عرض مشاركة واحدة
قديم 26-06-22, 01:53 AM   #602

روز علي
 
الصورة الرمزية روز علي

? العضوٌ??? » 478593
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 720
?  نُقآطِيْ » روز علي is on a distinguished road
افتراضي

كانت تسير بخطوات تفقد اتزانها لأول مرة بظلام المكان الموحش وكأنها قد دخلت لبؤرة سوداء حالكة تسكن بها ذكرياتها ومخاوفها واحزانها...وقدميها تقودانها بطريق محفوظ بدون مرشد او مسلك فقط عقلها المغيم هو الذي يتحكم بمصير الطريق....وكأنها قد اصابت بعمى سواد الظلام الذي غطى بصيرتها وكل الاعتماد على ذاكرتها بحفظ الطرق والبصمات بقلبها النابض بحياة وعقلها المستذكر الماضي .

كانت تقف امام الغرفة الصغيرة التي وصلت لها بمنزلها القديم الذي عششت به كل عتمة سواد حياتها بكل جدار عتيق وركن ضيق ، لتدلف بعدها للغرفة التي تضم فراشين مهترئا الاقمشة ما يزالان على حالهما بصمود شامخ ، وخزانة عتيقة بخشب متآكل عند الزاوية ونافذة صغيرة تملئها الاتربة والغبار .

وصلت برحلة استكشافها لمنزلها القديم والذي بدأت تتعرف عليه لأول مرة ، لتتسمر بعدها امام النافذة وهي تشرد بالعالم الخارجي السابح بالظلام والسكون وهو موعد سبات الظالمين بحياتها ورقودهم بنوم عميق وسكينة وطمأنينة ، بينما المظلومين امثالها يعيشون كل المعاناة بنومهم وصحوتهم بدون وجود اي سكينة او طمأنينة تريح قلوبهم التي ذاقت من الويل والهوان الكثير .

تنفست بتهدج تشعر بانطباق شديد بصدرها من تكتلات الذكريات على قلبها السابح بدوامة الحياة ، لتستدير بعدها تعطي ظهرها للنافذة قبل ان تنزلق تدريجيا على الجدار وهي تستقر جالسة على ارض الغرفة بهدوء بعثرت بعض ذرات الغبار المنتشرة بالمكان ، لتضم بعدها ساقيها بتكور بعادتها القديمة التي لا تفارقها عندما تحاصرها الظلمة والوحدة وتبقى الوحشة انيس عالمها وكل البرودة تجتمع بقلبها الجليدي حتى اصبحت لديها مناعة قوية ضد كل انواع البرد مهما كانت درجة برودته .

اغمضت عينيها بشدة تكاد تمزق جفنيها من الضغط عليهما وهي تحاول محو الصور والذكريات عن ذهنها وهي تسقط بنفس الهوة السوداء ، ليخترق سمعها صوت انين طفولي يمزق نياط القلب محصور بزاوية معتمة ومغلق عليها من كل الجهات
(انا خائفة ، لا اريد البقاء بالوحدة ، لا اريد البقاء بالظلمة ، اخرجوني من هنا ، اكاد اموت من الوحدة ! اكاد اموت من الخوف !)

شهقت بخوف دفعتها لفتح ستار عينيها على كامل استدارتهما باهتزاز انتشر بكامل جسدها وبرق بعينيها الجاحظتين بوجع ، لتخفف بعدها من مشاعرها التي اكتسحتها بدون سابق إنذار على وطأ اجواء المنزل والذي يبعث لها بكل انواع الألم والخوف حتى اصبح مثل الوباء يشل اجهزتها الحسية ويغرق قلبها بسموم المآسي والآلام .

ادارت وجهها جانبا وهي تستغرق بالنظر بعيدا حتى وقعت عينيها على طرف بالخزانة متآكل بوضوح وبلون مختلف عن باقي الاجزاء ، لتتحرك بعدها ببطء تدريجي وهي تزحف على ركبتيها نحو الجزء الذي جذب نظرها واهتمامها ، وما ان استوت جالسة امامه حتى مدت يدها وهي تدخلها بالفتحة المأكولة بجرأة علها تجد ما يثير الاهتمام ، ولكن بلحظة كانت الفتحة تكبر وتشكل فجوة بشكل سداسي ما ان اخرجت يدها قطعة خشب كبيرة من الخزانة والتي تبدو مثل الدرج السري .

تغضن جبينها بحيرة اكبر وهي ترمي قطعة الخشب بعيدا ، لتعود بعدها لإدخال يدها بالفجوة وهي تمسك دفتر متوسط الحجم ملقى بالداخل ، وما ان اخرجته امام نظراتها التي ازدادت غرابة حتى مسحت غلافه من التراب بيدها الاخرى وهي تحاول التعرف على هوية صاحبه وعمله ، لتتسع بعدها حدقتيها بصدمة اكبر وهي تلمح اسم صغير مكتوب على زاوية الغلاف تعرفت عليه فورا
(مايرين الفكهاني)

ابتلعت ريقها برهبة وهي لا تذكر بوجود شيء مثل دفتر او مذكرات تخص والدتها ، لتعود بعدها للزحف للخلف عدة سنتمترات حتى استندت على الجدار وهي تطالع الدفتر بشرود غائم ، اخذت لحظات وهي تأخذ انفاسها بالتدريج وكأنها تجهز نفسها للدخول بهذا الباب والذي اكتشفته حديثا والذي يخبئ جزء كبير من حياة والدتها الغامضة .

فتحت اول ورقة بالدفتر والتي كتب عليها المعلومات الشخصية لحامل الدفتر ومنها الاسم والعمر والوظيفة والهواية ، عقدت حاجبيها بتركيز ما ان علقت عند الهواية والتي كتب عندها الرسم ، فهي لم تكن تعلم بأن والدتها تجيد الرسم وتمارسه مثل (روميساء) والتي يبدو بأنها قد نقلتها بالوراثة .

انتقلت للصفحة التالية والتي بدأت بشرح تفاصيل حياتها الاولى قبل الزواج
(انا مايرين الابنة الصغرى لعائلة الفكهاني ، الدلال والترفيه من اهم اساسيات حياتي ، ولكن التمرد والعصيان من اهم مميزاتي والتي اكتسبتها مع مرور الوقت والاحداث ، لقد كنت النقيض عن باقي افراد عائلتي وبالمعنى الحرفي كنت المادة السيئة عديمة التهذيب وبؤرة المشاكل حتى اصبح اسمي الشائع قطة العائلة الشرسة ، اكثر الاشياء التي كرهتها بحياتي العائلية هي الالتزام بالمبادئ والقوانين واتخاذ الاعراف والتقاليد طريق للوصول للسعادة الابدية وتحقيق الاستقرار بالحياة)

غامت ملامحها بصمت وهي تتخطى الصفحات الاولى حتى توقفت بمنتصف الاوراق ، لتعود بعدها للقراءة من جديد بعد ان تغير مجرى الاحداث
(اليوم مختلف عن كل الايام فقد وقعت بالحب ، ذلك الشعور الجميل الذي يتغلغل بالروح وينشط نبضات القلب بحيوية مفعمة بالطاقة ! هذا ما كنت اشعر به كلما مررت بجانبه او دخلت معه بحديث او تلاقت العيون مصادفة بين بعضها ليصمت الكلام وتتحدث القلوب ، لقد عرفت عندها بأنه سيكون رجل حياتي الابدي والشريك المقدر لي والذي ارتسم بمخيلتي واحلامي ، وحتى لو اخذ مني الامر ان اضحي بالكثير واخسر كل ما املك فسوف افعل كل ما يطلب مني بدون ادنى تردد او تفكير ، وهل هناك تفكير عندما يستحوذ سلطان الحب على الانسان ؟ وخاصة على شابة فاتنة مثلي اكثر ما تجيده هو كسر القواعد وفعل كل ما هو معاكس بطبيعتي !)

ارتفع حاجبيها بتركيز وإمعان وهي تقلب صفحات اخرى تخطت ثلاث اوراق ، قبل ان تعود لملاحقة الكلمات وهي تقرأ من جديد بانجذاب ونهم اصبح يقيدها بإثارة
(هذه كانت نهايتي المدروسة والتي تجهزت لي ! الجميع حكم عليّ بالموت بإبعادهم عن حب حياتي وتقييدي بقواعدهم واعرافهم البالية ، وكلما اعلنت تمردي اكثر زادت القيود والاصفاد من حولي حتى لم يعد هناك من يقف بصفي وينجدني بحالتي التي اصبحت صعبة حتى على الحيوانات عندما تنفر منك كل المخلوقات وتعزلك بقفص منيع ، ولكن هذا لا يضاهي تصرف افراد عائلتك الذين تربيت معهم سنوات تحت سقف منزل واحد ! عندما يسقط الانسان للحضيض واسوء وتتخلى عنك الايدي حتى عائلتك لا تعترف بك ، هذا هو حال مراتب العائلات التي تأخذ المراكز المهمة بالعالم وتملك العلو والثروة وكل منهم فقط يؤكل ويفترس بأخيه من اجل الحصول على الثروة والمجد والقوة حتى تتناسى اهمية الروابط والعلاقات بداخل العائلة وتتمزق مئة قطعة !)

تنفست ببعض الضيق بصدرها وهي تعاود تقليب الصفحات بخوف بادئ على ملامحها مما هو قادم ، لتتوقف بعدها بصفحتين بهدوء وعيناها تطاردان الكلمات بقراءة ذهنية تستطيع الوصول لأعماقها
(اليوم هو الاسوء بحياتي ! فقد اصدر والدي قراره القاسي بحقي وساقني لحبل المشنقة ، لقد حبسني بغرفة مع مجموعة اطباء مختصين بالأمراض العقلية وكأنني حالة نفسية صعبة واحتاج ليعاد تأهيلي واصطلاحي ، اجل لقد اصبح ابي يعاملني على اساس اني مجنونة واحتاج إلى اطباء يهتمون بحالتي ! لدرجة بأنه قد عزلني بغرفة بالمنزل الكبير بعيد عن كل انواع الحياة والبشر وكأنني وباء لا يسمح لأحد بالاقتراب منه او ملامسته ، وبطبيعة الحال لا احد يتجرأ على عصيان او مقاومة اوامر كبير العائلة والذي كان من الجبروت والعظمة حتى تخاف منه اقوى المخلوقات !)

قلبت الصفحة التالية بأصابع مرتجفة وهي تتابع القراءة من اول السطر بتركيز بدون توقف وكأنها تعايش تلك الحياة بكل تفاصيلها ومشاعرها
(لقد ظننت بأنها النهاية الوشيكة لي ، ولكن قدري ابى ان يتركني اعاني بتلك الحياة ، فقد وجدت طريقة للهروب والتسلل خارج المنزل بمعاونة ممرضة كانت تحمل طيبة قلب غير موجودة بأفراد عائلتي المقربين مني بالدماء وبنفس الروح ، وعندما تحررت وكسرت قيودي وجدت ملاذي واماني واستقبلني شعاع الشمس من جديد واستطعت العودة للحياة بقلب جديد وحياة طويلة مستقلة ، واهم ما في الامر بأنني اجتمعت اخيرا مع حب حياتي واعلنت عن ولادة انتصار شخصي لأعيش الحياة التي تمنيتها واردتها منذ زمن ، بدون اي قوانين او شروط تحدني وبدون اي اوامر او عواقب تردعني !)

زفرت انفاسها بنشيج وهي تمسح وجنتها الباردة التي سالت عليها دمعة لم تشعر بسقوطها بخضم مشاعرها المتداخلة وحواسها التي لم تكن بكل هذه الحساسية ، لتتمالك بعدها نفسها بصعوبة وهي تأسر انفاسها واحزانها بصلابة تحسد عليها ، لتتابع بعدها تقليب الصفحات وهي تتوقف على صفحة بعد مرور احداث الزواج ودخولها بحدث زمني يشمل ولادتها
(ما اجمل هذا اليوم والنهار ! بالرغم من كل الظروف والصعاب التي اتحداها يوميا لقد رزقت مجددا بطفلة ثانية من ثمرة حبي ، وهكذا اصبحت عائلتي كاملة بطفلتين جميلتين انشطرت قطعتين من عائلتنا ، ولكن هل استطيع تأمين كل الحماية لهما بهذا العالم القاسي الذي لا يرحم مخلوق ؟ ربما لن استطيع ! وربما اخسر من جديد ! واعلن انهزامي واستسلامي ببؤرة الحزن التي ترافقني دائما ! ولكن بما ان زوجي وجبلي الشامخ يقف بجواري فلن اتراخى او استسلم ولن ازعج نفسي بالتفكير بالمستقبل البعيد ، فأنا سأبقى شامخة صامدة لكي استطيع تأسيس حياة مثالية لنا ولأطفالي ولكي انتصر على كل الصعاب ، واتمنى ألا يختبرني القدر بعائلتي ويدخلني بمحن جديدة انا ليس لي مقدرة على هزيمتها ، فلم يعد لدي القدرة الكافية والعزيمة على المجابهة !)

تسارعت انفاسها بنشيج خانق واصابعها تتجمد على الصفحة والتي تحمل مشاعر لم تتوقعها اغرقت مجاديفها ، لترفع يدها بسرعة وهي تمسك انفها بأطراف اصابعها بقوة تحبس انهارا فاضت بمنابعها وهي ترتجف بلسعة سريعة مرت على طول ظهرها وكأنها تشعر لأول مرة بالبرد والخوف الحقيقي يتربص بها ، لتخفض بعدها يدها وهي تركز ذهنها بالدفتر الموجود بين يديها حاكى كل الآلام بحياة والدتها المخبئة تحت الستار .

قلبت عدة صفحات وهي تنتقل للحدث الذي تدمر به سلام حياتهم واختل بتوازن العائلة الصغيرة عند وفاة رجل المنزل ، عادت للقراءة من جديد بعينين مغرورقين بالدموع تدفقت بهما بحرارة المشاعر التي تسربت بذكريات هذه الصفحة
(هنا كانت نهاية حياتي المسالمة ، لقد توفي الحب الاسطوري ومعه السلام والامان وصمود عائلتي وكأن الجدران قد سقطت لتبقى هي واطفالها بالعراء ، اجل هذا ما حدث بالفعل بعد اعلان خبر وفاة زوجي ووالد اطفالي والسبب الوحيد بثباتي لهذه اللحظة ، لقد دخلت بدائرة بؤس وحزن وكأني جسد بلا روح تعمل بلا هدف او طموح ، وماذا كان بإمكاني ان افعل غير العمل بجهد اكبر عن السابق وبتوفير الرزق والمنزل الذي يحتوينا جميعا ؟ بالرغم من انني بأحيان كثيرة كنت اغضب من زوجي واتمنى له الموت والعذاب ولكني سرعان ما اعود للبكاء واسحب كل ذلك الكلام بالدعاء له بالصحة والقوة ، وبعد تلك الحادثة فقد اصبحت نوبات الغضب تنتابني بالتفاوت بين الحين والآخر وتزيد تفاقم حالتي ، إذا كان بسبب ضغط العمل المتراكم عليّ ام بسبب ذكرى حزينة عن حياتي وما آلت لها ! حتى اصبحت حياتي بالنسبة لي الجحيم الذي انتظر ان يحرقني حية ويأخذني للموت ارحم لي من كل ما اعايشه !)

ابتلعت غصتها بمرارة بدون بكاء فقط حرقة تلسع قلبها بشهب نارية ما تزال تتهافت عليها ، لتقلب صفحات اكثر وهي تقف بلحظة عند الحدث السوداوي والذي حصر الدموع الندية بزاوية بقلبها المظلم عندما اقتحم زوج والدتها سرب ذكرياتها
(واخيرا حان الوقت لتعود البهجة والسعادة لتدق بابنا بعد شهور خلت فقدت بها معنى الحياة ! لقد وجدت الرجل الذي يمكنه ان يحل مكان زوجي الراحل ويكون العوض لنا واللطف بحالنا ، اعرف ذلك لأنني اشعر به بقرارة نفسي واستطيع ان اضمن السعادة والراحة بحياتنا المقدمين عليها ، وهكذا استطيع تقسيم الحِمل بيننا ورفع المسؤولية التي اتعبتني كل هذه الشهور ، والاهم بأن اطفالي لن يكونوا بدون اب بعد الآن وسيجدون من يستندون عليه ويستمدون منه القوة والعون لينجدنا من الغرق بمستنقع الحياة ، وهذه ستكون بداية جديدة اخرى بحياتي اعيشها مع ملجئ وسكن آمن لتستطيع عائلتي الصغيرة الاستقرار بحياتها بدون اي مطبات او صعاب)

تحجرت ملامحها بشحوب صقلت مشاعرها وهي تقلب بالصفحات بسرعة كبيرة تختصر عليها كل تلك الذكريات والفصول التي تخص ذلك الرجل كان له الفضل الاكبر بتدمير حياتها ، ليقع بعدها الدفتر منها من انفعال وشدة اصابعها حتى استقر على الارض وهو يكمل تقلب الصفحات وحده ليصل للورقة الاخيرة بالختام .

ضمت اصابع قبضتيها بتصلب وهي تريح مرفقيها على ركبتيها ويديها على جبينها بارتخاء شل حركة عضلاتها لثواني ، لتهمس بعدها بأنين معاتب وبصوت منكسر وكأنها تهذي ببعد آخر
"انتِ مذنبة يا امي ، لقد اذنبتِ بحقي منذ ولادتي ، اذنبتِ بحب رجل محرم عليكِ ، اذنبتِ بجعلي اعاني كل هذه المرارة والمعاناة ، اذنبتِ بجعلي نسخة اخرى عنكِ ، اذنبتِ بتكرار خطأك واعادة تجربة الزواج مع رجل آخر ادخلته بحياتي بدون استئذان ، لماذا عليّ ان اتلقى عواقب افعالك ؟ لماذا عليّ ان اكون نتيجة تجاربك ؟ جميعكم مذنبون ومجرمون ! جميعكم اذنبتم بحقي ، لهذا انا اكرهكم ، انا اكرهكم جميعا ، اكرهكم واكره نفسي التي ولدت بينكم"

كانت تحاول تلقف انفاسها بشح الهواء من حولها وضيق بضربات قلبها الذي يقصف بصدرها بدون توقف ، لتخفض بعدها يديها وهي ترفع وجهها لتستمد الهواء اللازم للحياة وهي تريح مؤخرة رأسها على الجدار البارد .

اخفضت رأسها ببطء وهي تحدق بالدفتر المتوقف عند الصفحة الاخيرة وهناك شيء صغير مغروس بين الورقة والغلاف ، لتمد بعدها يدها بإجهاد وهي تمسك بالدفتر بحذر لتقربه منها بهدوء ، وضعته امامها بصمت وهي تنتشل الصورة العالقة والتي تجمع افراد العائلة بصورة فتوغرافية صغيرة ، وبالرغم من ان زواياها ممزقة ومهترئة ولونها يميل للاصفرار ولكنها تحمل حنين تلاعب بقلبها بشوق غادر .

حفرت بسمة طفيفة على محياها وهي تتأمل الصورة التي تجمع والديها اللذان ربطت بينهما قصة حب اغرب من الخيال عارض عليها القريب والبعيد حتى اصبحت من المستحيلات تحقيقها....وهناك تظهر شقيقتها (روميساء) بجانب والدها يضع يده على كتفها وكأنه يقول لها بأن تميل عليه بكل قوة ولا تخاف من شيء...وهذا واضح من وجهها الباسم بسعادة بإشراق توهج بعينيها الخضراوين بغابتين من المشاعر الفياضة...وكم كانت شبيهة بوالدها بتلك اللحظة وهما يملكان نفس تلك الهالة العفوية والدافئة وكأنها استنساخ صغير عنه....لتصل بالنهاية للطفلة الاخرى التي كانت محمولة فوق ذراعيّ والدتها وهي تضحك بملء ثغرها الزهري الصغير بدون اي سبب معلوم...وربما يعود السبب لذلك الامان والحب الذين شعرت بهما تلك الطفلة بين محور عائلتها والتي احتوتها بالكامل واستطاعت ان تقطف لحظاتها السعيدة من بين صعوبات ومشاكل الحياة .

نقلت عينيها للدفتر المفتوح بحجرها على الورقة التي كانت تخفي الصورة ، لترفعه بعدها بصمت وهي تتابع المكتوب على الورقة باهتمام شديد اثار بها مشاعر دفينة اختلطت بداخل وعاء ذكرياتها
(ابنتاي الصغيرتان ، وثمار حب حياتي ، انا اعتذر بشدة على كل لحظة تقصير ونقص شعرتما بها بسببي ، اعتذر على كل معاناة اضطررتما للمرور بها بسببي ، واعتذر على قسوتي وتفريغ غضبي بكما بأوقات يأسي وحزني ، ولكنها امور خارجة عن إرادتي فأنا كنت اتحمل تراكمات وضغوط صعبت عليّ الحياة ولم يكن هناك غيركما استخدمه ببث غضبي واحزاني . اعلم بأني قد ظلمت حياتكما فقط بإنجابي لكما بهذا العالم المؤلم والسوداوي ، ولكني سعيدة بأنني استطعت ان اقدم افضل ما عندي لتأمين حياة سوية لكما لا تحتاجان بها لمد يد المساعدة لمخلوق وبالحفاظ على رأسكما مرفوعة الهامة دائما بكرامة وشموخ ، فهذه اكثر المبادئ التي تربيت عليها وحاولت غرسها بكما . اعذراني على تقصيري الامومي والتربوي بحقكما بسبب انشغالي الكثير عنكما ، واعذراني بعدم اهتمامي وانغماسي كما يجب بحياتكما الشخصية والاجتماعية ، ومع ذلك اعلم بأنكما اكثر من قادرتين على إدارة حياتكما بأنفسكما والمحاربة والقتال بحياتكما بدون مرشد او خبير يوجه طريقكما . اولاً سوف اتكلم عن ابنتي الكبرى روميساء هي القلب الحنون والعطوف والصارمة عند اللزوم ، تعرف جيدا ما عليها ويفيد مصلحتها وكيف تتصرف بالمواقف ، عندما انظر إليك ارى والدك يسكن بشخصيتك اشعر بالشجاعة والقوة فقط بالنظر إليكِ ، واعلم بأنكِ ستفتحين آفاق وطرق بحياتك وبحياة الغير لن يردعك شيء عن الوصول لهدفك مهما كلفك الثمن ، فأنتِ هي قلب والدك وقوة والدتك ، واتمنى ألا يستغل احد تلك القوة التي تحملينها بداخلك . والخطاب الثاني من اجل ابنتي الصغرى ماسة هي العفريت المشاكس الذي لا يعرف الهدوء وكثير الحركة والمرح ، تستطيع ان تجذب الانظار وتسحرها اينما ذهبت وحلت ، تستطيع الدفاع بشراسة عند ملامسة ممتلكاتها وتخدعك بلطافتها عندما تجد من يثيرها ويحبها ، بالرغم من ان شخصيتها عنيفة لا تعرف اللطف او المراعاة ولكنها تحب بقوة عندما يبدي احدهم لها الحب . اعرف ذلك جيدا لأنكِ اخذتي نفس شخصيتي باختلاف بسيط ، عندما انظر إليكِ اشعر بالألم الغريزي وبأنك ستعانين نفس معاناتي وتمرين بمواقف قد تسقطين بها بهوة اليأس والحزن ، ولكني مع ذلك متأكدة بأنكِ ستكونين اقوى مني بأضعاف واذكى من ان تخدعي بسهولة ، فأنتِ لم تأخذي جزء من شخصيتي وحسب بل اخذتي قوة وجبروت عائلة الفكهاني ببعض السمات الداخلية ، ولكن هذا لا يخفي بأنكِ تملكين من حنان والدك ذاك الذي ينبع منكِ بلحظات الحزن والعطف على احبائك ، انا اعلم كل هذا عنكما لأنكما ابنتاي اللتين خرجتما من روحي قبل جسدي .
وهذا اهداء خاص لكما ، احبكما دائما ، من والدتكما مايرين الفكهاني)

عضت على طرف شفتيها المرتجفتين تغصب شهقات قلبها بالصمت حتى هزت كامل جسدها بحزن اسير ، لتعيد بعدها الصورة لمكانها وهي تغلق الدفتر عليها بهدوء وكأنها تقفل على باب الذكريات ، وما هي ألا لحظات حتى احتضنت الدفتر بداخل صدرها بلا وعي وهي تجهش ببكاء عالي شبيه ببكاء الاطفال وكأنها عادت سنوات للوراء لتخلق تلك الطفلة البكاءة التي كانت تستخدم البكاء سلاح لتتقرب من الكبار وتحصل على عطفهم واهتمامهم ، وبعد التفكير بجوانب حياتها مع والدتها فهي ما تزال تذكر الشيء الوحيد الذي شعرت به بأمومة المرأة التي انجبتها عندما تدخل على غرفتها ليلاً فقط لكي تتأكد من كامل تغطية جسدها باللحاف بسبب حركتها الكثيرة اثناء نومها ، ولكن ما لا تعلمه بأنها كانت تتعمد ألقاء اللحاف بعيدا عنها لكي تعود والدتها وتهتم بتغطيتها مجددا حتى اصبحت تناوب كل يوم على فعلها ، وهذه هي المشاعر الوحيدة التي كانت تكنها لتلك المرأة التي اخذت مكان والدتها وعرفتها منها واحبتها بقلبها الاسود !

_______________________________
تغضن جبينه بضيق غزى محياه وهو يستطيع سماع اصوات همسات ناعمة اشبه بأنين حزين ليتحول بلحظة لصراخ ضرب عقله بقوة بأسلاك حامية....ليفيق بعدها من نومه دفعة واحدة شغلت اجهزته الحسية بلحظة وهو يتنفس بتهدج خفيض ضرب اذنيه بطنين عالي التيار...ادار عينيه من حوله بتخبط شل حركة عقله قبل ان يلتقطها جالسة امامه بسكون وشعرها الاسود الطويل الناعم مسترسل على كامل ظهرها يثير به كل انواع الهوس والجنون بمدى نعومته وكم يستطيع الغوص بستاره بطول الليل الحالك .

استقام قليلا على مرفقيه حتى استند على ظهر السرير وهو ما يزال يجول بنظره على ظهرها المغطى بستارة شعرها ، ليقول بعدها بتثاقل شديد وهو يرسم ابتسامة متزنة على حافة شفتيه
"صباح الخير ، اراكِ قد استيقظتِ قبلي !"

ساد الصمت بينهما بسحابات مشحونة بمشاعر باردة وبفتور واضح ، لتعلو علامات التجهم محياه وهو يمد يده لكتفها قائلا بوجوم
"روميساء هل تسمعيني ؟ روميساء......."

تشجنت كل اجزاء جسدها بموجة نفور واضحة وهي تنفض كتفها بعيدا عنه بدون ان تلامسه بحركة مقصودة ، ليقبض بعدها على يده بجمود وهو يخفضها بدون اي تعابير او شعور جمدت العلاقة الحميمية بينهما وحجمت المشاعر ، ليتنفس بعدها بهدوء وهو يحاول ضبط زمام الامور قائلا بجدية
"اعذريني على اسلوبي القاسي معكِ بفرض مشاعري وعواطفي عليكِ ، ولكنكِ السبب بكل ما آلت له علاقتنا ! لو انكِ لم تعاندي ولم تهدديني بالرحيل لما حدث شيء من هذا......"

ابتلع باقي كلماته بتحجر لا إرادي ما ان وقع اسير عينيها الجميلتين واللتين لأول مرة يلمح الحزن والعتاب يتوهج بخضارهما الباهت مثل غصون متكسرة ذبلت جذورها ، ليهبط بعدها عند شفتيها المنفرجتين بارتخاء وهي تهمس من بينهما بخفوت متخاذل وكأنها تخرج من شظايا قلبها
"وماذا بعد ذلك ؟ هل سترغمني دائما على تقبل علاقتك بكل مرة اتمرد بها واكسر حدودك ؟ هل ستعاملني على هذا الاساس وكأنني مجرد اداة بتفريغ الغضب ؟"

تجمدت ملامحه بغيوم ضبابية اسرت عالمهما وهو يتقدم بجلوسه ببطء ويحني ركبتيه تحته بدون ان يقطع تواصل العيون المؤلم بينهما ، ليأخذ بعدها عدة انفاس نفخت صدره بتحشرج داخلي قبل ان يقول برفق خفيض يحاول إيصال مشاعره لها
"بالطبع الامر ليس هكذا ! انتِ اغلى من اي شيء بحياتي ، ألا تفهمين مدى اهميتك بحياتي يا روميساء ! انتِ لست فقط الشخص الذي علمني الحب والعطاء بإخلاص وتفاني وكل انواع المشاعر الانسانية التي كانت تنقصني طول تلك السنين ، لقد اصبحت اهميتكِ تعلو الجميع وكل من مر وتعايش بحياتي ، حتى اكثر من مرتبة والدتي التي ظننت بأنني لن اجد من يحبني ويعطف عليّ بالعالم اكثر منها ! ولكنك قد تجاوزتها واستحوذتِ على قلبي وكياني بدون مجهود يذكر ، فهي بالنهاية كان الجميع بقلبها ولم اكن المفضل والأول عندها ، بينما انتِ مختلفة فقد اريتني بأنه لا احد بقلبك غيري واغرقتني بحبك الذي كان نهر متدفق جعلني مهووس هواكِ ! وقد عرفت كل هذا بالفترة الاخيرة واكتشفت كل ذلك عندما اوشكت على خسارتك ، هل هذا كافي لكي تسامحيني على اخطائي ؟"

كانت (روميساء) تحدق به بتلك العينين الكبيرتين اللتين تجردتا من العطف والرحمة والذي كانت تغدقه به سابقا ولكل احبائها ، لتهمس بعدها بكلمة واحدة بنفي قاطع لا يعرف الشفقة
"لا"

اتسعت حدقتيه باستيعاب مصدوم وكأنها تلكمه بتلك الكلمة بأشد قوتها بدون ان يرف لها جفن ، لتتابع بعدها كلامها بدون ان تعطيه الفرصة للملمت شتات نفسه وهي تقول بابتسامة متزنة بجمود
"يبدو بأنك انت الذي لا تفهم الامر يا احمد ! لقد انتهى كل شيء ، وانت الذي انهيت الامر من عندك ، وانا سأكون عند كلامي ولن اتراجع فقط لأنك ادركت قيمتي بعد ان هدرتها امام الجميع وامام نفسك !"

تغضنت زوايا عينيه بجمود بهتت العواصف بهما حتى بانت التجاعيد من حولهما ، ليحاول بعدها جمع كلماته من جديد لولا التي اشاحت بوجهها بعيدا وهي تسحب نفسها خارج السرير بهدوء ، كان يراقبها بصمت وهي تجمع ثيابها المتناثرة بالمكان وتلف نفسها بغطاء السرير بتشبث وهي تتحرك مثل الدمية المكسورة التي اجاد طعنها اكثر من مرة حتى جردها من روحها العطرة ومن طيبة قلبها المحب .

وما ان لمحها تجر خطاها هذه المرة بطريق الحمام المرفق حتى نهض بسرعة عن السرير بطاقة دبت به بحيوية فجائية ، ليسير بخطوات متسارعة نحوها مثل انقضاض الفهد حتى اوقف طريقها بآخر لحظة ، تلجلجت بمكانها بوجل من اندفاعه الخاطف وهي تتشبث بطرف الغطاء على صدرها وتحتضن ملابسها بين ذراعيها ، وما ان اوشك على الاقتراب منها حتى صرخت بفورة غضب جائحة وهي تتخذ وضعية الاستعداد
"إياك وان تقترب اكثر ، اقسم إذا اقتربت مني مجددا ان اتقيأ عليك ! ولن اتردد عن فعلها إذا فكرت بالاقتراب اكثر ، وهذا تحذيري الاخير لك !"

تسمر بمكانه بصدمة فاقت كل حدود المعقول فجرت براكين عقله وليس بسبب معنى كلامها وما توحي إليه وحسب بل بسبب وضعيتها الحمائية وكأنها تخاف على نفسها منه ، كيف حدث هذا ؟ هل هي حقا تخاف على نفسها منه ؟ ألم تكن بالسابق تخاف عليه من نفسها ؟ لا ليس صحيحاً ! فقد كانت هكذا دائما تخاف على الجميع وتجعلهم يحتمون بها مثل الجدار الشامخ ، ألا هو فقد كانت تدفعه للأمام وتجيد إيلامه بكل مرة اكثر واكثر ! والآن فقد زادت مرتبته سوءً عندما اصبحت تخاف على نفسها منه ! ماذا يريد اكثر من هذا بعد ان اسودت صورته بعينيها بالكامل ولم يبقى مجال لتحسينها ؟

اخفض عينيه بهدوء معذب بعد ان اكتفى من مواجهة قسوتها الحسية والكلامية والتي اودته قتيلا ، لتستغل بعدها جموده وهي تتحرك من امامه لتتجاوزه بلمح البصر شعر بهواء الغطاء الذي يلتف من حولها مثل غمامة نشرت عطرها الفواح الخاص بها ، ليغمض عينيه بشدة ما ان سمع صوت صفق الباب من خلفها لتنهي كل تلك الحروب بعواطف دمرت تواصل القلوب واراقت مكنوناتها .

تنفس بقوة وهو يمسح بيده على صدره العاري بحرارة المرجل وكأن سيخ حامي غرسته بقلبه وهربت ، ليبرد بعدها بلحظات وهو يجثم عليه بكرات ثلجية اذابت المشاعر واطفئت الحرائق التي شبت بقلبه ، استدار بعدها وهو يعود للسرير ليلتقط ملابسه المبعثرة وهو يرتديها بحركات آلية مجردة من الشعور والمنطق ، وبلحظات كان يخرج من الغرفة بأكملها وهو يصفق الباب بقوة هزت اركان المكان بعد ان تركوه مقلوب رأسا على عقب بمشاعر ضارية خلفوها من حولهما ، بينما كانت التي تسترق السمع على باب الحمام تنشج ببكاء صامت وهي تعانق نفسها وتداري جروح قلبها بعد ان قست عليها الحياة وبالمقابل قست على نفسها وعلى كل من حولها وخسرت شخصيتها خلف نيران الهوى .

_______________________________
تقلبت بالفراش الناعم وهي تشعر بدفء غريب غير معلوم يشمل كامل جسدها والذي كان منذ وقت مثل قطعة جليد باردة حد الصقيع ، لتفيق بسرعة من سباتها وهي تفتح عينيها على اقصى استدارتهما لتواجه سقف الغرفة المتقشر دهانها حتى سقطت بعض القطع الرخوة عنه بسبب الرطوبة والزمن .

تغضن جبينها باستغراب وهي تمسك بطرف الغطاء الذي لم يكن موضوع عليها سابقا ! لتحاول بعدها الجلوس على الفراش بإنهاك شديد وهي لا تذكر بأنها قد نقلت نفسها للفراش بعد قضاء طول الليل تبكي وترثي ذكريات الماضي الذي حجزت نفسها به !

توقفت اطرافها بتجمد ما ان حطت حدقتيها الزرقاوين على الكائن الواقف امام النافذة يوليها ظهره ، لتهمس بعدها باسم واحد حمل حنين غادر تاقت له
"روميساء !"

استقام ظهرها بثبات وكأنها تعيد نفسها من شرودها لتستدير بعدها من فورها وهي تستقبلها بابتسامة مفعمة بالحنان والشوق زينت اطراف حدقتيها الخضراوين بتلك الطريقة التي تخصها بها وحدها ، لتقول بعدها بتفكير خافت وكأنها معزوفة شروق الشمس
"صباح الخير ، لقد تأخرتِ قليلا بالاستيقاظ"

ارتبكت ملامحها وهي تخفض نظراتها لطرف الغطاء هامسة بوجوم خافت
"اجل ، ولكن كيف نقلت هنا ؟ لا اذكر بأنني نمت على الفراش ! هل حدث هذا بدون وعي مني ؟"

انحنت حدقتيها بحزن خاطف وهي تتقدم خطوتين بعيدا عن النافذة لتقول بعدها بابتسامة ممازحة
"بالطبع ليس هذا ما حدث ، فأنتِ لم تغيري عادتك القديمة بالنوم ارضا بدون ان تبالي ببرودة الجو وآثاره على جسدك وصحتك ! لذا نقلتكِ للفراش بنفسي ووضعت الغطاء عليكِ لكي لا تصابي بنزلة برد"

شردت ملامحها بحزن عميق وهي تغمغم بخفوت مضطرب
"كما كانت تفعل امي"

ارتفع حاجبيها السوداوين بدهشة سرعان ما مزجت بمذاق من المرارة وهي تهمس بعطف
"اجل صحيح ، يبدو بأنكِ ما تزالين تذكرين بعض التفاصيل عن ذاك الماضي بالرغم من صغر سنك حينها"

افاقت من دوامة افكار الماضي التي ما تزال تراودها بسبب احداث البارحة ، لتقول بعدها بهدوء تحاول تقمص البرود القاسي
"لقد تذكرت للتو فقط ، فأنا لا انسى شيء حدث معي بالماضي ، فقط اتظاهر بالنسيان للمضي قدماً بحياتي"

تعقدت ملامحها تحاول تفسير كلامها المبهم وهي تقول بابتسامة هادئة وكأن لا هموم بقلبها
"ماذا يعني هذا ؟"

عضت (ماسة) على طرف شفتيها بعصبية وهي تقول من فورها بتشدق
"لا شيء ، لا تشغلي بالك بالأمر"

ضاقت حدقتيها باستغراب وهي تنظر لها عن كثب لتسبقها الاخرى بالكلام وهي تقول تغير مجرى الحديث الذي بدأ يرهق اعصابها
"بالمناسبة ماذا حدث مع تلك التي لا تسمى ؟ هل عادت لمنزل عائلتها ام ما تزال تنشر سمومها بحياتك ؟!"

تصلبت ملامحها بلمحة مسحت كل المشاعر عنها وكأنها لوحة رسمت من الاسى والألم وغضب جامح بينهما ، لتقول بعدها بصوت طبيعي بعملية وكأنها تشحن الكلام بالكراهية التي اندلعت بجوفها
"لقد جاء والدها واخذها معه ، ولا اعتقد بأنه سيكون لها مكان للعودة مجددا ، فأنا وهي اصبح من المستحيل ان نجتمع معا ، ولو اضطررت واجتمعت معها بيوم من الايام فلن اضمن نفسي عندها ولن اوقفها عند حدها بسبيل الاقتصاص لابني !"

شددت (ماسة) على طرف الغطاء بقوة وهي تدور بأمواج مشاعرها والتي تستطيع ان تصلها بوضوح توقد الغضب والحزن بآن واحد وكأنها تعايشها ، لتهمس بعدها بصوت حزين خرج من جوف الوجع الذي ذبح روحها بسكين بارد
"انا اعتذر"

نظرت لها بسرعة بحدقتيها اللتين استبدلتا الغضب بحزن عميق لمس اعماقها ، لتقول بعدها بابتسامة طفيفة تحاول تمثيل القوة
"لماذا تعتذرين ؟ هل اخطئتِ بذنب وتريدين طلب السماح مني ؟"

زمت شفتيها بارتجاف ملسوع وهي تستصعب الحديث لأول مرة بحياتها ، لتقول بعدها بخفوت مرير حصر الهواء بحنجرتها
"انا اعتذر لأنني لم اكن بجانبك بتلك اللحظات ! اعتذر لأنني كنت بعيدة عنكِ عندما احتجتِ لي بأصعب اوقاتك ! فقد كنت انانية وجاحدة بأقصائي نفسي وعدم السؤال عنكِ ، وانتِ التي كنتِ دائما تسألين عني ولم تتركيني للحظة واحدة ، ولكن فقط بخصام واحد حدث بيننا ابعدت نفسي عنكِ وبنيت الحواجز بيننا !"

كانت (روميساء) تحدق بها بعينين مصغيتين وملامح متشربة بالحنان قبل ان تحرك كتفيها برشاقة وهي تقول بلطف متدفق بسخاء
"لا بأس يا عزيزتي ، فهذه ليست اول مرة تفعلينها بحياتك ، لقد تذكرت تلك الايام عندما ترتكبين الاخطاء والذنوب وتخاصميني لتعودي بعدها بيومين وتطلبي السماح مني ، لقد كنتِ تبكين بشدة لكي اقبل سماحك واعفو عنكِ مثل المتهمة التي تنتظر العفو من المحكمة !"

ارتجفت يديها وهي تترك الغطاء لترفع بعدها وجهها نحوها بعيون ماطرة خلف زجاج شفاف تحاكي الكثير ، لتهمس بعدها بتأنيب صامت وكأنها تعود تلك الطفلة المذنبة التي تعترف لها بكل اخطائها
"ولكن اخطائي هذه المرة قد كثرت ولم تعد تغتفر ! لقد اخطئت كثيرا بحياتي يا روميساء ، حتى لم اعد اعرف كيف السبيل للتكفير عن كل هذه الذنوب ! لقد تعبت من حمل تلك الذنوب وحدي ، تعبت كثيرا !"

اتسعت حدقتيها الخضراوين بلمعان وجل وهي تقترب منها بسرعة لتجلس على طرف الفراش ، لتمسك بعدها بجانب وجهها بحنية وهي تهمس بابتسامة متكسرة بأسى
"ما هذا الكلام يا صغيرتي ؟ انا من عليها الاعتذار منكِ وليس انتِ ! انا التي اخطئت بحقكِ عندما رفعت يدي عليكِ وصفعتك بدون اي سبب ، لقد اذيتكِ بتلك اللحظة وجرحتك فقط لكي ادافع عن تلك المرأة التي سمحت لها بتفريقنا وافساد العلاقة بيننا ! سامحيني على تلك الفترة التي قاطعتكِ بها ولم اسأل عنكِ ، سامحيني لأنني لم استطع ان اكون اختكِ المثالية التي تقتدين بها وتثقين بقوتها على مساندتك ومعاونتك ، انتِ لست فقط شقيقتي الصغرى بل انتِ ابنتي وكل عائلتي وكل شيء املكه ، ولن اسامح نفسي ابدا لو اصابكِ مكروه او اذى بسببي !"

امسكت بيدها على جانب وجهها وهي تحتضنها بين كفيها حتى سالت دموعها على وجنتيها بسيول صغيرة وكأنها تفيض بالحياة التي انبعثت منها إليها ، لتحرك رأسها بالنفي باهتزاز وهي تهمس بوجع تحرر من بؤرتها السوداء
"انتِ لم تخطئي بشيء ، انتِ بريئة ، انا المذنبة الوحيدة بكل شيء يحدث ، انتِ دائما ذات روح نقية وقلب معطاء وتقدمين افضل ما لديكِ بصدق وحب لكي تكوني محبوبة بين الجميع ، ولكن انا لا استطيع ان اكون مثلك ، لقد حاولت من قبل ولم استطع ذلك ! انا صاحبة قلب اسود وضمير ميت طول حياتي كنت احصد كل شيء بدون ان اقدم شيء ، لقد جعلت الجميع يكرهني حتى اصبحت كائن غير مقبول بالعالم ، لقد اصبحت شخص سيء ومؤذي بنظرهم ونسخة شريرة عن امي ، لذا لا احد يحبني يا اختي ! لا احد يريدني بعالمه ! لا احد !"

برقت الدموع بمقلتيها الواسعتين بغابتين مطريتين وهي تستمع لكلامها المنكسر واكثر النقاط التي تضعفها وتحزنها تسمعها منها لأول مرة ، لتمسك بسرعة بجانب وجهها بيدها الاخرى تحاول احتوائها بقدر المستطاع هامسة بحنان امومي
"ما كل هذا الحزن يا صغيرتي ؟ ماذا تحملين بقلبكِ الصغير ؟ اخبريني بما يزعجك ويعكر مزاجك بهذه الدرجة ! افصحي بأسرارك الدفينة واحزانك ! انا موجودة هنا بجوارك ولن اترككِ مهما حدث ، افتحي لي المجال والطريق للوصول إليكِ ، فأنتِ منذ وفاة والدتنا وانتِ تبنين الحصون والحدود بيننا وتبعدين عنكِ اميال ، متى ستفرجين عن نفسكِ وتخرجيها من هذا القفص ؟"

رفعت وجهها الغارق بدموع فاضت واكتسحت شاطئ محياها لتهمس بعدها بجرح عميق وهي تفتح ابواب موصده منذ سنوات
"انا مجرمة يا روميساء ، انا مجرمة ، لقد كنت اعاون زوج والدتي بمخططاته الاجرامية للحصول على المال من خلالي ، وقد كان يستخدمني الوسيلة لفتح كل تلك الآفاق بخبرتي الواسعة باختراق الانظمة وتدمير اقفال السر المنيعة ، لقد استخدم عقلي بمآربه ومسعاه للوصول لأهدافه ، لم يكن الامر بيديّ ! لم يكن بإرادتي ! لقد كنت مجبرة على الرضوخ والقبول من اجل ألا يلفظنا من حياته كما فعل الكثير من غيره ، لقد قدت نفسي للهلاك حية وانا اتركه يتحكم بحياتي بذلك الشكل الفظيع والمريع ، لقد كنت اشاهد اناس يقتلون وناس تتهدم حياتهم بدون ان يحرك بي ساكن ! لقد كنت مثل الدمية بأيديهم مسلوبة الإرادة والقوة بدون ان يكون لي الحق بقيادة نفسي ، لقد دمروا حياتي يا اختي ، لقد ادخلوني بسواد وذنوب وخطايا امتلأت بحياتي حتى لم يعد لي القدرة على العيش بسلام لقد اخذوا مني حب الحياة بكل ما فيها ! لقد كنت اتمنى فقط ان اموت بسلام وان يغفر لي كل اعمالي واخطائي بالحياة ، لقد طلبت العفو والسماح من ربي مئات المرات ! ولا اعلم إذا كان سيأتي اليوم الذي تمسح به ذنوبي من سجلي وتطهر روحي من السواد !"

قست ملامحها بشحوب وهي تخفض جفنيها تحصر الدموع بهما بشق الانفس بعد ان افضت شقيقتها بكل ما يعتمل بصدرها وقلبها تثاقل عليه لسنوات ، لتفتح بعدها عينيها ببطء كشفت غابات احترقت بمشاعرها وسقطت دمعتين ثقيلتين على خديها ، لتأخذ بعدها انفاسها بقوة تمنح نفسها الاتزان وهي تهمس بقوة كاشفة الجزء الثاني من اسرارها
"هل تظنين بأنني لم اكن اعلم بكل هذا ؟ لقد كنت اعلم بكل شيء يحدث تحت سقف المنزل من خفايا واسرار خطيرة ، هل كنتِ تظنين بأنني لا ارى ولا ألاحظ تصرفاتكِ الغريبة والغير طبيعية اتجاه قيس ؟ هل تظنين بأنني لم اكن ارى تلك الجروح والحروق التي كنتِ تخفينها عني متعمدة وتتوارين عن الانظار ؟ لقد شككت بأمركِ منذ انعزالك وانطوائك على نفسكِ وانقلابك بتلك الصورة ، كيف تفكرين بأنني لست على علم بكل تلك الاحداث ؟ لقد كنت فقط انتظر الفرصة التي تزيلين بها كل تلك الحواجز الوهمية وتفصحين لي بهمومك واسرارك"

ابتلعت ريقها بغصة مستعصية ارتجفت بطريقها لحنجرتها وظهرت بوضوح بعنقها ، لتهمس بعدها بصوت متحشرج وهي تحاول فهم الموضوع الذي تعقد عليها
"هل كنتِ تعلمين بكل شيء ؟ حقا !"

اومأت (روميساء) برأسها بهدوء وهي تتحس على وجنتيها بأصابعها تمسح الدموع عنها ، لتقول بعدها بهدوء واثق بقوة شحنت نفسها بها
"ما بكِ يا ماسة ؟ هل نسيتِ بأننا قد تربينا معا بنفس البيت والعائلة وطبيعة النشأة ؟ يعني كل شيء يؤلمك ويقض منامك استطيع الشعور به بدون ان تتكلمي او تنطقي فقط بنظراتك وبحركاتك اكشفك ، وألا كيف استطاعت يد العدالة الامساك به هو وكل افراد عصابته ؟ من تظنين بأنه قد اوصل لهم اخبار القبض عليهم جميعا وعدم الابقاء على واحد منهم ؟"

اتسعت مقلتيها الزرقاوين السابحتين ببحار متلاطمة قد فقدت المنارة بهما ، لتخفض بعدها يديها بهدوء وهي تهمس بتفكير منطقي وما توصلت له بعقلها المشوش
"انتِ التي اوصلتِ تلك الاخبارية للشرطة ! انتِ التي فتحتِ ذاك الصندوق وافرغتِ محتوياته ! لماذا ؟"

اقتربت منها اكثر وهي تشدد من احتضان وجهها قائلة بابتسامة كبيرة بغريزة الامومة الحمائية
"من اجلك انتِ يا صغيرتي ، لقد فعلت هذا لكي انقذكِ من ذاك المستنقع الذي غرقتي به ، كيف تريدين مني ان اراكِ تتدهورين وتذبلين امامي يوم بعد يوم بدون ان افعل شيء ؟ لقد كنت انتظر الفرصة الحاسمة التي اكشف بها كل افعاله وجرائمه ويتلقى حساب ذنوبه واخطائه بحياتنا ، لقد كنت اريد ان اخلصك من شرور ذاك الرجل والذي سلب منا طفولتنا وشبابنا واحلامنا وحياتنا ، لقد اخبرتكِ بها من قبل ما دمت موجودة بجوارك لن ادع مكروه يصيبك او اذى يطالك ، ومن يحاول اذيتك واهدار دموعك بأي طريقة فهو سيلقى عقابه ويدفع ثمن كل افعاله ، ولو كرهكِ الجميع ونفر منكِ فسوف تبقى شقيقتك تحبك ، تحبكِ بعدد نبضات قلبها وبعدد النجوم بالسماء ! فأنتِ هي حزن وفرح هذه العائلة !"

احنت حدقتيها الزرقاوين بألم مكبوت تخطى سواحل قلبها وهي تضم كفيها بحجرها باستكانة ، لتقول بعدها بمرارة تتابع افراغ محتويات قلبها بأحزان بحجم الكون
"عندما كنت صغيرة واسبب المتاعب والمشاكل بحياتي كنت اجري إليكِ واحتمي بكِ ، فقد كنتِ حينها جداري المنيع والشامخ الذي يمنع عني كل اذى العالم ، لذا كنت دائما بمأمن وحماية بعيدا عن كل الشرور والاذى الذي كان يترصد من حولي ، حتى عندما كنت اختلق خلاف مع عمي قيس او مع والدتي نفسها كنتِ تدافعين عني بضراوة وتحميني خلف جدارك ، لقد كنت سعيدة جدا بوجودك امامي دائما وبدعمك الكبير لي بدون ان تسمحي بضرر ان يصيبني ، ولكن كل هذا قد تغير تماما وانقلب بعد وفاة والدتي وتحول حياتنا للأسوء ! لم تعودي موجودة بعالمي كما بالسابق ! لقد اختفيتِ وذهب معكِ ذاك الجدار الذي كان يفصلني عن الاذى والضرر ، لقد تجرعت كل انواع الألم وتذوقت شتى انواع العذاب حتى تمنيت الموت ارحم لي من تلك الحياة ! لقد استنجدت بكِ ليالي وايام ! لقد احتجت لحمايتكِ لي ودفاعكِ عني ، لقد كنت ألفظ انفاسي الاخيرة وانا انادي عليكِ واهتف باسمكِ بدون ان يسمعني احد ، حتى تأقلمت بالنهاية مع الوضع الراهن وتوقفت عن المقاومة والبحث عنكِ ، لقد اصبح لدي مناعة وفتور ضد كل انواع التعذيب صقل شخصيتي بصلابة وجردني من الحياة ، لهذا كنت ابتعد عنكِ واتجنبك باستمرار فقد صنعت مسافة تبعدني عن كل من حولي وتعزلني مع نفسي بتلك المنطقة المحصورة بي ، ولكن اعتقد بأن هذا كان اكثر شيء له السبب بتدمير نفسي وتجريدي من مشاعري الانسانية !"

كانت (روميساء) تحدق بها بعينين شاحبتين هطلت بعض القطرات على محياها بعد ان فقدت القدرة على ضبطها ، لتسحبها بعدها بهدوء وهي تحتضنها بين ذراعيها بكل قوة تكنها لها وكأنها توديها كل مشاعرها الداخلية علها تجبر كسورها التي ظهرت للعيان ، لتربت بعدها على شعرها الطويل بنعومة وهي تطبع قبلتها على رأسها هامسة بندم شديد
"انا اعتذر يا حبيبتي ، اعتذر على كل لحظات إهمالي نحوكِ ، لم اكن اعلم بكل ما تمرين به وتعايشينه كل يوم ! لم اكن اظن بأن ما مررت به بكل هذه القسوة ! لقد كنت غافلة تماما عما تعانيه ! ولكن لا بأس فأنا الآن معكِ وبجانبكِ وامامك وخلفك ، ولن اترككِ مهما حصل ويحدث ، فأنتِ ستبقين تحت حمايتي طول العمر وللأبد"

رفعت يديها الصغيرتين وهي تشدد على ظهرها كذلك قبل ان تمسح دموعها بكتفها وهي تتابع بكائها الناعم هامسة بحزن بعمق المحيط
"لا تتركيني مجددا ، لا تتركيني للوحدة ، الوحدة قاتلة ، لا اريد البقاء بالوحدة ، لا اريد الموت الوحيدة ، اريد ان تحميني من الوحدة ، لقد افتقدتكِ يا اختي ! افتقدتكِ بشدة ، لا تتركيني بحياتك !"

زادت من احتضانها اكثر واكثر وكأنها تنجدها من الغرق والضياع مع كل كلمة مكسورة تخرج منها تصيب جزء من قلبها وتخدشه بقسوة ، وهي تستمر بمسح شعرها باطمئنان تبث لها بعض الامان والسكينة والتي تلاشت من حياتهما منذ سنوات واصبحت مجرد كلمات غير معروف معناها تحت سقف بيت وعائلة لم تعرف طعم الراحة يوما حتى نقلوها قسرا لأطفال تلك العائلة والذين كانوا نتاج اخطائهم .

_______________________________
كانت تمسح على رأسها المرتاح فوق الوسادة وهي تدندن بتهويدة ما قبل النوم ، بينما النائمة فوق الفراش العتيق تغمض عينيها على صوت الانشودة الهادئة التي كانت عبارة عن معزوفة موسيقية من ايام الطفولة الغادرة والخالية من كل الشوائب والهموم ، ولم تكن تعلم بأن ذلك الصوت والفراش قد نقلها ببعد آخر مختلف عن الوقت الحالي عندما كانت اكبر سعادتها تتمحور حول جنيات الامنيات والساحرات اللطيفات واكبر همومها هي كيفية الوصول إليهن وتحقيق احلامها المستحيلة بالحياة الصعبة ، تلك الحياة التي كانت تفتقر لكثير من الاساسيات والكماليات والاحتياجات الناقصة بعالم ظالم كل شيء يسير ويدار بالمال والثروة والمكانة العالية المرموقة .

فتحت عينيها السابحتين بزرقة حزينة مثل مياه البحر المالح وهي تهمس بأسى حزين
"هل تذكرين عندما قدم لنا قيس خيارات العيش ؟ لقد خيرنا بين العيش تحت رحمته والعيش بالملاجئ ، لقد كان اختيار صعب علينا بذلك السن الصغير وكأننا اصبحنا بدون احد !"

صمتت صوت النغمة وتبدلت لهدوء شديد وهي ما تزال تمسح على رأسها بنفس الترنيمة ، لتقول بعدها بهدوء حفر الألم بابتسامتها الهادئة
"اجل كيف لي ان انسى تلك الاوقات ! لقد كان من اصعب لحظات حياتنا التي تمر علينا ونمتحن بها ، ولم يكن من السهل تجاوزها وتخطيها والمرور بها ، ولكن الحمد الله على كل شيء فقد كانت نجاتنا من تلك الصعاب اعجوبة نحسد عليها !"

رفعت رأسها قليلا وهي تحدق بوجهها هادئ التعابير وهو يعلوها وصوت انفاسها التي فقدت اتزانها تصل لها بوضوح ، لتهمس بعدها بابتسامة مالت بمرارة وكأنها تتعاطى من رسوم ملامحها
"لقد سألتني ذات يوم عن رأيي بالسكن الذي ارغب به وخيرتني بين السكن بالملاجئ وبين السكن بمنزل عمي قيس ! ولكني اجبتكِ حينها بأنني اذهب للمكان الذي تذهبين له واعيش بالمكان الذي تختارينه لي ، لأن المكان ليس الذي يحدد عالمي بل وجودكِ هو الذي يحدد المكان الذي ارغب بالعيش به"

اخفضت نظرها نحوها حتى مالت زوايا عينيها بحنان متدفق توهج بأعشاب ندية تحت ضوء اشعة الشمس ، لتقول بعدها بابتسامة حنونة وهي تمشط شعرها بأصابعها الرقيقة
"اجل اذكر ذلك جيدا ، فقد كنتِ طفلة شديدة التعلق بي وتتبعيني اينما ذهبت مثل ظلي ، ومع ذلك فلم استطع البقاء معكِ دائما كما وعدتك فقد شغلتني امور الحياة الصعبة وتوفير العيش الهانئ لنا تحت نظام العيش الذي رسمه لنا قيس بدون ان يكون بيدنا الخيار !"

ابتلعت ريقها بصمت حزين لوهلة قبل ان تهمس بشبه ابتسامة نحتت على محياها بصفاء
"ولكنكِ ما تزالين معي ولم تتخلي عني ، وهذا هو كل ما يهمني"

اتسعت ابتسامتها بإشراق شغوف وهي تهمس بمودة ويدها ما تزال تلعب بخصلات شعرها السوداء
"وهل هناك ام تتخلى عن صغارها ؟"

ارتاحت ملامحها وهي تستمتع بتلك اللحظات الجميلة بعد جفاف وظمأ سنوات وكأنها ترتوي بمشاعر ادفئت حنايا قلبها الجليدي ، لتقاطع الصمت التي قالت باستغراب بنبرة صوتها الحانية
"لم تخبريني عن سبب مجيئك لمنزل قيس بليلة البارحة ! لقد ظننت بأنكِ قد عدتِ انتِ وشادي للسكن بمنزلكما المنفرد ، ولم اتوقع ان اجدكِ هنا !"

عادت للنظر لها بعينين كبيرتين بعمق آسر وهي تهمس بخفوت واجم
"لا اعلم حقا ، فقد شعرت برغبة مُلحة لزيارة منزلنا القديم واستعادة الذكريات به ، لقد فكرت بأنني قد اجد غايتي بهذا المكان وقد يلملم الحفرة التي اتسعت بأعماقي !"

تنهدت بشرود وهي تنظر بعيدا عنها هامسة بخفوت مرتخي
"ربما لن نستطيع إيجاد غايتنا من الحياة بالنهاية"

ضاقت حدقتيها الزرقاوين بجمود وهي تهمس بهدوء جاد بدون ان ترفع صوتها
"ولكن ماذا عنكِ ؟ لماذا جئتِ لمنزلنا القديم ؟ هل جئتِ لاستعادة ذكريات ام لغاية محددة ؟"

زادت غمامة ملامحها السابحة بالفضاء لبرهة قبل ان تحرك كتفيها ببرود وهي تهمس بعدم اهتمام
"انا بنفس حالتك لا اعلم حقا ، ربما اردت العودة للماضي لأعرف الاخطاء التي ارتكبتها بحياتي ! او ربما هي تلك الغريزة الطبيعية التي تعيدك لنقطة البداية للتفتيش عن نفسكِ التي تركتها هنا وغادرتِ !"

احنت نظراتها للأسفل بوجوم وهي تسبح بتلك الزاوية المعتمة من جانب حياتها ، لتطرأ بعدها ذكرى طارئة على عقلها وهي تحاول النهوض قائلة بتشتت واضح
"اين هو ؟ اين هو الدفتر ؟ اين هو دفتر الذكريات يا اختي ؟"

نظرت (روميساء) لها بقلق وهي تهمس بتفكير عابس
"ماذا ؟!"

تسمرت حدقتيها عليها وهي تتنفس بتسارع طفيف ظهر بوضوح بخفقات صدرها ، لتهمس بعدها بشرح متخبط الافكار
"اقصد الدفتر الذي كان بحوزتي ، دفتر مذكرات امي"

عقدت حاجبيها بجمود بعد ان فهمت تلميحها وسبب تخبطها المفاجئ ، لتلتفت بعدها على الجانب الآخر وهي تمسك الدفتر لتعود لها وهي تلوح بالدفتر بيدها ، اعتلت ابتسامتها بارتجاف متلهف وهي تختطف الدفتر منها بلمح البصر لتتمعن بالنظر له وكأنها تتأكد من وجوده !

قاطع رحلة تأملها صوت شقيقتها وهي تقول بابتسامة لطيفة بمحبة
"يبدو بأنه مهم جدا بالنسبة لكِ ! ولكن الذي يحيرني كيف وجدته ؟ فقد بحثت عنه كثيرا بعد انتقالنا لهذا المنزل ولم استطع إيجاده بأي مكان ، لقد ظننت بأنني قد فقدته للأبد !"

نظرت لها بعينين مشدوهتين وهي تهمس بصدمة
"هل كنتِ تعلمين بوجوده ؟ ولما اخفيته عني كل هذه المدة ؟"

ارتفع حاجبيها بدهشة لم تستغرق طويلا قبل ان تضحك بمرح وهي تربت على كتفها هامسة بخفوت مبتهج
"لست انا من اخفيته بل هو من اختفى من تلقاء نفسه ، لقد كانت امي معتادة على كتابة مجريات احداثها المهمة بدفتر مذكراتها ، وقد وصتني عليه دائما واخبرتني ان احافظ عليه كأمانة لها ، وبعد وفاتها اخذته واحتفظت به بين اغراضي ، ولكن بعد انتقالنا لهذا المنزل بمدة وجيزة اختفى الدفتر ولم استطع ان اجد له اي اثر ! ولم اتعمد اخفاءه عنكِ كما تظنين يا بلهاء !"

اومأت برأسها بصمت وهي تمسح على غلاف الدفتر بكفها الشاردة قبل ان تهمس بخفوت مشتد
"لم احاول البحث عنه ، لقد رأيت شق صغير بالخزانة وقد ظننته من تآكل الخشب المهترئ ، ولكن ما ان حاولت مد يدي بالشق حتى انكسر باقي الخشب وخرج هذا الدفتر منه ! هل كنتِ تعرفين عن هذا المخبئ يا روميساء ؟"

ادارت مقلتيها بتفكير لحظي قبل ان تقول بابتسامة هادئة بتحليل منطقي
"اعتقد بأن الدفتر قد وقع بشكل ما بداخل شقوق الخزانة وبقي عالق بها ، لذا لم استطع إيجاده طول تلك الفترة ، هذا التحليل المنطقي لكل ما يحدث"

ابتسمت بهدوء حتى ظهرت زوايا حول شفتيها الجميلتين وهي تهمس بتملق
"لقد اصبحت منطقية جدا !"

ردت عليها من فورها بابتسامة رقيقة
"هل سامحتِ والدتنا ؟"

حركت كتفيها ببرود وهي تهمس بنبرة شاردة غير معبرة
"اعتقد ذلك"

تنفست بهدوء وهي تنهض عن الفراش بجانبها ببطء حتى استقامت بهدوء ، لتلتفت نحوها وهي تقول بابتسامة جانبية بطرافة
"حسنا يا آنسة كئيبة ، انا سأذهب للبحث عن الطعام بالمطبخ وتحضير الفطور لنا ، فقد بدأت اتضور جوعا من كل هذه الذكريات السوداوية ، وانتِ لا تتحركي من مكانكِ حتى اعود"

رفعت رأسها بسرعة وهي تراها تغادر المكان لتقول من فورها بتطوع
"هل استطيع مساعدتك ؟"

قالت بكلمة واحدة بحزم وهي تخرج من الغرفة
"لا"

عضت على طرف ابتسامتها وقد كانت تتوقع سماع مثل هذه الاجابة والتي لم تفاجئها مطلقا ، لتعود بعدها للشرود بالكتاب بصمت عميق وكأنها تحمل ماضي مختلف بداخل صفحاته السجينة منذ اعوام .

رفعت رأسها بسرعة ما ان اخترق صوت الهاتف سحابة صمتها ، لتدس بعدها يدها بجيب سترتها وهي تخرج هاتفها منها ، ليتغضن جبينها بارتباك غزى محياها ما ان ظهر لها رقم مجهول ، ولم تتردد بعدها بالرد عليه وهي تقول بعملية
"مرحبا ! من معي ؟"

سمعت الصوت من الطرف الآخر بعث القشعريرة بأطرافها وهو يقول بخشونة عملية لا تحمل الرأفة
"هل انتِ ماسة الفاروق ؟"

ابتلعت ريقها بارتعاش وهي تأخذ لحظات قبل ان تجيب بصوت متحشرج بتصلب
"نعم ، من يتكلم معي ؟"

اجابها الصوت الخشن وهو يقول مباشرة بدون اي مقدمات
"انا من قسم الشرطة الجنائية ، لقد اتصلت بكِ لكي اوصل لكِ خبر وفاة السجين قيس حجاج ، فقد تلقى رصاصة بصدره من بين محاولاته الحثيثة بالهروب من السجن وقد قتلته فورا قبل الوصول للمشفى ، لذا اتصلت بكِ من اجل القدوم لاستلام الجثة والقيام بواجب العزاء اتجاهها بما انكِ ابنته الوحيدة المسجلة بين ارقام هاتفه ، واتمنى ان توصلي الخبر لباقي افراد عائلته ، رحمة الله عليه"

ازدادت وتيرة انفاسها الشحيحة حتى اصمت كل الاصوات من حولها بدائرة سوداء لم تعد تبصر غيرها ، ولم تستطع سماع صوت (روميساء) التي عادت لها وهي تقول بعفوية
"اسمعي يا ماسة ، كل ما وجدته هي معلبات منتهية الصلاحية ، وكذلك الخبز والحليب كله متعفن ، لذا ينبغي لي الذهاب للمخبز المجاور وشراء المخبوزات الطازجة ، والمرور على البقالة لشراء الحليب والعصير ، ما رأيكِ انتِ ؟"

تغضنت تقاسيمها برهبة من الاجواء الباردة التي غيمت بالمكان ، لتتقدم بعدها عدة خطوات وهي تهمس بتوجس قلق
"ماسة ! لما لا تجيبين ؟"

ما ان وصلت عندها حتى وقع الهاتف من يدها ارضا اصدر صوتا عاليا ، وليس هذا ما جذب انتباهها بل الصوت الخارج من الهاتف الملقى وكأنه يحاول الوصول لطرف المتصل ، لتنحني بعدها على ركبتيها وهي تلتقط الهاتف بهدوء لتضعه على اذنها ببساطة ، وقبل ان تجيب فاجأها الصوت الذي كان يقول بخشونة هادرة بأذنها
"ماسة الفاروق ! هل تتكلمين معي ؟ هل هناك احد على الخط ؟"

عبست ملامحها وهي تستقيم بهدوء قائلة بمهنية جافة
"نعم ، انا شقيقتها الكبرى روميساء الفاروق ، ماذا تريد منها ؟"

اجابها من فوره بجفاء وكأنه لا يهتم لهوية المتكلم معه
"لا بأس المهم هي نفس الكنية ، لقد اتصلت لأطلب منكم استلام جثة والدكما قيس حجاج فقد مات برصاصة اودته قتيلا ، وهو الآن متواجد بالمشفى العسكري"

انفرجت شفتيها بأنفاس مشدوهة عصرت قلبها بانطباق شديد ، لتهمس من فورها بنبرة جادة بعد ان تخطت الصدمة اسرع من شقيقتها
"متى حدث هذا ؟"

ردّ عليها بلحظة بصوت عملي وكأنه ينقل خبر سياسي عاجل
"لقد حدث ليلة البارحة بمحاولة فاشلة للهروب من السجن كالعادة ، وهناك تلقى حتفه !"

اخذت عدة انفاس تهدئ نفسها من الخبر الذي طرق باب حياتهما بدون سابق إنذار ، ليعود صوت الرجل ليقصف بأذنها بنبرة فظة
"سيدتي عليكم باستلام الجثة من المشفى فهو لن يبقى هناك طويلا ، واعتذر على الإطالة عليكم ، ولكن توجب عليّ إيصال الخبر"

اومأت برأسها برجفة مرت على طول عامودها الفقري وهي تهمس بهدوء ممتن
"اجل سيدي فهمت ، وشكرا لك على اتصالك"

فصلت الخط وهي تخفض الهاتف عن اذنها ببطء شديد وكأنها تستوعب حقيقة ما سمعته للتو ، ولم يوقظها من لوعة افكارها سوى صوت سقوط احدهم ارضا باصطدام قوي .

شهقت بذعر وهي تلتفت من فورها للجسد الذي وقع بجانب الفراش بإغماء مفاجئ وكأنها جثة اخرى فقدت الحياة ، هبطت بسرعة بجانبها وهي تحمل رأسها فوق ركبتيها لتضرب على خدها بقوة تحاول افاقتها برعب دب بأوصالها
"ماسة ! بسم الله عليكِ يا صغيرتي ! استيقظي يا ماسة ، حبا بالله لا تفعلي بي هذا ! استيقظي ارجوكِ ، ارجوكِ"

خفتت آخر كلمة بانتحاب وهي ترفع يدها بارتجاف عن رأسها والتي امتلأت بالدماء من الضربة التي تلقتها بسقوطها ، لتعانق رأسها بين ذراعيها بهلع وهي تجهش ببكاء عالي انتفض بجسدها بألم فاق اي ألم آخر فهذا هو الموت الذي لا تعرف تبعاته ومرارته سوى من جربه ومن رحم الوجع يأتي !

_______________________________
بعد مرور اليومين......

كانت تريح جانب رأسها على زجاج النافذة وهي تشرد بالطريق المتحرك بجوارها بسرعة ثابتة لا تزيد ولا تقل فقط ثابتة ، وهي تشاهد العالم بنظرات فارغة اختلت من كل انواع المشاعر الانسانية والعاطفية وعلقت بين شعورين بدون ان تحدد مكانها بين الفرح والحزن وما بينهما ، حتى اصبحت فقط جسد يحركه دافع داخلي بغريزة العيش التي تأقلمت معها منذ الأزل وقد يكون منذ ولادتها ، وكل هذا انتابها منذ اختبار الموت من جديد ومع قريب مختلف من عائلتها ، ولكن ماذا لو كان ذاك القريب هو الاسوء على الاطلاق ؟ ماذا لو كان سبب دمار حياتها وما آلت لها ؟ كيف سيكون عندها شعورها ؟ هل ستتقبل موته وتحزن عليه وتشفق على نهايته ؟ ام ستضحك بأعلى صوتها وتتشمت به بعد ان انتصرت على وجوده اللعين بحياتها ؟ لا تعلم كيف ستجسد شعورها ذاك ؟ ولكن كل ما تعرفه وتستطيع الشعور به بأن الحزن لن يكون موجه نحوه مباشرة بل سيكون موجه على حياتها التي تدمرت بين يديه ليفارق حياته ويتركها تموت بذاك العذاب المسمى القهر والحقد !

تشنجت ملامحها بضعف خفي ما ان وصلها صوت الجالسة بجوارها وهي تقول بهدوء شديد اصبح يتقمصها بالآونة الاخيرة
"لقد تأخر موعد الدفن بسبب اجراءات الشرطة والمشفى واتمام معاملات استلام الجثة ، وخاصة بأنه كان يصعب علينا اثبات القرابة التي تصلنا بزوج والدتنا ، ولا تنسي الديون والمشاكل التي تركنا غارقين بها حتى اضطررنا لسداد كل شيء واقفال كل الحسابات ، ومن الجيد بأن العم جلال قد ساعدنا وتدخل بالأمر ووقف بصفنا بما انه الشقيق الوحيد لقيس ، وهكذا اصبح موعد الدفن بعد يومين من وفاة الرجل"

طرفت بعينيها الزرقاوين بصمت وهي تهمس بخفوت بائس
"انتِ من طلبتِ المساعدة من العم جلال ؟ صحيح !"

اومأت برأسها وهي تتابع كلامها بنفس النبرة المتزنة بجدية
"اجل لقد اضطررت لطلب المساعدة منه باستلام جثة قيس ، فهو شقيقه وستكون الامور اسهل إذا ذهب بنفسه واستلمه ، بالإضافة بأنني كنت بمواجهة كل هذا وحدي فقد كنتِ بحالة عصيبة بعد ان اصبت برأسكِ وغبت عن الوعي ، لقد تعبت من تقطيع نفسي ومطاردة ذاك وذاك واتمام كل شيء ! لقد كانت اسوء ايام تمر بحياتي !"

ابتعدت عن زجاج النافذة ببطء حتى اعتدلت بجلوسها باستقامة ، لتضم بعدها يديها بحجرها وهي تهمس بأسى واضح لم يفارقها لهذه اللحظة
"ألم يقدم لكِ احد المساعدة بهذه الظروف ؟ اقصد عائلة الخال محراب ألم يحاولوا مساعدتك بشيء !"

مسحت ملامحها بشحوب تيبست الدماء تحت بشرتها وهي تقول بهدوء جاف وكأنها ترسم قناع الا مبالاة بإتقان
"لم اخبرهم بما حدث معنا ، ولم احاول التكلم او التواصل معهم ، وايضا من هو هذا الرجل بحياتهم حتى يساعدوني من اجله ! إذا كانوا لم يساعدوا من تقرب لهم بالدماء هل سيساعدون الرجل الذي اهتم بتربيتنا ؟ نحن فقط نقوم بواجبنا اتجاه زوج والدتنا من اجل احتوائه لنا بمنزل وعائلة ، وغير هذا لا نملك فعل شيء سوى التحسر على شبابه وعمره"

رمقتها بطرف حدقتيها المائيتين بأمواج هدرت بالأعماق وهي تهمس بخفوت ساخر وكأنها تواكب الموجة
"كما حدث بالماضي ، لا شيء تغير ابدا ، ولن يتغير مهما كبرنا وتقدم بنا العمر العقلي والجسدي !"

تنهدت (روميساء) بإحباط اصبح يغيم من حولهما بشحنات طردية غير مستقرة ، لتقول بعدها بصلابة تستعيد شخصيتها التي صقلتها الايام
"لا تفكري بكل هذا الآن ، المهم بأننا استطعنا تجاوز كل هذه الصعاب ووصلنا لخط النهاية ، والآن نحن ذاهبون لعزاء زوج والدتنا لذا اظهري بعض مشاعر الحزن والاسى وكفي عن التذمر والتبرم هكذا ، ألا يكفي بأننا قد اخرنا مراسم الدفن يومين ؟ يا لها من حالة غريبة لم تحدث بتاريخ البشرية !"

كتفت ذراعيها فوق صدرها بجمود وهي تقول بابتسامة حجرية غير معبرة
"هذا ليس غريب عن حياتنا ، فنحن نواجه الغرائب منذ ولادتنا !"

لم تعلق على كلامها وهي تنعطف على جانب الطريق ما ان وصلوا امام بوابة المقبرة ، لتطفئ بعدها محرك السيارة والتي كانت قد اخذتها بالإيجار لتنظر للجالسة بجوارها باهتمام وهي تهمس لها بخفوت قلق
"هل انتِ بخير ؟ هل تستطيعين حضور المراسم ؟ لقد كان من الافضل لكِ البقاء بالمنزل واخذ قسط من الراحة ، فأنتِ......."

قاطعتها بقوة وهي تنظر لها بابتسامة عميقة لم تصل لعينيها اللتين اتخذتا ألمهما قوة
"انا بخير يا روميساء ، ولا اريد ان اضيع عليّ حضور مراسم الدفن ، فهذه الطريقة الوحيدة لأتقبل الواقع وادفنه بداخلي للأبد !"

غامت ملامحها بحزن وهي تفهم جيدا مغزى كلامها وهدفها فهي تريد ان تعاند الألم بمواجهة الوجه الآخر للألم لتكون العلاقة عكسية وتقتل محور ذاك الألم ، فكت بعدها حزام الامان وهي تهمس بخفوت يائس بعد ان فقدت الأمل من ردعها
"يا لكِ من مجنونة !"

ابتسمت بهدوء مجرد انشداد بشفتيها تظهر تكبدها والعناء بالابتسام ، لتفتح بعدها الباب بجوارها وهي تخرج من السيارة بامتثال ، رفعت الوشاح الاسود فوق رأسها بحداد مثل ثيابها وهي تتشح بالسواد من رأسها حتى اخمص قدميها .

تنبهت بعدها لصوت شقيقتها التي اصبحت تبعد عنها امتار وهي تقول بصوت صارم
"هيا يا ماسة ، لن ننتظر طويلا هنا حتى ينتهوا من مراسم الدفن"

تحركت بسرعة بخطوات مهرولة ناحية مكان وقوف شقيقتها ، وما ان اصبحت بجانبها حتى امسكت بيدها بحركة تلقائية بالفطرة وكأنها تمد نفسها بالقوة والعون للدخول لذاك العالم والذي صادف دخولهما له لمرتين لتكون هذه المرة الثالثة ، فقد طرق الموت بابهم بأعمار مختلفة كانت بين الطفولة والرشد والآن الشباب ، وكل هذه السنوات تتعاقب عليهما الواحدة تلو الاخرى وتتسابق من منهم تهزم عزيمة الاخرى .

تقدمت بخطوات قوية وهي تشق طريقها تسحب معها الاخرى طواعية والتي تتبع خطاها فقط ، فهي لطالما كانت تتبع تلك اليد التي تشد عليها بكل قوة بدون ان تفلتها خوفا من ان تضيع بسواد ذاك العالم والذي خطف الكثيرين منها ولم يبقي لها سوى القليل منهم ، وفقدان ارواح اخرى تحيط بها يعني الموت وحيدة بالحياة بعد ان تتلاشى عن الانظار وتدفن تحت التراب ، وهذا كان رهابها الوحيد طول تلك السنوات !

وقفت كليهما باستقامة حداد امام القبر المجهز للميت بداخل التابوت ، وكل افراد عائلته من شقيق وحيد واولاده وبنات زوجته مجتمعين من حوله يشهدون على نهاية قصة رجل قضى حياته بفعل الاعمال السيئة وكسب الخطايا والذنوب حتى انتهى به المطاف بنهاية لا يتمناها الاعداء له لتنزل الستارة على قصته .

_______________________________
سارت على محاذاة الطريق العشبي بخطوات بدأت تفقد اتزانها وكأن مهمة السير اصبحت من المهام الصعبة عليها والكفيلة بإرهاقها حد الموت ، وهي تضم ذراعيها امام صدرها تحاول حفظ الحرارة واختزالها بجسدها الذي بدأ يتخشب ببرد صقيعي من تقلبات الجو ، ولا احد يعلم بأن مصدر البرد الحقيقي نابع من اوردة قلبها المتجمدة من كل ما شهد عليه اليوم ، فقد حضرت اليوم مراسم دفن رجل لم تعرفه سوى باسم القرابة التي تجمع بين العائلتين بنفس الكنية ، وباسم القرابة التي جعلته يتزوج من والدة صديقتها المقربة حتى اصبحت فرد من عائلتها بغض النظر عن حقيقة العلاقة ، ولا تعلم لما انتابتها كل تلك المشاعر العجيبة والمختلطة منذ معرفتها بوفاة ذلك الرجل الذي لم يكن يحمل سمات او ذكريات تجعلها تتأثر برحيله بأي طريقة !

تنهدت بجهد وهي تتوقف بمكانها بعد ان شعرت بعدم إمكانيتها على الاستمرار اكثر ، وقد ندمت كثيرا على تركها لهم بمنتصف العزاء واستعجالها الرحيل بسبب تعبها المفاجئ الذي هد مقاومتها على الثبات وكأن الجنين بداخلها يستصعب تحمل كل تلك الاجواء السوداوية والمشاعر السلبية التي جثمت على صدرها بثقل جديد ، وكل هذا بسبب اصرارها على حضور مراسم الدفن بعناد علها تستطيع مشاركة آلام عائلة صديقتها والتي وقفت معها بكل ظرف وبكل موقف صعب .

رفعت رأسها وهي تجول بنظراتها من حولها تبحث عن اي اثر للسيارة التي اختفت من الوجود وكأنها تسير بالعراء بدون اي إشارة حياة ، شددت بذراعيها حول بطنها تضغط عليها بألم مكبوت حرق احشائها الداخلية ، لتنحني بعدها على ركبتيها وهي تحاول تلقف انفاسها الذاهبة بدون ان تأبه بالمكان والزمان فقط تمد نفسها والجنين بداخلها بالأكسجين الذي فرغ منها .

انتفضت برجفة خاطفة سكنت القلب المكسور وهي تستمع لصوت الخطوات المقتربة يتبعها الصوت المألوف الذي لا يغيب عن ذاكرتها
"صفاء"

ابتلعت ريقها بغصة قاتلة وهي تحتضن بطنها بقوة هامسة بدعاء خافت تنفي انتفاض قلبها بأضلعها وكأنه يصرخ بالرحمة
"لا يا إلهي ! لا يمكن ان يكون حقيقي ! ساعدني ياربي"

عاد الصوت مجددا بعد ان اصبح اكثر قربا وكأنه يثبت حقيقة وجوده بالمكان
"صفاء ! هل انتِ بخير ؟ صفاء اجيبِ......."

صمت عن الكلام ما ان انتصبت بسرعة امامه وكأن الحياة قد دبت بها بشكل مفاجئ ، وما هي ألا لحظات صمت زادت وتيرة شحنات قلوبهما حتى تحركت بتلقائية وهي تكمل طريقها المستقيم وكأن الألم هو ما يدفعها للثبات بقوة ، حتى بعد سماع صوته القوي شديد الانفعال تكاد تستشعر انفاسه عبر الهواء المتسرب إليها
"صفاء انتظري مكانكِ ! صفاء !"

شهقت بذعر وهي ترتد للخلف عدة خطوات بتعثر ما ان سد عليها الطريق بلمح البصر ، لتستقيم بعدها بأعجوبة وهي تلهث بخفقات صدرها بتعاقب سريع ، لتخفض رأسها بعنق عنقاء مكسور وهي تطبق اصابعها على ذراعي قميصها الاسود بضغط هائل .

تنفس بانتظام وهو يستعيد حزم زمام الامور بلحظات ليقول بعدها بجدية بدون ان يختفي الانفعال عنه
"هل انتِ بخير ؟ لقد كنتِ تبدين لي متعبة وغير قادرة على السير ، هل تحتاجين للمساعدة ؟"

غرست اسنانها بطرف شفتيها تكتم على مشاعرها بجرح جديد تغلغل بحنايا جسدها الضعيف ، لتحاول بعدها تجاوزه بطبيعية وهي تتجنبه قدر الإمكان ، ولكنه لم يسمح لها بالمرور بسهولة فقد عاد للوقوف امامها مثل الصرح العالي الغير قابل للتحرك او الانصياع للأمر ، لتتنفس بعدها بضيق وهي تكاد تمزق قماش قميصها من اصابعها القابضة بدون رحمة كما ضربات قلبها التي ضربت كل عصب بجسدها .

قال بعدها من جديد بهدوء اكثر جدية وبدون ان يفارق نظره رأسها الهابط وذيل حصانها النائم على كتفها من تحت وشاحها الاسود
"لا فائدة من الهروب هكذا يا صفاء ، فأنا لست وحش اتناول البشر حتى تخاف مني هكذا ! كل ما اريد معرفته هو إذا كنتِ بخير ، اجيبِ يا صفاء !"

ردت عليه بخفوت مضطرب ببحة مرتجفة
"انا بخير ، هل ارتحت الآن ؟"

تصلبت ملامحه بهدوء منحوت من صخر بدون ان يعلق على كلامها ، وما ان حاولت تجاوزه مرة اخرى بسرعة حتى وقف امامها بقوة بدون ان يسمح لها وكأنه يترصد حركاتها بمهارة ، لتتراجع للخلف خطوات مبعثرة وهو يشتت سيطرتها على نفسها وحركاتها ، ليقول بعدها بجمود اكبر وهو ينزع قناع الهدوء عنه
"لماذا تتعمدين الهروب مني هكذا ؟ ماذا فعلت لكِ حتى تعامليني بهذه الطريقة ؟"

تجمدت ملامحها بلمحة غضب نادرة وهي ترفع رأسها هامسة بصوت تشنج بحرارة
"وما زلت تسأل ماذا فعلت !"

شحبت ملامحها الذابلة عندما ادركت تهورها وهي تواجهه بغضب لأول مرة ، بينما كان الآخر مستغرق بتأملها عن كثب بدون ان يعطي كلامها اهتمام بعد ان استطاع اخيرا اخراجها من قوقعة صمتها ولاقى تفاعل منها ، ليستعيد بلحظة تركيزه ما ان اشاحت بوجهها بعيدا وكأنها تنهي الهروب التي ارسلتها بداخله بنظرة واحدة لتلك العينين الهائجتين بانصهار الغضب .

تنحنح (جواد) بعدها بقوة وهو يتابع كلامه من مكان ما توقفت باهتمام بالغ برغبة بالحديث
"اجل وماذا فعلت لكِ ؟ هلا اخبرتني !"

عقدت حاجبيها البنيين ببعض الدهشة وهي لا تصدق بأنه يسأل مثل هذا السؤال الساذج بعد كل ما حدث بينهما وجرى ! لتخفض بعدها نظرها لقدميها المغروستين بين العشب وهي تقول بوجوم حانق
"ما لذي تفعله يا جواد ؟ بل كيف عرفت بمكاني ؟ هل انت تراقبني ؟"

تقدم خطوات يقطع المسافة بينهما حتى ظهرت قدميه بالحذاء الاسود الطويل بمجال نظرها تعادل عن عشرة امتار من قدميها الصغيرتين الملاصقتين بتقلص ، ليخترق صوته غشاء افكارها وهو يقول بخشونة ببحة رجولية
"انا اراقب كل حركاتك وطرقك واماكنك ، واعرف ايضا كل تفاصيل حياتك وما وصلت له من تقدم وتطور كبير مثير للاهتمام ، فأنتِ ما تزالين تحت سيطرتي وليس لكِ الحرية باتخاذ قرارات حياتك بدون ان يكون لي علم بها !"

نظرت له بسرعة بدون ان تعلم بأنها قد وقعت بشباك عينيه الصقريتين وكأنها قد وقعت بالمصيدة ، لتشتد شفتيها بتقوس عابس وهي تهمس بخفوت ساخر اتقنت اظهاره بنبرتها
"حسنا هذا ليس غريب عنك ، فأنت كنت تراقبني هكذا وتتحكم بحياتي من قبل تعارفنا وبكل مراحل سنواتي ، حتى اصبحت مثل الشاة المستهدفة والتي تساق لمصيدتها بكل طواعية !"

تغضنت ملامحه بجمود لحظي لم يدم طويلا قبل ان يتلبس قناع البرود الجليدي وهو يقول بابتسامة طفيفة بهدوء
"لقد اخطئتِ التعبير تماما ، فلم تكوني يوما شاة تساق لمصيدة ، بل كنتِ جنية صغيرة اهتم بحراستها ورعايتها حتى تكبر وتزدهر واستطيع امتلاكها ، لقد كنتِ كل هذه السنوات تحت مسؤوليتي الخاصة بدون ان احصل على الإذن من احد وما تزالين كذلك لآخر يوم بحياتك"

اضطربت ملامحها لا إراديا بتعبير اجتاح كيانها وهي تعلق بدوامة احلام يقظتها التي ظنتها دائما مجرد اوهام حتى اثبت وجوده الحقيقي وهي تكتشف فقط بأن ظله كان مرافق لها طول تلك السنوات منذ كانت بعمر العاشرة وما فوق ، لتطرف بعدها بعينيها بجمود تستعيد شعورها السابق نحوه وهي تهمس بأسى مرير
"ولكن هذا لا ينفي حقيقة بأنك كنت تجهز لاحتجاز تلك الفراشة بقص اجنحتها وألقاءها بعد انقضاء مهلة سجنها بدون اي قلب او روح ، هيا حاول إنكار تلك الحقيقة !"

رفع رأسه قليلا بعد ان ضربته هذه المرة بقوة تسلحت بالحقيقة المريرة حتى شعر بألمها ، ليقول بعدها بابتسامة شاردة ببعض الدهشة
"لقد كان هذا مؤلم بالفعل ، لقد استطعتِ إيلامي اكثر من اي مرة !"

ارتجفت شفتيها من تعبير كلامه وملامحه والذي تلمح الألم بهما لأول مرة ، لتهمس بعدها بجموح وهي تتسلح بالسخرية التي طفت على السطح
"منذ متى تشعر بالألم ؟ انت تجيد فقط إيلام الآخرين اكثر من الشعور بالألم ! مثلا هل تعلم بأن وجودك امامي يؤلمني ؟ هل تعلم بأن اصرارك على التكلم معي يؤلمني اكثر من صمتك ؟"

اخفض وجهه نحوها وهي تلمح السواد بعينيه يزداد عمق واتساع وكأنها هوة سوداء سحيقة سحبت المجرة بأكملها ، لتنجذب بعدها لصوته وهو يقول بتصلب قاتم
"لم اعرفكِ بهذه الشخصية الساخرة ! منذ متى اصبحت بكل هذه القسوة والعنف ؟"

انفرجت شفتيها تأخذ انفاس طويلة لتملئ رئتيها بالأكسجين بعد كل ما حاكى امامها ، لتقول بعدها بابتسامة حزينة حفرت بندوب قلبها
"الألم يغير الانسان ، الألم يغير شخصيته ومشاعره وكلامه وتصرفاته ، وهذا الألم قد غيرني تماما ، لذا لم تعد لك فرصة لاستغلال وكسر هذه الفراشة !"

اشتدت خطوط شفتيه بكبت وهو يقول من بينهما بجمود كاسر وكأنه ينفي حقيقة كلامها
"ولكن هذا الألم لم يغيرني ، فأنا ما ازال هائم بحب تلك الفراشة الكسيرة ، وهذه الحقيقة التي عليكِ تقبلها بكل احوالكِ"

ضاقت حدقتيها العسليتين بسحابة حزينة طافت على محياها ببهوت ، لتنفض رأسها بقوة وهي تندفع بسرعة الطلق هامسة بضيق
"انا قد تأخرت كثيرا ، ويتوجب عليّ المغادرة"

وهذه المرة استطاعت تجاوزه بلمح البصر عبرت حصونه وهي تنطلق تجري بالطريق ، ولكن بعد مسافة قصيرة كانت تترنح بارتجاف وهي تشعر بالعالم يدور بأمواج سريعة حتى طارت قدميها عن الارض وفقدت الشعور بهما ، وقبل ملامستها للأرض شعرت بشيء يسندها ويرفعها عاليا حتى وصلت عنان السماء مثل طائر محلق حر .

استمرت بغيبوبتها بين اليقظة والحلم حتى شعرت بقطرات الماء تسيل على بشرتها الجافة مثل هطول المطر على ارض قاحلة انعشت سطح روحها ، لترمش بعينيها الناعستين عدة مرات بإجهاد حتى استقرت على صورة الصدر الذي كان يحتويها واليد التي تقرب منها فوهة زجاجة الماء ، استغرقت لحظات إدراك قبل ان تفتح فمها الصغير وهي تتلقى انبوب الزجاجة الذي اوصل الماء بداخل حلقها الجاف ومدها بالحياة .

بعدها بلحظات كان يبعد الزجاجة عنها وهو يستبدلها بملامسة اصابعه الطويلة على وجهها ناعم التقاسيم وهو يهيم بجمالها وكأنه يرسم تحفة فنية فوق محياها ، لتغضن جبينها بضيق وهي تستعيد شعورها بالواقع بشكل تدريجي واطرافها الباردة تنتفض بإفاقة بداخل غمامتها الدافئة الحصينة ، ليكون ذلك الشعور المتغلغل بالقلب بتلك القبلة التي حطت مكان اصابعه على شفتيها المنفرجتين بإطباق مشتعل هو ما انتشلها من عالمها .

اتسعت مقلتيها العسليتين بجزع وهي تبتعد عنه لدرجة لم تدرك بأن ظهرها يصطدم بالمقود بداخل السيارة ، تشنجت ملامحها بألم غير مرئي وهو يراقبها بصدمة من اندفاعها الغير واعي ، لتتحامل بعدها على نفسها وهي تنهض بصعوبة من فوق ساقيه التي اتخذت مكان المقعد لتخرج من السيارة بأكملها .

ما ان استوت واقفة على قدميها حتى جرت خطواتها سنتمترات قصيرة ، لتتصلب فقرات ظهرها بارتجاف ما ان وصل لها بلحظات وهو يقول بأمر نافذ
"انتِ لست بخير يا صفاء ، وتحتاجين لرؤية الطبيب بسرعة لمعاينة حالتك وسبب غيابك عن الوعي !......"

قاطعته بسرعة وهي تستدير دورة كاملة حول نفسها لتلوح بيديها بوجل هامسة بإعياء واضح
"لا ، لا اريد رؤية الطبيب ، لا احتاج للطبيب !"

ارتفع حاجبيه باستغراب بعد ان اثارت الشك بقلبه بنفيها للفكرة بقوة ، لتخفض يديها بسرعة وهي تهمس بخفوت مشتت تائه بدائرات تفكيرها
"اقصد بأنني بخير جدا ، ولا احتاج لرؤية طبيب لمعاينة حالتي ، ولا اريد اهتمامك......"

غصت بكلامها بأنفاس مجهدة من ثورة المشاعر التي احتلت قلبها ونشرت الفوضى بداخلها ، لتشعر بدوار آخر يلف عالمها قبل ان يعود من جديد ليعتقل خصرها الغض بذراعه ويقرب جسدها من صدره الصلب ، ليغطي جبينها بيده يقيس حرارتها وهو يتمتم بوجوم
"ما بكِ يا صفاء ؟ انتِ غير طبيعية ! ما لذي تعانين منه ؟"

حركت رأسها بالنفي على صدره وهي تهمس بنشيج خافت تستشعر ضربات قلبه القوي مثل الحياة بجانب اذنها
"ليس هناك شيء ، انا بخير ، فقط متعبة قليلا"

كان على وشك قول شيء لولا الصوت الرجولي القادم من الطريق نفسه يهتف بقوة
"صفاء !"

التفت كليهما نحو مصدر الصوت والذي تلبس ملامح البرود الجليدي وهو يقطع المسافة بينهما بخطوات هادئة بثبات ، وما ان وقف امامهما وصاحب النظرات القاسية ما يزال يعانق جسدها ويكبل خصرها بذراعيه ، حتى قال بعدها بهدوء جاف يتغاضى عن كل ما يراه ويوجه حديثه لشقيقته
"ماذا تفعلين هنا يا صفاء ؟ لقد كنت ابحث عنكِ بكل مكان ، ألم اخبركِ ان تذهبي للسيارة وتنتظريني بداخلها ! ماذا حدث معكِ ؟"

ابعدت رأسها عن صدره بمقاومة وهي تهمس بخفوت مرهق
"اعتذر ، لقد اضعت الطريق للسيارة ، ولا اعلم كيف وصلت هنا !"

اومأ برأسه بدون معنى وهو يمد ذراعه لها قائلا ببرود قاتم يحافظ على انضباط نفسه
"إذاً هيا بنا ، علينا المغادرة من هنا"

ارتجفت مفاصلها ما ان شدت ذراعه على خصرها بإحكام وكأنه يطلب منها البقاء معه ، لتدير بعدها وجهها ناحية شقيقها الساكن وهي تمد كفها لذراعه لتقبض على يده الممدودة بقوة تعطيه الضوء الاخضر ليباشر بسحبها ، وبالفعل كان يسحبها بقوة من بين براثنه حتى اخفض ذراعيه على مضض لتستقر بلحظة بين احضان شقيقها والذي احاط كتفيها بذراعه بإحكام واسند رأسها على صدره .

غادر بعدها الشقيقين امام عينيه السوداوين الحالكتين وكل مشاعره السابقة حشرت بجوفهما ، لتتركه بعدها بتلك الهوة التي ألقته بداخلها بكل قسوة وطلبت المساعدة والنجدة من غيره لينقذها من نفس الهوة التي كان قد سقط بها كليهما بنفس المصير والقدر المحتوم .

_______________________________
كان يريح ظهره على جانب السيارة وهو يشرد بألوان السماء الشاحبة وكأنها تشارك سكان الارض اجوائهم الحزينة بانسجام متناغم ، فهو يعرف جيدا طبيعة هذه الاجواء وتآلف معها كثيرا حتى اصبحت لديه مناعة ضد كل هذه المؤثرات والمشاعر التي تتركها مثل هذه المناسبات والتي تأتي بالتتابع بداية بمراسم الدفن بعدها اصول استقبال التعزية وبالنهاية البقاء وحيدا والتحسر على ما فات والقبول بقضاء الله وقدره ، فهذه هي الحياة كل من عليها فاني وزائل وكلنا ستنتهي طرقنا بهذه الطريقة باختلاف المسببات والموت واحد .

تنهد بهدوء وهو يخفض نظره ما ان التقطها تسير بطريق ثابت بدون ان تعطي اهتمام لما حولها فقط تركز على نقطة بعيدة بفراغ عالمها وكأنها تعيش بظلام غير مرئي ، وهذه طريقتها المعروفة بإخفاء الألم بتلبس قناع من البرود والهدوء تحت غطاء من السواد الشاسع تستطيع الغرق به .

كانت تسير برفقة شقيقتها وهي تسحبها من يدها قبل ان تتوقف فجأة لتدفعها رغما عنها للوقوف ونشل نفسها من شرودها المسور حولها ، رفعت عينيها الزرقاوين وهي تنظر لمسار نظر الاخرى وسبب تسمرها بمكانها ، لترمش بعينيها برهبة ما ان ثبتت على الواقف بجانب سيارته وهو يقابلها بابتسامة هادئة رسمها بحرفية وكأنه يبث مشاعره لها من خلال تيارات تبادل الارسال بينهما .

افاقت على تحرك شقيقتها وهي تسير ناحيته مباشرة بخطوات متزنة بقوة لا تماثل خطواتها المترددة بخوف تعاكس نفسها ، وما ان اصبحت على بعد مسافة قصيرة بينهما حتى نطق اولا الذي استقام بعيدا عن السيارة وهو يقول بابتسامة معزية
"رحمة الله عليه ، البقاء لله"

اومأت برأسها بامتنان وهي تقول بهدوء لبق بدون ان يأثر ما حدث برباطة جأشها
"جزاك الله خيرا"

نقل نظراته باهتمام للواقفة بجوارها بدون اي حركة او صوت وكأنها دمية خشبية مربوطة بحبال وايدي تحركها ، ليقول من فوره بقوة مفاجئة بمحاولة لجذب انتباهها بعيدا عن فراغها
"هل انتِ بخير ؟"

سكنت ملامحها للحظات قبل ان ترفع عينيها بلمحة اهتمام وهي تتأمل تفاصيله بصمت ، لتومئ بعدها برأسها بردة فعل متأخرة وهي تهمس بخفوت
"اجل بخير"

اعتلت ابتسامة مفتونة محياه وهو يضيع ببحار عينيها الساكنتين طاف الألم بهما بزورق ابحر بوسط محيط جليدي ، ليشيح بعدها بنظره عنها وهو يقول للحارسة التي تقودها بهدوء مبتسم
"هل استطيع استعانة شقيقتك هذه الليلة ؟ فنحن الاثنين نحتاج لبعضنا البعض بشدة ، واعدكِ ان اعيدها لكِ سليمة وبأفضل مما كانت عليه"

اكتست ملامحها رداء العطف الغريزي وهي ترمق الواقفة بجانبها بابتسامة حنونة ، لتفلت بعدها يدها وهي تربت على ظهرها بقوة هامسة بابتسامة مفعمة بالقوة والدعم
"موافقة بشرط ان تعتني بها مثل روحك وتضعها بقلبك بالحفظ والصون ، وإذا لم تفعل ذلك فلن اتهاون معك ابدا !"

اومأ برأسه وهو يضرب بقبضته على صدره قائلا بثقة كبيرة بدون ان يتخلل بها الشك
"كوني على ثقة بذلك"

تغضنت زاوية ابتسامته بشغف وهو يثبت عينيه عليها منتظرا دورها بردة فعلها بلهفة غريزية ، لتخفض بعدها جفنيها قليلا تسد البحار بطبقة جليدية قاسية ، حركت بعدها قدميها تلقائيا بخطوات صغيرة تدفعها اليد التي تركتها بمنتصف الطريق قبل ان تصل اخيرا امام الرجل المنتظر بمشاعر جياشة طافت على سطح ملامحه الصريحة ، وبدون ان ينتظر دعوة او سماح كان يحاوط جسدها بذراعيه وهو يحتضنها بين اضلعه بقوة وكأنه يحاول مواساتها بطريقته بالاحتضان بعناق روحي يمد اتصال خفي بين قلبيهما .

رفعت يديها بتردد وهي تمسك ظهر قميصه تتنعم بتلك الاحضان لثواني فاصلة علها تطغى على تلك الاصوات التي ترنو بأذنها بكل دقيقة برنين صاخب موجع ، اخذت دقيقتين قبل ان يبعدها عنه برفق وهو يعيد رفع الوشاح المنسدل فوق رأسها بعناية شديدة ، ليلتفت بعدها على جانبه وهو يفتح باب السيارة بيد ليدخلها بيده الاخرى المستقرة على ظهرها برفق ، لتنتهي جالسة فوق الكرسي بصمت وهو يغلق الباب خلفها بهدوء حتى تأكد من انغلاقه .

ما ان ابتعد من امام الباب حتى اخذت مكانه (روميساء) وهي تقول لها عبر النافذة المفتوحة بابتسامة حانية بمودة
"اعتني بنفسكِ جيدا ، وعندما تشعرين بنفسكِ تودين العودة فأنا سأكون بانتظارك ، رافقتك السلامة"

حانت منها التفاتة نحوها وهي تزرع ابتسامة على محياها الشاحب مثل زهرة تفتحت بين الثلوج التي تراكمت حول قلبها ، وهذه كانت آخر صورة تتجسد بعينيها قبل ان تتراجع خطوتين ما ان تحركت السيارة وهي تشق طريقها بعيدا بعد ان اودعتها كل دعاء بقلبها وبأمان الله ...

نهاية الفصل يا احبائي ولا تحرموني من قراءة تعليقاتكم الحلوة والتي تسعد قلبي وتكافئ تعبي 😘♥️


روز علي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس