفقوا على إجابة واحدة مثلما اتفقوا على إصرارٍ واحد فكيف يا ترى ستستطيع إستمالة هاذان الجبلان دون أن تنحاز لواحدٍ دون الآخر
آثرت إستخدام آخر ورقة في ساحتها ، لعبة عاطفية لا تجيد سواها كإمراة :
بينك وبين حامد ، أنا ! إن طال عنادكم وتصدّع وصلكم فاثنينكم راح تخسروا وجه حنان اللي تقابلكم فيه
أنا مب مستعدة أخسر نفسي وولدي في معركة أطرافها مالهم رغبة في القِتال ومحاربة أهوائهم لمجرد فرض سيطرة
التفت لها بنبرة حادة تنمّ عن مدى صبره وحِلمه ليهتف بجدية ملامحه :
أنا و"نفسش" فاهمين المغزى من وراء كلامش يا أم سيف ، خاطرش عندي ما يتساوى بمال و بنين ولا أرخصه لو دوني ودونه روحي
لكن الأصول أصول ، وإن كان أخوش ضيّعها قبل سنين فأنا ما زلت محافظ عليها
كتمت وجعها في صدرها ، ما ظنّت يومًا أن عبدالمجيد الذي طالما حملها على أكف الراحة سيرفض أن يهديها لها بعد هذا العُمر ، واستنبطت مدى جرحِه .. وهي لا تلومه
بل لام الله من لامه ! قد ترى الأمور من منظورها تافهة بمجرد عودة مياه مجاريها بأخيها .. لكنّ عبدالمجيد يملك وجهة نظر آخرى
وهي بذلك لا تستطيع إلا الوقوف في الحياد ، والمقاتلة حتى الظفر



-
دوى صوت الجهاز على حوض مغسلة دورة المياة مرددًا صداه ، لتستند زينة بظهرها على الجدار وتجلس على الأرض بجسدٍ مُرتجف
سلبية !
نتيجة اختبار الحمل رقم عشرة ، أو خمسة عشر .. أو ربما مئة سلبية !
تمتمت بالحمد والشكر في داخلها ، وعجبًا لها .. فهي لا تتمنى الولد من حاتم في هذا الوقت بالذات
ليس قبل أن تستعيد نفسها وتنتشلها من ماضيها
ليس قبل أن يتداوى حاتم من ماضيه ويركله بقدمه
ليس قبل أن تحدد مشاعرها إتجاهه .. مشاعر مضببة ، مشوشة .. لا اسم لها ولا معنى
مسحت على وجهها بكفيّها ، وعيناها معلقتان على أرضية دورة المياة ، وفي داخلها تتساءل
لما لا تاخذ مانع حمل وترتاح من هذا التوتر والقلق الذي يعقب كل دورة شهرية لها ؟
وكأن الجواب يطرق رأسها بمطرقة حادة .. حاتم !
حاتم بتصرفاته ، بإندفاعه ، بعاطفته المشتعلة ، برغبته المصرّحة في طفل
نعم .. فأكثر من مرة قد صرَح لها عن رغبته في طفلٍ منها .. الرغبة التي كادت تقسم قلبها وظهرها شطرين
ربما يندفع حاتم أحيانًا بعاطفته ويغلبه شعور الأبوة فيدعو بالذريّة .. لكنّها تفكّر ألف مرة قبل الخطوة بعقلها
أجل عقلها الذي سهّل لها اختيار زواج حاتم " التقليدي " بدلًا من اختيار زواج قايد " عن حُب "
وقفت على حيلها هامسة بينها وبين نفسها :
كلٍ له أماني ، وكل شيء عندك بمقدار .. فيّارب عطني وإياه فرصة قبل النِعمة
وقفت بطولها ، حملت جهاز اختبار الحمل وآثرت برمية في نفاية آخرى غير تلك التي أمامها كي لا يراها وتفتح عليها باب السين والجيم
حملت نفسها إلى غرفتها المجاورة .. غرفة ذكرياتها
أغلقت الباب من خلفها وأشعلت المصباح اليتيم "مصباح النوم" القديم بلونه الأصفر المزعج
وراحت تجلس على الكنبة الوحيدة الموجودة هُناك .. أمامها صندوق الصور التي تتطلع إليه في كلّ مرة تعتزل فيها هذه الغرفة
سمعت طرقات خفيفة على الباب لتخرج منها تنهيدة قصيرة
رغم كل المشاعر المضطربة التي تخوض حربها برفقته
إلا أن هُناك امتنان صغير يجوب صدرها لإحترامه لهذه العزلة التي تقضيها .. فهو " مشكورًا " لا يدخل عليها إلا بإستئذان وبعد طرق الباب
أذنت له بالدخول ، ليدخل متعكّزًا بعكازه ونظراته تقع على نظراتها دون زحزحة
جلس بجانبها دون صوت ، محترمًا صمتها بعد إختراقه
لتشاركه هي الصمت حتى عدّت الكثير من الدقائق الطويلة
قطعه هو حين تناول ألبوم صور قديم ، يقلبّه بين يديه وراح ينظر إلى صوره
ابتسامة صغيرة نمت على ثغره ، الألبوم يعود لعمّه مرشد
بطولاته ، مغامراته ، جوائزه القيّمة التي حصل عليها من الطبيعة
انجازاته وافتخاره بأدوات الصيد التي صنعها بنفسه
كم كان عمّه صيّادًا ماهرًا ، ومغامرًا فذًّا ..
أماله بنظره نحوها في شعلة طويلة لا يفقها سواه ، ليُهمس :
تشبهيه واجد !
لتقول بلهجة مزردية وساخرة رغم حيادية النبرة :
المحبة تورث الشبه !
علم ما تعنيه تمامًا ، كيف لا وهو يشعر أنه أصبح مرآتها وجميع مكنوناتها :
الله يرحمه كان بشوش وفيه رجولة مسليّة ، رغم إنه أوسط أعمامي ولكن كان الأقرب لنا حنا يا عيال أخوانه
قالها لتلتفت نحوه بلهفة الجائع والعطشان لاقتناص ما يودّ .. وهي تُريد سماع سيرة والدها بغير لسانها
كأنه علم بما تبتغيه ، فاتكأ بظهره على الكنبة ، ناظرًا أمامه بابتسامة "نادرة":
كان يكرر لنا كثير ( الظفر عمره ما يطلع من اللحم ، والدم ما يصير ماي ) هو أول واحد فكّر يجمعنا أنا وعيال عمي في صف واحد
أول رحلة طلعناها معه وحنّا طلاب في الثانوية ..
أول قنص ، أول مسكة سلاح ، أول ضرمة نار
كان يقول لنا الرجال ما تربيّه المجالس ، الرجال تربيه الطبيعة
تربيه الجبال ، الصحراء ، رمل البحر وجوفه
كانت أول وآخر طلعة جمعتنا معه لأن قايد انصاب يومها
-ابتسم بشبه ضحكة-
طول طريق الرجعة كان يسفّل فينا رايح راد .. أنتو دلوعين ، أنتو عيّارين ، أنتو يبغالكم خيزران على ظهركم
والمسكين قايد ساكت وجع من الضربة ، وخوف من النقاش
لكن رغم ذلك كان أحنّ منا علينا
سكت قليلًا، قبل أن يسترسل في ذكرياته مع عمّه مرشد التي سقطت واحدةً تلو الآخرى
وتلك التي بجانبه غارقة حتى النخاع بوجع اشتياقها وعيناها مغرورقتان بالدموع المكبوتة :
كبرنا ، وكبرت أشغالنا .. توظفنا وما نسينا وسط حوسة التعب نتجمع كل نهاية أسبوع في السيّح ، نضرم النار مثل ما علّمنا
أحيان كثيرة نطبخ بنفسنا .. مثل ما هو علمّنا
وكبر هو ، إلا إن روحه ما كبرت ولا عرفت معنى الكهولة !
لاذ بالصمت مرة آخرى ؛ وكأن الجزء الآخر فُقد جراء ذاكرته المعطوبة
ما عاد يتذكّر الكثير ، خصّ أن بعد وفاة عمه بشهور قليلة تعرض هو لحادثه المسموم .. وهو شاكرٌ لذاكرته التي ما زالت محتفظة بتشوّش الموقف الآخير
حينها التفت لها عن قُرب ، رأى الدموع المتلألأة في عينيها كنجومٍ براقة وسط سماءٍ صافية
وأيقن أنه أسهب في سرد بعض الذكريات حتى أصبحت كالطعنة في قلبها
مسح أسفل عينها ملتقطًا الدموع قبل سقوطها هامسًا :
سيّرته الطيبة ما زالوا يتناقلوها مثل النار في الهشيم
-وبابتسامة أعمق-
وعنده "ولد صالح" ما زال يحيي ذكراه ويقدّسه ليومنا هذا
مثله ما يُبكى ويُرثى يا زينة .. مثل يوضع مثل النُصب للاقتداء فيه
أشاحت بوجهها وهي متلبسّة بصمتها ، احترامًا لوجودها في غرفة لا تتحدث فيها إلا الصور والبراويز و"أشرطة الكاسيت"
وضع الألبوم في حضنه ، قلّب الصفحات واحدة تلو الآخرى
جميعها كانت لمرشد وسط مغامراته ، إما لوحده أو بصحبة أصدقاءه المهوسيين بالصيد
أشرّ بإصبعه لشخص كان يقبع يمين مرشد ، ممسكين في أياديهم بـ" ضبّ " كغنيمة أسرّت قلوبهم ، هاتفًا بدهشة :
أوه ! أبو بدر الطيّار
نظرت له زينة بإستغراب لتُردف :
تعرفه ؟
ابتسم بشبه سخرية ممزوجة بمرح غريب عليه :
من جدش ما نعرف أبو بدر الطيّار اللي سوى عزيمة لمدة ثلاث أيام وراء بعض لما جاب ولده شهادة الطيران ؟
بس غريب ماله حسّ !
أردفت زينة ببساطة وهي تسحب الألبوم وتضعه في الصندوق برفقة أخوانه:
نقل من بيته من سنين ، ومحد ساكن فيه إلا أم عياله وبعض عياله بعد ما طلقها !
هزّ رأسه في أسى ، ثم ما لبث أن عاود الالتفات نحو زينة وعاودت نظراته " الغريبة " التي رمقها أول ما دخل
نظرت له الآخرى بتمعنّ ،
وهي تشعر أن اقتحامه " المؤدب " لعزلتها تكمن وراءه سرٌ ما ، وأن هذا النظرة "المسودّة" التي تعتري وجهه لا تُنبئ بخير :
تبي تقول شيء ؟
قالتها وهي ترمقه بجدية من عرف الجواب ، فلا مجال للّف والدوران ، ليُهتف هو بغموض :
ما اشتقتي لحسن ؟
تجمدت للحظات وارتجف قلبها بلهفة، لتقول بجمود وسط فوضى أحاسيسها:
وش الطاري ؟
هزّ كتفه بخفة مردفًا :
طرى على بالي ، من تزوجنا ما سمعتش تقولي إنش تبي تشوفه أو تزوريه حتى
لتردف زينة بذات الغموض :
بعض الأسئلة مثل الطُعم ، عارف إنك قريب من الموت لكنّك تسعى له
حاتم بجدية ملتفتًا نحوها :
موقفش غريب ، مثلش ما يخاف التجربة ويسعد بشرف المحاولة ولو كانت الجحيم بعينه .. بس كل ما يتعلّق الموضوع بأمش فأنتِ تصيري وحدة ثانية
وديعة ، مرتبكة .. ويمكن خايفة
تنافرت تلقائيًا أجسادهم كمن تنبأ بالخطر ، لتقول زينة بجمود:
وحدة مثلي ما تخاف من التجربة ، لأن ياما صفعتها نتايج التجارب اللي خاضت فيها بعزمها
نظر لها مليًا ليقول بتفكير :
وش سبب استسلامش ؟
وقفت من مكانها قائلة بنبرة ميتة :
العقوق !
أرمقها بنظرات مدهوشة للحظة من تفكيرها الذي بدا لها غريبًا ، لتُكمل هي بعد أن أولته ظهرها بذات النبرة الميتة والروح الجامدة :
ذكرياتها في الصندوق ، تذكرني بالعقوق
هتف بعدم إستيعاب :
الصندوق ؟
لتُهمس زينة بصوت منخفض بشدة ونبرتها تطفح من الوجع والأسى :
تحت غافة العزم دفنت الصندوق
بدا لها أنه لم يسمع ما قالت ، ولم يستشعر نبرتها الحارقة ، ولم يتنبأ بإنهيارها القادم ففجّر قنبلته التي جاء لإلقائها اليوم:
قابلت أمش !
التفتت له بحدة ، ناظرة له بدهشة أشبه بالصدمة ، اقتربت منه خطوات ضئيلة لتقف أمامه مباشرة هاتفة بنبرة محتنقة:
ليش ؟
لم يستغرب سؤالها للحظة ، بل سطّر لها الأعذار والاحتمالات الممكنة ، ليُردف ببساطة :
حق وواجب !
ونبرة ساخرة أردفت زينة :
حق ؟
عقد حاجبيه منتبهًا لنبرتها التي مالت للسخرية ، وعيناها الملتمعتان بقسوة فقال بثبات نبرته :
لي حق عليها ، أم زوجي وزوجة عمي !
زينة بذات النبرة القاسية الجامدة :
طليقة عمـك !
ازداد انعقاد حاجبيه أكثر فأكثر ، بدا له أنه لأول مرة يرى هذا الجانب من شخصيتها ، فتساءل :
مافكرتي تدوري على الحلقة المفقودة بدل لا أنتِ جالسة تدوري حولها ؟
زينة ونبرتها تزداد قسوة ، كقسوة من وُضع في التحقيق على جريمة لم يرتكبها أصلًا :
مثل ايش ؟ مثلًا إن زواج أمي وأبوي جاء بالإجبار ونتج عنه أنا وأخواني ، أو اعتمادها على أبوي لتربيتي أنا والحارث بظنّها إننا عيال مرشد مب عيالها ، أو مثلًا تباعدها وعصبيتها وضربها لنا في غياب أبوي وجدي ؟
أو ممكن تكون الحلقة المفقودة يا ولد عمي هي ورقة طلاقهم بعد ورقة زواجي أنا ؟ أو ...
قاطعها وهو يقترب منها بلهفة المستكشف ليقول ؛
أو الضغط الخارجي اللي كانت تتعرض له طيلة فترة زواجها من عمي
عقدت حاجبيها بقوة عند كلامه الأخير ، ليُكمل حاتم بذات اللهفة :
اللي لازم تعرفيه إن مافي أم تكره عيالها ، مافي أم تتخلى عن عيالها .. هذه فطرة الأمومة يا زينة ، فطرة ما تحيد عنها الأم إلا إذا تعرضت لشيء كان أقسى من استدامة هالفطرة
شدّت ظهرها واستقامت به لتقوم بنبرة جادة حادة :
أمي محرضة من خالي !
هزّ رأسه نافيًا ما تقول ، هو قابل والدتها قبل يومين ، صوّر لها عشرات الصور قبل اللقاء .. رغم أنهم كانو يعيشون بجانب بعض ويلتقي ربما فيها كل يوم وكل أسبوع ، لكن في كل مرة كانت ذابلة ، هامدة ، صامدة ، وراضية بإباءها الذي رأه عند اللقاء
لكن "مريم" التي لاقاها كانت صورة مختلفة تمامًا ، اندهشت من رؤيته ، بل انصعقت بشدة
احمّرت عيناها عندما رأته ، وتكاثفت الدموع فيها فور دخوله .. لا يستطيع نسيان إرتجاف نبرتها ، وهزة جسدها
لا ينسى تلك النظرة العجيبة التي شعر بها تستنجد به ، وترتجيه من أن ينتشلها من بئر النسيّان والتناسي
هي ليست أمراة محرضة من قِبل أخيها ، هي .. ، هتف بها بصوت شبة عالٍ إثر تفكيره :
هي مب محرضة ، هي مهددة !!
شحب وجهها في بادي الأمر ، اجترعت ريقها بقوة عارمة وكأن الستائر بدأت تنسدل لتتكشف من خلالها الحقيقة المتوارية من خلفها .. لتهتف :
وش قصدك ؟
اقترب منها حتى وقف أمامها ، أمسك كتفها بيده الحرة ليهتف بلهفة :
زينة عيوني ما تخطي نظرها .. أمش عاشت طول هالسنوات تحت ضغط فعلي دمّر أعصابها وأتلفها ، وهذا الضغط خلاها تفرّغ طاقته فيكم
الواضح لكم إنها تكرهكم ، وتكره أبوكم .. لهالسبب تخلّت عنكم وقت ما توفى عمي ووقت ما جاتها ورقة طلاقها
بس هي كانت تنقذ نفسها من سوط الضمير ، وعذاب البُعد
ومو بس كذا ، كانت تحاول تنقذكم ..
أكملت زينة كلامه وهي تنظر للفراغ هامسة بخفوت :
تنقذنا من بطش خالي
الآن تذكرت ، تذكرت حين زارتها منذ فترة طويلة عقب إعلان زواجها من حاتم .. حين قالت لها أنها تعلم بزواجها من حاتم وإلا لما طلقها مرشد ، تذكرت تمامًا لمّا انقلبت ملامحها من الدراية إلى الجهل و"تمسكنت" حين دخل عليهم خالها وابن خالها
تذكرت كلام والدها نقلًا عن والدتها لمّا قال ( والله ما ينول الذليل ولد أخوش ، ملكة وجوهرة مثل بنتي ) !
إصرار خالها على تزويجها من ابنه " الذليل " وهي في سن صغير لمدعاة للشك والتفكير .. هُناك أمرٌ ما ناقص
هُناك " حلقة مفقودة " مثلما حاتم يقول :
زينة فكري معي
علاقتش بأمش تعدّت كونها بسبب أبوش
العلاقة الحين بين عمي وخالش اللي هي سبب كل شيء
جلست على الكنبة شاعرة بأن قواها تخور وتضعف ، وصداع كثيف يتمركز في مقدمة رأسها من شدة الأفكار التي تدور وترتطم ببعضها البعض
فلتفكّر ، فلتفكر في أمر لم يكن ليخطر على بالها أبدًا :
أبوي يحترم خالي كثير ، ومن أطراف حديث سمعتها وأنا مراهقة إن خالي هو اللي عرض على أبوي زواجه من أمي ، وأبوي وافق من شدة احترامه له
ما كان خالي يكبر أبوي بسنوات كثيرة .. لكن كانت له هيبة تجبر الواحد على احترامه
الهيبة اللي تحولت لجبروت وطغيان بمرور السنين
-رفعت عينيها له لتُكمل بتفكير-
أذكر إن لما كان عمري 15 سنة أبوي بدأ يمنعنا من بيت خالي ، وكذا مرة اشتد النقاش بينه وبين أمي بسبب رفضها لأوامره .. على قولتها لأنه أخوها الوحيد واللي باقي لها من كل عايلتها
أبوي من يومها وهو متقّلب المزاج ، مادري إذا كنت تذكر ذيك الفترة أو لا .. لدرجة إننا فقدناه لمدة ثلاثة أيام
وبعد بحث طويل لقاه عمي سيف مخيّم في الرملة
هزّ رأسه إيجابًا لتذكره لهذا الحدث الذي " ويا للعجب " لم تنساه ذاكرته .. لأنه من شغِل ساعاته للبحث عن عمه برفقة والده
ويومها وجداه في الصحاري بوجه متجهم ، ومزاجٍ متقلب مثلما قالت للتّو .. وأنه لأول مرة يرى عمه " يدخّن "
وقتها تأكد أن الهم بلغ منه ما بلغ وإلا لما قادته قدماه لدربِ التهلكة
أكملت زينة كمن يكتب الأحداث ويسطر ترتيبها شفويًا :
فترت العلاقة بينهم ، وهذا الشيء أصلًا لاحظوه جدي وجدتي لأننا عايشين في بيت واحد وكل تحركاتنا على مرأى من عينهم
لين ...
صمتت فجأة بوجوم ، وغامت عيناها في بحرٍ غامقٍ أسود .. وكأن أحدًا ما حشر في رأسها مسمارًا بالمطرقة !
نظر لها حاتم بعقدة حاجبيه متسائلًا :
لين ايش ؟ وش صار بعدها ؟
اجترعت ريقها بصعوبة بالغة .. لتُكمل بخفوت واجم :
ليلة من الليالي كنت سهرانة أذاكر للاختبارات النهائية في الحوش ، سمعت فجأة صوت طالع من غرفتهم
ما اهتميت في البداية لان صرنا متعودين لكن اللي خلاني أقوم وأقرب وقتها من الغرفة شيء واحد
-نظر للتساؤل في عينيه لتُكمل-
بُكى أمي .. أول مرة أسمعها تبكي بهذا الشيء ، بالأصح أول مرة من جيت على هالدنيا أسمعها تبكي
صوتها كان يعور القلب .. وتأكدت إن اللي بينهم وصل لآخره وكنت خايفة ، خايفة كل شيء ينتهي بينهم وأتشتت
سمعت أبوي يقول لها " كتبت هالقسم من نصيبش والباقي وزعته على عيالي .. مالي وحلالي كله فداهم ، أتركهم وأنا ضامن صروف الزمان ما تنهشهم " عرفت إنه وزّع التركة علينا وإن أمي خذت أقلنا نصيب
قاطعها بشكل مندهش وهو يجلس بجانبها ليقول بنبرة مستغربة :
لحظة لحظة ..
ما سألتي نفسش ليش واحد حي يوزع التركة قبل لا يموت ؟
نظرت له بعدم إستيعاب ، لم تفهم مقصده مما قال ليُكمل هو بتوضيح :
زينة كان ممكن يكتب في وصيته إن التركة تتوزع بالشكل كذا وكذا ، لكن هو كتب لكم كل شيء قبل حتى لا يتوفى !
الصورة تقريبًا بدت تكمل ..
مسكت كفه بيدها لا إرادي من شدة ما تكالبت عليها الأفكار السوداء والقاسية على رأسها الآن ، وزاغت نظراتها نحو هذه الغرفة التي كانت ملجأ والدها قبل أن يكون ملجأها هي
الصورة بدت تكمل ، بل اكتملت في رأسها رويدًا رويدا
نفور والدتها منهم .. منع والدها من زيارة منزل الخال ، تزايد المشاكل بين أبويها .. توزيع التركة قبل وفاته ، إصرار خالها على زواجها من ابنه .. وفاة والدها .. زواجها من حاتم .. تزايد نفور والدتها
قطرةً فقطرةٍ .. فقطرة ، وكل هذه المواقف تتساقط على رأسها واحدةً تلو الآخرى !
شعرت بلمسة حاتم الحانية على ظهرها ونبرته الحنون باسمها ، لتقفز من مكانها كالملسوعة وهي تبحث في أدراج الدولاب عن ضالتها
وقف حاتم ينظر إلى ربكتها ورجفتها ، والأشبه بجنونها ! وهو مندهش من هيئتها :
زينة على وش تدوري ؟
هتفت بأنفاس لاهثة من بين تنقلاتها بين الأدراج :
الحلقة المفقودة ، الحلقة المفقودة اللي بترجع الصورة لمكانها ويتضحّ الظالم من المظلوم
اقترب منها متعكزًا على عكّازه محاولًا أن يوقفها عن هذا العبث والدمار الذي تُحدثه بالدولاب وأغراضه :
وقفي يا بنت الحلال واهدي ، خبريني على ويش تدوري أول ؟
التفتت له بسرعة طايرت معها خصلات شعرها والعرق يقطر من جبينها من شدة إنهماكها في البحث :
ملف ، ملف فيه أوراق كثيرة تخصني أنا وأخواني .. كانت في واحد من الأدراج ! بس لحظة .. لحظة
تجاوزته وهي تكمل بحثها في الصناديق الموجودة على الأرض التي كانت بعض محتوياتها ساقطة في الأرض !
حتى وقفت عند صندوق به شهاداتهم الدراسية ، وجميع الشهادات التقديرية التي حصلوا عليها هي والحارث طوال فترة دراستهم
لتتنّهد بإرتياح وهي تبحث بداخله عن غاية وحدة ، عن " حلقة مفقودة " ستُكمل اللغز لا محاله
وفي دقائق معدودة قفزت من مكانها فرحة بالغنيمة التي لاقتها .. اقترب منها حاتم وهو لا يفهم شيئًا بحق
تجاوزت أوراق كثيرة ، جميعها ملكيّات مكتوبة باسمها أو باسم الحارث الذي لا يستطيع التصّرف بها الآن لعدم بلوغه السن القانوني
ولكنّها وقفت عند ورقة واحدة .. ورقة هي ضآلتها ومبتغاها من هذه الذكريات المنهلّة ! كانت ورقة " كروكي أرض "
لتردف بجدية بالغة :
بكرة أول ما تشرق الشمس روح لوزارة الإسكان واسألهم عن هذه الأرض وخذ كل تفاصيلها كاملة
تناول الورقة منها وهو يقرأ المكتوب فيها بصورة سريعة ،
رفع عيناه لها قائلًا بإستغراب :
تاريخ تملّك الأرض قديم ، من 2005 ! وش ممكن يكون الغرض منها ؟
أنفاسها تتلاحق بصدرها ، عيناها تغيمان في السواد ، شفتيها ترتجف وتشحب .. همست بثبات كاذب :
بكرة الصبح بنعرف وش الغرض منها
رمى عكازه على الأرض صارخًا باسمها وهو يتلقاها قبل سقوطها بسبب إغماءها المستغرب ، ليحملها بساق واحدة دون الآخرى التي تؤلمه
مددها على الكنبة ، ربّت على خديها بصورة سريعة متوترة من شدة قلقه .. وحين فتحت عيناها بخفوت أردف بغضب بالغ :
أنتِ أكلتي شيء من بعد فطور التمر واللبن اللي خذتيه ؟
عدينا التراويح وبندخل نص الليل وأنتِ ما همّش وش اللي دخل بطنش ووش اللي ما دخل
رأسها على ساقيه ، وكفيّه على خديها .. تشعر ببرودة وفي ذات الوقت تشعر بدفء غريبٌ عليها
دعاها لعدم الوقوف رغم رفض حواسها لاقترابها منه بهذا الشكل ، دّست رأسها في حضنه هاتفة بعتاب :
لا تعصّب علي !
تنّهدت هو الآخر ، ورقّ قلبه لحركتها .. مسح على شعرها الذي يعشق لولباته اللامعة ليردف بحنو :
يابوي ما أعصب عليش من فراغ ، صحتش أهم ماعليش من أي شيء ثاني تافة
استندت بكفيها لتقوم على حيلها ، إلا أنه لم يسمح لها فجذبها من كتفيها وألصقها في حضنه
نظرت في عينيه والتعب اتخذّ مجراه لها :
أنت تقولي هالكلام ؟
تنّهد مرة آخرى وابتسامة صغيرة سرت لشفتيه كمن سمع مديحًا لا مثيل له :
ما تشبعي من هالسيرة أبد ، أنا ولا أنتِ .. الصحة أولى وأبدى من أحزاننا وهمومنا سمعتي ؟
استكانت في حضنه "برضاها" لأول مرة ، والنعاس زحف لعينيها بصورة رقيقة جعلتها تهتف بصوتٍ ثقيل :
بس تشرق الشمس يا حاتم ، بس تشرق الشمس بنسى همي وكل اللي وراه
شدّ على احتضانها ، وكأنه أراد إدخالها في صدره أكثر فأكثر ، كأنه لا يملّ منها ، لا يشبع من رائحتها ، لا يرتوي من عبقها
هذه المرأة كل يوم تأخذ منه جزءًا أكبر من الآخر ، تسيطر عليها سيطرة الدماغ على الجسد .. وما أجمله رضاه على هذه السيطّرة
همس بصوت خافت جدًا لم تسمعه لانغماسها في قيلولتها :
إن كان هذا بيقربّش لي أكثر ؛ فوالله ما تشرق الشمس إلا والبشرى عندش
-
-
-
في صباح اليوم التالي .. ها هو حاتم يجلس أمام إحدى موظفي وزارة الإسكان الذي يقوم بتفقّد " كروكي الأرض " :
الأرض باسم مرشد بن عزام آل عزم
قالها الموظف ليمدّ له حاتم ورقة آخرى من ضمنها :
هذا التوكيل سواه لبنته بحيث يتيح لها التصرف في الأرض بعد ما تبلغ الـ18 سنة
هزّ الموظف رأسه ليعاود النظر نحو جهاز الحاسوب ، وماهي الا دقائق حتى التفت بنظراته المتسعة بصدمتها إلى حاتم :
لك علاقة براعية التوكيل ؟
استغرب حاتم صدمته لوهلة ، لكنه هتف بثبات :
أهلي!
وقف الموظف من مكانه مستأذنًا ، ليعود بعد خطوات ومعه شخص يبدو أنه رئيس القسم ، صافحه مرحبًا بابتسامة :
ياهلا أخوي شرفتنا ، أنت تعرف إن وزارتنا والوزارة المالية تدور على مالك هذه الأرض من كم سنة؟
حافظ حاتم على ثباته منتظرًا توضيحٍ ما ، ليُكمل الرجل :
لنا فترة نتصل على الرقم الموجود في ملكية الأرض بس يعطينا مغلق
ابتسم حاتم بمجاملة :
عمي مرشد الله يرحمه متوفي له 7 سنين ، بس ليش تدوروا عليه ؟
نظر له الموظف وهتف بإندهاش :
ليش ندور عليه ؟ طال عمرك هذه الأرض معرقلة وحدة من أكبر المشاريع الحكومية ، ووزارة المالية تدور على راعيها عشان تشتريها من عنده .. تعرف بكم تُقدّر ؟
بـ7 مليون ريال عماني !
صُدم حاتم مما قاله الموظف ، وصُدم أكثر بالسعر المقدّر للأرض
وهاهي أخيرًا تتضح الصورة أمامه .. كاملة وحقيقية




-
طرق نافذة المطبخ الخارجي عدة دقات متتالية ، ليوليّها ظهره بعد ذلك حين انفتحت النافذة وتبيّنت له من خلفها ببرقعها الذي يبدو أكثر سترًا من الآخر :
جدش يقول هاتي صندوق الطماطم والباذنجان من داخل
قالها بهدوء ثابت دون النظر إليها ، أغلقت النافذة بعد إنتهاء كلامه ليشعر بقرقعة مفتاح الباب الذي بجانبه
فيفتح الباب وتتبيّن الجوهرة من خلفه لتقول بجدية :
وراك عند الباب !
دخل بخطوة واحدة والتفت وراء الباب ، ليحمل الصندوقين فوق بعضهما البعض وهمّ بالخروج
لكن قبل خروجه توقف على طرف الباب ملتفتًا إليها بثباته:
بخاطري سؤال
الجوهرة دون أن تنظر إليه هتفت بجدية :
تعلّم ما تسأل كل اللي خاطرك فيه ..
ليقول قايد بعناد :
إلا هالسؤال
التفتت إليه عاقدة حاجبيها ونظراتها الصقرية تجوب صفحة وجهه :
ليش يعني ؟
ابتسم ابتسامة صغيرة جدًا سرعان ما دمحها بجديته :
يمكن لأني أتحمل جزء من أسبابه !
صمتت في تساؤل ، ليسأل هو السؤال الذي يؤرقه حين ينظر إلى جبس رقبتها الصغير :
وش صار عليش حتى تتأذي بكل هذه الجروح والكسور ؟
نظرت له الجوهرة مطولًا ، لتقول بلا مراوغة على غير العادة :
نفذّت خطة بعض الناس ، ولما شفت جدي متغافلني عشانه ركضت من المستشفى لبرا
-وبسخرية-
وشاء ربي إن سيارة تصدمني وما ينقذني غير جدي ! شفت كيف الأقدار .. حاولت أهرب منه ، وجابني القدر له
أنزل قايد رأسه للأسفل ، ظلّ يحملق في الأرض بتفكير ، رافعًا رأسه بعد ثوانيٍ طويلة مبتسمًا ابتسامة واسعة :
اسمي قايد !
نظرت له بدهشة ، همهمت بعدم إستيعاب لمغزى كلامه وموقعه من الإعراب في ظل شماتتها .. ليُكمل :
اسمي قايد ، لا بعض الناس ولا الغبي !
وترا تجازيت بذنبش إن كان هذا بيريّح قلبش ، ماقصرَ عمش حطني في التوقيف كم ساعة وعاملني معاملة لاجئ غير شرعي وأنا مجرد من هويتي
قال ماعنده واستدار بجسده وهو ما زال محتفظًا بابتسامته التي لا يدري بأي معنى هي .. وفي ثانية كانت توقفه بصوتها المخملي الحاد :
لحظة .. ياقايد !
سمع اسمه من فاهها بنبرة مختلفة عمّا كان يسمعه دائمًا ، تلك النبرة الممتزجة بالفوقيّة والإباء .. والخجل ربمّا
التفت ينظر إليها بتساؤل دون أن ينبس ببنة شفه
الجوهرة بقوة جادة :
أولًا ما يبرد خاطري إذا تجازى شخص بذنبي ، صح أنت خططت .. بس أنا بدوري كنت راضية ، لذلك أتحمل جزء من اللي صار لك
وحدة بوحدة ، ما بيننا محاسبة يعني !
هزّ رأسه بإيجاب وهو ما زال قابعًا في صمته ، أكملت بذات النبرة وربما بجدية أكبر:
ثانيًا في شيء لازم تعرفه يخصّك أنت ، خذ الصناديق عند جدي ولما ترجع بتحصل جهاز على طرف الدريشة
اسمع اللي يخصك ، ورد الجهاز مكانه
قالت ماعندها لتقترب من الباب وتغلقه رغم أنه كان يقف على حافته ، غير مبالية بلمحة الاستنكار التي مرت على وجهه واستقرت
وضعت الجهاز على النافذة بعد إغلاقها وظلت تنظر له من خلفها شاكرة للإنعكاس الذي لا يظهر ما بالداخل
وبعد دقائق من الإنتظار ، عاد قايد !
حمل الجهاز بين يديه والذي تبيّن له أنه جهاز تسجيل صوتي ، ضغط على الزر المعنّي وظل يسمع ما يُقال
انساب صوت الشيخ وسويلم من خلفه يداهنه .. بل ويجادله فيه هو !
جاء حوارهم مبهمًا له في بادي الأمر ، حتى تبيّن من زجرة الشيخ الغاضبة لسويلم وهو يقول له :
ولدك مات بإرادة ربّك اقنع وسلم أمرك لله ، قايد ماله دخل
اندهش قايد من اعتراف الشيخ لابنه في هذا الوقت بالذات وانقبض قلبه حين جاءه الحوار متسلسلًا
-روح ولدي بين يدين قايد
-يدينه نظيفة من دم ولدك
-ليش تدافع عنه ؟ ليش تبريّه من تهمته اللي المفروض توديه لحبل المشنقة ؟ ليش يبه جبته لهنا ؟
-ما يهمك ، اللي يهمك براءته من موت ولدك وأسأل مطر إن كانك ما صرت تصدق أبوك
-مطر؟
-مطر اللي تبّلى على قايد !
-تبّلى على قايد ؟ يالله يارب .. يبه أنت وش تقول ؟
-لا تخليني أعيد وأزيد في كلامي ، اطلع من هالعزبة وخلي قايد لي
-إذا ما كنت جايبه عشان تثأر لحفيدك ، ليش جبته هنا؟
عجُب قايد من الصمت الطويل الذي مرّ ؛ ولم يقطعه سوى سؤال سؤيلم مرة آخرى بنبرة مصرّة :
-ليش يبه ؟ ليش جايبه .. لمن تبغى تثأر ، أنا شفت نظرة عيونك وقتها وحسيت بحرقتك بس ما كانت عشان ولدي صح
ما كانت عشانه ، عشان من ؟
-أختك !
-أختي ؟!! أختي الله يرحمها وش دخلها بقايد ؟
-لا تسوي نفسك غشيم وأنت تدري بالسالفة .. قوم وفكنّي من ملاغتك الفارغة
صمتٌ ألفّ بسويلم كما لفّ قايد الصامت في صدمته .. وهو حتى الآن لا يفهم شيئًا مما يسمع
ولعلّ سويلم وقتها أراحه من التفكير
فنبرته بعد كلام الشيّخ جاءت مندهشة ومصعوقة حين قال :
-سالفة عذاري وسعيّد الزفت ؟ تقولها صادق يا يبّه !!!! هذه السالفة اللي كشفتها أنا وضربتني يومها بسببها وهددتني لو تكلّمت بتذبحني ؟
-أنت فاهم ، ما يحتاج تسألني!
-مستحيل .. مستحيل ما أصدق
-من حقك ما تصدق ، محد عاش الأيام ذيك جنب عذاري غيري ، محد عرف همّها غييري .. وحسرة موتها ظلّت في قلبي وماهي بمنطفيه
-يعني الكلام كان صحيح ، اللي سمعته صحيح ! النذل كان طايح بغرام أختي وواعدها بالزواج بس تخلّى عنها .. أختي طاحت مريضة من غدره وماتت بسبب هروبه
-أحذرك مرة ثانية ان طلع هذا الكلام برا هالعزبة اعتبر نفسك ميّت !
-يعني ماقدرت تنتقم من سعيد طول هالسنوات وظّل الانتقام في صدرك ، ولما جات لك هالفرصة .. اتهمت قايد فيها!
-اقطع الكلام
-يبه افهمنييي !!
-اطلع من هالعزبة ولا ترجع ، ما أبغى أشوف وجهك لا بخير ولا بشر
راح سويلم يهتف وصوته يبتعد رويدًا رويدا عن منطقة التسجيل وهو يقول :
-ياويلي من الله ظلمته ، ياويلي من الله اسأت الظن فيه ! غفرانك يارب
أغلق قايد جهاز التسجيل وعاد وضعه على طرف النافذة ، وجهه متلّون بمختلف الألوان ، صدره يموج في تخبطات مشاعره ..
أسوء ما في الإنسانية أن يقدّم الآدمي تضحيته دون فائدة ، ودون من يستحقها
أسوء ما في ظلمة مشاعره أن يُغدر من أقرب ناس إليه .. وأن يرمي نفسه في مرمى الظلم لينتشل الآخرين من تخبّطهم
لا يصدق هذه القصة ، قصة والده وابنة الشيخ
فكيف تُصدق وكيف يمُكن أن تكون ؟
شعر بدوار شديد ، وشحوب وجهه خير دليل على ما سمعه ، لا يعلم ما الغاية من إسماعه هذا الكلام
وهو كان قد رضي بقدره هُنا ظنًا منه أنه ينقذ نفسه من حبل المشنقة وينقذ أهله من سيء السمعة
ولكنه لن يرضى بعد اليوم أن يُوضع موضع المغفّل ، ويُستغل هنا وهناك لأجل مقاصد شخصية ليروح هو ضحيتّها
الشمس في كبدٍ السماء ، ما زال النهار في منتصف
صيّامه وبعدها صدمته أثرا عليه فكاد يترنّح من هول ما سمع ..
توقف في منتصف العزبة
دفن قدمه في الرمال حتى كادت تغوص
رفع عيناه إلى قرص الشمس اللاهب الذي يرسل أشعته لدماغه
فيفور وتفور أعصابه أكثر ، لتغلي تلك الحرقة في صدره أكثر فأكثر
خُدع ، اُستغفل ، اُحتال ، ضُلل !
فأي نعت آخر يجب أن يُنعت به في ظل غباءه وتضحيته البالية ؟
شعر بالدموع في مصاف عينيه ، اغمضهما بقوة رافضًا ذلك
فتح عينيه ونسمة هواء حملت الرمال إليهن
رأى أمامه بشكّل مضبب .. سراب
سراب حرارة الشمس ، أم سرابٌ حقيقي ؟
عيناه مشوشتان ، يتقدم منه السراب شيئًا فشيئا .. لا يُبالي
بل ينتصب بظهره!
يقترب منه السراب ، يبدو حقيقيًا أكثر مما يجب !
يتكلم ! هل هُناك سرابٌ يتكلم ؟
صوتٌ لطالما تشعّب في خلايا صدره من حنيّته .. ينده له باسمه ، ثم يقول له بهدوء :
يا قايد ، يابو سعيد!
"أبو سعيد" ينعتها فيها والده أكثر من كل شخص .. هل والده أمامه أم صدمته صوّرت له قدوم والده ؟
لكنّ تلك الكف على كتفه افاقته من " أحلام يقظته " ، مما جعله ينتفض ويتراجع للخلف شبرًا كاملًا
وعيناه تجوبان وجه والده المبتسم ، وصوته الفرِح :
جيتك ولقيتك يا قايد ، لقيتك أخيرًا
أخذ نفسًا بطيئًا ، والده أمامه .. حتمًا لا يحلم ! ولكن مالذي يقصد به من " لقيتك أخيرًا "
سحبه سعيد ليغرسه في حضنه رغم فارق الطول الذي بينهما ، ورغم ذلك ظّلت يدا قايد مسبلتان بجانبه دون ردة فعل تُذكر
يمسح والده على ظهره فيهتف بنبرة مشتاقة :
اللهم لك الحمد شفتك بخير وعافية ، الحمدلله الحمدلله ما أذاني فييك !
تراجع قايد بجمود متصبّر ، نظر له بلا ملامح :
أخيرًا جيت يبه !
أقلقه جمود ملامحه ونبرته ، لكنه هتف بنبرة سعيدة :
جيتك يابو سعيد ، لقيتك بعد بحث طويل والشيّخ سمح لي أقابلك
ابتسم ابتسامة مذبوحة على آخراها :
حلو ، جميل .. يمديكم الحين تصفوّن اللي بينكم
وتخلوني أكمل حياتي اللي بختارها
ارتبك سعيد من كلامه ، وآلمه أنه لم يستقبله ذاك الاستقبال الذي كان يرجوه فهتف متسائلا :
وش فيك وأنا أبوك .. وش هو مسوي فيك شيخ الوكيل ؟
ما كفّاه حرق قلبي عليك بغيابك
تراجع قايد أكثر محتفظًا بذات الابتسامة :
تعرف يبه ، مافي أحد كثري هنا محروق قلبه ، مب على أحد
على نفسي بس ..
فغر سعيد فاهه ، نظر له بعدم فهم :
وش تقصد ؟
كتّف قايد يديه وسط صدره ، وحافظ على تلك الابتسامة الشبة ساخرة :
روح تفاهم معه يبّه وصفّوا اللي بينكم ، حرام ترا يوم من الأيام كان بينكم بنت بريئة .. مثل ما بينكم اليوم ولد مظلوم
صاح فيه والده بلا استيعاب :
جنيّت أنت ؟ وش هالخرابيط اللي تقولها
ضحك ضحكة قصييرة محمّلة بالألم والأسى والقسوة :
لا يبه ما جنيّت ، ما هو احنا جالسة نلعب لعبة ونحشر فيها أشخاص بريئين مالهم ذنب إلا ذنب الحُب
أتمنى تكون راضي الحين يابو قايد ، أتمنى وجع الغدر في قلبك خف
افرح يبه .. مستقبل ولدك ضاع ، خسر وظيفته
خسر احترامه و تقديره ، خسر عائلته ، خسر البنت اللي يحبها
في سبيل رضى أبوه
افرح يبه وارقص فرح أتمنى رضاك يشملني بعد هذا كله
دوت صفعة على خد قايد مصدرها سعيد ، وكلامه الساخر هذا يغرس في قلبه آلاف الأوجاع والحسرات والندام ، يذكره بما مضى ، يذكره بجبنه ، بهروبه ، بوعوده الزائفة ! يذكره بأن هذا الرجل حُتم عليه أن يؤخذ بذنبه هو !
يذكره بتلك التي تركها وراءه ، فماتت من شجنها .. وذاب هو في ذبول الحياة من شدة حسراته عليها
هُنا احتدت نظرة قايد دون أن تحرك فيه الصفعة ساكن ، وكأنها لا شيء ضمن صفعات قلبه التي تلقاها ، وبصوت عالي غاضب وهو يرى الشيّخ يقف خلف والده :
لعبتكم خلّصت يبه ، انتقامك خلّص يا شيخ
قتّال بنتك والغدار هذا هو قدامك .. تصافى أنت وإياه مع بعض
الغبي المغفّل اللي انقص عليه طلع برا حساباتكم من اليوم
قال ماعنده واستدار داخلًا إلى المكان الذي ينام فيه منذ أن جاء إلا هنا
جمع حاجياته ووضعها في حقيبة الظهر التي جاد بها الشيّخ عليه .. حمل هاتفه محفظته التي سرقها بغتة من جيب الشيخ بعد الحادث الذي تعرضا له هو والجوهرة
وخرج من المكان بخطوات ثابتة تدكّ بها الأرض من تحته دّكا
لم يضع عينه في عيني والده ، لم يأبى لرأي الشيخ أو حتى احتجاجه
وقبل أن يخرج أمسكه سعيد من كتفه قائلًا بتوسل :
اسمعني ياولد ، اسمعني وافهم مني أول .. أبوك يكلمك وتمشي عنه كذا !
أبعد قايد يد والده بهدوء يُحسد عليه ، وهتف دون أن ينظر إليه :
بتبرر ؟ لا تبرر يبه .. سكوتك وقت جووا عيال الوكيل يسحبوني مثل الحيوانات ما يتبرر لو بأسباب الدنيّا كلها
-نظر إلى الشيّخ نظرة حادة-
وقليل الشيمة اللي ينتقم من شخص مظلوم ، ما ينتأمن له على روح !
سعيد بجدية أكبر من جديته :
وين بتروح ؟ أنا جاي أرجعّك لبيتنا .. اليوم بترجع معي يا قايد وما للشيخ حساب إلا معي
ابتسم قايد ابتسامة مرتجفة ، ميتّة من شدة القهر الذي يتراعد في صدره :
تأخرت يبه ، لو جاي قبلها بكم ساعة بس .. كان ألقى اللي يغفر لك إعترافك
اسمح لي يبه ، وسامحني .. قايد ما ينقاد من اليوم ورايح
اقترب منه بخطوة صغيرة ، قبّل جبينه بقبلة مرتجفة حملت رغم الأسى حُب باقٍ في صدره !
نقل نظراته إلى نافذة المنزل الوحيد في هذه العزبة والذي لا يسكن فيه سواها ، أودعها بنظراته ودعى لها بالخلاص
ليحمل خطواته خارجًا من هذه العزبة .. إلى الأبد
وصراخ والده الموجوع من خلفه يتعالى بسؤاله :
وين بتروح ؟
شد على ذراع حقيبة ظهره بقوة كادت أن تعتصره وهو يهتف بجدية حادة :
عند اللي ينصرني .. سواء كنت ظالم ولا مظلوم
-
ظل ينظر إلى ظهره الراحل بنظرات حسرةٍ ولوعة ، خسر ابنه فعاد ليسترده ، لم يكن يعلم أنه قادم اليوم لكي يخسره مرة آخرى .. وربما هذه المرة خسارة لن تصلح ما أفسدته مشاكل الماضي المؤلم
شعر بالدموع تصعد لمصاف عينيه ، وقلبه يهتك صدره من قوة نبضاته الصادرة عن ألمٍ وجوى
التفت نحو الشيّخ الساكن وعلى ثغره ابتسامة ساخرة ، ليقول بنبرة تخللها وجع:
أحصد ما زرعته
تقدّم سعيد شبرًا ، وعيناه تطفحان بالحقد الذي لم تطفئه السنون ولم يطفئه الموت:
أحصد؟ وش زرعت أنا عشان أحصد
كل شيء أنتو زرعتوه فينا، أنت يا أبو عذاري
واليوم تجبرونا نحصد ثمرة أوجاعنا في عيالنا
هذا اللي سمحت لي أدخل عشانه؟ هذا اللي أنت ناوي عليه من تالي؟ تحرق قلبي بولدي مثل ما حرقت قلبك ببنتك
ما عطيتني فرصة أشرح له جيت سممت عقله بحكاية مغلوطة ؟
اتكأ الشيخ بكفيه على عصاه بذات النبرة:
يكون لعلمك ما خبرت ولدك عن حكايتك الخاي
ماهي موضع شرف لي عشان أقولها لولد عدوي
سعيد بقهر يأكل قلبه:
وكيف عرف؟
تنّهد الشيخ لوهلة بابتسامة ساخرة
خيبة أبوه على وجهه .. عرفته بالحكاية كامل
تقدم سعيد أكثر حتى ظل مواجهًا له بنظرة حادة ونظرة قوية:
تذكر يا شيخ يوم جيتك في مجلسك بعد سالفة الأرض؟
ظل ثابتًا في مكانه ينظر إليه من علو ليكمل سعيد:
يومها كلمت أخوي إني بأجي مع أهلي وعشيرتي عشان نخطب بنتك الوحيدة لي
شحب وجه الشيخ فجأة واهتز في مكانه مصدومًا مما يسمع:
كل شيء كان راح يرجع لمكانه الصحيح ، عذاري كانت بتكون حلالي والأرض كانت بترجع لبيت العزم لولا التزوير اللي زورتوه في ملكيتها
بس أنتو ! أنتو بأحقادكم سمحتوا للموت يحول بيننا وبينكم
جاوبني بالله عليك قطعة أرض اليوم خاربة بسبب قلة الاهتمام كانت تسوى روح بنتك؟
ارتجف جسده مقشعرًا ، لو كان بينه وبين بقاء ابنته وسلامتها روحه لما تردد لحظة واحدة في إهدائها إليه
شعر بقلبه ينزف نزفًا شديدًا حين هتف سعيد بقسوة:
لا تتباهى ويأخذك الغرور إنك انتقمت مني في ولدي لأنك قبلي انتقمت من بنتك عشان قطعة أرض تافهة
وإن كنت ناوي تعيشني في حسرتي فأنت عشت وبتموت بحسرتك على بنتك وثأرك اللي ما نفعها وهي تحت الأرض
اللي مثلك عايش في خيباته! فلا تظن إنك انتصرت
بصق ما في صدره كالسموم لتنغرس سكينتها في قلبه الكهل الذي أصابه الوهن والخور من شدة ما سمع
تهادى من طوله ناظرًا لظهر سعيد المنحني رغم ما رأه من قسوة وشموخ
ووحده الألم من ينخر عظمه كمرض مزمن لا علاج له
شعر بيدين تسندانه قبل سقوطه ، فالتفت ببط ينظر إليها
إلى جوهرته المعذبّة من قبله:
ذنبكم إنكم خذيتوا الأبناء بذنب الآباء ، بس ما فات وقت المغفرة يا جد !




-بعد أيام طويـلة-


"عيدش مبارك"
هتف بها بابتسامة رائقة وهو ينحني من أعلاه ليقبّل قمة رأسها واصابعه تأخذ طريقها لخصلات شعرها اللولبية اللامعّة
لترفع رأسها إليه وسط سرحانها بابتسامة صغيرة :
أيامك سعيدة !
همس بخفوت تستدعيه الغرفة :
ليش ما جهزتي للحين ، الساعة 5 ونص فجر بنتأخر على بيت جدي !
تنّهدت مستقيمة في جلستها بعد أن كانت تحتضن قدميها لصدرها :
بنزل بعدين ، بعد صلاة العيد .. أنت خذ سيارتك وألحق على الصلاة
عقد حاجبيه لوهلة فلم يكن هذا اتفاقهم بالأمس ، اتفقا على أن يذهبان لبيت الجد عزّام لتناول إفطار العيد معًا ثم للمخرج ( حيث تقام صلاة العيد وتُفتح الدكاكين للأطفال ) وبعدها يعودان مرة آخرى :
وش غيّر الخطة عن أمس ؟
وقفت مكانها لتجاريه في الوقوف هامسة بنبرة ذات مغزى :
غيرناها لما تقتضيه المصلحة العامة وبتكون كالتالي
بتجهّز وبمر على أميم ، عارف عرسها بعد يومين وعيدها ذا السنة في البيت حسب أوامر عمتّي.
بعدين باجيب البنات كلهم بسيّارتي ونلحقكم بيت جدي بعد الصلاة
نظر لها بنظرة من يحاول استنباط ما يجول في خاطرها ليُردف باستفسار مقصود :
وبعدين ؟
زينة بجدية وثقة :
بنزور أمي .. أنا وأنت
ابتسم ابتسامة واسعة وسرعان ما اندمح نصفها ليقول بغموض قاصد :
بسألش مرة ثانية ، وش غيّر الخطة عن أمس ؟ لأن أمش ما كانت من ضمن الخطة حتى أمس الليل !
زينة بذات النبرة الواثقة :
اضطرينا نخليها من ضمنها ، فيها شيء ؟
اقترب حاتم ليردف بنبرة حازمة :
وممكن تتكرمي علي وتخبريني وين رحتي أمس الليل لمّا استأذنتي مني برسالة وأنا في بيت أبوي ؟
صمتت لبرهة ، ترمقه بذات النبرة الواثقة والجادة فيما تقول وتفعله .. لتهتف بعدها بحزم وهي تتجاوزه لدورة المياة :
بتعرف بعدين !
مسك عضدها قبل أن تهرب " كعادتها " حين تعجز عن الكذب وعيناها في عينه ليقول من بين أسنانه:
ما حزرتي يا حبيبتي ، حركة الاستغفال هذه ما تمشي علي
وش غايتش من المكتبة لما رحتي لها أمس من وراي ؟
ارتجف جسدها بخفة ! لا من اكتشافه لمكان ذهابها ، بل من الكلمة التي قالها فخرجت بنبرة رغم حزمها وغضبها .. رقيقة !
رقيقة ؟ وأما أرق حروفها حينما خرجت من فاهه ، فيا تُرى أخرجت من صميم قلبه كذلك ؟
لم يكن حاتم واعيًا للكلمة التي يقولها لأول مرة لها ، فخرجت منه بعفوية تامة ممن اعتاد على قولها كثيرًا:
زينة تكلمي ، وش سويتي في المكتبة عشان تروحي بنفسش وما تطلبيها مني ؟
هزّها من يدها حتى شعرت بألم طفيف يطوف بها ، ثبتت على موقفها بصمود كاذب :
كلها كم ساعة وتعرف ، اترك كل شيء لوقته !
أبعد يده عن عضدها ، وقف مقابلًا لها هاتفًا بجدية أكبر:
واللي يقول ما بتخطي شبر ولا بتروحي مكان إلا لما أعرف وش وراش ؟
شعرت بالغضب يحول بينها وبين صمودها ، لتقوم من بين أسنانها :
حاتم ما هو وقت عناد ودقّ رؤوس ، بس نطلع بيت خالي راح تعرف وش سبب روحتي أمس للمكتبة
حاتم بغضب أسود من مماطلتها ، ورغبتها في إخفاء المزيد عنه :
وأنتِ لا تخليني اعاند أكثر وأدق رؤوس مشتهية دّق !
قاطعته زينة بغضب عميق :
نعم يا ولد عمي ؟
اقترب حتى أوشك على الإلتصاق منها ، مسك فكّها باصبعيه الاثنتين ، ينظر لعينيها التي يطفح منهم الغضب ولأنفاسها اللاهثة المشتعلة بغضبها ، همس :
ماهو بس ما راح تروحي بيت أمش ، ما راح حتى تنزلي بيت جدي .. فالأحسن لش من الحبسة هنا تقولي وش اللي مخبيته عني
شعرت بالغضب ، والضغف في آن واحد .. الغضب من تسلّطه الذي عاد بعد أندثر منذ أيامهم الأولى ، وبالضعف من تلك العضلة الراغبة في التمرد وطرق أبواب أُغلقت منذ زمن
فهي تعترف ، لا تقدر على مواجهة غضبه الأسود التي رأته جيدًا في إحدى " حالات جنونه " التي بدأ تتناقص شيئًا فشيئا
لكن من يدري ، ربما شيطان الألم والتمرد ما زال ينخر أنيابه بداخله .. وهذا الوجه هو ما يُقال عنه " الوجه الثاني "
لذلك أبعدت يده عن مجال فكها ، تراجعت خطوة للخلف وهي تفتح أول درج من تسريحة الزينة .. أخرجت ورقة ثم اقتربت منه لتصلقها في صدره قائلة بجدية موجعة :
في طريقة وأسلوب ألطف حتى تطلب مني شيء .. تعلّم عليها وبدل العناد والتنازل راح تلاقي الرضى
مسك الورقة وهو ينظر لعينيها ، يودّ لو يغوص في عينيها ويكتشف ما يدور في خلدهما .. يشعر بهما تتحدثان ألف مرة في الثانية ، يشعر بهما يثرثران بكلامٍ لا تفقهانه عينين كعينيه الصمّاء
تجاوز عينيها بصعوبة بالغة ، قرأ الورقة وما بها سريعًا والدهشة ثم السخريّة تنشأ على وجهه :
صك بيع الأرض المليونية باسم زينة بنت مرشد بن عزام آل عزم
-رفع الورقة وعيناه لها بذات الابتسامة-
وطبعًا مزوّرة ! بس ليش يا ترى ؟
أردفت بشموخ وإباء وهي تنزع منه الورقة :
الفطين ما يبي أحد يخبره ليش ، لأنه عارف الأسباب
كتّف يديه أمام صدره بنبرة جامدة :
بتستخدميها كورقة ضغط ، وبنفس الوقت كتهديد .. ويمكن لها مآرب أخرى
-اعتدل ينظر لها بجدية-
اتساءل صدقًا من الشخص اللي ناوية تنتقمي منه بهالحركة .. أمش ولا خالش ؟
احترقت بغضبها من سوء ظنه مرة ، ومرة من نبرته المستهزئة بما تريد فعله .. فهي تظن أن بهذه " الحركة " ستمنع عنها أذىً كثيرًا تعرضت / وستتعرض له !
تقدمت منه ، سحبت الورقة من يديه ورفعتها أمام وجهه مباشرة وبغضب هامس :
أنتقم من خالي ، لأن وحسب ما فهمت من آخر المستجدات فخالي زوّج أمي من أبوي طمعًا في فلوسه
اللي ما كانت من كثرها في ذاك الوقت ، بس لما شاف إنها تتزايد بمرور السنين وصار يدخّل الآلاف من إستثمارات ( بسيطة ) .. طمع فيه وفي فلوسه
وايش سوا يا ترى ؟ حرّض أمي على أبوي ... لااا لحظة ، لحظة
أقصد هدد أمي بنذالته وخلاها تؤمر أبوي إن يسجل لها كم xxxx باسمها حتى يستولي عليهن
-ابتسمت بإزدراء وجل-
تخيّل ايش صار ؟ اكتشف أبوي نوايا خالي ومساعي أمي عشان كذّا تنازل عن قسمه من مزرعة جدي وكتبه باسمها
بس الطمّاع والغدار ما وقف عن هالحد ، عرف بأمر الأرض اللي تبيها الحكومة بالملايين فسجّلها أبوي باسمي ! ولما يأس من أبوي حّول علي
سعى عشان يزوجني ولده الإمعة بظنّه إنه بهالطريقة راح يقدر يضمن مالكة الأرض ، والأرض
-تراجعت خطوة وابتسامتها المزدرءة تزداد-
لكن أبوي كان متفطّن له فعشان يقطع سعيّه .. زوجني لك
مسرحية رهيبة ماقدرت أحصل لها عنوان ، بس من ضحيتها ؟
أوبس عفوًا .. أقصد بطلتها ؟
أنا .
مسح وجهها بنظرات حنونة ، وضع يديه حول عضديها بمؤاخاة ليُهمس بخفوت :
زينة ، بهذه الحركة أنتِ ما راح تفرقي عنه بالنذالة .. هو هدد أمش طول هالسنوات وأنتِ بتستخدمي نفس أسلوبه .. مهما كان يظل خالش ، أخ أمش الوحيد ! معادلة غير أخلاقية ماهي من شيمش
أبعدت يديه عنها ، أعطته ظهرها لتُردف بنبرة قاسية :
ما خلّى فيها أخ وأم ، ما احترم حتى الدم والدم دومه يحن .. تشرّب الجشع والطمع حتى صار اللي صار عليه اليوم .. طاغية
العين بالعين ، والسن بالسن ، والجروح قِصاص ، مش كذا يا ولد عمي ؟
ألتّف نحوها ، احتضن وجهها بين كفيّه وهمس بنبرة فائضة الحنان ممتدة بالقوة :
أبغاش تكوني متأكدة إني واقف معش في كل الظروف ، لكن الأسلم نفكّر بطريقة ما تجرح أمش .. ما تقولي خايفة من عقوقها ؟ ماتعرفي يمكن أذيتها في أخوها تدخل من ضمن العقوق
أسهبت تنظر إليه مطولًا ، والعزم رغم ذلك يطفح من عينيها .. ربما لا يعلم حاتم أنها دائمًا ما تكون مصرّة على أي خطوة تقررها سواء كانت النتائج معها أم ضدها ، وربما يحسب صمتها الآن علامة الرضى .. لذا هتف وهو يقبّل أنفها بابتسامة :
أوعدش نطلع من مخرج الأقل أضرار .. لش ولأمش
بس الحين أنسي هالورقة واللي ناوية عليه
-تراجع للخلف وابتسامته تزيد-
أخرتيني عن صلاة العيد ، جهزي وبس تخلصي نزلي بيت جدّي
خرج هذه المرة بلا عكاز يتعكز عليه بعدما بدأت ساقه بالتماثل للشفاء رويدًا رويدا ، تنظر لظلّه الخارج من الغُرفة القابعة في الظلام إلا من إنارة بسيطة صاحبها إضاءة الفجر الزرقاء ، ينهشها التردد بين وبين ، لكنها هذه المرة أكثر عزمًا من أي مرةً آخرى
به أو بدونه هي قادرة على ردم أخطاء الماضي التي لاحقتها وإن لم تكن تحملّت جزءًا منها ..برفضه أو بدعمه تستطيع وضع نقاط حروف هذه المرحلة من حياتها
لتصبح المسيّرة ، والمسيطرة .. لا المخيّرة والمغلوب على أمرها



-
تلّقى الحارث صفعة محترمة على رأسه من يد قايد التي تفوقه حجمًا وقوة ، ليهتف قايد من بين أسنانه بغضب :
اثبت مكانك لا أقلع رأسك من مكانه !
مسك الحارث رأسه وهو يشعر بالدوار نتيجة الضربة القاضية التي أخلّت بتركيزه ولكن لم تخلّ بتوازن لسانه ، ليقول بنبرة مندهشة :
صدق بالله عليك رعيت مواشي وحلبت بقر وأطعمت الحيوانات ونمت بين الدجاج ؟
عضّ على لسانه بقوة ويداه تتحركان بصورة سريعة ومحترفة على رأس الحارث وهو يثّبت ( المَصْر ) عليه ، ينعي الساعة التي أخبر بها الحارث مغامراته الشيّقة في المنفى :
صدق صدق ! كم مرة أقولك إنه صدق !
فتح الحارث عيناه على وسعها ، فغر فاهه بإندهاش :
قايد بجلالة قدره صار راعي غنم؟ هذه لازم تسجّل من ضمن عجايب الدنيا السبع
قايد بسخرية وهو ينظر له من أعلاه :
اتضّح إن الإنسان يحن لأصله !
ابتسم الحارث بمراوغة خابثة :
وهذه بعد لازم تسجّل من ضمن إعترافات البيت الأبيض والبنتاغون .. حيوان ورجع لعايلته الحيوانة !
ضرب بقبضته على ظهر الحارث ، الغضب والرغبة بالضحك في آنٍ واحد ستجعلان هيبته موطئ أقدام لا شك
لذا تماسك وهو يلمح نظرات الحارث المتألمة :
رحمك ربي إنك شبرين وخايف من عقابه فيك ، انقلع من قدامي وروح مشّط هالشعرتين اللي في شنبك
اتسعت عينا الحارث بإندهاش مصطنع وهو يقول بدرامية :
له له له ، إلا هالموستاش يابيه مش حسمح لك تغلط عليه
هزّ رأسه بقلّة حيلة وابتسامة صغيرة تطفو على ثغره :
الله يآجر جدي وجدتي في مصيبتهم ، أنا أشهد إن العقل عقل صخلة
-وبنظرة ساخرة متعالية-
بس للأسف طولك ما يتعدى طولي ، ما بالك بطول النخلة
التفت له الحارث بقهر :
لعلمك يعني في نخيل قصار !
تنّهد قايد بتعب ، يرفع عيناه لساعة الحائط التي تشير إلى الساعة السادسة صباحًا ، صباح عيد .. وهو هُنا يريد النوم فقط
التفت إلى عبدالرحمن الواقف أمام دولابه يتعطّر :
أساعدك في شيء ؟ المصْر مضبوط ؟
نظر له عبدالرحمن بتأمل ، هُناك أمرٌ ما تغيّر في روح قايد المشتعلة بالحياة .. شيء ما خفت وبهت لونه وأصبح بلا قيمة ، لا يعلم ما هو لكن ربما تلك اللمحة المذبوحة وسط بؤبؤ عينيه ! هزّ رأسه بالنفي قائلًا بإستفسار:
ما بتروح معنا صلاة العيد ؟
ابتسم قايد ابتسامة صغيرة ساخرة ، تمدد على السرير في غرفة عبدالرحمن والحارث بمنزل جده ، التحف بالفِراش حتى غطّى جسده كاملًا إلا رأسه :
لا ، طلعوا وسكروا المصابيح وراكم خلوني أنام
وقف الحارث بجانب الباب مستأمنًا به لهروبه ، بنبرة ضاحكة :
أيّها المرتد الفاسق ، قمّ هلمّ بنا إلى صلاة العيد فهي شعيرة من شعائر الله ويجب عليك تعظيمها لما لها من أهمية في تقوى القلب ، يا ذا القلب الفاسد
اتكأ قايد بذراعه وأعصابه بدأت تتلف شيئًا فشيئا من هذا المراهق الذي يظن أنه مضحكًا ، رمى عليه مخدة أصابت وجهه مباشرة
ليردف قايد بغضب خرج معظمه مصطنعًا :
والله لو ما تطلع لأكفنك بكشختك وبدل لا تصلي العيد بيصلّوا عليك
مسك الحارث رأسه قبل أن تحتاس " كشخته " شاهقًا بقوة :
الله لا يوفق عدوينك يا الكاوبوي .. بشكيك لجدي بخليه يطردك شر طردة !
-التفت نحو الباب عازمًا مناداة جده ليصمت بعدها بثانية-
عمي سعيد هنا .. الله الله اكتملت اللعبة
قايد بحدة خرجت رغمًا عنه :
طلعوا وسكروا الباب وراكم .. بسرعة
ارتبك الحارث من نبرة صوته التي انقلبت فجأة ، دفعه عبدالرحمن خارجًا ليقول بهدوء :
ترا بعض السماجة بايخة .. لا تزودها
الحارث بقهر نظر إلى ظهره المقفي :
مالت عليك يالسكنّي ، صاير ينخاف منك ومن هدوءك
/
\
يقف سعيد كالمذنب أمام والده المتربّع في فناء منزله وبجانبه والدته .. وأمامهما قهوة العيد :
يبه ولدي .. حرام عليك
عزّام بحدة وغضب :
تحرم عليك العيشة ، ولدك توك تعرف إنه ولدك ! قلت لا يا سعيّد لا تجادلني واجد
شهقت عزيزة من دعوته لتردف بغضب هي الآخرى :
استغفر ربّك يا ريّال ، يعني واقف مع أحفادك ومسفّل بعيالكم .. ما هم واحد ؟
عزام دون أن ينظر إليها ، بل عيناه مسلطتان نحو سعيد الواقف أمامه بـ"كشخة عيد" ظاهرية ، فداخله ماعرف الفرح مذ عاد قايد إلى موطنه الأصلي .. لكن ليس لحضنه وحضن والدته التي لم يراها سوى مرة واحدة ، بل الى حضن وملجأ جده عزام .. إلى من " ينصره ، ظالمًا كان أم مظلومًا " :
هم واحد ، ويشهد علي ربّي .. لكن اللي يبيع ولده وهو ساكت خوفًا من شيبة لا راح ولا ردّ هو بني آدمي ، ما يستاهل يشوف ولده عليها ..
تنّهد سعيد بيأس من عناد والده :
باصبّح عليه وببارك له بالعيد بس يبه ! وش بسوي يعني بذبحه ؟
عزّام بابتسامة شبه ساخرة :
صح بتذبحه ؟ ماينفع الذبح في الميّت خلاص
أوجعه كلامه والده بل وأدمى قلبه وشطره لنصفين ، هتف برجاء مخلوط بعتاب :
يا تاج رأسي تعوذ من إبليس ، قايد محتمي فيك وأنت مكبّر رأسه علي ! على كذا كيف بتفاهم معاه
وقف الجد عزّام متكئًا بعصاه ، ينظر له بجدية خالصة :
مالك عندي رجاء ، الشور شور قايد إذا هو يبغى يشوفك ويسمع منك لو لا .. ودامه نهار عيد وهو ما طلع وراء عيّال عمه من هالغرفة فمعناه ما يبي لك شوف ولا يبي منك عذر
توكل يا سعيّد ! توكل
أحنى سعيد رأسه للأسفل ، يشعر بالألم يفتت عظامه .. كم يومٍ مرّا دون أن يستطيع ملاقاته فوالده يقف له بالمرصاد ، يتربّص دخوله وينتظر قدومه لكي ينقضّ عليه بكلامه ويجرح به قلبه وروحه جروحٍ لا تبرأ .. يشعر بالأسى لضعف موقفه ، فلو جاء للحق فإن الحق كله عند قايد
ابنه ، وبِكره ، وحامل اسمه .. المغدور من قِبله
ويبدو أن لا أمل .. حتى والناس في العيد يمرحون ، يتسامحون ، يدمحون زلاتِ بعضهم بعد أن خرج شهر الطُهر والبركة والضِياء
أعطاهم ظهره خارجًا من باب المنزل ، يتبعه الحارث وعبدالرحمن اللذان حضرا الموقف كاملًا دون تدّخل :
انتظركم في السيّارة
قالها بجمود تام ، وخلف جموده قلبٍ هشٍ نازف .. ولكن أين المهرب ، سيعود ! محال سيعود له قايد
التفتت عزيزة نحو عزام وهي تقول بِعتاب :
أجعته واجد يا عزّام ، أجعته واجد
تنّهد عزام وهو يعزّ عليه حزن ابنه ولكنّ لعلها كفّارة لحفيده الذي تركه يؤخذ دون أن يستخدم كامل سيطرته المطلقة :
داري يا عزيزة داري ، لكن خليه يعرف إن قايد وراه ظهر .. بدل لا يحس إنه روحه مرخوصة ودمّه مهدور !
خرج الجد ، لتتنّهد عزيزة بأسى على حال ابنها وحفيدها ، لو نظرت من الجهة التي ينظر لها الجد عزّام لعلمت أنها الصحيحة ، فالجدّ عزام لا يخطو خطوة دون حِكمة يرجوها من خلفه .. لكنّها ما تفعل بقلبها الصامد في قوته ، الرقيق في مشاعره :
حقّاني ولد العزم ، الله يطول بعمره
هتف بها قايد من خلف جدته عزيزة التي التفتت تنظر إليه بدهشة أعقبها عِتاب على كلامه :
قويّد
ابتسم قايد ، ادخل يديه في جيب البنطال القطني الذي يرتديه ، اقترب منها وجلس بجانبها ، ليضع رأسه على ساقيها وسط ابتسامة الجدة عزيزة :
ماقلت إلا الحق ، قولي إن صادق ؟
ابتسمت الجدة عزيزة بحنان فائض ، مسحت على شعره بهدوء :
هان عليك أبوك تخليّه يوقف قدام جدّك مثل الطلابة ؟
تنّهد قايد ، أغمض عينيه وهتف بأسى :
مثل ما هنت عليهم يا جدتي ، خلّي كل واحد ياخذ المقسوم بدل لا يلاحقه
ضربت جبهته بخفة يدها لتُردف بغضب طفيف :
هذا أبوك يا أسود الوجه !
مسك قايد جبهته :
آآآخ ، رأسي يا جدة بروحه يعورني .. شوي شوي عليه !
بعدين وإن كان أبوي .. كل شيء ممكن أتقبله في حياتي إلا الاستغفال ، وأنا مب بس استغفلوني ، أنا تلاعبوا فيني على مزاجهم
ابتسمت عزيزة بسخرية :
ونعم التربية !
قايد بإبتسامة فتح عينيه ينظر لها من الأسفل :
تربيتش طال عُمر هالوجه الزين
-تناول يدها ، قبّلها بعمق هامسًا-
لا تزعلي فديتش ، أعرف ما يهونوا عليش عيالش .. بس جدي ما يحكم إلا بالحق ولا وش تقولي ؟
هزّت رأسها بإيجاب وابتسامة هادئة تستقر على ثُغرها ، وهي تثق بقرار زوجها ومدى اهتمامه ، فإن كان يُريد تأديب ابنه-بعد هذا العُمر- محاسبًا إياه على غلطة قديمة .. فله ذلك :
أقول يالشيّخة
قالها قايد وهو سارحًا في الأفق ، لتبتسم جدته :
قول يالمربوش
اعتدل في تمدده وجلس بجانب جدته ، ليُردف بجدية بالغة :
أنتِ تعرفي عيال زوجة الوكيل كلهم ؟
عقدت حاجبيه بإمتعاض وقلق :
الله يكفينا شرّ السيرة ، اقطعها ياولدي وش لك بهم وبشرّهم
قاطعها قايد بذات الجدية :
ما هموني ياجدتي ، أنا أبغى أعرف عيالها كلهم .. تعرفينهم واحد واحد ؟
تنّهدت الجدة عزيزة ، صمتت لفترة شبة طويلة كانت كالدهر على قايد ، لتُردف :
زوجة الوكيل الله يذكرها بالخير من خِيرة الناس ، أنا وإياها كنّا صحبة من أول ما تزوجت جدك وجيت هِنا .. لولا أن الله بلاها برجال أعوذ بالله من قسوة قلبه !
ابتسم قايد ابتسامة صغيرة ، مقاطعًا إياها :
فكينا من زوجها اللي مسوي نفسه شيخ ، وخبريني عن عيالها
هزّت رأسها بإيجاب :
أعرفهم ، هم وأعمامك كانوا متربين مع بعض مثل أغلب عيال هالحارة .. بس أنت عن من تسأل بالضبط ؟
سرح قايد لبُرهة ، تردد في قول ما يودّ قوله وما يسعى إليه ، لكنّه طمس التردد وهتف بجدية :
صقر !
عقدت حاجبيها لوهلة ، ثم ابتسمت :
الصقر ، مثل ما تحب أمه تناديه .. نسخة أمه بكل شيء !
وش عليك منه ؟
تنّهد قايد :
يعني وش تعرفي عنه بالضبط ؟
الجدة عزيزة وهي تسرد القصة التي تعرفها :
اللي نعرفه إن الصقر الله يرحمه تزوّج أخت صديقه ، وهي ماهي من هالبلاد .. من الشرق
بدون شور أبوه اللي عارضه في البداية ، بس بعدها قنع
عاش طول عمره في بلاد أهل زوجته وما عاد شفناه ولا شفنا عياله لين جانا خبر وفاته رحمة الله عليه وغفرانه
سكت قايد مطولًا بعد الحكاية القصيرة التي سردتها جدته
وتفكيره يأخذه إليه ، إلى ذات العيون الصقريّة
ربما هذا واحد من الأسباب التي جعلت الكره يجد طريقه لقلبها .. ناحية عائلة والدها
لم يحتضنوا والدها كما يجب ، لم يفرحوا لولاداتهم ، لم يكرموا ذكرى والدها بل تفاخروا بحفيدتهم حبيسة
همس في غفلته :
الظاهر إن طريقي طويل !
التفتت له جدته عاقدة حاجبيها بإستغراب :
وش قلت ؟
فتح باب المنزل فجأة وتوافدت منه الفتيات واحدةً تلو الآخرى بجمالهن الآخاذ في يوم العيد ، وحواراتهن تتعالى كما تتعالى ضحكاتهن
فللعيد جمال ، يعرفه السعيد والتعيس ، المهموم والمُنشرح ! يكفي أنه يومٌ تتجدد فيه المحاسن وتُردم فيه الآثام
ولا يبقى في القلب إلا الرضى ، ثم الرضى
سقطت عينا قايد فجأة على زينة التي كانت أخراهن ، تجمد مكانه لتتجمد هي الآخرى .. كأن الزمن توقف فجأة
والتساؤلات تدور في فلكٍ لا يتوقف عن الدوران ، متى وكيف وماذا حصل ؟
اتضحّت اللهفة على عينا زينة ، قابلها قايد بجمود تام وهو يقف بعيدًا ليلوذ بالفرار
تاركًا حريّة التصرف للفتيات مع جدتّهن
سلّمت زينة على رأس جدتها ، باركت لها بالعيد ودعت لها بطولة العمر
اتخذّت طريقها نحو المنزل ، تلفتت حولها وهي لا تعلم عمّا تبحث بداخله .. بل تعلم
تبحث عنه ، عن قايد ! فتلك النظرة التي رأتها قلبت بكيانها ، وأصبحت تشعر أنها في أرضٍ جرداء ، لا رحمة فيها ولا حياة
تراءى لها صوته في المطبخ ، اتجّهت بخطوات سريعة نحوه ! رأت ظهره العريض يسدّ الباب ، همست بلهفة :
قايد !
التفت قايد نحوها بدهشة ، لا ينكر أنه انصدم من رؤيتها تتبعه بعد أن أرسل لها -متعمدًا- نظرة جامدة خالية من الحياة
عاود الالتفات نحو العاملة ليقول بحدة :
هيه أنتِ سوي "عُرسيّة" في صحن حق أنا وجيبيه غرفة ، بسرعة مافي سوي تأخير
خرج من المطبخ دون أن يُعير زينة أيّة إهتمام ومشى في طريقه إلى الغرفة التي يحبس فيها نفسه بعيدًا عن نظرات أهله وهمساتهم المقطوعة :
قايد لحظة !
أوقفته زينة بهتافها ، فوقف معطيًا ظهره إياها ، وقبضة يده تشتّد بجانبه .. حتى وصله همسها العاتِب :
وش هذا اللي تسويه فينا يا ولد عمي ؟
عضّ شفته بقوة حتى شعر بطعم الدم في فمه ، هتف بجمود بعد صمتٍ طويل :
وقفتنا غلط .
اقتربت منه لتترك فاصلًا قصيرًا بينهم ، وبغضب طفيف :
مافيها شيء وقفتنا ، قبل كم شهر وقبل سنين كنّا نوقف هالوقفة
ثبت في مكانه ، دون أن ينظر إليها .. فالنظر لعينيها نوعٌ من أنواع العذاب والإنهيار ، بسخرية :
قلتيها .. " قبل " ، يعني اليوم هذه الوقفة محسوبة علينا ، فـ حاسبي عليها
أغمضت عينيها بقوة ، تنّهدت ثم نظرت لظهره الشامخ بهمس :
احنا أول وأخير نظل عيال عمك يا قايد ، ماتقدر تتخلى عنّا لمجرد إن كلمة " قدر ونصيب " غلبتك وغلبتنا !
أنت غالي علي ، غالي يا قايد .. يوم من الأيام كنت لي سند وعزوة !
المواقف والأحداث ، وحتى الضرب اللي تلقيته عشاني ، كل هذا ما ينمحي ويموت
التفت نحوها بقوة أخافتها ، مردفًا بحدة وأنفاسه تتعالى :
أنسيها ، أنسي المواقف والأحداث والفزعات اللي فزعتها ، اعتبريها ولا شيء .. ما سويت اللي سويته عشان أتكبّر وأمنّ فيها عليش ! سويتها لأني ، لأنـي ...
قطع كلامه وأغمض عينيه بقوة ، وهو يستوعب أنه ما عاد له الحق لأن يقول هذا الكلمة .. ما عاد يملك المكانة والمنزلة حتى يقول لها بوافِر الحُب في قلبه أنه " يحبها " ، منذ اللحظة التي أُعلن فيها زواجهم .. سقطت جميع الحصون والمدافع ، ذبلت الحروف ومات الحبر .. وجفّت صُحف الحب :
روحي زينة ، شوفي طريقش وارسميه مثل ما تحبي ، خلي جروحي تبرأ بنفسها ! ومن هنا لذاك الوقت ما أبغى أشوفني بعيونش أكثر من مجرد ولد عم .. لا أكثر ولا أقل
قال ماعنده واستدار إلى الغرفة ليغلق بابها بقوة كادت تصم بآذان زينة التي تنظر إليه بحسرة ووجع ، تنّفس بصورة سريعة وقلبه ينبض بصورة قاسيّة .. حُتم عليه الألم ، لا شك في ذلك
لا يعلم كيف استطاع الثبات في أرض عينيها دون أن ينهار ويذوب في ظلامها .. اليوم الذي يُصبحا فيه مثل الغريبين ، قطعًا ما ظنّ أنه آتٍ
مسح على وجهه بصبر وطولٍ بال ، إن كانت حياته محفوفةٌ بالأوجاع التي لا تنتهي ، فليضع بها نقطة بيضاء ناصعة لعلّها تكون بداية طريق غفرانه
تناول هاتفه ، رن لرقمٍ معيّن ! وعند الاستجابة هتف بجدية :
هلا .. مداوم ؟ .. زين أبغاك تطلّع لي معلومات عن شخص ، مكان سكنه ، رقم واحد من عياله ، أيًّا كانت معلومة صغيرة ولا كبيرة عطيني إياها .. قدم لي هذا المعروف ونسكّر دفتر مصالحنا المتبادلة .. اليوووم ، سامعني ؟ اليوم أبغى المعلومات
أغلق المكالمة وعيناه تنظران للفراغ ، صمم على فعل ما يريده ، فليُكفّر عن أخطاء الماضي إن كان أصحابها عجزوا عن ذلك



-
تجلس بجانبهن جسدٍ بلا روح .. روحها غامت في سماوات الوجع والتوّجع ، لا تملك إلا الكلام لكيّ تسترد فيه روحها ، فالأفعال مثلما قال قايد باتت " محسوبة علينا "
تنّهدت بصبر ، تذكرت أنها لم ترى الحارث ولم تبارك العيد لعمّها سيف .. أخرجت هاتفها من حقيبتها وسقطت عيناها على الورقة المصفوفة بداخلها .. ورقة " صك بيع " الأرض المليونية
رنت للحارث الذي أجاب من الرنة الأولى :
هلا بالأخت العودة ، عيدش مبارك !
ابتسمت زينة بحنو إثر مرح الحارث المتشكّل على هيئة صوت :
قديمة .. غيّرها
الحارث بخبث باسم :
الله الله الله ، من صبّح فيها عليش قبلنا ؟ ماغيره ولد عمي الأعرج
زينة بذات الابتسامة أردفت :
الأعرج بعينك ، أنت متى تستحي على وجهك وتتكلّم عن عيال عمك بأسلوب زين ؟
الحارث بمرح وشراحة ضحك :
اخيييه جتنا قايد الثاني ، وخري بس .. مالت عليكم ما ينمزح معكم يا عيال العزم
اندمحت ابتسامتها عند ذِكره لقايد ، تجاوزت ذلك بسرعة لتهتف بجدية :
أنت وينك ؟
اعتدل الحارث في وقفته عند صوتها الجاد :
هنا واقف قدام بيت جدي مع الشباب نسولف
زينة بذات النبرة الجادة:
من في المجلس ؟
هتف الحارث بحذر واجم :
آخر مرة شايف عمّي سيف ، وبعض الشباب ! ما أعرف إذا طلعوا أو لا
تنّهدت بتنهيدة مكتومة ، وادعت الحارث وأغلقت الهاتف .. وكلّ أملها أن يكون حاتم هُنا
حملت نفسها واتّجهت إلى المجلس ، طرقت الباب بخفة وانتظرت خلفه .. إن فتح الباب أحد الشباب فهذا يعني أنهم مجتمعون هُنا جميعهم ، من بينهم حاتم .. وإن لا ، فيعني أنه لا أحد سوى أعمامها
طرقت مرة آخرى وانتظرت ، بعد ثوانٍ قصيرة فتحت الباب وأطلّت برأسها من خلفه
وجدت عمها سيف وحيدًا يجلس على الكراسي ، أمامه " فوالة العيد " بحضنه جريدة يقرأ فيها ، والتلفاز بصوته الصاخب على قناة عُمان الأولى التي تبث حلقة العيد
رفع رأسه ينظر إلى الطارق ، فابتسم :
تعالي عمّي !
ابتسم زينة بخفوت ، دلفت إلى الداخل ، قبّلت رأسه ويده ثم جلست بجانبه :
كل عام وأنت بخير عمي ، من العايدين والفايزين
ابتسم سيف ، أغلق الجريدة ووضعها بجانبه :
عساش سالمة وغانمة ، وش ذي الحلاوة كلها ؟ مانقدر عليها
ضحكت بخفة ، وقلبها يمتلئ بالحُب ! مهما جرى ومهما حصل .. لا يستطيع قلبها أن يحمل سوى الحُب والاحترام لهذا العم الرائع بجميع المقاييس
التفتت نحوها تنظر لخلوّ المجلس ، فهتفت بتساؤل :
وين الشباب ؟
ابتسم سيف :
تسألي عنهم كلهم ، ولا عن واحد ؟
-أكمل بضحكة حين رأى حُمرة وجهها ورفرفة رمشها-
حاتم شال أبوي يزور ويعايد على ربعه الشيوبة
ابتسمت زينة أكثر من سابقتها:
عمممي
هزّ كتفه وسط ضحكته هو الآخر ، ليُردف بإهتمام :
خاطرش في شيء عمي ؟
تنّهدت زينة لوهلة ، تلفتت حولها من جديد .. صحيحٌ أن حاتم منعها من فعل ما تُريد فعله ، وصحيحٌ أنها جاءت اليوم لتقنعه أمام والده حتى يرضّخ .. لكن ما هو بموجود هُنا
ولمعرفتها لـ عِناده ، وأنه سيرفض حتى لو طلب منه والده ، أرتأت أن تسلك بعض الطُرق الملتوية :
أبغى أزور أمي .. توديني ؟
قالتها وهي تنظر إلى ملامح الدهشة التي سرت إلى وجهه ، ولا تلومه على إندهاشه .. فهي منذ سنين لم تزر والدتها في صباح العيد
أكملت زينة بتبرير ، كمن قُبض عليه زورًا ويريد النجاة لا غير :
مشتاقة لحسن ، والحين فرصة دام ضيوفكم بيوصلوا على العصر !
سكت سيف مفكّرًا ، والكثير من الأفكار تروح وتجيء في باله
لكنه ابتسم أخيرًا ، فلن يُحمّل الموقف أكثر مما يحتمل :
زين عمي قومي تجهزي وأنا أنتظرش في السيارة


انتـهى ❤


الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس