عرض مشاركة واحدة
قديم 15-08-22, 08:06 PM   #574

مروة سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية مروة سالم

? العضوٌ??? » 482666
?  التسِجيلٌ » Dec 2020
? مشَارَ?اتْي » 1,756
?  مُ?إني » مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » مروة سالم has a reputation beyond reputeمروة سالم has a reputation beyond reputeمروة سالم has a reputation beyond reputeمروة سالم has a reputation beyond reputeمروة سالم has a reputation beyond reputeمروة سالم has a reputation beyond reputeمروة سالم has a reputation beyond reputeمروة سالم has a reputation beyond reputeمروة سالم has a reputation beyond reputeمروة سالم has a reputation beyond reputeمروة سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   ice-lemon
?? ??? ~
Why so serious?
Rewitysmile17 وانطوت صفحة الهوى - القصاصة العشرون: القسم الثالث

في السويس، كانت الاستعدادات في بيت عدنان الديب تتم على قدمٍ وساق، حيث يتم الاحتفال بتخرج بحر الابن الأكبر للعائلة في الكلية الحربية..
كانت الأسرة قد دعت الأقارب في القاهرة، ومددت الدعوة أيضا إلى أسرة سمير الصاوي، احتفالا بانضمام زهو إلى العائلة بخطوبتها إلى نبيل..
وقد وصلت أسرة عبد المنصف الحلواني منذ الأمس، كي تساعد فايزة أختها فاطمة في إعداداتها للحفل الكبير، بينما سيصل مساء اليوم آل عبد الجليل الحلواني ترافقهم زهو فقط، بعد أن اعتذرت والداها عن الحضور.. على أن يعود الجميع للقاهرة صباح الغد..
ومنذ حطت أمواج قدميها داخل حدود مدينة السويس بالأمس، وهي تتوق لكي تنفرد بخالتها فاطمة كي تسألها عن جارتهم، تلك التي أعلن بحر أنه ينوي طلب يدها..
ماذا كان اسمها؟
"رنا".. هتفت أمواج الاسم من بين شفتيها بفحيح ممتعض.. كنوّة بحرية بالكاد تستطيع السيطرة على نفسها كيلا تنفجر مغرقة الشطآن بـألسنة غضبها الزرقاء..
لا.. لن تستطيع الانتظار أطول من ذلك.. ستواجه خالتها مستفسرة عن الأمر، وبعدها ليكن ما يكون..
دلفت أمواج إلى المطبخ، حيث تقف خالتها أمام الموقد تعد بعض أصناف المقليات، بينما كانت والدتها فايزة تجلس إلى طاولة جانبية تقوم بنقش بعض المعجنات وترتيبها في صواني الفرن..
وقفت خلف والدتها كيلا تراها، ثم نادت خالتها ومنحتها غمزة قبل أن تقول وهي تشير لها بكفها كي تتبعها للخارج: "بطووووط.. لا أجد المطحنة القديمة في غرفة التخزين.. تعالي ساعديني في العثور عليها كي أطحن المكسرات، فتلك الجديدة مشبعة برائحة التوابل"..
ردت خالتها بنبرة خرجت تمثيلية بعض الشيء: "حسنا.. اذهبي وانتظريني بغرفة التخزين، وسألحق بكِ فور أن أرفع السمبوسة عن الزيت وأغلق الموقد"..
بعد قليل، انتبهت أمواج التي كانت شاردة تتذكر آخر مقابلة جمعتها ببحر في النادي بالقاهرة بعد نهاية الدراسة واستعداده لحفل التخرج.. كانت تهتز غضبا ككبركان نشط على وشك الانفجار، ولكنها أجبرت نفسها على أن تهدأ وتستكين كيلا يسبقها جنون وتفتعل فضيحة بأن تقفز أعلى المنضدة وتطبق بكفيها على رقبته فلا تتركه إلا بعد أن يعتذر عن نطق اسم (رنا) على لسانه أو يزهق أنفاسه الأخيرة دونها..
خرجت من شرودها بتلك الصورة شديدة العنف، حين استقرت خالتها إلى جانبها على مقعد قديم، وربتت بكفها بحنو على ظهرها، ثم سألتها بتعاطف واهتمام: "لِمَ أنتِ غاضبة يا حبيبة خالتك؟ ماذا بكِ يا أمواج البحر؟؟"..
لم تسألها كيف عرفت.. بالتأكيد يبدو الغضب على وجهها لوحة بارزة من التجهم والعبوس والرغبة في ارتكاب جريمة عنيفة.. لذا ردت بنزق: "بحر"، وكأن الكلمة هي إجابة اللغز.. ثم أطرقت رأسها بخجل وتنحنحت، قبل أن ترفع عينيها مجددا لتلمح نظرة متعاطفة مشوبة بالحذر، لتسأل خالتها بحزن حاولت إخفاءه خلف ستار عدم المبالاة: "من رنا جارتكم تلك يا بطة؟"
استرعى خالتها كم الترقب المشوب بالقلق، المحتجز بين مقلتيها، فلم تفهم قصدها للوهلة الأولى، لكنها ردت عندما استوعبت السؤال: "جارتنا من؟ لا أذكر لنا جارة بهذا الاسم.. لِمَ تسألين؟"
قالت أمواج بضيق والكلمات نفسها تخرج من فمها تلسعها: "بحر قال إنه يحب جارته رنا وأنه يخطط لطلب يدها، وأنهما قد تعارفا عندما جاءت لزيارتكم عدة مرات هنا في البيت"..
ضحكت فاطمة بعفوية، ثم ردت: "والله يا ابنتي.. لا يزورنا في هذا البيت سوى أطفال في سن العاشرة، وربما أكبر قليلا.. هؤلاء هم تلاميذ الدروس الخصوصية خاصتي من الصف الخامس الابتدائي وحتى الثاني الإعدادي.. وهم من أبناء المنطقة ويأتون بمفردهم.. لا يقوم أحد بتوصيلهم.. وبالتالي لا أعرف من رنا تلك التي أخبركِ بحر عنها؟؟"..
حين أنهت فاطمة حديثها ورمقت أمواج بنظرة تعاطف، تمتمت بصوت خفيض بكلمات متوعدة لبحر لكذبه على ابنة خالته.. وحبيبته..
وهي أكثر من يعلم.. لكنها فقط لا تفهم لماذا يصر على إبعادها عنه ذلك الأحمق بينما كاد يبكي أو يسقط مغشيا عليه حين ظن أن نبيل سيخطبها!!
سألتها أمواج مجددا بتشكك: "هل أنتِ أكيدة يا خالتي؟"، وقد كللت وجهها نظرات مترددة بعيدة تماما عن طبيعتها الواثقة..
ردت خالتها بتأكيد وتفهم: "أكيدة يا ابنتي.. لكنني لا أعرف لماذا فعل بحر هذا"..
رفعت أمواج حاجبيها لثوانٍ، وكأنها قد وجدت التفسير الذي كان ناقصا لتكتمل الصورة واضحة أمامها، قبل أن تناظر خالتها بعينين اشتعل أزرقهما بنيران الوعيد بانتقامٍ، ثم قالت بيقين: "أما أنا.. فأعرف حتما.. أين هو الآن؟"
نهضت خالتها، وتحركت صوب باب الغرفة، وهي تقول: "ذهب لإحضار بعض أصناف الأسماك الطازجة لأجهز لكم وليمة الغداء.. يا ليت لطيفة وعائلتها يأتون قبل المساء ليتناولوا أشهى الأطباق من صنع يديّ.. لكن، لا بأس.. سأصر عليهما ألا يغادروا غدا إلا بعد تناول طعام الغداء"..
عندما اقتربا من المطبخ، كان جرس الباب يعلو بصخب، قبل أن ينفتح الباب من الخارج، فيدخل بحر حاملا عدة أكياس بلاستيكية، مناظرا أمواج وأمه بلا مبالاة، قبل أن تسأله الأولى بفتور: "لماذا ترن الجرس إذا كنت ستفتح الباب بنفسك؟"
رد بحر ببديهية: "لأن لدينا ضيفات من النسوة يا ذكية.. حتى وإن كنتِ قريبتي وأمكِ خالتي.. لا يجب أن اقتحم المنزل بدون استئذان"..
حدجته أمواج بغيظ، ثم قالت بنبرة غير ساخرة تماما: "يا لكرم أخلاقك يا ابن الخالة"..
تجاهل بحر الرد عليها، وتحرك ليضع الأغراض على طاولة المطبخ، قبل أن يواجه أمه قائلا: "أمي.. سأذهب للتنزه قليلا قرب الخليج"، ثم استدار متحركا صوب باب الخروج..
غمزت فاطمة أمواج دون أن ينتبه ابنها، فهتفت الصغيرة تقول: "خذني معك.. أريد أن أتنزه قليلا"..
رفعت فايزة عينيها تناظر ابنتها بتحذير، فقالت ابنتها بعناد: "هل يُعقل أن نأتي للسويس ولا أتنزه قليلا يا أمي؟؟ سأتجول عند الشاطئ وأستنشق هواء الخليج، وأعود سريعا.. وبحر سيكون معي.. لن يضايقني أحد"..
قالت فاطمة بترحيب: "اذهبي يا ابنتي.. أساسا أنا وأمك شارفنا على إتمام تجهيزات الحفل، كما أن عمك عدنان قد أوصى على الكثير من أصناف الحلوى من متجر قريب.. والآن سنباشر بإعداد الغداء، وحينما تأتين تساعدين بعمل الأرز والسلطات"..
تحركت أمواج سريعا تعدل بلوزتها القطنية ذات الأكمام المنتفخة، ثم وضعت حقيبة يدها وحذائها الرياضي لتسير أمام بحر الذي تبعها متجهما يتمتم بكلمات غاضبة لم تتبين فحواها..
برغم مظهرها الذي يوحي بالثقة، إلا أنها بقامتها القصيرة وملابسها العصرية بتصميمها الغريب، لا تبدو كفتاة شارفت على إتمام الثالثة والعشرين من عمرها، بل كمراهقة تدرس في المرحلة الإعدادية..
من يصدق أن تلك التي يصل طولها لمرفقه تقريبا، هي شابة تكبره بعامين كاملين.. وتسيطر على قلبه بتعويذة سحرية منذ ولادته تقريبا.. أو ربما منذ بداية الوجود..
خرج بحر من شروده، ليشير لها صوب دراجته النارية الواقفة أمام باب منزلهما مربوطة إلى البوابة الخارجية بسلسلة معدنية ضخمة، ثم سألها بضيق: "كنتُ سأتحرك بالدراجة النارية.. كيف ستركبين معي الآن؟ أم نتحرك لنستقل سيارة أجرة؟"
قالت أمواج ببديهية: "خلفك بالطبع"..
تنهد بحر وقال محذرا: "أمواااااااج"..
"بحر"، ردت هي بنبرة مماثلة، مشددة على الحرف الأخير من اسمه بتحدٍ صريحٍ..
زفر بحر، وحل السلسلة عن القضبان المعدنية بعنف مندفع، ثم حرّك الدراجة وشرع بتشغيلها ليهدر محركها نافثا الوقود بنفس معدل الغضب الذي تملك صاحبه.. أشار لها بكفه، فجلست هي أولا على المقعد الخلفي، ثم جلس هو أمامها، حريصا على ترك مسافة كافية بينهما، وقال لها بتنبيه: "ضعي كفيكِ على المسند الخلفي لكي تتشبثي به.. وأنا سأقود ببطء"..
لم ترد أمواج، لكنه فور أن حرك الدراجة وقطع بها بضعة أمتار فقط، شعر بكفيها تستريحان أعلى خصره، تبعها همسها بالقرب من أذنه: "هكذا.. سأشعر بالاطمئنان أكثر"، قالتها بصدق يخلو من نبرة التحدي التي باتت تلازم صوتها كلما تحدثت إليه مؤخرا..
لم يسمح للمفاجأة أن تسيطر على عقله سوى لثوانٍ فقط، ثم تنهد ببطء مخرجا هواء ساخنا كان يحتل صدره ويهدد بانفجار مشاعره بما لا يليق..
لم يعرف بحر كيف قطع الطريق حتى وصل لبقعته المفضلة المطلة على الخليج، والتي تختبئ خلف تلة وتحتضن بجوفها كهفا صخريا صغيرا منزوٍ عن الأعين..
كهفه الخاص الذي أسماه .. (كهف الذئب)..
ترجل عن دراجته، ثم أخذ يحرك ذراعيه، يحاول أن يفك عضلاته التي تيبست بفضل التشجنات التي لحقت بها منذ أن استرخى كفا أمواج على جانبيه كمن تضع صكوك ملكيتها عليه بكل حرية لأنها تثق أن لها كل الحق بذلك، حتى أنه لم يجد غضاضة في تحريك ذراعيه وساقيه وكأنه يمارس تمرينات الإطالة قبل سباق للركض.. يعلم أنه يماطل ولكن لا حيلة أخرى له..
غير أنه بمجرد أن لمح تلك النظرات المصرة في عينيها، أمسى يعلم الآن أنه مهما ركض، لن يفلح في الفرار من تلك المواجهة الآتية بسرعة كنوة هوجاء نبتت من قلب الماء، معلنة بهيمنة أنها ستعيد ترتيب الشطآن وتشكيل رمالها، بل وتهدد بتدمير السفن والمنارات ما لم يستجيب البحر لسطوتها..
سألته أمواج بتكاسل، وهي تتفحص المنطقة بعينيها بفضول حقيقي، والمنظر الطبيعي الخلاب أمامها يخطف نظراتها: "هل تلك بقعتك المفضلة؟"
أومأ بحر دون أن يناظرها، بينما انشغل بفتح صندوق الدراجة النارية مخرجا حقيبة ظهر رياضية خفيفة من القماش المقاوم للماء، ثم ركض باتجاه الكتلة الصخرية، وهو يهتف: "انتظريني قليلا"..
عبر مدخل الكهف، فنزع سرواله وقميصه القطني، وارتدى زي السباحة، ثم أحاط رقبته بالمنشفة لتنسدل على الجزء الأمامي من جذعه، بينما طوى سرواله وقميصه ووضعهما بداخل الحقيبة، وعاد راكضا نحو أمواج، فقال محاولا أن يقطع عليها السبيل للحديث: "سأسبح قليلا"، ودون أن يمنحها فرصة للرد، دفع حقيبته الرياضية بين كفيها، ثم خلع المنشفة ودفعها على ظهر الدراجة النارية، وركض حافي القدمين حتى وصل إلى الشاطئ، فقفز بعنفوان في الماء، تستقبله برحابتها..
كان يحتاج لبرودة الماء لكي تخفف من استنفار حواسه وأعصابه بالكامل في حضورها، لكن الماء لم يفلح كثيرا في تهدئة ألسنة اللهب التي أحرقت سلامه النفسي ورباطة جأشه منذ أن لامست خصره أناملها المتسللة..
الغريب أن كل الاضطراب الذي لحق به جراء عناقها البريء، لم يؤثر إطلاقا على ضربات قلبه التي كانت تهدر بقوة وانتظام.
في الحقيقة، بحر الديب لم يشعر مطلقا بالاضطراب والتوتر في حضور أمواج، بل على العكس تماما.. كان يشعر بنبضات خافقه تهدر بوتيرتها الطبيعية يسيطر عليها يقين ما أنه قد اجتمع مع نصفه الآخر.. فالقلب يعرف مالكه، والروح تتعلق بتوأمها.. بعيدا عن حسابات العقل والمنطق التي أغرق نفسه بمحاولة معادلتها طوال الأشهر الماضية، دون أن يصل لنتيجة ترضيه أو تمنحه أملا يستحقه..
ولذا، فإنه حين خرج من الماء بقوامه الرياضي بفعل تدريباته المكثفة في الكلية، فإن رئتيه تمددتا وهو يستنشق الهواء النقي على مهل، يستمتع بتلكؤ ذراته المحملة برائحة البحر على بشرته.. وكأنه كائن أسطوري يشعر باقتراب اكتماله، لأنه يعرف يقينا أن الأمواج هي قرينة البحر وروحه التي تمنحه الحياة..
تحرك الخطوات الفاصلة بينهما بثقة ذئب يستقبل وليفته بإدراك أنها تخصه وله وحده، خاصة وأن نظراتها تؤكد له ذلك.. ورغم ذلك، ظل يقاوم تلك الفكرة لأنه يعلم أن الطريق إليها مستحيل.. لا تزال تفصل بينهما أنواء هائجة وعواصف رعدية وصواعق برق مميتة..
يريد المخاطرة، لكنه لا يدري إن كان سيخرج في النهاية على قيد الحياة.. أن يحارب لأجلها.. شيء يفعله بدون تفكير أو لحظة تردد، لكن أن يحارب لأجلها وهو يعرف أنه سيخرج خاسرا لا محالة، فهذا شيء يجعله يريد حماية قلبه بأسوار من الفولاذ.. لن يحتمل نبذ أمواجه أو نفورها مهما أظهر عكس ذلك..
أما هي، فقد كانت شاردة منذ شاهدته يقفز في الماء.. تفحصته عن هذا القرب لأول مرة منذ وقتٍ طويل.. ناظرته يسبح بعرض الماء متناغما مع التيار كمن يعرف أنه هاهنا حيث ينتمي، ثم قفز لأعماقه ليبتلعه ظلام القاع وكأنه جزء من البحر.. بل هو البحر نفسه..
ولما ارتقى قليلا ليطالع الأفق وهو يسبح على ظهره بشكل استعراضي، انعكست عليه أشعة الشمس، فتحولت سمرة بشرته لوهج خاص مع تراقص جزيئات الماء على جسده بالتماع يشبه الماس..
صورة حية لرجل مكتمل الرجولة.. شعرت أنها إذا دققت النظر أكثر، فإنه سيتحول أمامها لكائن أسطوري.. مثل بوسيدون.. وكأنه ليس من هذا العالم بالفعل..
تبا.. لماذا تشعر بهذه الانفعالات معه؟؟ هذا ليس عدلا..!! فهو لا يبدو أنه قد تأثر بمقدار ذرة واحدة باحتضانها لخصره على متن تلك الدراجة البخارية اللعينة..
ظلت تطالع لحظة خروجه من الماء بانبهار غريب، وكأنها تشاهد لقطات مقربة بالتصوير البطئ في مقطع سينمائي أجاد المخرج تصويره بإضاءة رائعة وخلفية مبهرة، وبطل يسحب الأنفاس بجاذبيته الشديدة، حيث تحده أشعة الشمس من كل الجهات، لتمنحه وهجا برونزيا خطف أنفاسها، بينما كان هو يسير بتؤدة وثقة كمحارب أسطوري لديه يقين الفوز على أعتى الأعداء..
همست أمواج تحدّث نفسها بانشداه، والأفكار تتلاحق على رأسها، فلم تشعر معها إلا بحاجتها للفضفضة، حتى لو لذرات الهواء من حولها..
(كنت دائما منجذبة له ولم أفسر السر.. شخصيته.. جديته.. اجتهاده.. تهذيبه.. أقصد أنه بالتأكيد ليس أكثر رجال العالم وسامة أو لباقة.. ما سره؟ أتراها تلك التعويذة التي ألقتها علينا خالتي فاطمة لحظة ولادتي؟.. سبقته إلى هذا العالم.. وجاء هو بعد عامين متحديا لأمنية خالتي وأمي، وكأنه سيكسر أثر التعويذة.. فحدث أن اختطف بضع نبضات من قلبي يوما بعد يوم، حتى لم أعد أملك من قلبي شيئا.. هل يهرب الأحمق لأنه يظن أن اللعنة قد لحقت به هو فقط؟ أنه هو فقط من يحترق بهذا الحب صمتا؟ ألا يرى؟ ألا يرى؟ تبا لك يا بحر يا سيد الأغبياء)
اقترب بحر حتى وصل إلى حيث تقف هي بالقرب من دراجته النارية ملاحظا عبوسها بتعبير يمزج بين الغضب والاحباط، فانتزع منشفته عن الدراجة، وأخذ يجفف جسده برتابة، بينما يطالعها بنظرات بها خليط غريب يصعب تجانسه.. خليط مسكر ساحر بين الخطر والحماية، لتتبدل نظراتها لشيء آخر لم يشأ تفسيره، وإن كان تغضن وجنتيها بالأحمر يعطي تلميحا عما يمكن أن يدور بخلدها الآن..
تنهدت أمواج ثم سحبت بعض الأنفاس التي هربت منها في لحظة غادرة، بينما كانت تهمس بداخلها:
(وكأنه وحش يجب أن أهرب منه لأنقذ نفسي من بطشه..
وكأنه حارس يجب أن أهرب إليه لينقذني من شرور الآخرين..
وكأنه بنظرة قاسية قادر على إيلامي.. وبلمسة حانية سيداويني)..
"لماذا تتبعينني؟"
أخرجها من شرودها سؤاله الذي خرج منه بنبرة لائمة ، وكأنه لم يعد يتحمل الإرجاء أكثر من ذلك..
هل يلومها.. لأنها تحب؟ لأنها تهتم؟
تبا له..
همّ يرتدي قميصه محاولا الانشغال ريثما يمنحها الفرصة للرد، بينما ظل محتفظا بسروال سباحته المبلل، خوفا من أن يصيبه التردد مجددا إذا ركض للكهف لتبديله..
طوقت أمواج صدرها بذراعيها تتلمس الدعم من داخلها فهي لم تهرب يوما من مواجهة، وإن كان حبيب الروح يخشى للحرب، فلتعطي هي شارة البدء للقتال.. هتفت بعناد وتحفز: "قدر الأمواج أن تلاصق بحرها، فإما يخلدان معا، أو يفنى كلا منهما معانقا للآخر.. بكل الحالات، لا انفصام بين بحر.. وأمواج".. ضغطت أحرف كلمتها الأخيرة بتأكيد ويقين، وهي ترجو أن ينتقلا إليه فيكتسب بعض الثقة..
شهق بحر بعد أن فغر فمه على اتساعه.. من بين كل الإجابات التي كان يرجوها.. كانت تلك آخر ما يتوقعه منها..
لكنها هكذا دائما.. غير محايدة.. وغير مهادنة.. وغير متوقعة..
تضرب ولا تبالي.. تتصادم بلا رحمة، فتشطر وتمزق وتخلّف وراءها فوضى عارمة.. لا تعرف غير المواجهة والمضي قدما.. ليس من صفاتها التراجع أبدا..
أمواجه باترة.. و.. و..
لا.. لا.. ليست أمواجه.. ولن تكون له.. لن تخصه.. أبدا
رمى بحر منشفته مجددا على ظهر الدراجة، ثم رفع حاجبه ليرد موبخا بفتور: "وقحة قليلا.. ألا تظنين؟"
زفرت أمواج بينما ترمقه بعدم اكتراث مماثل، وكأنه لم يهنها لتوه، فتابعت تقول باعتداد: "ألا تقول حكايات الأساطير أن عروس البحر يجب أن تكون جنيّة؟؟ من غيري تليق؟؟"
ابتسم بحر ابتسامة نصفية سخيفة تحرك لها فكه بانزعاج، وكأنه يرفض أن تتسلل تلك الماكرة وتزعزع سيطرته التي نجح بالكاد في استعادتها بعد جولة منهكة من السباحة في عرض الماء، فقال: "لا نعيش في زمن الأساطير.. وإذا كنتِ تبحثين عن حلمٍ خرافي.. ربما عليكِ أن تخلدي للنوم.. لكن حين تستيقظي.. تذكري أن الواقع لا يشبه شيئا مما ترينه في منامك من أحلام أسطورية"..
أنزلت أمواج ذراعيها بانفعال، وقبضت كفيها بحنق، ثم هتفت تسأله بتمرد: "ألم تفهم كل تلك التلميحات بعد؟"..
لم تجد غضاضة لسلوكها درب الوضوح، فقد ملت الطرق حول الهدف.. لتسمعها منه الآن ولينتهي الأمر..
ازدرد بحر ريقه ببطء، ثم قال محذرا: "أية تلميحات؟.. لا تسيئي لنفسك يا ابنة خالتي"..
وقفت أمواج أمامه لعدة ثوانٍ، ثم تحركت صوبه خطوة واحدة مترددة، قبل أن تقول بنبرة إقناعية، كمن تحاول استمالته ليقتنع بما تعرضه: "اسمع يا بحر.. أنا لا أتحرش بك.. أنت صديقي المفضل، وأريد أن يكون بيننا ميثاق غليظ.. أريد أن أمتلكك فعليا.. كما تمتلك قلبي.. وأعلم أن قلبك لي لكنه أسيرك وأنت لا تحرره.. لا تحاول الإنكار.. لستُ غبية أو موهومة"..
من جديد، فغر بحر فمه، وقبل أن يرد معارضا، استلت هي سيفها وضربت ضربتها القاصمة: "أريدك أنت تتزوجني"..
رفع بحر كفيه إلى جانبيه بدهشة وعدم تصديق، ووقف كتجسيد حي للصدمة، قبل أن ينزلهما بعنف، ويتحرك خطوة قاطعة نحوها، يسألها غاضبا: "هل جُننتِ؟ بِمَ تهزين الآن؟ هل نحن في لندن؟"، ثم استدار يطردها من محيط نظره، كأنه يخبرها بلا كلمات أنه يرفض استمرار تلك المحادثة..
ناظرته أمواج بحاجبين معقودين.. أيظن أن المناقشة انتهت؟؟ بهذه البساطة؟؟ بعد أن دفعها لتكشف كل أوراقها أمامه متخيلة عن كل ذرة حياء تمتلكها؟؟..
إن كان بحر يظن أن أمواج ستقف عند هذا الحد، فإنه واهم بالتأكيد..
قطعت أمواج المسافة الفاصلة بينهما، واستدارت لتقف في مواجهته تماما، بل إنها قد اقتحمت مساحته الخاصة، فبات يراها أكثر وضوحا بعد أن تلألأت أشعة الشمس على أمواج عينيها الزرقاء، لتمنحها من ضوئها أطيافا لا نهائية، فتزرع الجنون بداخلهما معا مع اختلاط أنفاسهما في هذا الحيز الضيق، لتقسم أنه لن يغادرهما أبدا..
ازدرد بحر ريقه متأثرا بوقفتها على هذا القرب منه، وإن كان بإرادة فولاذية يمنع نفسه من أي تصرف سيندم عليه أشد الندم، لتمسك أمواج زمام المواجهة من جديد، قائلة بإصرار: "لا تظن أنني سأقبل أن ألعب دور ابنة الخالة المهووسة في هذه القصة.. لن أكون حكاية جانبية في حياتك.. لن أسمح لك.. أتسمعني؟ أنا سأكون البطلة يا بحر.. فتوقف عن الغباء"..
رفع بحر كفيه أمامه، لا يدري ماذا يفعل بهما.. هل يعتصر وجنتيها فيكمم فمها؟؟ هل يدفعها لتبتعد عن محيط أنفاسه قبل أن يحاصرهما شيطان الغواية؟ هل يخنقها قاطعا عليها تهورها بالكلمات؟
هل يعانقها ولا يتركها أبدا؟ أم يختطفها ويزرعها خلف أضلعه لتصبح سجينته ولا تغادر أبدا..
لا.. ليست سجينته.. لن يجرؤ على أن يجبرها أبدا على سكنى قلبه وحياته.. ستكون جنيّته مالكة عمره..
لتكن تلك أسطورتهما الخاصة، العاشق الذي أصابه الخبل، فباغت الجميع وانتزع جنيّة من روضتها، وزرعها خلف أضلعه لتحتل أروقة قلبه كافة، وتفترش أوردته وتستكين بداخلها للأبد، فتمهر كل نبضاته بتوقيعها الخاص، فلا حياة إلا بها..
هل يكترث إذا قالوا إنه اللص الذي سرق زهرة اللوتس من منبتها، ليضعها بالبحر المالح، وهو يثق أنها ستزهر؟
هل يواجه الذئب قطيعه بوليفته التي لا تشبه أحدا؟.. قطة برية رمادية زرقاء العينين تخمش كل من يقترب عداه..
تقاذته أمواج الأفكار بين وسوساته المختلة حتى أنهكته كليا، فأنزل ذراعيه إلى جواره بتعب، عندما تابعت هي متعهدة بقسم لا رجعة فيه: "أنت ستتزوجني برضاك.. بل سترجوني"..
ضحكة ساخرة تعالت، لم ينتبه أنها صدرت من بين شفتيه القاسيتين، إلا عندما لمح نظرة الألم في عينيها، فقال بقصد الإجهاز عليها: "هل ستعيشين الوهم لأن أمي تمنتكِ لي ؟ أم ربما تظنين أن وعدا عائليا عتيقا سيكون ملزما لي، ليجبرني على الزواج منكِ؟"
مطت أمواج شفتها السفلى بلوعة، فتمنى لو يلكم نفسه أمامها اللحظة ليغادرها الكمد، لكن أمواج استردت عنفوانها سريعا..
فالأمواج مهما تكسرت على صخور الشاطئ القاسية، تعود مجددا بكل عنفوان وقوة وبأقصى سرعة وارتفاع، حتى تغمر تلك الصخور القاسية وتترك علاماتها عليها، فتصيبها بخدوش وشقوق، فتجبرها على أن تزهر.. محققة المعجزة..
وهذا ما نوت عليه تماما، وظهر جليا على صفحة عينيها، حين هتفت بنزق: "أنا لن أتزوجك بمحض وعد عائلي عتيق.. لست طفلة غبية تتعجل النضج وتريد أن تلعب لعبة (العروس).. لا أبحث عن أي زوج يا بحر.. هل تعلم كم عريس يطلب ودي شهريا؟ أمواج الحلواني لن تتزوج سوى رجلا يعشقها"..
ابتلع بحر غصة بحلقه، وهو يتخيلها تُزف إلى عريس آخر، لكنه قال بجفاء: "مبارك.. تزوجي ممن تشائين"..
عاودت هي تطويق صدرها بذراعيها، ثم قالت بثقة: "أنت تعشقني يا بحر.. احترم ذكائي على الأقل ولا تعاملني كمراهقة واهمة تطاردك.. إنما كتمت الحب بقلبي كل تلك السنوات حتى أتأكد من أن مشاعرك تجاهي تتساوى مع ما أحمله لك في قلبي"..
ببرود يُحسد عليه، أخفى بحر ارتجاف دواخله عنها، محافظا على نفس النظرة الجافة المتحفظة، لتتابع أمواج بنزق من تعلم أنها لا تمتلك أية فرصة الآن للتراجع: "أقصد انظر لدخولك الكلية الحربية خلافا لرغبة والدك.. انظر لإصرارك على التواصل معي طوال سنين الغربة وما بعدها، برغم كوننا نعيش في مدينتين مختلفتين.. حرصك على أن تمنحني هداياك وغضبك من محاولة نبيل أن يبادلني الهدايا.. بل امتعاضك من أي تقارب بيني وبين ابن عمي.. أصدقني القول؟؟ ألم توشك على الإصابة بذبحة صدرية مثلا حين ظننت أن نبيل سيطلب يدي بدلا من زهو؟؟"..
جحظت عينا بحر، وهو لا يفهم من أين اكتشفت هذا الأمر، فهو موقن أن والدته أبدا لن تخبرها عن رد فعله على خبر خطبة نبيل.. لكنها قطعت شروده، وهي تهدر لائمة: "بل انظر لحبي لك"..
رفع بحر حاجبيه مستفهما، وكأنها بدأت تتحدث بلغة غير مفهومة، فأكملت بنفس نبرتها الواثقة: "لا يمكنني أن أحبك بكل هذا القدر دون أن تبادلني الشعور حتى ولو بمقدار النصف.. صحيح؟"..
وقف بحر أمامها لدقائق صامتا.. ينظر فقط لعمق عينيها..
(عيناك الحبيبتان مستفزتان وقحتان، تضيئان بألف قبس من لهيب.. عيناك هما الحياة نفسها، وأنا أخشى الاحتراق)..
هكذا كان عقله يصرخ، وهو يبتلع أناته لتحرق أوردته وتصيب قلبه باحتقان ينذر بانهياره الوشيك..
لكن لا.. سيغلق هذا الباب.. الآن وللأبد..
سألها بحر بنبرة مشمئزة، طابقت تعبير النفور الذي رسمه بحرفية على وجهه: "أمواج.. ألا تستحين؟"
أحاطت أمواج خصرها بذراعيه، وقالت تحاجيه: "لا أطلب منك شيئا شائنا أو حراما . اطلب الزواج من الشخص الذي أحبه وأدرك أنه يحبني حتى وإن كان هو يجبن أن يعترف"..
اشتعلت عيناه بالحنق من إهانتها المستترة له، لكنها تابعت بقنوط: "إذا كنت سترفض، لا بأس.. لن أغضب.. أتدري ما السبب؟"..
حرّك بحر كتفيه متسائلا، ولم يجرؤ على صياغه الكلمات، فتابعت هي بنظرة متحدية ولسانٍ باتر: "لأنك وقتها ستثبت لي أنك لا تستحقني، وأنك لا تمتلك عقلا راجحا وعزيمة قوية لإتمام الأمر.. أنا أريد رجلا واثقا من نفسه حين يقف أمام أبي ليطلب يدي.. لن أتزوج شابا ضعيفا يجبن عند المواجهة"..
اهتز شيء بداخله عندما قالت كلماتها الأخيرة، فقال ينشد بعضا من التفهم: "افهميني يا أمواج.. أنتِ.. أنتِ.. أنتِ قطعة من السماء.. كنز ثمين.. تستحقين الأفضل.. بل الأفضل من بين الأفضل"..
هزت أمواج رأسها موافقة، وعضدت تصرفها بقولها: "أتفق معك"..
أطرق بحر رأسه بارتياح..
أخيرا اقتنعت، لكنه جز على أسنانه غيظا، عندما تابعت تقول: "أستحق الأفضل بالفعل.. لكن لا أحد أفضل منك.. لا أحد يحتوي الأمواج غير بحرها"..
ارتعد شيء بداخله، لكنه حافظ ظاهريا على هدوئه، وقال: "لا تتحدثي عني بصيغة الملكية.. أخرجي تلك الأفكار التملكية من رأسك.. أنا.. أحب....."
كادت الكلمة أن تفلت من بين شفتيه.. (أحبك).. لكن الحرف الأخير تلكأ معاندا، فازدرد ريقه، وقال ما كان ينوي قوله من البداية: "أحب.. رنا، وسأطلب يدها قبل أن أستلم عملي"..
ردت أمواج بكلمة واحدة: "كاذب"، ثم تحركت صوب الدراجة النارية، ترمي منشفته على الأرض، وتجلس في بقعتها على الكرسي الخلفي، بينما حمل هو المنشفة وأخرج سرواله من حقيبته الرياضية، وسارع يرتديه كيفما اتفق، ثم قفز أمامها يحرك المقود..
خلال رحلة العودة، نفذت أمواج طلبه أخيرا، وأسندت كفيها إلى المسند الخلفي رافضة أن تلمسه، وكأنه غير موجود..
تصرف فسره هو، بأن أمواج تجهز نفسها منذ هذه اللحظة لتتعود على غيابه عن كل مفردات حياتها..


يتبــــــــــــــــــــع


مروة سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس