عرض مشاركة واحدة
قديم 11-09-22, 10:33 PM   #29

چورية

? العضوٌ??? » 505085
?  التسِجيلٌ » Jul 2022
? مشَارَ?اتْي » 40
?  نُقآطِيْ » چورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثاني عشر
تسللت شمس الصباح المشعة من نافذة مكتبها، فأنارت الغرفة بغزو ذهبي يشبه ذهب خصلاتها، فداعب الشعاع الممتد وجهها الأبيض النائم، فتحت عينيها على مهل وهي ترفع كفها تمسد جبهتها تشعر بمطارق تطرق بحفل صاخب رأسها، وكيف لا وهي طوال الليل تذهب وتجيء من النافذة إلى الأريكة تراقب ذلك النائم في سيارته بأريحية نومه فوق فراشه، هبّت واقفة تتذكر وجوده في الأسفل فاقتربت من النافذة بسرعة لتجده داخل سيارته كما حاله أمس، استدارت تخرج من المكتب ومنه إلى السلم حتى وصلت للبوابة الحديدية وخرجت منها إليه.
سمع صوت صرير البوابة وهي تُفتح فنظر في اتجاهها بعيون مسبلة ورآها تخرج كعاصفة تشبه ما كانت عليها ليلة أمس، لكن هيئتها وشعرها ملفوفًا في كعكة غير مهندمة فرت منها بعض الخصلات هاربة من قيدها، سحرت عيناه... وسلبت عقله... وارتدت قلبه قتيلًا في عشقها، ظل متمسكًا بتمدده للخلف حتى استدارت حول السيارة قاصدة الوجهة التي يحتلها، فأغلق عيناه المسبلة يمثل النوم.
وقفت تراقب ملامحه ولغة جسده حتى تأكدت من ظنها، فطرقت زجاج نافذته بعصبية لترى تمثيله واضحًا في لغة جسده وهو يستيقظ، ومن أدرى بلغة الجسد مثلها! انتظرت بكل برود أعصاب تُحسد عليه حتى أتقن تمثيله في محاولة تذكره أين هو وماذا يحدث معه، وترجل أخيرًا من سيارته ينظر لها بتساؤل، دون أن يكلف نفسه عبء الحديث.
راقب تحوّل البرود في عينيها لشراسة غير مبررة من جهته غافلًا عن اكتشافها لتمثيله، مسحورًا بشعرها والنسمات الربيعية تطيره على وجهها فتنزعه بعصبية وهي تتحدث تسأله:
-لماذا لم تغادر؟ لا يصح ما تفعل... ماذا سيقول الناس إن رأوك بوقفتك هذه هنا بينما أنا أنام في الداخل.
رغم سحرها الذي خطفه على حين غرة إلا أن سؤالها استفزه لأبعد حد، فقال ببرود قنبلة تنتظر فقط فك فتيلها:
-هل أنتِ معتوهه؟! صدقًا أتحدث هل أنت معتوهه... أنت تبتين ليلتكِ خارج بيتكِ، ولا أحد من عائلتكِ يدري أين أنتٓ... وكل من في الدار معظمهم من الرجال... وتسألين بتبجح ما سيقوله الناس؟!!!
فصرخت أمام بروده وتنصيب نفسه حامي عليها:
-أولًا أنا لا أسمح لك بالاستهزاء بي... لا تقاطعني...
قالت جملتها الأخيرة بحزم قاطع وهي ترى ضحكته الساخرة ونيته في مقاطعتها ترتسم في عيناه، وأكملت ترتب كلامها:
-ثانيًّا كل الرجال في الداخل... هم الحراس المكلفين بحماية الدار، وهم يبيتون كل ليلة يحرسون الأطفال والمدرسات داخل الدار... هل سأعين حراس غير موثوق فيهم لحماية دار رعاية، وليست دار رعاية عادية أنها تكفل ذوي الهمم... ثم أن لا يحق لك محاسبتي.
كان مسحورًا بالاحمرار الطفيف المنتشر على صفحة وجهها نتيجة انفعالها، نعم فاحمرارها لم يكن نضر كما في البشرة البيضاء عادة، بل كان باهت... فبياض بشرتها الشاحب ما زال يطفو أكثر منه، تنحنح عندما لاحظ نظرتها المتسائلة نحوه وقال:
-يمكن أنه كان لا يحق لي محاسبتكِ، لكن بعد أن ساعدتكِ بمبيتك هنا وعدم اخباري لسيادة اللواء مكانكِ، يحق لي محاسبتكِ وكل ما يخطر في بالكِ حتى تقررين العودة لمنزلكِ آمنة.
-ليس لك شأن إن كنت آمنة أو لا.
-كيف ذلك؟ ضميري لن يرتاح لحظة إن حدث بعيد الشر لكِ مكروه.
اغتاظت منه ومن ردوده لذلك قالت بأعصاب قد تفقدها في لحظة:
-لكن ضميرك هذا يرتاح في الكذب والتمثيل.
نظر لها تيّم بصدمة وهمس بغباء:
-هل تحسبيني أني كذبت لأجل.
-بل لأنك تكذب عليّ أنا؛ أنا أعرف أنك لم تكن نائمًا داخل السيارة، ألا تعرف أن لغة الجسد هي تخصصي.
ابتسم بإحراج وهو يرفع يده ويمشط خصلات شعره ونظرته لها وهو مُخفض رأسه قليلًا، وهمس:
-يبدو أنكِ نجيبة في مجالكِ يا دكتور.
أجابته بذات الصرامة، تتجاهل النداء الذكوري الذي ناداها به:
-إن لم أكن نجيبة لما وصلت لأن أكون مديرة هذا الدار.
ابتسم فزادت وسامته وبالتبعية ازدادت ضوي النبض داخل صدرها، لما له أن يكون بمثل هذه الوسامة، لكن هي كبيرة كفاية لتردعه وقلبها عن الوقوع في ذات الخطأ مرة أخرى، هي حصدت نصيبها من الحب وكانت الزروع فاسدة من الجذور، أشاحت بوجهها بعيدًا كما بعد حركتها عن عمليتها المشهود بها، ذكرت نفسها جيدًا بتلك المرّة التي خرج فيها من مبنى عمله مع شابة أنيقة، كانت حزينة نعم لكنها كانت أنثى ناعمة تخطو برقة... هل يحسبها كما تلك المرأة سهلة المنال؟ هل يظن فيها السوء؟! ولما لا ومنذ قليل كان يخبرها بما في معناه أنها تبيت خارج منزلها ودون علم أهلها كفتاة تحمل العار! نظرت له عند خاطرها الأخير تسبر أغواره وتقبض على نظرته.
أما عنه فتأملها مجددًا منذ اشاحتها بوجهها بعيدًا، هذه الجميلة الرقيقة كواحدة من البسكويت خفيف الطبقات قوي المذاق في حلاوته، كيف لها أن تملك نابضه وكيانه في فترة قصيرة كما فعلت؟ أي سحر ألقته عليه في ساعة غفلة منه فغر أمامها قلبه، دائمًا ما كان متحكمًا في مشاعره، كم أوقع من فتيات في عشقه وتلاعب بالكثيرات دون قطع الوعود، كيف له بأن يسلم في حبها بمثل هذه السرعة، فالنظر لها قبلة... والسمع لها حياة... القرب منها كاقترابه لأجمل نجوم السماء وأبعدهم طريق، كم يود اختراق حيزها الآمن وسلب قلبها وعقلها وكيانها، أن يكون طريقها مداره ويصبح أحد أنفاسها أو كلها، أن يملكها كما فعلت معه تمامًا إنه يريد العدالة ولن يقبل بغيرها، فلا يحق لها بأن تكون كل اهتماماته ولا يكون محورًا في حياتها.
تلاقت نظراتهما عندما عادت بأعينها إليه، فزلزل كيانها وحار نبضها في حفل راقص كاد أن يوقف تنفسها، بينما كان يزداد قوة سحرها عليه في ضجيج لجة من مشاعر تجيش في صدره، من نظرة حزن اعتصرت فؤاده، فودّ لو كان بيده أن يحميها من كل حزن شعرته يومًا وكل وجع رسم محياها لامسًا وجدانها.
ظلا هكذا حتى وقفت سيارة أجرة على جانب الطريق خلف سيارته ولم ينتبها لها، حتى اقتربت خطوات ميسون منهما وأدارت رهف لها وصرخت بها:
-كيف لكِ بأن تجعلني أشعر بما شعرته ليلتين متتاليتين، لقد كنت أموت رعبًا.
شعرت رهف بالدوار في بادئ الأمر نظرًا لحالتها النفسية التي تمر بها منذ علمت الحقيقة، كما أن اضطرابها في النوم وشدة الصداع في رأسها ساهما أيضًا في دوارها، لكنها سمعت... وفهمت... وأدركت كل ما قالته ميسون فقالت ببرود قاسي:
-يا ليتكِ تشعرين بما جعلتينني أشعره في كل ألم تلقيته بسببك.
بهتت ميسون وشحب وجهها وهمست بخزي قليل:
-كنت أحميكِ مما هو أقصى.
ابتسمت ابتسامة وجع وهي تسألها بإقرار:
-ألا ترين أنني كبرت قليلًا لتحميني من قرار أنا الوحيدة التي من حقها اتخاذه أم لا!
-كان والدك رحمه الله أكبر منكِ عندما اتخذ قراره بالزواج بها، وماذا حدث... تزوجت أول رجل في طريقها!
-لأنها إنسان لها الحق في الحياة مرة أخرى.
-أنتِ يا رهف من تقولي هذا على أبيكِ.
صرخت بقهر:
-نعم لأنها أيضًا أمي التي لم تتخلَّ عني، بل أنتِ من باعدتِ طرقنا.
كان تيم يقف ينظر لهن في الخلف لا يعرف كيف يتدخل ليقف هذه الفضيحة التي ستكون معلنة بعد أن يكتظ الطريق بالمارة، لكن ميسون أعفته من التدخل بقولها:
-هيا بنا إلى المنزل وهناك نستطيع الحديث بحرية.
أجابتها رهف بهدوء مميت
-لن أعود إلى المنزل مرّة أخرى أنا لم أعد أثق بكم.
الألم القوي الذي احتلها هو صدى كلماتها، لكن هل لها حق العتب أو الشعور بالظلم! هذا جني زراعها، لكن ماذا كان بيدها غير ذلك، لن يعرفوا صحة ما قامت به إلا عندما يقتربوا منها وتلوث حياتهم كما فعلت مع ابنها الذي مات بحسرته على سمعته التي سقطت في الوحل.
تراجعت الجدة ميسون بخطوات بطيئة بظهرها للخلف، ثم شمخت بأنفها واستدارت نحو سيارة الأجرة التي رحلت مجرد ما أن دخلتها.
وظلت رهف تنظر في أثر رحيل السيارة والألم يطل من نظرتها بكل صورة قاسية على نفسها وأنفاسها، لماذا لم تكن الحياة عادلة معها يومًا، لماذا لم تحيا من الحياة ورديتها، لما لم تكن أكبر مشاكلها في الحياة همّ مشاجرة بينها وبين زوجها على وجبة طعام ينقصها بعض الملح، أو أن رئيسها في العمل يضيق الخناق عليها لتعمل بقدرة عشرة عمال معًا، أو أن طفلها لا يجتهد في مدرسته ويئست من إيجاد الحل لإصلاحه، عند آخر خاطرة أغمضت عينيها وهي تمسد فوق بطنها الخاوي من طفلها، لما مشاكلها معقدة وليس لها إلا الشعور بالألم النازف حتى أخر قطرة.
الوجع الذي رآه على جانب وجهها بعد أن اقترب خطوة منها، أثار شعوره بالحاجة لاحتضان أوجاعها، لكنه ظل أسير حاجته لأنه يعلم بأن العواقب ستكون وخيمة، ظل على وضعه في متابعة كل شاردتها وواردتها وكأن مهمته اليوم مراقبتها وما أجملها مهمة، حتى استدارت له وهمست بكآبة بعيدة عن البرود أو العصبية التي كانت تتحدث بها:
-يمكنك المغادرة الآن، فها هو الصباح قد حل، ولا يوجد ضير يحدث في الصباح.
راقبها وهي تنسحب بهدوء حزين وهي تفكر في صدق جملتها الذي يتمثل في الضرر الجسدي أو المادي بصفة عامة، لكن ماذا عن ضررها النفسي الآن، لقد تحملت ما هو أفظع عندما كانت ترزح تحت خاطرة "الابنة المنبوذة"، لكن يبدو أن عندما تصبح حياتك كلها كذبة في غفلة منك... هي ما لا تتحمله، كيف لها أن تغفر الآن، كيف لها أن تعاود الثقة من جديد؟!
༺༻
"فسوق"
هذه هي صورتها في مخيلته، بعدما أخبرته عن سابقتها في الحب ونسى أنها تقى ابنة بلدتهم وابنة أبيها، وتربت على كل مبادئ أمها وهو خير من يعلم تلك المبادئ، فصرامة أمها بهذا الصدد كانت تحاصرها منذ نعومة أظافرها، فحب الطفولة الحقيقي الذي وقعت به ولم يكن من الفكاك – كما ظنت – بل عاش دخلها عبر مراحل حياتها كما الجين الموروث خاملًا منتظرًا شعلةً تفجره، ولم تكن الشعلة إلا رؤيته مبتسمًا... وسيمًا... وهجًا... يخطف أنفاسها دون جهد كما يحدث الفوضى في دقات وجدانها، يختل توازنها في تمرغ بين منطق العقل الدسم في تحليله على قلبها، تكفي نظرة الغزل في عينه، والتي تطيرها بخفة تشبه خفة فراشة في تنقلها بين حقول مزدهرة الورود...
فريد لم يعد يراها النجمة الساطعة التي يمني نفسه بها...
"النجمة الساطعة"
يا له من لقب لذيذ يدغدغ مشاعرها، لقب كان يطرب آذانها في شعور كمن أتاها الحلوى وسكاكر العيد، شعور وكأنما طفلة سعيدة بفستانها الجديد للاحتفال، لقب دار عليه الزمن وتخمده تحت الرماد، دمعت عينيها لذكريات حاولت أن تدحضها بكل قوة تمتلكها يومًا.
شهقت وهي تغمر يديها في طبق ذرة الفشار تَكْبُش منه وتلتهم كبشتها وعينيها معلقة بكلمة النهاية التي زيلت شاشة التلفاز، وفي تلك اللحظة رن جرس الباب فقامت من مخدعها لتفتحه، ولم تكن غير تسبيح التي دخلت تصيح:
-أشعر بالاختناق وأود الحديث يا تقى، وحتى وإن كنت على خصام معك...
التفت لها تسبيح لترى عينيها الحمراوين متورمتين ببشاعة أخافتها، فسألت بجزع:
-ماذا حدث؟! عيناكِ تبدوان وكأنك ظللتِ تبكين دهورٍ.
رمشت بعينيها وأجلت صوتها ثم أجابتها:
-ليست دهور، كل ما في الأمر أني كنت أتابع فيلمًا حزينًا ليس إلا.
استدارت تسبيح مرة أخرى لتتأكد من الفيلم الذي أنزل ستار نهايته، ولم يكن إلا كوميديًّا ساخرًا لا يدعو للبكاء، ثم عادت لعينين تقى التي لم تبكِ يومًا على الأفلام مهما بلغت حزنها، ومنطقها كما منطق جميع من لا يبكون بأن "هذا ليس واقع"، تقى لم تتأثر يومًا بالأفلام، ماذا حدث إذًا؟! قالت تسبيح:
-إن كنتِ ستبدئين بالكذب والتنكر من جديد، فاسمحي لي بالمغادرة.
-تسبيح أنا أكره هذا الضغط، لكن كل ما في الأمر أني تذكرت الماضي.
قالتها وتحركت متهربة من نظارات تلك السابرة لأغوارها، لتجلس فوق الأريكة التي كانت تحتلها منذ قليل، وأعادت رأسها للخلف مغمضة العينين بإرهاق وتعب مضنيين على نفسها، لكن تسبيح لم تتركها لإرهاقها وجلست بجانبها تسألها بإلحاح:
-أي ماضي ذاك؟
تنهدت وهي تجيبها:
-أبي وأمي وأخي... عندما كنا نلتف حول طاولة الطعام وأنال تقريعًا لأني لا أجلس طويلًا وأظل أتحرك أثناء طعامنا... كم كنت محاطة بدفئهم، وكان البيت صاخبًا... انظري الآن إلى ما وصل حالي، وحيدة... منبوذة... أخي لا يفكر أبدًا بزياتي إلا إن كان أمرًا عائليًّا...
فتحت عينيها تنظر للسقف وما تزال ترجع رأسها للخلف، تنهدت هامسة:
-حسنًا، لا تقلقِ أنا بخير... فقط أصابتني كآبة سرعان ما ستعود أدراجها... الآن أخبريني ما الذي تودين الحديث به؟
نظرت لها تسبيح طويلًا، ومن معرفتها بصديقتها تعرف... بل على يقين أن تقى لن تدلي بحرف زائد عما تشعر به، لذلك قررت الحديث وتغيير الموضوع علها تخفف عنها ما تشعره، لذلك مالت تخطف طبق الذرة وتأكل منه وهمست:
-إنّ حازم تغير في تعامله معي يا تقى، وكأنما كان يريد أن يتم عقد القران وكفى... المهم أن أصبح له...
شردت عينيها بعيد وهي مستمرة في الأكل، فخطفت تقى منها الطبق وهي تسألها:
-دعكِ من هذا، وأخبرني كيف تغير؟؟ حازم يحبكِ ولا يفكر مثل هذا التفكير، بل هو كان يختلق الحجج ليبقى جانبك؟؟
-لا أعرف هو لم يحدثني منذ عقد القران، بل من قبلها بأيام قليلة... حتى بعد أن وصلنا إلى هنا لا يحدثني، حتى رسائله توقفت... حتى لم يعد يزورنا... سأجن.
سألتها تقى دون مواربة:
-ماذا فعلتي؟!
-لم أفعل شيء.
نظرت لها تقى طويلًا نظرة من لا يصدقها، فأجابت:
-صدقًا لم أفعل.
استمرت تقى على نظرتها، فتأففت تسبيح قائلة:
-أوووف، إن كنت قد فعلت فقد حدثته عن مخاوفي، أنا أخشى أن أكرهه يومًا!
-ما تلك المخاوف بالضبط؟!
نظرت لها تسبيح وبدأت سرد موقفها وعينيها ترسم ما حدث في مخيلتها، وعندما انتهت اعتدلت تقى وهمست مشدوهة:
-غريب لم تخطئي بشيء، ماذا بهم رجال عائلتكم يا تسبيح؟ هل عندما يكبرون يختل تفكيرهم؟
-تأدبي، هذا زوجي الآن!
ضحكت تقى وقالت من بين ضحكها:
-حتى البنات مختلات أيضًا!!! ألم تكوني تشكوه الآن؟!
ابتسمت تسبيح هامسة:
-أشكوه نعم، لكنه حازم ابن عمي، وزوجي الآن...
نظرتها الحالمة جعلت تقى تبتسم وهي تقول:
-هذا من باب أدعو على ابني وأكره من يقول آمين؟!
تنهدت تسبيح هامسة:
-نعم، شيئًا من هذا القبيل.
ضحكت تقى، ثم تكلمت بجدية:
-لما لم تحديثه أنتِ، أو أن تراسليه... ألم تخبريني أنه كان يحدثكِ، لما لم تفكري بسؤاله عن تبدل أحواله، وإن كان غاضبًا وتسألينه... أعتقد بهذه الخطوة قد تتقربين منه، وقد يهيم بكِ أكثر.
ومع آخر جملتها نظرتها أصبحت خبيثة، فابتسمت تسبيح وتعض على شفتيها السفلية حتى ابيضت، ثم همست:
-يا لكِ من ماكرة يا تقى.
وهكذا ظلتا الفتاتين متجاورتين حتى مساء اليوم.
༺༻
عيون نمرة شرسة لكن شراستها هادئة وخاملة في ابتسامة ملتوية، في مقابل عينين لـ -أم- سوداوين يظهر فيهما نبض الخوف على طفلها، مسدت ملاذ بطنها قليل الانتفاخ بحماية وتحاول التراجع بقدميها للخلف ولمحتها ناردين بعيون ثاقبة، لتقول بقوة شرسة وهي تمسك بكتفها وتديراها:
-إلى أين تحسبين نفسكِ هاربة؟! وكيف لمخيلتكِ الضئيلة تلك أن تصور لكِ أنني من الممكن أن أتركك تفرين بعد ما سمعتِ يا لكِ من غبية حقًا؟
امتلأت عيون ملاذ بالجزع والخوف المزلزل، وقالت ترجوها:
-أرجوكِ أنا لن أخبر أحد بما سمعته، فقد اتركيني وابني... أرجوكِ فقد تمنيته لسنوات ليست بطويلة لكني تعذبت حتى حصلت عليه... ماذا تريدين؟ سأطلب الطلاق من أنس إن أردتِ... هو لك... لكن أرجوكِ أتركِ لي ابني...
همست ناردين بفحيح:
-هو لكِ...
قاطعتها ملاذ بالشعور الممتن، وكيف لا وهي عتقتها وابنها معًا:
-شكرًا لكِ، وأنا سأطلب الطلاق وسأصر عليه أيضًا...
وكان لناردين تلك المرة الدور في مقاطعتها:
-لا أنا لست شريرة لأخرب بيتكما ويصبح ابنكما بنفسية مشوهه بسبب طلاقكما...
لم تكمل متقصدة جذب انتباهها وهذا ما حدث لملاذ مع التساؤل الصامت في عينيها لتكمل نارين وهي تقترب منها بخطوات بطيئة مدروسة ونظرات ماكرة في خبثها:
-ستسافرين إلى الخارج في ظروف غامضة ولا يعرفها أحد، لينشغل أنس في البحث عنكِ وأتدبر أنا أموري... فلا أخفي عليكِ سرًا، لقد جئت استفزك لتعودي إليه وينشغل في أحوالكم ومصالحتكِ... لكن يبدو أنكِ خائبة الرجاء في كل شيء.
همست ملاذ بشعور الضائع في متاهة مستحيلة الحل:
-لكن كيف سأتصرف في بلد غريب وحدي، وحملي كيف سأنجو به في مخاطر بلد غريب... ووقت ولادتي من سيكون بجانبي...
واستكملت داخلها "وما ذنب أناس يموتون ضحايا لانتقام غير مبرر"...
أجابتها ناردين بهدوء كمن يخطط منذ زمن، لكن الوضع ليس كذلك... فهي تعلمت من زوجها وخبرته "إن قالت كلمة تكون محسوبة الأركان":
-سيكون هناك من ترعاكِ، وستكونين تحت مراقبة منها ومن حراس المسكن... سيعدون أنفاسك وخطواتك... فلا تحاولين تشغيل عقلك الصدأ هذا...
قاطعتها ملاذ توقف سيل الإهانة التي لا تتقبلها في العادة، لكن يبدو أن كلمة "أم" لها من السحر بلون مفرقعات العيد، ومن الصوت هدوء يخمد ثورة الطيش الذي تتحلى به، فهمست متغاضية عن الإهانة:
-وكيف لي أن أضمن ألا تؤذيني أنا وطفلي بعد سفرنا...
-لا يوجد ضمان، لكن فلتحسبيها بعقلك... أن تبقي هنا خاسرة طفلك، أو تسافرين وربما يسعدك الهرب مثلًا.
صرخت ملاذ بهستيريا:
-لما تفعلين كل ذلك؟ ماذا فعلنا لكِ... كل ذلك لأنه لم يحبك... إن القلوب ليس لنا عليها سلطان.
-لا ليس لأنه لم يحبني... فلقد تركته ليتزوج بكِ... بحبيبته، بل تركت له البلد بأكملها، رغم أننا منذ الصغر ونحن مخطوبين وهو في فترة من فترات حياتنا مارس هذا الدور بجدارة، وكان يعد أنفاسي ولم يتوقف عن هذا إلا بتدخل أمي وهي من أوقفت تدخله في حياتي...
صمتت تلتقط أنفاسها، ثم صرخت بها:
-لكنه لم يكتف بأن رفضني، بل قتل زوجي... قتل من لملم بقايا نفسي بعد أن طعنت بسكينته، وداوى البقية تلو الأخرى داخلي...
هدأ صراخها بعد أول جملة، وأكملت بهدوء مستسلم، وعادت تصرخ من جديد:
-ماذا كنتِ ستفعلين إن كنت مكاني؟!
وجدت ملاذ صوتها أخيرًا بعد فترة صمت كانت خلالها مشدوهة لتقول بصعوبة:
-وكأنني أتحدث مع مجذوبة فقدت عقلها... أنتِ تتحدثين وكأنكِ لا تدركين من كان زو... يا إلهي أنا حتى غير قادرة على نطقها، أنتِ تزوجتِ من رجل تعرفين ما كان عليه قبلنا جميعًا... هل ما فهمته صحيحًا هل تزوجتِ رئيس تشكيل عصابي، يا إلهي!!!
استدارت ملاذ تمسد جبهتها وهي تشعر بالاختناق، فقالت ناردين وهي ترى أنس يبحث عنهم من الجهة المقابلة:
-أمامك يومان تفكيرين بهما، وتختارين بين الأمرين... إما السفر آمنة بطفلكِ أو أن يموت قبل أن يرى نور الحياة... تماسكِ قبل أن يأت أنس ويراكِ بهذا الحال فهو في الجانب الآخر، ولا داعي لتذكيركِ إني قد أمحيكِ وطفلكِ إن ذل لسانك...
نظرت لها وهي تشعر أنها تتحدث لشخص آخر ليست هذه ناردين التي كانت تتناطح معها في الحديث، كيف أوصلها حقدها عليها بسبب حبها لأنس لهذا الطريق الذي نهايته مسدودة.
وصل أنس لهما في وقفتهما وقال مبتسمًا وهو يمسد ظهر ملاذ:
-لما تأخرتما، فيما كنتما تتحدثان.
نظر لملاذ التي كانت تنظر له، والمآساة ترتسم بعينيها بقسوة ما سمعته وفي داخلها ترتج جملة:
"ماذا فعلت بنا؟ هل تزوجتها وأنت تعرف بحقيقة ما سمعته؟ ماذا فعلت بنا؟ ماذا فعلت بنا وبابننا؟!"
ظل ينظر لها وهو يحاول فهم حالتها تلك، ثم نظر لناردين وهو يفسر أنها أثارة غيرتها بشكل أو بآخر، همس في داخله:
"كيف لي بأن أعيد xxxxب الساعة يا ابنة خالتي وأمنعك من السفر بكل طريقة عرفتها يومًا؟ كيف سأدافع عنكِ... كيف سأخرجك بما ورطتِ نفسك به؟!"
همست ملاذ تجذب انتباهه:
-أريد أن أغادر أشعر بتوعك والغثيان يزداد.
نظر لها قال:
-هذا واضح على وجهك، هيا بنا.
وفي مآرب قاعة الحفل وهم يهموا بالولوج داخل السيارة أتتها رسالة على هاتفها، فتحتها وهي تنتظر أن يأت أنس ويفتح السيارة، وكان نصها:
'نسيت أن أخبرك، في كل ركن من منزلك وأنس به جهاز تصنت كما منزل سيادة اللواء، كما أن جميع هواتفكم مراقبة... أي أنكِ محاصرة، فلا داعي لعمل عقلك بطريقة أو بأخرى'
رفعت رأسها تنظر لنادين وهي تدخل مع أمها وخالتها المستندة على ذراع أنس، ودموع القهر والحسرة تلمع في عينيها.
༺༻
في المساء جلست في فراشها وتمسك بين يديها هاتفها تفكر في نص رسالة ترسل له، فهي لم تعتاد الاعتذار مطلقًا، ولولا أنها رأت في كلام تقى النصيحة السديدة لما فكرت في هذه الخطوة من الأساس، فتحت الهاتف، وبدأت تصيغ كلماتها وترتبها، تريد رؤية وجهه عندما يعرف أن الرسالة منها، وبعد أن يقرأ مضمونها:
'مرحبًا، لقد انتظرت تهنئتك لي كعروس تم عقد قرانها منذ ذلك اليوم، لكن يبدو أنك عدت لفقد معايير اللباقة من جديد، حسنًا... أريد أن أخبرك بأن حفل تخرجي في نهاية الأسبوع، وكنت أود أن يكون زوجي بجانبي، لكنه يبدو أنه ملّ مني منذ أول يوم اقترن فيه اسمينا، لذلك سأذهب ليوم تخرجي وحدي'
الدقائق تمر وتأكلها غيظًا هو ليس موجودًا على موقع التواصل من الأساس، وذلك يغيظها أكثر... ماذا يفعل في مثل هذه الساعة غير متابعة مواقع التواصل الاجتماعي.
مرت الساعة تلو الأخرى حتى غافلها النعاس، وأمر عليها سلطان النوم، فنامت والهاتف في يدها مفتوحًا...
༺༻
أما في البيت الأخر وقف فريد متخصرًا يتنفس بخشونة، ثم استدار يسأل إيمان:
-لا أفهم ما الذي تريدينه، هل تودين الزواج منه أم لا!
-لا أعرف، أخشى التجربة من جديد، أنا لم...
جن جنون فريد وظهر الشر في عينيه جليًّا، بينما ضرب حازم أحد كراسي الطاولة بقدمه وصرخ:
-تجربة ماذا؟؟؟؟؟ هل تعتبرين الزواج تجربة؟!!! أنا لم أعد أتحمل أفكارك تلك، لقد صبرت عليكِ كثيرًا متفهمًا صعوبة ما مررتِ به في "تجربة" زواجك الأول الغير مكتمل، صبرت لتتخطي الألم لكن أنتِ لا تفعلين شيء إلا الانغماس في دائرة محكمة وقع عليك الظلم داخلها لكن في قاموسك لا يجد فيه... النسيان، التجاهل، التخطي... أن أكون أقوى، أن أحارب ظلمي لأجل من حولي، رغم كل من حولك حاولوا كثيرًا مد يد العون لتخرجي من هذا...
توقف ليتنفس وتكلم صارخًا من جديد:
-الآن، أمامك للصباح لتفكيري جيدًا في قرارك النهائي، إما نعم... إما لا، وفكري جيدًا بعقلك وقلبك... فنحن نستحق منكِ ذلك.
ثم تركهما ودخل إلى غرفته، فبقى فريد ينظر لها وحين تكلم قال:
-لقد فعل حازم الكثير في سبيل اسعادكِ وخروجكِ من شرنقة سجنتِ نفسك داخلها، لكنكِ لا تقدرين إلا نفسك وفيما تشعرين، لم أكن يومًا متسامح تجاهك ولولا حازم لكنت كسرت رأسك اليابس منذ زمن، فأكرامًا لما عاناه شقيقك الكبير لأجلك أتخذي قرارًا منصفًا لمرة!
ثم تركها وحدها ودخل إلى غرفته هو الآخر، وظلت هي تنظر أمامها طويلًا ويمر شريط أيامها بعد فضيحة زواجها، صفعات مادية هبطت فوق وجنتها، وصفعات معنوية تمثلت في جمل ذابحة هبطت فوق كرامتها تدميها، لقد نزفت من الآلام الكثير أضحت لقمة مساغه في أفواه الجميع، تلوكها الألسن هنا وهناك، تحملت صدمتها في الحبيب الأول دون أن تهتز كالطود العظيم، ولم يرحموا صدمتها وما تعانيه منها حتى يطعنوا عفتها، حتى عمها حاذى حذوهم وكأنما أمانة أخيه فقدت نقائها فوجب التخلص منها سريعًا.
عند الخاطرة الأخيرة صرخت صرخة مكتومة موجوعة وهي تدفن رأسها بين يديها، ثم رفعت قدميها وهي تتكوم على نفسها، كم تحتاج أبيها بحكمته ودهاء نظرته، إن كان موجودًا لكان أخبرها ما يهدئ من شعورها، للمس أعمق ألم داخلها وطيّبه بين يداه وأهداها الراحة بين كلماته.
༺༻
بينما كان حازم يقف في نافذة غرفته يتنفس من الهواء العليل عله يهدأ من ورع شعوره، لقد يئس ورفع راية الاستسلام في محاولة عودة إيمان إلى نفسها زاهية براقة لامعة، وقلبه الولع الذي ينام الليل يفكر في جميلة هربت متسللة لتسرقه وأمست عائدة إلى حيزها السالم... تنهد وتنهيدته ألمت صدره...
كان فريد يتمدد على فراشه ورأسه تتوسد يداه الاثنتين فوق الوسادة، وعينيه شاخصة في السقف ولكن ذهنه أبعد من حيزه... بعيد عند الأميرة الضائعة لسنوات وعندما تلاقت دروبهم أخيرًا، اكتشف أن الأميرة استبدلت بواحدة أخرى من جنس حواء... واحدة على النقيض من تلك التي ملكت نابضه...
وإيمان في الخارج تبكي قهرًا وظلمًا، تريد الخلاص أكثر مما يريده لها الجميع، لكن هناك شعور جاثم فوق صدرها يؤلمها، هي تريد أن تتخطى الألم أكثر من أي وقت مضى، لكن كيف؟....
༺༻
وخارج حدود هذا المنزل وعلى بعد طويل، تمددت أم حديثة الأمومة أو ليست بعد، تمسد فوق بطنها وتنظر في البعيد تحاول التفكير في مخرج من تلك الورطة، عيونها دامعة تبتهل إلى الله بصمت بأن يخرجها من بين يد الظالمين دون خسارة...
بينما أنس يجلس فوق أريكة صالة الاستقبال يفكر في كيف يحاول اثناء ملاذ عن فكرة الطلاق، لن يجازف ويخبرها حقيقة ناردين، لكن نفذت كل الحلول، وإن استيقظت يومًا تطالبه بالطلاق لا يعرف ماذا سيفعل...
༺༻
وبينما رهف تبكي في مكتبها وألم صدرها يزداد ضراوة على سنين ضاعت في بعدها عن أمها، وعن سنين غفلت فيها عن جبروت جدتها وقسوتها...
كان تيم يقف مستندًا على سيارته ينظر إلى نافذة مكتبها المضاءة ينتظر أن تطل منها كل حين كما ليلة أمس، فيبتسم لكنها لم تمنحه تلك الابتسامة...
༺༻
أما عن غرام كانت متوسدة صدر زوجها تبكي حرقتًا على رهف التي رفضت استقبالها ومقابلتها، كانت تريد أن تكون نعم العون لها في هذا التوقيت، لكن لم تسمح لها، ولها الحق، فلقد خدعتها بأن خبأت الحقيقة ولو لأيام قليلة...
ومروان كان يهدهدها كطفلة رضيعة ينظر إلى وجهها المحتقن كل حين، وكأنما كتب عليهما الحزن، وعدم اكتمال سعادتهما...
وبالغرفة المجاورة حيث تلك الجميلة التي فرت دمعتها وهي في سبات عميق، دمعة تدل على ليالٍ قضتها في بكاء، فارتبط دمعها بالتوقيت كارتباط شرطي، ففرت الدمعة تسألها الغياب...
وفي الشقة المقابلة وقفت تقى ترتبت صندوق الذكريات وتعود به إلى مكانه تحت الملابس الغير مستخدمة كثيرًا، بينما دموعها تغرق وجهها بسخاء...
༺༻
واثنان من الرجال التفا حول مائدة طعام العشاء، ولم يستطع كارم الاعتذار عن الطعام بعد أن انتظره والده لساعات طويلة، فكان يتظاهر بالأكل إلا إن افكاره تتناطح بشأن مماطلة حازم في اعطاء كلمته مما يعطيه مخيلة عن أن إيمان ترفضه وهم يضغطون عليها لتقبل، وهو لن يقبل بزوجة ترفضه حتى وإن طاف الأرض باحثًا عنها...
والكل يبكي على ليلاه
ويقف على أطلال الحبيب
جوىٰ تغرق في ظلمة حب بائس
وقلوب مهترئة في العشق
وأَجْنَانٌ أصابها الهلاك حيرة في الهيام
أفئدة ذاقت الشقاء مرة بعد المليون مرة
وهل انتهى الشقاء عند هذا الحد
تنهيدات شغلت الصدور بآلام مبرحة
وجروح يخرج قيحها...
༺༻
في الصباح عندما خرجت الشمس بنورها الوهاج تضيء الأرض وربما القلوب وتعمرهما بضجيج الحياة دون صخبها.
لم يغمض عينيه راحة، وكان يحسب الدقائق لبزوغ النهار، يريد أن يعرف قرارها النهائي ليخبر كارم أن يأت وأسرته ليطلب شقيقته رسميًّا، لا يعرف أي خيبة ستصيبه إن أخذت إيمان قرارها بالرفض، فتح هاتفه يحاول إلهاء تفكيره بعيدًا عن ذلك الموضوع.
لم يصدق عيناه وهو يرى رسالة منها، تسبيح تبادر في ارسال رسالة دون أن يراسلها، يا له من يوم! زحفت الابتسامة إلى فمه وهو يرى كلماتها وفكر أن:
"هو من لا يعرف اللباقة وهي مستشارتها بالتأكيد هل هذه فكرتها عن الصلح... آه يا تسبيحي... تسبيحي أنت أم تكفيرًا لذنوبي..."
ابتسم واقترب من النافذة يحاول الاتصال بها علّها تكون مستيقظة، لحظتان من بدء الرنين وفتح الخط، ووصله كلمة واحدة "مرحبًا" بصوتها محشرجًا، ثم انقطع الاتصال دون سابق انذار!! فهمس:
-يبدو أنكِ تكفير لذنوبي حقًا!.
༺༻
أما عنها فقد استيقظت على رنين هاتفها مجفلة تنظر له بنصف عين وقرأت الاسم حتى هبت قائلة:
-مرحبًا حازم... صباح الخير.
لكن عندما لم يصل لها صوته نظرت بدهشة إلى شاشة الهاتف، ووجدت أن البطارية قد فرغت، ضربت جبهتها بكفها وذهبت توصله بالشاحن، ولا داعي لذكر كم كارثة أحدثتها وهي تفعل ذلك، ولما نجحت اسرعت ترسل له:
'عشرة دقائق وسأتصل بك فقط يكتمل شحن الهاتف ولو قليلًا، لا تذهب'
لم تر بسمته وهو يخرج من الغرفة عازمًا معرفة قرار إيمان، وهو يقرأ رسالتها وكتب:
'لا داعي سيدة الحسن والدلال، سأمر عليكِ عند الظهيرة لأشتري لك هدية التخرج'
كانت تود الحديث معه ولو قليلًا لكن الظهيرة ليست ببعيدة.
وذهبت تتناول الفطور وقبل خروجها تذكرت هامسة:
-لم يبارك لي لعقد قراننا!!
༺༻
تجلس في شرفة منزلها بعد أن تأكدت من غلق المزلاج جيدًا فلم تعد تضمن جلوسها داخل منزلها آمنة! ما هذه السخرية السوداء؟ في أحلك أوقاتها حزنًا تسخر من وضعها في منزلها، رنين هاتفها في الداخل جعلها تقف وتجر قدميها جرًا نحوه، وجدت اسم شقيقها، تنظر له بشجن وكأنما مرّت السنين على رؤيتها لصاحب الاسم وكأن اليومين المنصرمين بكل أحداثهم الثقيلة والقوية في مذاقها المر، فتح الخط تهمس باشتياق لأخيها:
-مرحبًا يا كارم، كيف حالك؟
ابتسم كارم على الجهة الأخرى، وهمس:
-كيف حال ملاذي ذات الرأس اليابس، وكيف حال حبيب خالو...
أنزلت نظرتها لبطنها وهي تمسد فوقه بحنان وقالت:
-بخير يا حبيب أختك... نشتاق إليك كثيرًا فقط.
-إذًا دعينا نتقابل.
-حسنًا، أين نتقابل؟
-سأرسل لك الموقع.
-حسنًا.
لو في وضع آخر لكانت وبخت كارم على أنه لا يريد زيارتها في منزل الزوجية الخاص بها وأنس، لكن كيف تفعل؟ ربما وقتًا آخر بعد أن تخبره ما حل بوضعها، نعم هو كارم من سينقذها... فهو بعيد كل البعد عن المراقبة، هو خارج دائرة الانتقام وبعيد عن القوات، يمكنها اخبراه لينقذها...
وقفت تسرع نحو غرفتها ترتدي ملابسها سريعًا، وفي أول سيارة أجرة ركبت فيها لتقيلها إلى الموقع الذي أرسله كارم والذي لم يكن سوى مطعم حديث الطراز مفتوح في الهواء، جلست على طاولة اختارتها ووصل كارم بعدها بدقائق قليلة، لم تستطع الترحاب به حتى، بل مالت للأمام على المنضدة بينهما تهمس بخفوت:
-كارم أود أن أخبرك شيء في غاية الخطورة، أنا وابني في خـ...
لم تكمل جملتها وهي تلمح ناردين على بعد قليل، ثم رنين رسالة وصلت إلى هاتفها، فتحت حقيبة يداها تبحث عن هاتفها بجنون حتى وجدته، وفتحت الرسالة والتي كان فحواها:
'أي أم أنت تريد خسارة ابنها بسهولة، وأخيها أيضًا، فكل فرد سيعرف ما يحدث بينا سيلقى حتفه في لحظتها، فتعقلي يا غريمتي'
وفي نهاية الرسالة وضعت وجه يبعث قبلة هوائية.
رفعت ملاذ عينيها دامعة تنظر لها من بعيد، بينما كارم يهتف:
-ماذا هناك يا ملاذ، أنا لا افهمك، ماذا بك وبابنك.
عادت بنظرها لأخيها تهمس:
-أنا وابني نحبك كثيرًا.
لم يكن كارم مقتنعًا مما قالته، فسأل:
-هل هذا فعلًا ما كنت تودين قوله؟!
تلجلج صوتها فأومأت بالإيجاب، فقال كارم بحماس:
-لقد هاتفني حازم شقيق إيمان، وأخبرني أن أحدد موعد يناسبنا لنذهب لطلب يد إيمان، هل تصدقين؟! لقد كدت أفقد الامل في موافقتها.
رغم انعدام تركيز ملاذ في حديث، إلا أنها ابتسمت باهتزاز يشبه زيغ نظرتها المرتعبة، وسألته:
-حقًا، مبارك... مبارك يا حبيبي، متى إذًا المقابلة؟
-لم أفاتح أبي بعد، فقد بعد انتهاء المكالمة بيني وبين حازم اتصلت بك وتقابلنا...
حاولت الابتسام تلك المرة بصعوبة أكبر وهي تهمس:
-مبارك يا كارم، أخبرني موعد المقابلة.
-بالتأكيد، فأنت ستأتين معي... أليس كذلك؟!
-بالطبع، وهل لي أخوة غيرك أناكفهم في تلك مناسبات، لأضيع عليّ تلك المقابلة!
ضحك كارم وعاد رأسه للخلف ولمّا هدأت ضحكاته بقيّ جمال بسمته الوسيمة تحتل وجهه.
༺༻
ذهبت إلى الباب لتفتحه بعدما سمعت رنينه، وفي يداها كوب من القهوة المحلاة، وقفت أمام المرآه بجانب الباب تعدل هندام ملابسها البيتية المحتشمة، ومشطت شعرها المفرود بفعل الحرارة بكفها الحرة، ثم استدارت تفتح الباب ليطل حازم بطوله الباهي وعرضه العضلي السخي، رغم ذقنه النامية إلا أنا وسامته كادت تخطف نظرها، لذة النبض الثائر بين جنبات صدرها تهلكها، وقوفه المتكاسل ثم انتفاضته وهو يدخل ويدخلها قبله مع دفعه لها مغلقًا الباب ويستدير لها، ثم تكلم من بين أسنانه بغضب:
-كيف لكِ أن تقومي بفتح الباب بهذا المظهر الفج!
أنزلت عينيها إلى ملابسها المحتشمة والذي شكت ولو لحظة إنها بها ما يُظهر منها، إنها قضت يومها كاملًا في انتقاء ثوبها وفرد شعرها، ليكون انطباعه الأول عنها صورة مثالية إلى أبد الدهر، وفي النهاية يصفها بالفجاجة، فصرخت في وجهه:
-أنا لست فجة... والفجاجة هي أسلوبك بالمناسبة...
-أسلوبي أنا يا تسبيح؟؟
-وهل ملابسي هي الفجة!!!! إن شبرًا واحدًا لم يظهر مني...
-وهل هي من بأنوثتكِ، وبجمالكِ الفطري الخاطف، تنتظر لأن يظهر منها طرفها...
قالت بعناد رغم أن لكلماته سحرسلب أنفاسها:
-لكنّي كنت مختبئة خلف الباب، كما أن لا يحق لك سبّي بالفجاجة؟!
رق جمرعيناه المشتعلة بالغضب، وتأجج جمرًا من نوع آخر وهو يخبرها:
-هذه ليست سبة، إنها من معان الغزل أحيانًا...
صرخت باشمئزاز:
-لا أريد ذلك الغزل البشع في وصفه.
ابتسم حازم وهو يخبرها:
-لكل غزل يقترن بوصفك يزداد بهاءً ولمعة سيدة الفؤاد ومالكته...
بريق الحب في عينيها توهج بسمرة اللؤلؤ الأسود في قاع المحيط مجتذبًا المحار لأكله بشهية تقضي على اليابسة، وهكذا كان شعوره في أكلها كلها وتمثل ذلك في نظرته التي تتبعت ملامحها التي أصبحت بلون الخجل، ظل يمشط وجهها بنظراته بمشاعر متأججة، ومع كل نمش تقع عيناه عليه كان يقف مسبحًا وقلبه يرتل في حضرة وقعه في عشقها من جديد.
استفاقت هي من سحر اللحظة أولًا وهي تبعد وتخلص ذراعها من يده بحيث عند مرحلة ما... كان يمسك بأعلى مرفقها ويقربها منه مع تكبيل حركتها، همست وهي تنظر في كل شيء عداه ثم همست مشاكسة:
-ماذا اشتريت لي كهدية تخرجي؟!
-ستخرجين معي لنشتريها...
نظرت له ببؤس وهمست:
-ألا تنس شيئًا؟
-بالطبع أنسى.
نظرت له وكلها حماس لاستقبال سماع مباركته لها كعروس يهنأ زوجته حديثة العهد، ولم يبخل هو بل قدم تهنئته بسخاء، حيث مال على أحد خديها يقطف أول ثماره هامسًا مقابل فكها:
-مبارك زوجتي العزيزة...
أنفاسه الحارة، مع توهج عيناه منذ قليل جعلاها تنتفض مبتعدة وهي تقول:
-سأرتدي ملابسي سريعًا، وآتِ إليك مروان في المطبخ يشرب قهوته.
تركته هاربة من أشواقه، وكم شكرها لذلك... لا يعرف كم سيصمد أمام كل حسنها في فترة عقد القران هذه.
بعد قليل كانا الاثنين في مطعم راقي، يتشاغل بقائمة الطعام بعيدًا عن مشاعره التي فض فتيلها للتو على ما يبدو، أو ربما بعد كل هذا الجهد واليأس الذي عرضته له ايمان الأيام الماضية، رفع عينيه يسألها بهدوء:
-ماذا تأكلين؟!
-لم أختار بعد، ماذا اخترت أنت... أطلب لي مثلك.
ارتفع حاجبه وهو يسألها:
-أنتِ لا تعرفين ما اخترته!
-تعرف إني أحب كل صنوف الطعام فلا يهم.
ضحك حتى سارت قهقهته مسموعة، وهذه سابقة هي الأولى منذ زمن فحازم يبتسم سخرية، يضحك قليلًا لكن أن تصل للقهقهة فهذا انجاز تستحق أن تكافئ عليه، قطع أفكارها وهو يسألها:
-ألن ينتهي عشقك للأكل هذا؟!
-وهل هناك ما يستحق العشق غيره؟!
حافظ على بسمته ولكنها أمست بلاستيكية وهو يسألها:
-وهل أنا لم أرتق لمكانته في قلبك؟!
-للأكل؟؟
أومأ بالإيجاب، فأكملت:
-الأكل يعتني بي كثيرًا، لا يقاطعني... ويستمر بجانبي، حتى أنه قدم مباركته لي في ليلة عقد قراني... بينما أنت لم تفعل إلا اليوم، فعذرًا لم ترتقِ بعد.
أشار للنادل وأخبره بطلبه، فأخذ النادل طلبه وانصرف، فاستدار لها يحاول التحكم في هدوئه متحدثًا:
-حتى في العتاب مختلفة كليًّا يا تسبيح، إلى متى ستظلين طفلة هكذا...
ابتسمت وهي تسند ذقنها إلى كف ذراعها المرتاح على الطاولة، وسألت بشقاوة:
-إن كانت لا تعجبك طفولتي هكذا، لما اتممت زواجنا...
-لأن لا مفر من حبك يا ابنة عمي!
الطريقة التي قال بها جملته وأدت كل دقة مفرقعة كادت أن تملئ صدرها، فتراجعت في مقعدها ببطء بنفس بطء ضم ذراعيها في حجرها، وأدارت وجهها إلى الواجهة الزجاجية المطلة على الشارع، إلى أن سمعته يتكلم:
-لا يا تسبيح، رجاءً لا أود هذه الطريقة في الحديث بيننا يجب أن نتناقش في كل ما دار بيننا.
استدارت له مندفعة وهي تحرك يدها بعصبية تحت الطاولة وقالت غاضبة:
-من رأيي أن نغلق الحديث الآن، وأن تعود بي إلى المنزل ونؤجل الهدية لوقت آخر، فأنا لم أعد اتحمل طريقتك تلك... يبدو أن كانت وجهة نظري صحيحة.
-ألا وهي؟...
-أنك ضمنت وجودي، ضمنت أنني لك...
رقت نظرته وهو يعاتبها:
-هل هي وجهة نظرك في؟!
أدارت وجهها مرة أخرى تمتنع عن الاجابة، فاكمل:
-حتى وإن صح ما تعتقدين، فأنا لم أحصل على هدفي الأساسي بعد يا ابنة عمي... فهدفي أن يكون قلبك طوع قلبي... يسير على خطاه كما فعل طوال نبضه... فلم ينبض إلا لكِ وبكِ.
نظرت له تسبيح، وقالت:
-إذًا أين مشكلتك معي؟!
-ليس هناك مشكلة، ليلة كنت تبكين في ليلة عمي ودخلت عليكِ، أخبرتني أنكِ من الممكن أن تكرهيني...
قاطعته تنفي وصمته لها:
-لم أقل ذلك...
-فيما معناه...
قاطعته من جديد، وهي تكز على أسنانها:
-معناه من جهتك أنت، كما فهمت وفسرت أنت، لكن هذا ليس ما قصدته... أنا... أنا كنت أريد أن أقول...
-هلا اكملت كلامي من فضلك؟!
قالها بنزق، فانكمشت تعض لسانها، بينما قال هو:
-كلمة الكره، أصابت قلبي يومها، حاولت أن اتناسها... لكنها كانت تطاردني متسللة بثغرة رفضك القريب لي... لشخصي، شعرت بأني قد أخسركِ فعلًا وأن يتحول حبك الوليد إلى كره حقيقي يوأد كل طريقة حاولت بها كسب قلبكِ...
-اسكت يا حازم، فشعوري في تلك الليلة كان بعيد كل البعد عما وصلك، أنا... في تلك الليلة بعد أن رأيت ذكريات صورنا، شعرت لأول مرة أني أحبك منذ زمن... زمن بعيد جدًا، شعرت أنك قد تقسو عليّ في لحظة غضب وتهينني... كنت خائفة من أن يتبدل... حـ... حبي... نعم أنا أحبك، وصلت لمرحلة أن أخشى على هذا الحب... وكأن حبك مزروع من زمن دون دراية مني...
أخذت تتنفس بسرعة لتهدأ من فرط شعورها الشجيّ، واكملت بعد أن تحولت للنقيض:
-هل كنت تخاصمني وتبتعد... ولم تبارك لي وتدللني كأي عروس، لهذا السبب، كم أني مغفلة أني أحببتك، كيف استطعت؟!
ابتسم لحلاوة ما أذاقته، ولملامحها الشرسة التي تتحول من نقيض لآخر في الدقيقة الواحدة، وهمس يخبرها بأنفاس ما زالت ثائرة:
-أطلب السماح يا سيدة الحسن والدلال!
-لا سماح أريد أن أكل.
-ويهون عليكِ قلب أحبكِ حبًا يتعجب له مداويين قلوب العشاق.
-يهون، هيا أريد أن آكل، وتشتري لي هديتي، لأعود لمنزلي.
وقف يخرج من جيب بنطاله صندوق صغير مخملي بلون النبيذ، ثم فتحه أمام عيونها التي تفاجأت من تحضيره للهدية مسبقًا.
وما كان داخل الصندوق سوى خاتم ماسيّ، يلمع بفصوصه السوداء البراقة وهي تحيط اللؤلؤة السوداء الأكثر بريقًا... بريقًا لا ينافس بريق عيونها الشفاف من شدة اللمعان.
أخرجه من الصندوق وأمسك بكفها الصغير ويلبسه لها، يهمس:
-وضي لؤلؤاكِ لا ينافسه ضيّ، مولاتي وسيدتي... سيدة الحسن والدلال.
ويلاه من لقب كانت تخشاه، ليضحى مفعوله كمفعول التحليق عاليًّا فوق السحاب وما بعدها!.
༺༻
وقف يراقبها وهي تعد صينية المشروبات ساهمة وكأنها تحل معضلة عصية الحل محكمة الإغلاق، هو لم يعد يفهمها... شقيقته الصغرى التي هي ربيبة يداه لم يعد يفهمها ولا يفهم فيما تفكر بالضبط، تنحنح وهو يلج إلى المطبخ سائلًا:
-فيما تفكرين.
-لا شيء... أجهز الأكواب حتى لا أتأخر في دخول المشروبات عندما يأتي كارم وعائلته... لا أكثر.
-أنا لم أسألكِ عما تفعلينه، أنا أسألكِ عما تفكرين يا إيمان... هل تفكرين في التراجع؟؟ أخبريني.
-بالطبع لا... أقصد أني قد اتخذت قراري وأنت أعطيت للرجل كلمتك... أي لا تراجع.
سرعتها في تأكيد نفيها جعل السعادة تثلج صدره، لكنه أراد أن يوترها زيادة وهو يسألها:
-دعكِ من كلمتي الآن وأخبريني إن كنتِ قد تراجعتِ.
-هل تطلب مني الرفض الآن أم ماذا؟! هل ستأتي به إلى هنا لترفضه، فهم على وصول بالمناسبة... لنفرض إني تراجعت ماذا ستفعل؟
ضيق بين حاجبيه وتحدث بجدية شديدة:
-سأدق عنقكِ يا حبيبة أخيكِ.
ضحكت له وقالت بثقة:
-لن يطاوعك قلبك، فأنا لك ابنة ولست شقيقة...
ثم اندست داخل أحضانه تتمرغ بداخلها كقطة تتمسح في صاحبها، ليستقبلها بصدر رحب... رحب حتى لا تطال العين آخره ولثم جبهتها همسًا:
-ولمّا وثق المحبوب زاد في تدلله... فزيدي دلالًا لكن لا تسرفي.
༺༻
مرت الأيام سريعة واليوم هو اليوم الأول لها للخروج مع أنس في الصباح للذهاب إلى العمل بعد ليلة سهرها تقنعه بأنها بحاجة للعمل، وهو رافضًا للفكرة لتتفرغ للاعتناء بنفسها وابنهما، ووافق بعدما اتفقا أن يوصلها إلى العمل ويأتي بها، نزلت من السيارة أمام مبنى الجريدة التي تعمل بها ودخلت إلى المبنى وصعدت إلى مدير الجريدة تخبره بأن تريد مد أيام عطلتها المفتوحة بعد أن قطعتها أمس، وتحججت بأنها شعرت بالتعب من مجهود الطريق فقط، وكل هذا بتخطيط من ناردين، ولما حصلت على موافقته نزلت بعد أن أرسلت لناردين أنها جاهزة لذهاب معها لتجهيز أرواق سفرها، لحظات قليلة ووقفت سيارة ناردين أمامها لتنظر لها طويلًا قبل أن تستقل المقعد الأمامي بجانبها، فسألتها:
-هل كنتِ تنوين تغيير رأيكِ أم ماذا؟
-وهل كنتِ سترحمينني أنا أو ابني؟
-فخورة بكِ يا غريمتي، بدأتِ تعي قوانين اللعبة.
دمعت عينا ملاذ فأدارت وجهها إلى الناحية الأخرى تستنشق الهواء علّه يخفف من جوفها المشتعل، وعندما هدأت ابتلعت ريقها واستعادت رباط جأشها مستديرة لها هامسة:
-هل يمكنني تأجيل السفر لبعد خطبة أخي كارم، فأنا لا أضمن العيش أو الرجوع هنا من جديد.
ظلت ناردين تنظر أمامها في وضع جعل ملاذ تشعر بالقلق حيال قرارها، فهمست بتوتر:
-هل لا يحق لي حضور حفل خطبة أخي، قد لا أحضر زواجه...
قالت ناردين وما زالت تنظر أمامها:
-من يضمن لي أنكِ لا تكسبين وقتًا، حتى تجدين مخرجًا؟!
-أنت تعدين عليّ أنفاسي كما قلتي سابقًا، سأكون غبية بالمغامرة... حتى وإن حدث وفعلت... أنا لن أذهب بعيدًا يمكنك الانتقام مني وقتها.
-أنتِ تعرفين ما هو انتقامي.
-أجل، ولكن لن تضطرين لفعلها، فأنا سأحافظ على ابني بحياتي... يكفي المرة الماضية كنت لأخسر ابني وأخي معًا...
نظرت لها ناردين ثم قالت في الأخير:
-حسنًا، يمكنكِ البقاء لحفل الخطبة لكن في صباح اليوم التالي ستكونين على متن الطائرة.
دمعت عيناها بسعادة، يمكنها الآن الشبع ولو قليلًا من الجميع، فهمست مبتسمة الثغر رغم دموعها التي بدأت تسيل:
-شكرًا... شكرًا لكِ.
༺༻
حفل هادئ في قاعة صغيرة، كانت عروسه بهية الطلة تخطف قلب خطيبها ببساطة فستانها وزينتها، وتألق بسمتها، جلس كارم بجانب عروسه يرتدي رابطة عنق بلون فستانها، بعد أن كان هو من اختار تصميم الفستان ولونه، كانت رقيقة رغم هيبة جلستها، حضر الأقارب حتى الدائرة الثانية فحضر بعض الغير مرغوب منهم، ومنهم ذاك الغفران الذي يقف في الركن البعيد ينظر لإيمان بحزن قد يحزن أحدًا آخر، لكن حزنه وحسرته تلك أشعلت نار غير رحيمة في صدرها طوال الحفل.
وفي ركن أبعد قليلًا وقفت ملاذ تراقب الجميع بعيون دامعة... مذبوحة الفؤاد بشفرات باردة، ساعات معدودة تفصلها عن موعد إقلاع طائرتها، طائرة لا تعلم البلد التي ستحط بها، دموع قهرها وحسرتها لم تسيل على خديها بل ابتلعتها تسيل دماء فوق قلبها، توعك معدتها بدأ منذ الصباح ولا تعلم كيف ستداوي هذه الآلام.
أما في الساحة الصغيرة وسط القاعة المخصصة للرقص، وقف فريد بعصا الرقص الغليظة يدعو الجميع لرقص العصا الشهير به أهل الجنوب، ووقفت تقى بجانب إيمان، تشاهد كما الجميع خطواته الراقصة.
لحظات واشتعل الحفل بالرقص، ودعا فريد كارم للساحة الرقص فقام الأخير بجذب عروسه معه بشدة فاضطرت تقف معه وهي تحاول تخليص يدها، ولمّا نظر لها منتبهًا، حاولت أن يعلو صوتها بالعبارة الرافضة، لكن صوتها ذهب مع علو صوت الموسيقى، ليقرب كارم أذنه منها في حركة آثارت غيظ الواقف بعيدًا لتعيد جملتها:
-لا يصح أن أرقص، سأقف هنا ويمكنني التصفيق لا أكثر...
أومأ لها وخلّص كفها أخيرًا منضمًا لساحة الرقص ممسكًا بإحدى العصا ويبدأ في تقليد حركاتهم وهو يفكر أن:
"الأطباء بين صفوف الحضور قد يتهموه بأنه وصمة عار على مهنة الطب كلها".
لكنه لم يعير تفكيره أي اهتمام، وبدأت خطواته تزداد حماسة رغم فشلها، لكن ما يبهج النظر هي السعادة التي لفت الساحة بكل ما يشغلها.
بعد أن انتهت الرقصة عادت إيمان تتأبط ذراع كارم بمساعدة تقى وتسبيح في لملمت فستانها إلى مكانهما، اقترب الشقيقان من اختهما وكل قريبات العروس، بينما التف أقارب العريس من حوله خاصة ملاذ التي وقفت بجانب شقيقها تمامًا تمسد كتفه باستمرار، والحاجة زهيرة تدخل من باب القاعة تحمل صينية مذهبة فوقها حُلَى العرس، ومحبس العريس.
وبعد اكتمال مراسم ارتداء المحابس، انطلقت الزغاريد من زهيرة أتبعتها تسبيح وبعدها تقى... والتف الثلاثة حول مكبر صوت انتشلته زهيرة من منظم موسيقى الحفل، وكانت زغرودة ثلاثية النغمة في طريقة تقليدية في أفراح الريف.
اطبق حازم على ذراع تسبيح ومال على أذنها وهو يقول بغضب:
-كفي عن الزغاريد، والحماسة الطفولية تلك، لم تعودي صغيرة.
خلصت ذراعها وأطلقت أطول زغرودة أطلقت طوال الحفل، ثم نظرت له تراقص حاجبيها بينما هو يكاد ينفث الدخان من أنفه وأذنيه تزامنًا مع حركة شفتيها وكفيها وكأنها تخبره بأن هذه الحركات الطفولية الحقيقية.
بعد قليل استأذنت تقى للذهاب لمنزلها فلا يتأخر الوقت بها أكثر، وكانت في طريقها للخارج عبر الممر الخارجي وهي تتفحص ساعتها وخطواتها لا تزال سريعة، رفعت نظرها للأمام لتجد فريد في نهاية الممر يخفي كفيه داخل جيوب بنطاله، تباطأت خطواتها لكنها لم تقف عند وقفته بل اكملت طريقها إلى الخارج، لكنه هو من استوقفها قائلًا دون تمهيد:
-سأوصلك.
نظرت له متعجبة من تقريره وكأن لا أهمية لرأيها، لكنها همست بتهذيب اتقاءً لأي انفجارات هي في غنى عنها:
-لا داعي لذلك، إيمان في الداخل تحتاجكم جميعًا، أنا سأتدبر أمري...
-نعم، كما تدبرتِ أمرك بالبكاء، حتى انتفخت عيناكِ.
كانت تلك الجملة ليست بلسانه، بل كانت الراعي الرسمي لوضع الجميع في موضع إحراج... إنها تسبيح، والتي اكملت:
-أوصلها يا فريد، وأنا سآتي معكما اتقاءً للحرجِ.
ابتسم فريد بسخرية وهو يتركهم قائلًا:
-انتظروني عند المخرج سآتي بالسيارة، بالرغم أن لا داعي لوجودك يا تسبيح... فالآنسة تقى كما شقيقتي إيمان بالضبط.
كان مستديرًا نحو الخارج فلم يرى إغماض تقى لعينيها بألم، ولا الزفرة الحارة والتي خرجت على مهل وكأنها تتحاشى صرخة تخرج مزعة الطيور من أعشاشها، بينما شاهدت تسبيح كل ذلك فقالت متفشية:
-تستهلين ما هو أكثر.
-لا دخل لكِ.
وطوال الطريق، كان الحديث تتولاه تسبيح، بينما يرد فريد باقتضاب وتقى برسمية شديدة، وعندما وصلت السيارة وهمّت تقى بالترجل منها، قال فريد:
-العقبة لك يا آنسة تقى، ونجاملك إن شاء الله.
ارتسم الآلم على وجهها بعذاب، ولكنها لم يسعها سوى قول:
-ولك أيضًا.
༺༻
في الصباح، جلست على إحدى مقاعد المطار تشعر بألم معدتها يتزايد وتحتاج الذهاب إلى الحمام وناردين تخبرها على الهاتف:
"أن تتحمل لبعض الوقت، وتدخل إلى حمام الطائرة"
جلست تمسد بطنها في حركة تستمد منها الحماية، لتعطيها لطفها وعيناها شاردة في البعيد... تشعر بالآلم مرتسم على ملامحها...
وفي ظل شرودها لفت نظرها حركة من ثلاث خطوات كانت تفعلها مع شقيقها هم صغار، يقوم بها طفلين أحدهما ولد والأخرى فتاة، ابتسمت بحزن وشجن يلفها وهي في أرض الوطن... لكن ما آثار دهشتها هو كلمات تظهر على شاشة الكترونية خلف الأطفال كلمات منقوصة تكملتها في أغنية يغنيها الأطفال، وما كانت الجملة سوى:
"اذهبِ لحمام السيدات، إلى ثالث غرفة"
༺༻
انتهى الفصل الثاني عشر
قراءة سعيدة
إلى اللقاء في الفصل القادم
دمتم🔥❤


چورية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس