عرض مشاركة واحدة
قديم 28-07-22, 01:18 PM   #77

ابنة البادية

? العضوٌ??? » 501720
?  التسِجيلٌ » Apr 2022
? مشَارَ?اتْي » 62
?  نُقآطِيْ » ابنة البادية is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الخامس.

في تلك الظلمة الحالكة، تحركت مسرعة، إلى حمرة دون أن تنظر خلفها وإلى عمتها، التي سرعان ما مشت وراءها،
إلا أنها لم تقدر على اللحاق بتلك الصبية الثائرة، والتي شدت خطام الناقة تنوخها، إلا أنها وصلتها قبل أن تركب الناقة وامسكت ذراعها، تنهرها:
-ما تغبشين الحين، شو مسيرنج وأنتِ ما تعرفين شو مستوي؟ تمي محلج ما تشبرين لين نعرف السالفة...
إلا أن مريم تشبثت بخطام حمرة، قائلة وقد سكن وجهها خوفٌ عارم:
-أريد أسير أتطمن على هلي... أريد أرد لهم... قلبي ماكلني.. أحس أني بختنق.. عندي أحساس يا رب ما يصب...عمتيه أنتِ تعرفين كيف أن احساسي دوم يصيب...
ردت خصيبة عليها بصرامة محاولة ردعها وردع جنونها بالعودة ليلاً دون خوف:
- أنتِ خبله تردين فالليل، ما تخافين على عمرج، المدفع هذا هنيه مش من صوبهم... ويمكن المصيبة عندنا مش عندهم، ونحن بدون ريايل... خليني أسير عند يارنا أتخبره... يعله خير، فكري أنه خير ولا تفكرين بالشر... وأنتِ أمْره ما تشبرين خطوة لين أرد، وما تشبرينها إلا ريلي على ريلج...ترييني هنيه ...

إذا ما حل الخطر على المنطقة، يحل الإنذار وإطلاق المدافع يكون من الشمال الأقصى إلى الجنوب... ليهب أفراد القبيلة الواحدة للنجدة، لمعرفتهم بطريقة الإنذار الذي تختص بها قبيلتهم عن سائر القبائل الأخرى.. وهي الطلقات المدفعية الثلاثة بطريقة محددة من المدفع...
عندما انطلق مدفع نادر، انطلق مدفعٌ آخرٌ قريبٌ من سهيل، ولكن بعده بوقت طويل...
بعد مرور ساعة...
لاحت الأدخنة أمام عينيها، وقد انتصبت فوق كثيب مرتفع، يضاهي احدى قمم جبل مليحة، إذ إن النيران المشتعلة البعيدة عنها، كشفت شكل المنطقة...
بعد أن أخذها الحفوز، وبدأت تفقد شعورها في الانتظار... عمتها حذرتها تحذيرًا شديدًا...
وأن عليها أن تصبر بعد معرفتها من جارها بإنه تم الغدر بهم من طرف القبيلة التي ينتمي إليها زوجها، أهل الغرب...
تساءلت مريم، وهل كانت قبيلة معادية؟ ألم يكن بينهم ميثاق غليظ إلا يغدر الواحد منهم بالآخر، ألم يتصافى الطرفين منذ فترة قصيرة، ألم يكن بينهم نسبٌ وسلام، أم ذلك الظاهر فقط، وأن ما يضمرونه غير ذلك...
لا تعلم في الحقيقة، إلا أن الصراعات لازالت تطفو على السطح فجأة ودون سبب، كل واحد منهم يسطو على الآخر لأمور تافهة...
وهل كانت أمور الحياة تافهة كالحلال والطعام والأرض!
لم تكن تافهة، إلا أن أفعالهم هي التافهة عندما يتم سرقت الأموال واستباحت الدماء...
فقط للانتقام بعد تراشق الالفاظ القذرة...ومن أجل فرد العضلات ومن هو الأقوى...
انطلق سهيل نازلاً من الجبل، عبر المسارات التي عبدتها الماشية في تلك المنطقة الجبلية الوعرة وذات الاشواك عبر خبرة في منطقة، ومعرفة دروبها حتى في الليل، والتي تبعد قليلاً عن مليحة، كانت في الشرق الأقصى...
في سلسلة جبلية ضخمة تطل على خليج عُمان، نزل إلى السيح" الأرض المنبسطة الواسعة الممتدة في المنطقة تربتها مختلفة عن الرملية لأنها تربة طينية" ثم ذهب إلى بعيره الذي جعله يرعى في الفلاة، قرب سمرة معمرة، متخطيًا الشعاب التي حفرتها مياه الامطار، ركبه بقسوة دون أن يجعله يبرك، ثم ضربه لكي يسير به...
خب البعير، إلا أن سهيل أظهر عصاته، فهذا البعير لا يجب جعل عصاته في بطانه، لن يسير إلا بضربٍ شديد.. فهما يملكان عداوة ضد بعضهما، فالبعير يضمر لراعيه سيء المعاملة ضغينة شديدة، فلا يمكن للبعير أن يشبه الناقة في العشق عند البدوي... فالناقة أقرب للنفس، فهي الخير كله...
إلا أنه وعندما اقترب من المنطقة، نزل باحتراس، وقد لاح الخيط الأبيض من الفجر أمامه، لكيلا يقابله قطاع الطرق على حين غرة، لذا ترك بعيرهُ في ممرًا، عند سمرة مخفيًا عن الأنظار،
وانطلق يعبر الكثبان، وعلى كتفه بندقيته... قطع مسافة طويلة عبر الجري، وعندها شرف على منطقة تطل على مليحة...
طلعت أمامه بيوت الشعر والعريش المتفرقة في المنطقة في تلك الظلمة التي اعتادت عيناه عليها، بيوت الجيران، والأقارب من القبيلة الواحدة، كلهم سكنوا بقرب بعضهم لثراء المنطقة في هذا العام...
رنا إليه الهدوء الذي عم المكان فجأة.. لم يحدث شيء! لقد كانت إشارة المدفع هي إشارة هجوم مباغت عليهم... التقطت عيناه بيت أهله، الجيران، لم يرَ شيئًا غير الظلمة، والهدوء، لم يرَ حلالهم المربوط، ولا الأبل... كان ذلك الصمتُ مريبٌ في بيت أهل..
أذن المؤذن فجأة، ألا، حيّ على الصلاة... صدع الأذان في تلك الفلاة المظلمة... بصوت عالي، ردده الخلاء في الأرجاء... من بيت قريب...
بيت وقف أمامه عدة رجال، يلبسون الأبيض يقفون بصلابة أمام بيت شعر كان الأكبر في المنطقة، وبأيديهم شعل النيران، تتراقص أضواؤها على عِصِيّ لتنير مكانهم وتكشفهم لهُ، بينما تجمع الأبل والماشية وراءهم في ممر بين هضبتين بارزتين، في تلك الأرض الجبلية والرملية...
نزل إليهم...
وقد أوجف خيفة، وشك في الأمر، وصل إليهم بعد أن نزل حذرًا يتفقد المنطقة، إذا ما كان هناك عدوٌ يتربص بهم، وصل إلى الرجال وقد كانوا يخوضون في نقاش حاد، عندما اقترب منهم، سمعوا حس خطواته، أخذوا مراكزهم، تأهبوا ورفعوا أسلحتهم وعصي النار فوق رؤوسهم،
ولكنه أصدر صوتًا يكشف انتماءه القبلي إليهم،
حركت المحاربين المنتمين إليهم، إذ إنه رفع يدًا واحدةً، واصبعًا، تعلقت الابصار به عندما دخل بينهم، وقد وضح الإرهاق عليه إلا أنه استقام واستعاد أنفاسه بحاجبين معقودين قائلاً بشدة:
-أنا سهيل بن فارس..
عرفوه عندما كشفت النار ملامحه، سأل سريعًا وقد قاطع حديثهم يريد فهم ما حصل في المنطقة وما سر المدافع:
-شو مستوي؟
تحدث واحدٌ منهم ولقد لاحت القسوة والغضب على ملامحه:
-اللصوص سرقوا حلال الخلق، توها حرمة سالم يايه تصيح أن حلالها انسرق... لأنها سارت الخلا وردت ما لقت شيء...
قال آخرٌ أصغر سنًا، مراهقٌ غاضبٌ ثائرٌ يحمل بندقيته مستعدًا لضربهم مهما كلفه الأمر:
-سمحنا لهم يدخلون منطقتنا، عشان جيه لقوها سايبه، محد غيرهم عيال الذينه، كلنا نعرف أنهم حراميه ومحد غيرهم يسرق.. لأزم نتخذ اجراء فيهم وأي واحد يدخل نرميه عشان يتبون يشبرون...شرا عيال نصره... ما يخلون حد يدخل إلا برصاصة في يبهته...
تنفس الصعداء، هل ارتاح أم لا زال الرعب يطوقه، هؤلاء لا توبة معهم، كانوا يهاجمون العزل الذين اتخذوا ركنًا قصيًا عن البقية، أما الآن فهم يظهرون وجوههم بكل وقاحة بين الجمع والبيوت القريبة من بعضها البعض، ألم تكن بينهم هدنة؟ هل هم مخطئين بشأنهم وأن تلك القبيلة ليست القبيلة التي غارت عليهم...
لقد تم التشكيك في الأمر دائمًا، ومحاربتهم، في كل مرة تتم مواجهتهم كانوا ينكرون الأمر وأنهم ليس من هاجم وغار على فلان وعلان، كانوا يختبؤون جيدًا، ويبيعون ما يسرقونه أو يأخذونه للغرب إلى خارج الحدود، مع شكوك الجميع بشأنهم إلا أنهم لم يمسكونهم بالجرم المشهود، في كل مرة يتدخل كبار القبيلة لفض النزاع متعللين بالنسب الذي بينهم...
ولكن ظهور رجل فجأة على ضوء الفجر، ثيابه البيضاء الملطخة بالدماء، بل كلهُ يتقاطر دمًا، قطرات الدم تبقع وجهه الحنطي، هناك جرحٌ في أعلى كتفه، عندما وصل إليهم، انحنى لاهثًا يلتقط أنفاسه يحاول امساك كتفه المصابة رغم أنه لا يزال يحمل سلاحهُ:
-غاروا علينا ونحن رقود، مب شوي، عدد كبير منهم... طلعوا من العدم، سرقوا الحلال، وجتلوا العرب، حسبي الله عليهم..
انهار أرضًا، ونظر إليهم بعيون حمراء، يكاد يتقاطر دمعها إلا أنه حبسها بشدة، تحفز الرجال ومنهم من وثب راكضًا:
-جتلوا أخويه... جتلوه...
وضع رأسه بين يديه منهارًا، بينما انفض القوم من حوله، بعد معرفتهم بالأنباء التي لم تصلهم إلا متأخرة...والمدفع الذي أطلقه متأخرًا بعد اصابته...

لم تكن هناك نيران، لم يكن هناك أيُّ دليل على أن بيت أهله قد تم الهجوم عليه، إلا أن عيناه كانت دليله، فطوال طريقه في ذلك الفجر، رأى أثار منتشرة في المنطقة، درب الأبل الذي خطته في رمال الصحراء كان هناك من تخطاه وسار في مسيرها،
أثار اقدام ونعال، وماشية، لم تكن الماشية القليلة لتمشي على درب الأبل، كان لها طريقها وليس بهذا العدد، لاحت أمامه البيوت الهادئة، الهادئة كهدوء الأموات، أثار الاقدام، ونقاط الدماء المنتشرة على رمال الصحراء وقد كشفها ضوء الشروق، هبت الهبوب الباردة لتصله الروائح، هل كانت تلك رائحة الدم، أم رائحة الحلال، أم خرس الماء...
فأسرع يعدو بجنون، وقف لاهثًا أمام العريش...
يطالع الاثار قبل أن يهب بجنون إلى الداخل...
لم يجد شيئًا... لم يجد الأبل ولا الماشية التي كانت تربط في ذلك العامود...
إنما وجد بعضها مذبوح...وملقى على الأرض، دماؤها تبلل الرمال... نطق مبهوتًا:
-أميّ..
-شيخة... مريم...
صائحًا بهما عاليًا حتى انتفخت أوداجه، وعروق جبهته، إلا أن عيناه سقطتا فجأة بين العريش وبيت الشعر، على شيءٍ أبيض، لا لم يكن أبيضًا؛ لون تلك الملابس مائل للاصفرار، في بعض أماكنها، وفي البعض الآخر كان هناك لونٌ أحمرٌ،
تيبست قدماه للحظة، شخص بصره، إلا أنه سرعان ما خط مسيره إلى هناك، رغم ما يعتريه من ذهول ورعب، أراد نفي ما يراهُ...
حتى عندما وقف من مكانه العالي... الذي ظنه عاليًا جدًا عن الأرض، كل شيء أصبح ضئيل الحجم عندما وقع في الصدمة، ودارت الدنيا به...
ومن هول المنظر جز على أسْنانه جزًا...
وهو يخر على الأرض ويرمي عمامته بعيدًا عنه، يضرب بركبتيه على الأرضية الرملية ثم قبضتيه، ليظهر شعره البني الطويل والذي يصل إلى رقبته، عندما أيقن أن هذا هو جسد والده،
تحسس رقبته، رسغه يبحث عن نبضه، ينظر إلى اصاباته، هناك الكثير من الشقوق والدماء النازفة من كندورته تم رميه بالرصاص، لازال دمه حارًا ولم يبرد بعد،
نادى عليه وهو يهزه من كتفيه وقد تلطخت يده بدمه، لعله لا يزال يتنفس
إلا عيناه الشاخصتين اوقعتا سهيل في قعر الصدمة :
-أبويه.. أبويه..
دق الدم رأسه، لاح الألم على وجهه، ثم الغضب والجنون، ثم الانهيار، اغرورقت عيناه بالدموع...
أمسكه من ملابسه، جرها، اعتصرها بين قبضتيه، متى حدث كل هذا؟
هل تحين العدو فرصة رحيل أكثر الرجال عن المنطقة؟
ليردوا الباقي قتلا... من فعل ذلك بوالده؟
رفع وجهه الذي تجمع دماءه فيه، وانتفخت أوردته، لكيلا يبكي. ولا يرثى حاله...
إلا أنه وضع رأسه مرة أخرى عند رقبة والده..
وقد غلبته دموعه، وغلبته الصدمة والفاجعة...
سرعان ما تيبس، عند سماعه لأصوات خطوات حذرة توقفت خلفه، وقد أخذته عن سماعها مصيبتهُ، ثم حركة بندقية، تلك الفوهة الطويلة التي تم تصويبها تمامًا إلى رأسه،
لتتسع عيناه، بينما حرك جسده مستسلمًا قائمًا من قعوده، رافعًا ذراعيه إلى الأعلى، وقبضتيه مشدودتين...
كاد يسكر أصابعه من شدة ما يشعر به من غضب..
بعيون خالية من المشاعر التفت رأسه.. ليظهر وجهه الذي غطته لحية كثيفة...
ملامحه الحادة كالصقر، جسده الضخم... كان أضخم من الذي يقابله.. إذ إن الآخر أو الأخرون الذين وقفوا مقابلة بدوا لا يضاهون جسده ضراوة..
لقد تلثموا بالعمامة... رفعوا بنادقهم إليه... إذ بدا لهُ من حالهم، أنهم لم يكتفوا بما أخذوه... وبالأرواح التي سلبوها...تموهت الألوان من حوله، حل الجنون على عقله، فقد صوابه، حينما رأى أمه... التي كبلت وراءهم بالحبال، وقد تم ربط يديها وقدميها وفمها.. لقد هتكوا ستر عائلته، عندما رآها بدون شيلة، وقد طلع شيب شعرها أمامه، وشحب وجهها وكبرت سنين عديدة، ظهرها منحني، ثيابها ممزقة... هاج وماج الغضب في نفسه واعماه... انقض على ذلك الذي صوب بندقيته عليه... وكأنه يلقي نفسه في النار وليحدث ما يحدث... فهو ميت لا محال... تشابك بالأيدي معه، ثم بحركة سريعة ومهارة... تحولت القيادة إليه... امسك الرجل من رقبته ولواها... ثم وضع بندقيته بعد أن أخذها منه على رقبته... وشد عليه... دون رحمة أو رأفة، ثم أخرج خنجرهُ من غمده... صاح فصدح صوته الغاضب في الارجاء بشدة والذي بين يديهم يكاد يختنق إلا أنه لم يتحرك خوفًا على نفسها ورجاءً من اصحابه:
-الأسيرة... حررها يا المعتوه... ولا جتلته... نحرته هنيه... قطعته مية قطعة...
لم يكن الحق معهم، لقد رماهم خوفهم وبزوغ الشمس في حيرة من اكمال ما بدؤه ومن عدمه... لذا تطلعوا إلى بعضهم البعض، في رعبًا من أن ينفذ تهديداته، ... وأن يقتل صاحبهم، هل عليهم أن يضحوا به ويقتلوا الرجل بالبنادق ويفروا بالغنائم قبل أن يصل الخبر إلى اقصى الشمال ويهب زعيمهم المجنون، كما يسمونه، ذلك الذي يهابونه رغم معرفتهم بما هو قادرٌ على فعله بهم... فدائمًا ما تكون النصرة له في معظم حروبهم... لأنه دائمًا ما يكون على صواب، لقد امتلك بن هويد القيادة والقوة والمال والهيبة والحكمة والكرم... ورجاله مثله تمامًا.. وكم كانوا يحقدون عليه وعلى قبيلته أشد حقد وحتى على الاحلاف التي تحالفت معه وضمت اسمها تحت اسم قبيلته... لذا كان منهم من لا يتوانى عن سرقتهم وقتالهم لعل غليلهم يشفى... كان حقدهم تعبيرًا عن غيرة شديدة لأنهم امتلكوا الأرض الشمالية بخيراتها وامتلكوا غرورًا وكلمة لا تتغير وقوة لا تتقهقر، أجساد طويلة وضخمة، ليسوا سمرًا ولا بيضًا.. كانوا دائمًا ما ينتمون إلى الشمال الأقصى أو الأدنى... نصبوا أنفسهم ملوكًا لهذه الصحراء الشاسعة...
ولكن وقبل أن يرسوا على قرارٍ أكيد، ظهر من خلفه ظلٌ، ظلٌ امتد وامتدت ذراعه، لتضربه بعنف من وراء رقبته... تشنج، حررت ذراعه الرجل، الذي سرعان ما قفز هاربًا... سقطت البندقية وخنجره من يده... ثم سقط على وجهه، لقد ضربه في منطقة حساسة جدًا، وجعله يتشنج، كاد يفقد الوعي، ولكنه شعر بكل ما يدور حوله، لقد فقد للحظة وعيه وقدرته على تحريك جسده، انهال عليه الرجل بالركلات وضربه الاخرون بعصا البنادق، انكبوا يضربونه في كل جزء من جسده محاولين اخضاعه، لمعرفتهم بشراسته وأنه أحد الأعداء، إنهم يبغضونه، يبغضون والده ونسبه، وجوده في ساحة المعركة مع الرجال تجعلهم يحسبون لهُ ألف حساب، أنه يجب استهدافه هو... وضع قدمه على ظهره مانعًا إياهُ من التحرك، إلا أن سهيل حاول المقاومة بشدة ورفع ظهره دون خوفًا من المصير الذي سوف يلاقيه، تسلل صوت الرجل المستهزئ إلى أذنيه:
-ما كان على أبوك أنه يقاوم، يرفع الصدر ويستخق على الفاضي، كان عليه أن يسلم حلاله ويستسلم...
ضغط بقدمه على ظهره، انهار سهيل مرة أخرى على الأرض، مقاومًا محاولاً عدم الاصغاء لحديثه التافه...انخفض الرجل قليلاً لكي يصله صوت نبرته المستفزة:
-ما كان عليه أنه يشارك ويا بن هويد في الحروب ضدنا، ويهددنا...
صدح صوته الغاضب:
- تبيعون بناتنا، لعنة الله عليكم، وعلى من والاكم، ولد شامس، يبيع بنت عبيه ويوصلها قطر... نحن إلي نبيع حريمكم مب أنتوا...
أليس هذا الرجل الذي نطق اسمه للتو، لهُ علاقة نسبٍ من جهة أمه بهم، إنه يحمل نصف دمائهم... ما دخل الأخرين بما فعله واحد!
ما دخل العزل والعوائل المسالمة ليتم مهاجمتهم في الليل، وهم نيام... ويتم قتل والده من أجل شخص واحد سكن في هذه المنطقة.. أم أن الأعذار جاهزة لكي يتم سلبهم... شد ظهره، إلى الأعلى مقاومًا قدمه التي وضعها على رأسه إهانة، حاول إهانته بوضع وجهه في التراب وضغطه على الأرض لإخضاع ذلك الثائر، ولكن لاح مرأى أمه مرة أخرى أمامه، بذلة أكثر، وهي راكعة على الأرض، كلما أغمض عيناه وفتحهما ظل يراها ووجهه مغمورٌ بالتراب، وطفقت الإصابات في جسده تزداد لهيبًا تحت ملابسه، قاوم لعل قوته تعود، لعله يستطيع قتلهم جميعًا، يقطعهم أربًا أربا، يأكل من لحمهم، يرى دمائهم تسيل بين يديه... ضاع شعوره واندثر وسط ما يحصل، وسط الذل ومهانة، كاد يستسلم لكل شيء... فجأة تركوه... وانفضوا من حوله، وقد حان وقت الانسحاب بعد أن علم القوم أنهم هجموا... إذ إن صوت الرماية بدأ يصدح في الأجواء... الأصوات الرجولية الخشنة التي بدأت تدخل بيت بيت لكي ترمي العدو... وترديه قتيلا.. مع عددهم القليل إلا أن صغارهم وكبارهم هبوا للمساعدة... انطلق الرصاص قربه... وهو على الأرض منكبٌ على وجهه... وقد ساد شعورٌ بالخزي... ونخر أوصاله... بعد أن تركه الرجل وهرب مع رفقته... دون أن يقتله وكأنه يعلمه درسًا... درسًا لن ينساه أبد الدهر...وهو أنه مجرد انسان، ولن يفيده تفاخره دون عمل مجتهد، دون حذر، دون بطش وقوة، مجرد ضربة واحدة من الخلف هوة به أرضًا، شلت حركته، ووعيه، وجلبت لهُ العار... ويا حسرتا... كم كان مغترًا بنفسه... تساقطت دموعه وهو يضغط على ركبتيه ولا زال وجهه يقابل الأرض والرمال التي تقاطرت دموعه عليها... لأول مرة يجهش في البكاء... لأول مرة تأخذه مشاعره على حين غرة، تسلبه قوته التي تمسك بها جاهدًا ليظهر الصلابة والشدة والقسوة في حياته... لأول مرة يشعر بهذا الألم والذل... جلس... ماسحًا ما ابتل وجهه به من دموع، ماسحًا اثارها رافضًا الخضوع لها، كان الضعف عدوه اللدود، حتى عندما ماتت جدته لم يؤثر به، تحلى بالصبر والقوة رغم المصيبة... كان يعلم أن الموت حقٌ ولكن القتل أيضًا حقٌ في بعض المرات، هما مترادفتين بشكلٍ أو بآخر في قاموسه مهما اختلف شكلهما... ولكن ما حدث له الآن...رماه في وجه آخر للحقيقة... لقد مات شيءٌ ما في داخله، شعوره تجاه الأشياء... وما هي الأشياء؟ ما هي المشاعر؟ هل تعلمها حقًا... أم تلاشت فجأة وأضحت عدمًا... بعيون حمراء... نظر حوله يمسح بكمه طرف أنفه النازف، حينها وقع عليها... فوقع قلبه مرة أخرى في هوة سحيقة... نهض محاولًا الاستقامة، محاربًا الألم، لكي يسرع إليها ويغطيها ... عندما وصل إلى جسدها المستلقي أرضًا... انكب عليها، أمسك كتفيها، شدها إلى أحضانه وهو يقرب وجهها من وجهه؛ كانت لا تتحرك، فاقدة للوعي، إلا أنها تتنفس... أخفاها عميقًا في أحضانه، بفم مزموم، ووجهه يتصبب عرقًا، عيناه غارقتان بالدموع، التي مهما حاول أسرها إلا أنها ظلت مهددة بالفرار.. لم يأخذوها معهم... لقد تركوها، بعد أن سرقوهم وقتلوهم، وشوهوا حياتهم... سمع صوت الرجال من خلفه والذين وصلته ضربات أقدامهم القوية على الأرض... صرخ أحدهم:
-قوم فارس ربكم بخير؟
إلا أنه قطع كلماته، وبهت قبل أن يستعيد توازنه، ويعقد حاجبيه حزنًا على مصابهم ويردد:
-لا إله إلا الله... إنّا لله وأنّا إليه راجعون...
ردد سهيل بصوت هامس لا يزال واقعًا فيما جرى:
-استغفر الله... استغفر الله..
ثم أعطاهُ ظهره... قام من قعوده، مستقيمًا... حاملاً والدته بين يديه... خطوة واحدة كانت كفيلة لتخبره أن اصابته كانت أشد مما يتخيل.. وأن ما تحت ملابسه إصابات بليغة... ولكنه تجاهل الأمر وظل يكمل خطواته رغم ثقلها... يكملها لعله يصل إلى بيت الشعر... وعندما دخل إلى داخله... داهمته رائحة الدخان، الحناء... رائحة من كانوا هنا... ومن بقي... فكتم أنفاسه... وضرب اسنانه ببعضها وهو ينزلها إلى الفراش وسط ذلك الجو الخانق.. ثم وهو يدثرها... ويجلس ينظر إليها بعيون شاردة... ألن تستيقظ؟ هل سوف تستيقظ؟! إلا أن عيناه اهتزتا للحظة، ابتلع ريقه ثم قام واقفًا مبهوتًا... مريم.. شيخة.. وعيناه تنظران إلى خارج بيت الشعر... هذه المرة شعر بنفسه تتهاوى... رعبًا من فقدان آخر، جثة أخرى.. فاجعة جديدة تضاف إلى الأخريات...
خرج فرأى الرجال مجتمعين حول جثة والده يغطونه... ظل عاقدًا حاجبيه بعصبية، لقد تاهت مشاعره ولم تجد إلا الغضب ليستولي عليها، راح يبحث في المكان ويتابع أثار الاقدام... لم يرَ إلا أقدام شيخة الصغيرة ولم يجد لها أثرًا بعد ذلك وراء بيت الشعر ولا العريش... جرى بعيدًا عن البيت، ركض على الرمال، صعد كثيب ثم نزل من آخر... على أثر اللصوص... لأنه لا أثر لها بعد أثرهم... هل تم أخذهما؟؟ صاح بشدة وهو يسب ويلعن، والله لينتقم منهم، ليرديهم قتلا، ليقتص منهم، ولن يغفر لهم ما حيا... ثار داخله، نبضت عروقه بشدة، ظل رأسها ينبض من شدة الغضب، كاد يجن، عاد إلى البيت، إلى أمه يجب عليها أن تستيقظ، ليست ميتة، إنها حية.. عليه أن يرى ذلك بنفسه.. عندما اقترب من المكان... وجدها خارج بيت الشعر... تبحث كالمجنونة في الارجاء، اتجهت ناحيته راكضة على الرمال، تخطته دون أن تراهُ، دون لحاف للشعر ودون برقع، وقد فقد وجهها لونه، وشحب، مناديه:
-شيخة يا شيخة...آآه يا حسرتيه عليج
تصيح وتولول:
-شلوها... سرقوا بنتي... يعلهم ما يعينون خير، يعلهم جهنم...
والرجال والجيران، يحاولن غض البصر، وتهدئتها من بعيد، بكلمات عندما رأوا ابنها:
-يا بنت سعيد، عيني من الله خير، إن شاء الله بيلحقونهم الحين بن حميّد.. وبيردون بنتج... عيني من الله خير...
بينما صاح آخر:
-والله أنهم ما يطيحونها البقعة بعد ها اليوم، والله لناخذ حقنا ودمنا منهم ..
وكأن النقاط وضعت على الحروف، وتلاشت الغشاوة، وجاء اليقين، أن هناك المزيد من المصائب، وأنها جاءت تباعًا دون أن يكون هناك مجال لاستيعابها، مسح على وجهه بيدين مرتجفتين، ضاع مرة أخرى وسط غضبه وقدرته على السيطرة على انفعاله.. جفت عيناه.. فأصبحت شديدة الجفاف، شعر بالحرقة تسد مجرى تنفسه، تجعل من الصعب عليه التنفس،
تقدم ناحيتها أمسكها بين ذراعيه خبأها في صدره.. دون أن يطبطب أو ينبس ببنت شفة، عندما شعرت بوجوده، وأنه لا يزال هناك ابن لها بعد أن رأت في يوم واحد ما شاب رأسها منه، انهارت وتعلقت به وكأنها تستعيد تعقلها به... تحاول البحث عن بصيص تعقل كي لا تقودها أفكارها إلى الجنون...نشجت تخبره:
-كنا رقود... ما وعينا إلا على صوت طرب الدبش ورغي البوش، أبوك كام يطالع...
تراءت لها الصور والمشاهد وكأنها حاضرة أمام عينيها، صورته وهو يقوم من لحافه قبل الفجر من عندهما، يمسك بندقيته في يده، ثم يخرج قائلا لها بخفوت:
-أص، بسير أطالع الحلال واشوف شو بلاه، يمكن غبش الذيب...
وهو يخرج بينما هي تقوم وراءه واقفة عند الباب، شيلتها فوق رأسها، يدها تمسك طرفها بشدة، كانت الأم مثل ابنتها، حساسة، لديها إحساس بإن شيئًا سيئًا سوف يحدث، وأن هناك أمرًا ما...هناك ضوضاء غير طبيعية بالقرب منهم، لذا وقفت عند الباب وقد امسكت الصوف مزيحة إياه إلى الطرف... لترى عينيها زوجها الذي تقدم في الظلام إلى العريش، ولكن سرعان ما انطلق الرصاص من حيث لا تعلم... لقد تم رميه على غفلة، وأمام عيناها تهاوى على الرمال... وضعت يديها على وفمها وشدت عليه لكيلا تصرخ...فجأة من العدم ودون سبب تم رميه وقتله، فجأة دون صوت أن أو إنذار.. شعرت بثوبها، يتم جره إلى الأسفل، نظرت وسط دموعها ونحيبها عبر الظلمة لعلها ترى وجه من أفزعها، وجعلها تتشنج رعبًا وكأن العدو قد دخل مخدعها على حين غرة منها، كانت ابنتها الصغيرة قد استيقظت عندما لم تجدها بجوارها... نطقت شيخة، بكلمة ترددها دائمًا، وهي تمسح وجهها:
-أميّ..
استعادة أنفاسها أخيرًا، مرتعدة وكل ما فيها يرتجف رهبةً وغصةً وحزنًا...حملتها سريعًا إلى الأعلى... أرادت الهرب سريعًا قبل أن يكتشفوا تواجدهما... لذا انطلقت إلى الطرف الآخر من الخيمة، وحاولت فك الحبال المربوطة في العامود... فكتها واحدة تلو الأخرى وابنتها في حجرها لكيلا تبكي وتفضحهما... تسللت خفية في الظلام، سقطت على الرمال، ثم قامت واضعة يدها على فم شيخة التي بدأت في البكاء والخوف من أفعال أمها... ما أن تحركت خطوتين حتى داهموها... صاحت بهم رعبًا وببنادقهم التي صوبها ناحيتهما:
-حسبي الله عليكم... خلوني أروّح.. خافوا الله... أنا حرمة ما سويت بكم شيء..
انزلوا بنادقهم وامسكوها من ذراعيها منتزعين شيخة منها... صدع صوت بكاء شيخة وعويل أمها وصراخها لعل القوم يسمعونها ويهبون لانقاذهما قبل أن يرتكب هؤلاء المجرمين جرم في حقهما:
-يا ناس ساعدوني... يا عرب اللصوص غاروا علينا...
إلا أنهم وبأيديهم القذرة أمسكوها، واضعين قماشة على فمها لكي تكف صراخها عنهم وتسكت مجبرة، ربطوها دون رأفة وهم يتشاورون بين بينهم البعض:
-شل البنيّه وياك الحين عن تفضحنا من صياحها... تقدمنا وبنلحقك بالحرمة، بعد ما نغيّر على البيت الي عدالهم..
فزع قلبها وفرغ من كلماتهم إلا أنها لم تملك حيلة، مهما حاولت فك وثائق رباطها، إلا أنها لم تقدر، فصارت ترفس وتصرخ من داخلها... تشيع ابنتها بدموع غير منقطعة.. تنظر حولها لعل أحدهم يأتي وينقذهما... تريد الصياح إلى أن تتشنج لكي يردوا إليها شيخة...
اغمضت عيناها ولا يزال وجهها مقابل صدر سهيل ويداها تمسكان ملابسه من الجانبين كي لا تسقط، فقدميها اصبحتا رخوتين من هول ما يحدث لها وما رأته وكان سهيل هو السند الذي وقفت بجانبه لكي يسندها، حاولت محي الذكرى مرات عدة، البحث عن فكرة منجية لها من هواجسها بشأن بقاء ابنتها حية والعودة إلى احضانها بعد أن فقدت زوجها، وأنهم لم يأخذوها وأنها تتوهم الأمر:
-دقْشوني*" امسكوني"... وخذوها مني... سرقوها ببيعونها عبدة... أو يبجتلونها... من وين بطْنفها الحينه "أجدها"...حسبي الله عليهم.. آآه يا حسرتيه على بنيتي...
لم يستطيع الربت على كتف أمه أو الطبطبة على ظهرها مواسيًا بعد الوجع العميق في صوتها وفيما قالته، حاول تهدئتها وهو ينظر إليها بشدة لم ترها يومًا في وجهه المنتفخ من الغضب:
-أميّ ردي داخل... أنا بسير الحينه... بلحقهم وبردها لج... بنتقم منهم على جتلهم لأبويه، والله ما أخلي حد منهم حي... بقطعهم بضروسي وباكل من لحمهم.. الملعونين...
فجأة ظهرت لهُ أمام عينيه... مريم التي وقفت مع ناقتها على الرمال ووراءها من بعيد الجبال شامخة، وقد اختطف شبح الموت لون وجهها... وقفت أمامهما مبهوتة... تنظر إلى الحال الذي آل إليه بيتهم... الدماء التي تغطي الاثنين... جثة والدها التي وضع عليها قماشٌ... أما ناقتها... فبدأت فجأة بالحنين بصوت شجي، تنظر حولها بحثًا عن أمهاتها اللاتي تم سرقتهن... انطلق صوتها عاليًا...مغطيًا على أصوات الجميع... بينما استقرت الشمس أخيرًا في السماء لتخبرهم عن بداية ذلك اليوم العصيب الذي لن ينسى...
نطق سهيل وقد تأثر من رؤيتها أمامه:
-مرّيم..
نطقها وقد طفقت مشاعره تعلن عن وجودها في داخله ثانية، تخبره أنه بدأ يشعر من جديد... بدأ يستعيد شيئًا من احساسه... إلا أنه سرعان ما فقدها... ذرة المشاعر التي احتفظت نفسه بها لوقت الحاجة اختفت فجأة كما بدأت... وجثة والده تتراءى له... أمه التي تم هتك سترها... بيته التي تم مهاجمته غدرًا.. لأجل سرقت الماشية القليلة والأبل... ليجعل البيت خالي من كل شيء من الحياة وسكانه...
انهارت مريم على الرمال مكانها مصدومة... وقد انهار عالمها معها... كان ما أحست بها حقيقًا إذن؟ لقد قتلوا والدها... لقد مات حبيبها... لقد فقدت شخصًا آخرًا...
ترك سهيل والدته بعد أن غطاها وأخبرها أن تستريح بعد أن جئن نساء الجيران للتخفيف من مصاب العائلة المغدورة...
أما هو فانطلق يعدو إلى بعيره... ثم يمم وجههُ شطر الجنوب الغربي... منطلقًا إلى هناك... إلى حيث شرد القوم... وهو يحمل بندقيته وخنجره على رحله... والله ليرميهم واحدًا واحدًا... وينتقم منهم اشد انتقام...لقد عرف الرجل الذي غدر بهم، ذلك المخدوع بنفسه، الذي لا يملك أخلاقًا، معروف بحبه للنهب والسرقة، والكذب والخداع... ولأول مرة يتجرأ على فعل هذا الفعل في منطقتهم.. ألم تكن منطقتهم محصنة بالرجال... الذي يرمون اللصوص بالبنادق، إلا أنهم الآن سافروا وفي هذه الأيام بالتحديد... هناك شريكٌ لهم بينهم... هناك خائن بينهم لا يعرف ذمة ولا ضميرًا...واستغل الثغرة التي وجدها في هذا اليوم، أو في هذا الوقت من السنة... سيجده لاحقًا ويستبيح دمه ويشرب منه... ضرب بعيره منطلقًا في تلك الرقعة الواسعة الممتدة على مرأى البصر بينما على يساره وضحت سلسلة الجبال الضخمة والتي تكتلت فوقها المزن وانهمل عليها المطر الغزيز وجرت الشعاب من أعالي الجبال...

انتهى


ابنة البادية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس