عرض مشاركة واحدة
قديم 18-05-23, 01:34 AM   #463

فاطمة الزهراء أوقيتي
 
الصورة الرمزية فاطمة الزهراء أوقيتي

? العضوٌ??? » 475333
?  التسِجيلٌ » Jul 2020
? مشَارَ?اتْي » 612
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Morocco
?  نُقآطِيْ » فاطمة الزهراء أوقيتي has a reputation beyond reputeفاطمة الزهراء أوقيتي has a reputation beyond reputeفاطمة الزهراء أوقيتي has a reputation beyond reputeفاطمة الزهراء أوقيتي has a reputation beyond reputeفاطمة الزهراء أوقيتي has a reputation beyond reputeفاطمة الزهراء أوقيتي has a reputation beyond reputeفاطمة الزهراء أوقيتي has a reputation beyond reputeفاطمة الزهراء أوقيتي has a reputation beyond reputeفاطمة الزهراء أوقيتي has a reputation beyond reputeفاطمة الزهراء أوقيتي has a reputation beyond reputeفاطمة الزهراء أوقيتي has a reputation beyond repute
Post الفصل الرابع والعشرين????...من رواية وشمتِ اسمكِ بين أنفاسي.





الفصل الرابع والعشرين????


'اليوم التالي'
'بعد الزوال'
'في القرية'
طرقات على باب بيت والد ثريا، فتح عبد الرحمان الباب فتفاجأ بضيف كان يتجنبه لوقت طويل، استقبله بهدوء ثم دعاه للدخول، فاستجاب له الأخير وجلسا، ودخلا معا إلى غرفة الضيوف الملاصقة لباب البيت.
صاح عبد الرحمان بتسلط"جهزي الشاي يا امرأة" ثم جلس مقابلا للرجل، وقال مرحبا بمجاملة"أهلا وسهلا بالحاج التهامي، لقد مرت فترة منذ آخر لقاء لنا"
رد عليه بجفاء"أنت لا ترد على اتصالاتي، ولم أعد أرك في المسجد أو المقهى، هل تتجنبني يا ترى؟"
ابتسم عبد الرحمان ابتسامته الصفراء وقال بمجاملة"بالعكس يا حاج، ظروفي الشخصية ألهتني عندك قليلا، لكنك في البال دائما"
تنحنح الحاج بهدوء ثم سأل بثبات"هل الظروف الشخصية لها علاقة بذهاب ابنتك لمنزل خالتها وتأجيلكم لعقد القران"
امقتع وجه عبد الرحمان على ذكر سيرة ثريا، فتجهمت ملامحه ورد بجفاء" بالفعل يا حاج التهامي"
مسد التهامي لحيته الرمادية وقال بدون مواربة"لقد كثر القيل والقال في القرية يا عبد الرحمان، ولأصدقك القول الجميع يتحدث بالسوء عن ابنتك وهروبها فجرا، وبعضهم يقولون أنها هربت مع أحدهم"
هتف عاليا محركا كفيه في الهراء بغضب"هراء، لقد وضحت أنها سافرت للاعتناء بخالتها المريضة وستعود!"
أكمل التهامي بشك"لا يعقل أن تغيب قرابة العام أو أكثر بدون أن يظهر لها أثر في القرية، هل هناك ما تخفيه عني يا عبد الرحمان"
رد عليه بشراسة"هل تتهمني بالكذب يا حاج التهامي، أم أن الشائعات جعلتك تتراجع عن طلبك ليدها؟"
مسد لحيته مجددا قائلا"لم أقل ذلك يا عبد الرحمان استهدي بالله، أنا لم أصدق أنك وافقت على طلبي، وتقول أنني أتراجع عنه" اقترب منه برأسه"أنا أريد أن أعرف ما هي خطوتنا التالية"
زفر عبد الرحمان نفسا غاضبا،يتوعد ثريا في سره ثم قال يتظاهر بالهدوء"دعنا لا نستبق الأحداث يا حاج التهامي، لنتحدث في الأمر بعد شفاء خالة ثريا وعودتها من هناك"
أومأ التهامي بعدم اقتناع والشكوك بدأت تساوره وبشكل أقوى مما مضى،فلا يعقل أن تختفي ثريا بعد طلب يدها بيومين ولم تسنح له الفرصة للقائها مكتفيا بمراقبتها من بعيد منذ أن بلغت الثامنة عشر،وهو رجل ستيني،يعتبر من أغنياء القرية.
سحرته النارية الصغيرة عندما لمحها ولأول مرة تقود دراجتها الهوائية وظفيرتها الطويلة تتراقص يمينا وشمالا على ظهرها،فبدأ يتودد لعيد الرحمان بعد أن علم بأنها ابنته،لكنه كان يرفض في كل مرة متحججا بأنها مازالت صغيرة لأن تكون ضرة لزوجتين أصغرهما أكبر من والدتها بالسنين..وبعد سبع سنوات،نجح في إقناعه بذلك مقابل قطعة أرضية وخمس فلاحين، مستغلا التخوف الذي بدا جليا على عبد الرحمان بعد أن قل توافد العرسان على المنزل، فأصبح همه الكثير أن تلقب ابنته بالعانس.
'بعد ساعة'
غادر التهامي بعد أحاديث طويلة،حاول فيها عبد الرحمان جاهدا أن ينفي كل شائعة تمس بعرضه وعرض ابنته، حتى أنه تظاهر في إحدى اللحظات بتحدثه معها على الهاتف، فانسحب العريس راضيا كل الرضا عن ما نفاه…أغلق الباب خلفه ثم اتجه إلى المطبخ، وكانت حبيبة وفتيحة يتسامران ويجهزان طعام العشاء،اقترب منهما ثم قلب الطاولة بجنون وهتف بغضب"أنا عبد الرحمان مرجاني تشير لي الأصابع وتتهمني في شرفي بسببكم" ثم بدأ يرمي بكل شيء تطاله يداه"أنا، تصبح سيرتي على كل لسان بسبب عاهرة تربت في بيتي"
اقترب من فتيحة وجذبها من ملابسها ثم صاح في وجهها بحقد وشراسة"ستتصلين بها،ولا تستغفليني فأنا أعلم أنك تتحدثين معها على الهاتف" جذبها أكثر ورفع سبابته مهددا"ستخبريها أن تعود والحاج التهامي ينتظرها،وإن لم تأتي، ستعانون جميعكم…سترون وجها آخر من عبد الرحمان لم تروه من قبل"
ابتلعت حبيبة التي انكمشت في الزاوية تراقب هجومه على شقيقته،وبالرغم من اعتيادها على نوبات غضبه في كل مرة يلمح له أحدهم عن ثريا،إلا أنه مازال يخيفها كما يفعل دائما.
انحنت بخنوع تلتقط ما رمي في الأرض،وتتمنى في أعماقها ألا يفكر في تنفيس غضبه عليها..وكانت سكينة تختبئ وراء إطار باب المطبخ وتراقب الوضع من بعيد،رفع والدها نظراته نحو الباب فتلاقت نظراتهما، نظراتها المهتزة ونظراته الحاقدة.. هتف"اقتربي"، استجابت له في هدوء ثم اقتربت منه، نسخة مصغرة من شقيقتها، شعر برتقالي و عيون زرقاء، لكنهما لا يمتلكان نفس النظرة، إحداهن كانت تقف في وجهه غاضبة وترفض أن تخضع له، والأخرى كالقط المبلول تتجنب بطشه وتطيعه.
تحسس خدها بلطف وصولا لرقبتها ثم شدها بعنف وقال بنبرة جافة"لن تطأ قدميك خارج هذا البيت إلا لبيت زوجك" رمشت جفنيها بعدم فهم… فأكمل بنفس النبرة" لن تفكري، ولن تخططي من ورائي"ربت بسبابته على صدغها بعنف"ولن تتنفسي بدون إذني حتى، مفهوم؟" هزت رأسها برعب من النظرة الشرسة على وجهه، فدفعها عنه بخفة قائلا بحزم"إلى غرفتك!"
خصتها فتيحة بنظرة مشفقة،ويثقل كاهلها أن لها علاقة ولو غير مباشرة بما تتعرض له الآن من طرف والدها،بالإضافة إلى إيقافها عن الدراسة.
****
جرت سكينة إلى غرفتها ثم ارتمت على الكنبة بقوة وأجهشت ببكاء مرير، معبرة عن سخطها مما يحدث معها الآن بسبب هروب شقيقتها،فألقت بوابل من اللعنات في وجه المخدة التي تكتم صوتها،وفكرت في أن حياتها تتجه نحو الأسوء بسببها.
فتحت فتيحة بابها ببطء ثم اقتربت منها ومسدت شعرها الحريري بحنان قائلة"لا تهتمي بكلام والدك، سيتحسن كل شيء في القريب العاجل، وستعودين لإتمام دراستك"
رفعت سكينة وجهها المحمر من الدموع ثم غمغمت بجفاء"أريد الحديث مع ثريا!"
نظرت لها بعيون متسعة ثم قالت بهدوء"سأجعلك تتحدثين معها فيما بعد،بعد أن تهدئي"
ردت عليها بإصرار"أريد محادثتها الآن، وإلا لن تروا وجهي بعد الآن، ولا تظني أنني سأنتظر أن أصل لعمرها لأفعل ذلك، ولن أتشاور معك حتى"
رمشت عمتها بصدمة مما تنطق به فتاة في عمرها، لم تتمم الخامسة عشر بعد، وتتحدث بهذه الطريقة.
فقالت تهدئها"أخفضي صوتك، وإلا سيسمعنا والدك وتقوم القيامة"، ابتسمت باستهزاء ثم أجابت"على أساس أننا نعيش في النعيم الآن، أريد التحدث معها حالا"
نظرت لها عمتها بعيون ضيقة قبل أن تناولها الهاتف بتردد…رنة، رنتين ثم ردت عليها ثريا"عمتي!"
فقالت بجفاء"إنها أنا، سكينة"
توسعت عينا ثريا وتسارعت دقات قلبها، فهي لم تحادثها منذ زيارتها وأدركت للتو أنها اشتاقت لها كثيرا، فأجابتها بلهفة"سكينة صغيرتي، هل أنت بخير؟ لقد اشتقت لك!"
ردت عليها بجفاء"لم أتصل لنتبادل حديثا وديا كالشقيقات، أريد فقط أن أخبرك، أن هروبك من المنزل لا يعني أن الجميع بخير،وأننا نعيش حياة وردية، فأنانيتك لم تزد الأمر سوى سوءا" حاولت عمتها إبعاد الهاتف من يدها، لكنها هربت منها وأكملت حديثها بصوت خفيض لكن نبرته الجافة أصابت ثريا في مقتل"تعيشين حياتك في حين أنني حرمت من أبسط حقوقي، وأصبحت كبش الفداء الذي يفرغ فيه والدي غضبه منك..لقد خربت حياة الجميع، حتى طارق لم يزورنا بسببك، والقرية كلها تتحدث عن اختفائك المفاجئ وهروبك مع أحدهم" صمتت قليلا تبتلع ريقها ثم قالت بقسوة"يا ليتك لم تكوني أختي!" وأغلقت الهاتف في وجهها، تحت نظرات فتيحة المصدومة.
_____________________
'في Mariposa’
توسعت عينا ثريا وهي تستمع لما تقوله أختها، ولم تمنحها فرصة للإجابة حتى وأغلقت خط الهاتف، رمشت عدة مرات تنظر إلى الفراغ بعيون مصدومة ثم جلست القرفصاء على بعد مسافة قليلة من شرفة الكوفي شوب، قبل أن تحتضن نفسها وتتحول نظرتها من الصدمة إلى البرود، وغدت زرقاوتيها قاتمة اللون، والعديد من الأفكار الصاخبة تعصف بدماغها كما تعصف مشاعر ثقيلة بقلبها.
تساءلت في سرها إن كانت ما تفعله الآن يعتبر أنانية حقا،وشعور بقلة الحيلة يسيطر عليها، فلا هي قادرة على التقدم في حياتها بسرعة وربح الكثير من المال لتثبت لنفسها أن هروبها لم يذهب سدا، ولا عن التراجع في هذه المرحلة بالضبط بعد أن بدأت تدريبها في أحد المستشفيات،والعودة لقريتها صاغرة لتطلب المغفرة من والدها وإن لم تكن تعنيها حقا في سبيل أن تعيش تحت كنف عائلتها، ولا فكرة لديها عن الآتي بما في ذلك كيف ستحرر شقيقتها من جحيم والدها إن قررت المضي قدما فيما تفعله،خاصة أن الشهور تمر بسرعة كبيرة، وقطار الدراسة لن ينتظرها مدى الحياة، فإن كانت قد هربت من أجل نفسها في المرة الأولى، فهي مستمرة ليومنا هذا من أجل أن توفر لشقيقتها حياة أفضل،وربما تستطيع إقناع والدها يوما ما أنها كانت بحاجة للتحرر من ذمته.
اقترب منها أسامة باستغراب وهو يتحدث على الهاتف مع أحدهم، فهز رأسه يمينا وشمالا ببطء ثم قطب حاجبيه مشيرا لها'ماذا هناك؟" وهو يستمع إلى الطرف الثاني على الهاتف.
ابتلعت ريقها كأنها تبتلع صدمتها بذلك ثم وقفت بثبات ونفضت ملابسها بقسوة قبل أن تغمض عينيها وتتنفس بعمق هامسة"لا شيء!"
وهمت بالدخول، لكنه أمسك ذراعها يوقفها عن التحرك، فناظرته بقسوة ونفضت ذراعها من كفه تستنفر ما تخلفه لمسته بداخلها.
تجاهل تعابير وجهها ورفع كفه عاليا يشير لها بالانتظار، فاستجابت له على مضض ومشاعر مستفزة تتقافز بداخلها ناحيته، مشاعر لم تستسغ كيف نجحت في فرض نفسها وسط دوامة الأفكار التي تجتاحها عن مصيرها.
"حسنا يا أشرف، لا تقلق سآتيك بعد لحظات، إلى اللقاء" نطق بها أسامة قبل أن يغلق الهاتف ويضعه في جيبه، ثم رفع نظراته لها وسأل بقلق"هل أنت بخير؟ وجهك شاحب!"
رفعت أناملها تتحسس خدها،فأثارت حركتها زوبعة بداخله، ثم قالت باقتضاب"أنا بخير، لقد أوقفتني، هل تريد شيئا؟"
تأمل ملامحها لثواني ثم قال على عجل"أخبري من في المطبخ أن يجهزوا وجبة لعشر أشخاص، اثنتين منهم تغلف جيدا جدا لتحافظ على طراوتها لأطول مدة ممكنة"
مطت شفتيها تنظر له باستغراب ثم قالت ببساطة"حسنا سأخبره ،هل ترغب في شيء محدد؟"
أومأ يجب على هاتفه مجددا، ثم قال"نوعي بين أطباق المعكرونة،والبيتزا" ثم قال يوجه كلامه للهاتف"نعم سمر!، آه حسنا"
حملت هاتفها مذكرتها الصغيرة تستلم طلبه ثم سألته مجددا"هل أرسلهم مع عامل التوصيل؟"
هز رأسه نفيا ثم أجابها"سآخذهم بنفسي"
أومأت بتفهم ثم استدارت مغادرة، فشيعها بنظرات غريبة ثم زفر نفسا عميقا قبل أن يتجه لسيارته.
_____________________
'في شقة أشرف'
صراخ وتوسلات بصوت عالي تملأ المكان، عيون مشفقة ومتعاطفة تنظر لبعضها والجميع خائفون من الآتي.
أصر أشرف على نقل مراد لشقته مساء البارحة،خوفا على صحة والده ووالدته،ولا يريدهما أن يعيشا معه أعراض انسحاب المخدر من جسده..لم تكتم صرخاته سوى في اللحظات التي يسقط فيها تعبا ثم ينهض مجددا غاضبا جدا ويصرخ بجنون ثم يبدأ في البكاء بهستيرية والآلام تفتك بأطرافه، فيهتف متذكرا جميع عبارات التوسل عله يحصل على تعاطف شقيقه فيناوله ولو جرعة صغيرة من مخدره.
اتصالات متواصلة لم تفارق هاتف أشرف، فيرد في كل مرة مجيبا عن تساؤلات والده ووالدته القلقين،محملا بصبر لم يدرك من أين اكتسبه وسط هذه المصيبة التي وقعت على رأسه.
رن هاتفه مجددا، فكان الاتصال من محمد هذه المرة، رد عليه أشرف بصوت حاول أن يجعله ثابتا لأقصى درجة"مساء الخير سيد محمد، كيف حال قدمك"
رد عليه محمد"بخير، أشعر بالألم الشديد ولا أستطيع التحرك لوقت طويل لكن الحمد لله، كيف حال شقيقك؟"
رد عليه بنبرة تائهة وهو يستمع لصوت مراد المتألم في الغرفة "لا زال على حاله،حالته تقلقني، لا أعلم ماذا سأفعل" صمت للحظات ثم قال مجددا"أعتذر لأنني تأخرت عن الموعد المحدد للسفر"
أجابه محمد قائلا" في رأيي أن تأخذ شقيقك لأقرب مستشفى للتأهيل، لأنك لا تعرف تحديدا مدة تعاطيه للمخدر، ولا يمكن التنبؤ بماذا سيحصل له"
هز أشرف رأسه موافقا ثم قال بعد لحظات"سأرى ما سأفعله بهذا الشأن!"
رد عليه محمد بقلق وعملية في ذات الوقت"أشرف، أنا مقدر لظروفك الحالية، لكن أصحاب العمل ملتزمون بتواريخ محددة ونحن أيضا ملتزمون بعقد عمل، حاولت جاهدا تأجيل سفركما أكثر من هذا لكن بدون جدوى، وتعلم جيدا حساسية الوضع"
أغمض أشرف عينيه بتعب، فهو لم ينم سوى دقائق محدودة بعد أن غفا على كنبة غرفة المعيشة، واستيقظ فورا على صوت صراخ مراد.
فرك بين حاجبيه بقوة يحث نفسه على الانتباه لما يقوله محمد ثم قال بعدها بعملية"فهمتك يا عم محمد، لا داعي للتوضيح، عموما لقد أخبرت سمر بضرورة سفرنا غدا صباحا"
رد عليه محمد"جيد، الله المعين يا بني، وكما قلت لك، ضروري ومؤكد أن تنقل شقيقك للمشفى في أقرب وقت ممكن،الهروين ليس مخدرا عاديا تستطيع التعامل مع انسحابه بشكل عشوائي"
رد عليه بتشتت"حسنا يا عم، سأتصل بك لاحقا"
فتمتم"إلى اللقاء"
اقتربت سمر منه بخطوات مترددة، تتأمل ملامح وجهه التي بدا التعب جليا عليها، عيون حمراء غائرة والسواد يحيط بهما،فك حاد متشنج وشعر مشعت،نزلت غرته على جبهته بفوضوية، لم تره على هذه الحالة من قبل،قلقا،صامتا وصبورا لأقصى درجة بأن يتحمل الاتصالات المتكررة من هاتفه ثم يدخل ليحاول تهدئة مراد الهائج في الداخل، حتى عندما تعرضت عزة لمصابها لم يكن هكذا، ربما لأن الأمر هذه المرة أخطر بكثير من أي شيء مضى.
وقفت أمامه،فانتبهت حواسه لها ورفع نظراته عن الهاتف ينظر لها بذهن متشتت..سألته بهدوء"هل أنت بخير؟"
أغمض عينيه، يستنشق عبير اللافندر النفاذ منها عله يسكن القليل من الآلام بداخله، ثم هز رأسه نفيا وهمس"لست بخير! لست بخير يا سمارا..لا أعلم ماذا سأفعل"
اقتربت منه أكثر وقلبها يصارع الألم وهي ترى تعابير الانهزام وقلة الحيلة على وجهه، وصوته الكسير يهدم المتبقي من قلاعها.
ربتت على كتفه تدعمه ثم قالت بحنان"لا تقلق، سيمر كل هذا ولن تتذكر منه شيئا"
ضيق عينيه يناظرها بنظرة جانبية من علو قامته ثم همس بصوت متحشرج مفعم بالألم"أنا خائف من أفقد مراد يا سمر، لقد غفلت عنه بدون أن أقصد ولم أنتبه سوى بعد فوات الأوان"
ضغطت على ذراعه بكفها الصغيرة ثم همست"لا تلم نفسك على شيء، دعنا نفكر في حل لمساعدته عوض جلد ذاتك"
ابتلع ريقه ثم رفع كفه يمررها على وجهه بتوتر وصوت مراد بداخل الغرفة يصرخ عاليا يطالب بممتلكاته يفتك بنياط قلبه.
همس بصوت متحشرج"سأدخل لأراه، ربما حان الوقت لتلقي مساعدة طبية"
أومأت بتفهم تتأمل ظهره وهو يتجه نحو الغرفة التي حبس فيها مراد.
*****
'في غرفة المعيشة'
كانت عزة تجلس على الكنبة تحرك ساقها بتوتر وتضع كفيها على أذنيها لتمنع تدفق صوت آهات مراد لهما،ترفع نظراتها أحيانا لغرفته ولكنها لم تجرؤ على الدخول، وتلوم نفسها على عدم اكتشافها للأمر في وقت مبكر، لقد كانت غرفته مجاورة لغرفتها، ومدركة تماما لأنه كان يخرج في وقت متأخر مستغلا نوم والديه في وقت باكر، أو يتأخر في الوصول للمنزل متحججا بمشاريعه الدراسية التي لا تنتهي..ولكنها لم تتوقع أن يتطور الأمر ليصل لهذه الدرجة،وظنت أن له علاقة بسن المراهقة وبعض الرفقة المشبوهين الذي اختار قضاء الوقت معهم.
اقتربت منها عَلْيا بهدوء ثم جلست بجانبها وربتت على ساقها برفق ثم همست تطمئنها"اهدئي قليلا، سيمضي كل شيء"
رفعت نظراتها لعَلْيا التي ابتسمت في وجهها بتشجيع ثم نقلت نظراتها لزكريا الذي وقف أمامها يحمل كوبا من الماء،وجلس القرفصاء،ثم ناولها الكوب وقال بهدوء"اشربي قليلا من الماء" أخذت منه الكوب بأنامل مرتجفة، فلم يمنع نفسه من تأمل وجهها وبعض الخصلات الحالكة السواد التي فرت من حجابها.
كان أنس يبحث على هاتفه عن مركز علاجي يستطيعون نقل مراد له في أقرب فرصة خاصة بعد أن بحث كثيرا على الويب عن إدمان الهيروين وماذا يمكن أن يحدث للمدمن إذا لم يتعاطى جرعته المعتادة، فآثر إيجاد المركز أولا ثم إخبار أشرف بذلك، لكي لا ينشغل ويتوتر بذلك، مفكرا في حمل ولو ثقل قليل عنه.
******
'في الغرفة'
دخل أشرف بخطوات مترددة، وتقدم نحو مراد الذي توقف عن ضرب الحائط بكفه فور رؤيته،ثم هرع نحوه بسرعة وتعلق بكمي قميصه قائلا بتوسل"أشرف أرجوك، أنا أعاني، لم أعد أشعر بأطرافي من شدة الألم، أريد القليل القليل فقط من جرعتي ولن تسمع صوتي بعدها" ثم استنشق المياه التي تسيل من أنفه ومسحه بكم قميصه.
تأمل أشرف وجهه الأحمر من شدة الانفعال،وحدقتيه المتسعتين تتحركان يمينا وشمالا ثم سيلان أنفه الذي لم يتوقف منذ البارحة.
رفع كفه يحتضن رقبته ثم قال بهدوء ظاهري"مراد، يجب أن تصبر لتتخلص من ذلك السم الذي يجري بدمائك"
دفعه عنه بجنون ثم شد شعره بقوة وهو يردد"أنت لا تفهم،لا تفهم، أحتاج لتذوقه" ثم جلس أرضا يتوجع من الألم ويتقلب ذات اليمين وذات الشمال هاتفا بجنون"أنا أتألم" واحتضن نفسه يرتجف كأنه وسط الجليد.
هرع أشرف نحو وجلس القرفصاء يحاول تهدئة حركته لكن بدون جدوى،والأمر يزداد سوءا.
احتضنه من الخلف مكبلا ذراعيه وقدميه، ومراد ينطق بتوسل"لماذا تفعل بي هذا؟ لماذا؟"
كان أشرف يحرك جسده إلى الأمام والخلف بهدوء، وجسد مراد يتحرك معه بنفس الطريقة كأنه يهدهده ليهدأ، فهمس بالقرب من أذنه"لأنني أريدك أن تنجو، الجميع في الخارج قلقون عليك، والدي ووالدتي لم يتوقفا عن الاتصال ليسألوا عنك، هل تريد أن تحزنهما"
جز على أسنانه بقوة واللعاب يسيل من فمه متزامنا مع سيلان أنفه وهو يركل بقدميه بقوة ويتوجع من الألم.
استمرا على تلك الحالة لوقت طويل، إلى أن وصل أسامة الذي اقتحم الغرفة يحمل طعاما في يديه، فاقترب منهما وقال بهدوء"يجب أن يأكل شيئا"
رد عليه أشرف بانشغال"إنه يرفض الأكل، ولم يأكل شيئا منذ يومين، لكنه يستفرغ كثيرا"
مط أسامة شفتيه بتفكير"ماذا سنفعل الآن؟"
تدخل أنس الذي انضم لهما مقترحا"لقد وجدت مركزا قريبا، الكثيرون ينصحون به هنا"
تحرك مراد بجنون ما إن سمع سيرة المركز وصرخ"لن أذهب لأي مكان،أعطوني جرعتي"
اختل توازن أشرف فحرره، واستغل ذلك ثم وقف ينوي الهروب متجاوزا أنس وأسامة الذي كان يحمل طبق الطعام، ثم دفع سمر التي كانت تراقب أشرف من البداية، فتأوهت بألم عندما اصطدمت بالإطار.
جرى مراد بأقصى سرعته باتجاه الباب لكنه فوجئ بثلاث أزواج من العيون تنظر له بترقب، وتلاقت نظراته مع نظرات عزة التي اغرورقت بالدموع فور رؤيته، فتوقف عاجزا لثواني كانت كافية لأن يقترب منه زكريا ويطعن حلقه باصبعي السبابة والوسطى فترنح مغميا عليه، والتقطه بين ذراعيه.
اقترب منهما أشرف بقلق فطمأنه قائلا"سيستيقظ بعد دقائق"
ساعده في نقله إلى الكنبة ثم قال بعدها بتأكيد"سنأخذه إلى المركز"
سألت عزة"لماذا؟"
فتكفل أنس بإجابتها قائلا" لتفادي تعرضه للانتكاسة، وهم لديهم طرقهم الخاصة ليخلصوه من الآلام المرافقة لأعراض الانسحاب" ثم ألقى نظرة سريعة على جسده الممدد وأكمل بتعاطف"لا بد أنه يعاني من آلام رهيبة"
أومأت بتفهم ثم اقتربت منه بحذر وجلست القرفصاء بجانب وجهه، تحسست خده وجبهته بحنان والدموع تملأ وجهها ثم طبعت قبلة رقيقة فوق رأسه ومسحت لعابه وسيلان أنفه بكم قميصها وهي تشهق بتأثر.
ربت أشرف على ظهرها بحنان ثم ساعدها على الوقوف واحتضنها بخفة قائلا"سيتحسن إن شاء الله"
أومأت وهي تدفن وجهها في صدره فربت على رأسها بدعم وقال"أحتاجك قوية يا عزة، فظروف العمل لا تسمح لي بالتأجيل أكثر من هذا"
رفعت وجهها تنظر له بذهول"هل ستسافر؟"
هز رأسه بالإيجاب، ثم رفع نظراته لأسامة وأنس وزكريا وقال"الشباب هنا،وسأكون على اتصال دائم معهما، لكن أريدك أن تعتني بأمي وأبي لحين عودتي"
أومأت بعدم اقتناع، فربت على كتفها ثم أبعدها عنه برفق قائلا"سننقل مراد للمركز الآن، لنكمل حديثنا بعد عودتي"
ردت عليه"يجب أن أذهب لأمي وأبي"
أومأ مفكرا ثم رفع نظراته لزكريا قائلا"هل تستطيع أن توصلها للمنزل؟"
أومأ زكريا موافقا ثم همس"حسنا"
وسألته عَلْيا"هل تستطيع إيصالنا معك يا زكريا"
أومأ موافقا ثم ساعد الشباب أشرف في حمل مراد إلى سيارة أنس، وصعد أسامة في الخلف أولا ثم أجلسوا مراد بجانبه وجلس أشرف بجانبه ليسنداه فيمنعاه عن الحركة إذا استفاق.
صعد زكريا سيارته أولا، ثم جلست عزة على المقعد الأمامي بجانبه،وسمر في الخلف، ينتظرون أن تنضم لهم عَلْيا أيضا.

احتضن أنس خد عَلْيا بحنان ثم طبع قبلة على جبهتها يودعها وقال بهمس"آسف لانشغالي عنك!"
ابتسمت في وجهه بوداعة ثم ربتت على كتفه بدعم"لا عليك! صديقك يحتاجك الآن"
أومأ مؤكدا ثم قال بهدوء"اذهبي الآن مع زكريا، سأتصل بك مساءا"
أومأت موافقة ثم ودعته مشيرة له بكفها، وصعدت سيارة زكريا الذي انطلق فورا.
وصعد سيارته هو الآخر منطلقا باتجاه المركز.
___________________
'منزل عائلة قاسمي'
اقترب رشيد من نجاة الجالسة فوق الكنبة وشلالات من الدموع تغرق وجهها، جلس بجانبها يتحامل على نفسه وما يشعر به أقوى بكثير من أن يعبر عنه بطريقة ما.
رفعت وجهها تنظر له وهمست بصوت متحشرج"أين كنا غافلين عندما وصل ابننا لتلك المرحلة يا رشيد"
تسقط الألقاب في خضم المشاكل،والحاج رشيد كما اعتادت مناداته، أصبح رشيد فقط مجردا من كل شيء آخر سوى أنه أب أصابته فاجعة في ابنه ولا يدرك ما سيحدث بعدها، وذاكرته ذكرته بشيء واحد فقط، صديق له منذ زمن طويل فقد حياته بسبب المخدرات ولم يتوقع يوما أن يتعرض لنفس الموقف أو يختبر شعور فقد آحد آخر بسببها، والمخيف أن هذا الأحد هو ابنه، فلذة كبده.
ابتلع غصة مؤلمة وأغمض عينيه يحاول التحكم في مشاعره الجياشة، فأكملت نجاة بصوت باكي وعيون دامعة،رفعت ذراعيها تنظر لهما بذهول"مراد الصغير، الذي كان يصرخ مطالبا بأن أرضعه من ثديي، أصبح يصرخ مطالبا بالسم يا رشيد" لطمت وجهها بيديها" مراد يا رشيد، مراد ابني سأفقده، سأفقد ابني يا رشيد" ولطمته مجددا.
أوقف كفيها واحتضنهما بين كفيه ثم قال يهدئها"لا تفعلي ذلك يا نجاة"ابتلع غصة أخرى أشد إيلاما"أنا أثق في أشرف وفي قراراته" ثم أدارها في جلستها لتنظر له وأكمل"مراد سيتحسن، سيشفى يا نجاة ويتخلص من ذلك السم للأبد"
هزت رأسها تؤكد كلماته وتحاول إقناع نفسها في ذات الوقت بنا يقوله وهمست من بين دموعها"نعم سيشفى! ابني قوي وأنا أعرفه جيدا، لن يستسلم لشيء كهذا"وأجهشت في بكاء مرير وهي تحرر كفيها من كفيه وتغطي بها وجهها، وكتفيها ينتفضان بقوة من شدة البكاء"لن يستسلم، وسيعود لنا سالما"
سمعا صوت الباب يفتح، فاستدار كلاهما في اتجاهه ينظران له بترقب.
دخلت عزة بخطوات متثاقلة وخلفها زكريا يحمل طعاما جاهزا أرسله لهما أسامة، وقد علم من أشرف أنهما لم يتناولا شيئا منذ البارحة.
هرعت نجاة نحوهما بخوف وسألتهما بلهفة"كيف حاله؟" ترنحت قليلا فالتقطتها عزة وأسندتها لتصل للكنبة وهي تحاول طمأنتها أنه بخير.
وقف رشيد أيضا واستند على عكازته ثم اقترب منهما وسأل بقلق"هل ذهبوا للمركز؟"
أومأ زكريا بهدوء ثم وضع الأكل على طاولة الطعام وقال يطمئنهما"لقد أخذه أشرف والشباب للمركز، وهم سيساعدونه على تخطي أعراض الانسحاب بسلام ثم سيباشرون معه العلاج اللازم ليمتنع عن التعاطي مجددا"..أشار للطعام"لا بد أنكما لم تتناولا شيئا منذ البارحة، تفضلا أرجوكما وكلا قليلا"
هز رشيد رأسه نفيا وسأله مجددا"وكم تستمر مرحلة العلاج؟"
رد عليه زكريا متذكرا ما أخبره به أنس على الهاتف"عموما تتلاشى أعراض الانسحاب الحاد والتي غالبا ما تكون قاسية ومؤلمة بعد 3 أيام وذلك على حسب الشخص، وأطباء المركز دورهم ان يخففوا تلك الأعراض على قدر المستطاع،ثم ينتقل لمرحلة اضطراب الانسحاب ما بعد الحاد وقد تمتد لأسابيع، وفي تلك المرحلة يطالب المخ بالمخدر والجسم يحاول تنظيف نفسه من السموم..لكنها تكون أخف من مرحلة الانسحاب من حيث الألم"
أومأ رشيد بتفهم ثم نظر لنجاة التي مازالت على نفس حالتها تبكي وتردد"ابني يتألم"
قبلت عزة رأسها وربتت على كتفها تهدئها"يجب أن تهدئي يا أمي، فمراد لا يجب أن يشعر بأنه يؤذيكما لكي يستجيب للعلاج"
ثم نظرت لوالدها وسألته بقلق"عل تناولت دواءك؟"
هز رأسه نفيا وضرب جبهته"لقد نسيته!"
أغمضت عينيها بتعب ثم ذهب لغرفته وأحضرت دواءه ودواء والدتها وقالت بحزم"يجب أن تتناولا طعامكما، أشرف يعيد ويكرر أن تأكلا وتتناولا دواءكما"
وضعته على الطاولة ثم قربتها من والدها الذي جلس ونادت والدتها لتجلس بجانبه أيضا،"كلا أرجوكما!"
أومأت نجاة وأخذت لقمة على مضض وتبعها رشيد أيضا، فتنهدت بارتياح.
تأملها زكريا بقلق ثم قال"أنت أيضا لم تأكلي شيئا"
أومأت وردت عليه بصوت مبحوح"سآكل لاحقا،لحظة سأوظب أغراض مراد لتأخذها معك وأعود"
أومأ بتفهم ، ثم طلبت منه بأدب" هل تستطيع إحضار الماء لهما من المطبخ؟"
أومأ مواقفا، فهمست"شكرا" ثم صعدت السلم لغرفته.
_______________________
'في اليوم التالي'
'في الصباح الباكر'
صف أشرف سيارته بجانب منزل سمر، ففوجئ بحمادة يخرج من الباب ويتجه نحوه بسرعة.
خرج من السيارة فأمطره بالكثير من الأسئلة بدون مقدمات"كيف حال مراد؟ هل أستطيع زيارته؟ هل سيتحسن"
ضيق أشرف عينيه ينظر له وفي قلبه الكثير من العتاب اتجاهه لكنه آثر الصمت ورد عليه بجفاء"إنه بخير، لقد زرته قبل قليل وكان غارقا في نوم عميق"
رمش حمادة عدة مرات وقد جافاه النوم أيضا عندما علم بمصاب صديقه ثم قال بتأنيب ضمير يحاصره"أشرف أنا آسف لأنني لم أخبرك بذلك من قبل، لكني لم أكن أعلم أن الأمر تطور لتلك الدرجة، لقد كان مراد يشعر بالفضول اتجاه تلك المجموعة من الفتية،فنجح في الانضمام إليهم وكان يخبرني عن مغامراته لكنني ظننت أن الأمر لن يتجاوز مرحلة الفضول والرغبة في الاستكشاف وتجرب أشياء جديدة ثم سيتخلى عنهم بعد مدة"
أومأ أشرف بعدم اقتناع ثم رد بهدوء"ادع لصديقك أن يتجاوز هذه المحنة، فهذا أقصى ما تستطيع مساعدته به حاليا"
خرج أسامة واحتضن رقبة حمادة ثم غمز لأشرف قائلا"هذا الرجل لم يتوقف عن البكاء منذ أن سمع بما حدث، لم أرى صديقا يحب صديقه لدرجة أن يبكي عليه إلى أن تسرب المخاط من أنفه هكذا" وأشار لأنفه.
ابتسم أشرف بوهن ثم ربت على كتف حمادة قائلا"أحيانا نحتاج لكشف العديد من الأوراق لكي لا نفقد المحيطين بنا، لقد أخطأت لأنك لم تخبرني، ولكن لا تكرر فعلتك مرة أخرى"
خفض حمادة رأسه بحزن وغمامة تأثر غزت مقلتيه ثم قال بصوت متحشرج"لن يتكرر الأمر مجددا!، وسأدعي بأن تتحسن حالته في أسرع وقت" ثم رفع وجهه ينظر له"وعندها سأعاقبه بشدة ولن أتحدث معه مجددا، لكنني سأراقبه من بعيد لكي لا يتهور مجددا"
ربتت أشرف على كتفه ثم قال بهدوء"أحسنت!"
رفع معصمه يتفقد ساعة يده ثم سأل أسامة"هل ستتأخر سمر؟"
رد عليه أسامة وقد تذكر شيئا"ستنزل بعد قليل، لقد أحضرت لوحتك الالكترونية أيضا"
رفع أشرف حاجبيه متذكرا"هل وجدتها في نفس العنوان الذي أرسلته لك؟"
أومأ أسامة قائلا"لقد نكر صاحب المحل الأمر في البداية، لكنه استسلم في النهاية، وقبل التفاوض على ثمن اللوحة، خاصة عن ما علم بما حدث"
رد عليه أشرف بهدوء" شكرا يا أسامة، عذبتك معي!"
هز رأسه نفيا"بالعكس، فمراد بمثابة حمادة، وأنت صديقي، والصديق وقت الضيق" ثم ربت على صدره وأكمل"ارتح أنت! والتفت لعملك ولا تقلق سنعتني به، وعندما تعود ستجده سليما معافى"
أومأ أشرف بذهن مشغول، يفكر أن سفره هذا لا يتناسب أبدا مع الظروف التي تمر بها عائلته، وهم في حاجة ماسة له ودعمه، لكن كما قال محمد ذات مرة 'العمل عمل،وعقود العمل هي المتحكم الأكبر في الصفقات،وتأجيله سيتسبب للجميع في أزمات مالية هم في غنى عنها في الوضع الحالي للبلاد.
*******
'بعد ساعة'
انطلقت سيارة أشرف، في الطريق السريع، صامتان تماما كل منهما غارق في فلكه.
أشرف غارق في التفكير في شقيقه ومصيره، وسمر تنظر له بين الفينة والأخرى وقد رأت من شخصيته جانبا آخر لم تكن ستكتشفه لولا ما حدث مع مراد.
وصلا بعد ساعات قضوها صامتين ويتحدثان بين الفينة والأخرى عندما يتصل ليطمئن على شقيقه أو عندما حادثهما محمد وأسامة مرات متعددة طوال الطريق.
_________

'بعد أيام'
أقشور، منطقة جبلية تتواجد بشمال المغرب، عبارة عن مزيج خلاب من التلال المكسور برداء أخضر تخترقها شلالات من المياه الصافية.
*****
استيقظ أشرف على صوت خرير المياه،تقلب في سريره يمينا وشمالا وحرك ذراعه يبحث عن هاتفه..ثم فتحه ليستقبل اتصالا من أنس يخبره أنه قد زار المركز العلاجي اليوم،وأن حالة مراد تتحسن تدريجيا ثم أرسل إليه فيديو لشقيقه يتحدث مع الطبيب ويبدو هادئا ومستجيبا للحديث.
في الأيام التي قضاها في هذه المنطقة،كان أصدقاؤه وعزة يتناوبون على زيارة مراد، ويحرصون على إطلاعه عن حالته بالتدقيق،حاولوا جاهدين إقصاء شعور الذنب الذي كان يراوده منذ حدث ما حدث ولومه لنفسه لأنه لم يكتشف الأمر باكرا،ثم التزامه بالعمل الذي أجبره على ترك شقيقه في منتصف الطريق.
قضى عاداته الصباحية بسرعة ثم ارتدى ملابس العمل وكان متأكدا من أنه سيقابل المنظر الصباحي الذي اعتاد عليه في الأيام الماضية، سمر عائدة من حصة الجري التي تمتد لساعة ونصف تقريبا.
خرج من غرفته الملاصقة لغرفتها، وقد كانت الغرفتين تطلان على ردهة واسعة تشبه الحديقة،ومقابلة لمنظر التلال الخضراء والشلالات، ثم سلم خشبي يقود لمرآب تقليدي للسيارات وغرفة الاستقبال، كان تصميم الفندق مناسبا لكون المنطقة تعج بالسياح طوال السنة.
كانت سمر تلم شعرها على شكل كعكة فوق رأسها ووجهها خالي من مساحيق التجميل، وتضغط على ظهرها بكفيها وتمد جسدها للخلف مغمضة عينيها تستنشق بعض الهواء النقي..وقف خلفها بهدوء يتأمل ملامحها،مستنشقا عبق اللافندر المختلط بعبيرها الخاص…تقابلت نظراتهما ما إن فتحت عينيها،فقالت بدهشة"أشرف!" ثم اعتدلت في وقفتها واستدارت تنظر له،مدت رقبتها يمينا وشمالا قائلة"صباح الخير"
تمتم"صباح النور"
فسألته باهتمام وهي تجفف وجهها وعنقها بمنشفتها الصغيرة التي كانت تتموضع فوق عنقها سابقا"هل تشعر بأنك بخير الآن!"
أومأ بهدوء وهو يشعر بالضيق من خروجها وحدها في الصباح الباكر فسألها"هل يزعجك أحد أثناء الجري"
هزت رأسها نفيا قائلة"لا، من النادر رؤية أحدهم في هذا الوقت الباكر، خاصة في هذه المنطقة"
رد عليها بضيق"أو ليس من الأفضل الاستغناء عن رياضتك الصباحية إلى حين عودتنا!؟"
حركت سبابتها أمام وجهه وهي تهم بالدخول لغرفتها"أنا مستمتعة بالأمر! لا تقلق علي!"
غمغم بضيق"لست قلقا!"
استدارت تنظر لوجهه لثواني ثم همست"جيد!"
وسافرت بها ذاكرتها لقبل أيام وتحديدا بعد وصولهم للمنطقة.
'قبل أيام'
صف أشرف سيارته في مرآب الفندق ثم تفقد هاتفه بوهن،يبحث عن وثيقة الحجز التي زودها به محمد سابقا، لكنه كان يشعر بتعب شديد يلم بأطرافه وألم في رأسه ورقبته، رمش بعينيه عدة مرات يحاول التركيز، ومازاده ذلك إلا ألما فظيعا،فمد كفه التي تحمل الهاتف لسمر التي ناظرته بقلق واستغراب وتمتم"ابحثي عن ورقة الحجز في المحادثة بيني وبين العم محمد"
سألته بقلق"هل أنت بخير؟!"
أومأ مغمضا عينيه ثم فرك بين حاجبيه هامسا"أنا بخير!"
بحثت بسرعة عما يريده ثم مدت له الهاتف، واستلمه فورا ثم نزل من سيارته متجها إلى الصندوق، وحمل حقيبتيهما ثم اتجه إلى مكتب الاستقبال،واستقبله شاب يماثله في الطول بابتسامة واسعة مرحبا"مرحبا بكما في فندق***،هل حجزتما غرفة سابقا،أم ستحجزانها حالا؟"
رد عليه أشرف باقتضاب"غرفتين!" ثم وضع الهاتف على المنضدة التي تفضل بينهما.
أومأ الشاب بهدوء ثم تفقد حاسوبه وقال بترحيب"تفضلا معي سأقودكما لغرفكما" ثم حمل إحدى الحقيبتين وصعدوا الدرج معا.
ترنح جسد أشرف المتعب فأسندت سمر ذراعه وهمست بقلق"لا بد أنك متعب، فأنت لم تنم منذ أيام"
رد بهمس وهن"رأسي سينفجر!"
قاطعهما صوت الشاب مشيرا لغرفتين متجاورتين "هذه غرفتك سيدتي، وهذه غرفتك سيدي، أتمنى أن تستمتعا برحلتكما وإذا احتجتما لأي شيء فستجدانني في الأسفل، وهذا رقم هاتفي" ثم مد بطاقتي العمل لهما والمفاتيح،فأخذتهم سمر وشكرته بإيجاز.
سحب أشرف مفتاح غرفته من يدها ثم حاول إدخاله في الفتحة، مرة، مرتين وكانت تخونه كفه في كل مرة فينزلها بتعب ليستريح…انتبهت سمر لذلك فأبعدته برفق وأخذت المفتاح من كفه ثم فتحت الباب بسهولة وسبقته للداخل أولا وهي تجر حقيبة ملابسه فلحق بها وارتمى بجسده فوق السرير، سألته مجددا"أشرف هل أنت بخير؟ هل تشعر بأنك مريض؟"
أغمض عينيه بانزعاج من ضوء الغرفة ونبرة صوتها التي بدت له عالية ثم همس"أنا بخير، سأنام!"
تأملت جسده بقلق ثم قالت بتردد"سأغادر الآن،إذا احتجت شيئا اتصل بي"
همهم بوهن ولم يهتم بنزع حذائه أو التموضع بشكل مريح فوق السرير أكثر من إخماد رغبته الملحة في النوم لأطول مدة ممكنة والتخلص من التعب الذي ينهش جسده الآن.
ألقت عليه نظرة مترددة أخيرة قبل أن تغلق الباب وتتجه لغرفتها.
'بعد ساعة تقريبا'
خرجت من الحمام بذهن مشغول تجفف شعرها،فارتدت ملابسها على عجل وتفقدت هاتفها إن كان قد رد على رسالتها، وكانت قد أرسلتها تطمئن إن كان بخير قبل أن تدخل للاستحمام..لكنه لم يرد..مطت شفتيها بقلق وقطعت الغرفة ذهابا وإيابا ثم حسمت أمرها أخيرا وهي تلمح مفتاح غرفته التي نسيته في سترتها سابقا..وأرسلت له رسالة مجددا مفادها"سأدخل لأطمئن عليك،لقد نسيت مفتاحك في سترتي" ولم تنتظر أن يرد عليها بل اتجهت إلى غرفته فورا وطرقت الباب عدة مرات قبل أن تقتحمها لتجدد جسده مازال ممددا بنفس الطريقة،نائما على بطنه ولا يبدو أن شيئا تغير في الغرفة منذ خروجها.
اقتربت منه بتردد فلاحظت ارتجاف جسده، تحسست جبهته بقلق فعقدت حاجبيها وهي تستشعر درجة حرارته المرتفعة ثم نادته بهمس"أشرف، أشرف" همهم بتعب فسألته"هل تسمعني!"
رمش بوهن ينظر لها ثم أغمض عينيه مجددا يغرق في النوم..دفعت جسده لتمدده على ظهره فتأوه بألم ثم استجاب لها ونام على ظهره ثم ابتلع ريقه وهمس"م..ماء"
ضيقت عينيها بقلق ثم ناولته قنينة ماء صغيرة كانت على المنضدة بجانب السرير فارتشفها جرعة واحدة وأغلق عينيه مجددا والعرق يتصبب من جبينه ورقبته. تحسست جبينه ثم هرعت نحو الحمام وأغرقت إحدى المناشف بالماء البارد ثم اقتربت منه مجددا ووضعتها على جبهته فارتجف مصدرا صوتا من بين شفتيه المرتجفتين قبل أن يسكن جسده مجددا وهمهم براحة، وسرعان ما أصبحت المنشفة دافئة فأغرقتها بالماء مجددا ووضعتها على جبينه،وبقيت على تلك الحالة لساعات، تحاول خفض حرارة جسده.
كان يهذي بالكثير من الجمل المبهمة لم تتبين منها سيئا سوى اسمها واسم عزة ومراد وهند، وكان اسمها واسم مراد أكثر ما يتكرر.
خصته بنظرة تحمل الكثير من التعاطف والمشاعر القوية التي تستمر في التضخم اتجاهه،ثم الشفقة على قلبها المنزوي في إحدى جوانب صدرها يصيح متقيحا من كبرياء تم طعنه من طرف الشخص المستلقي أمامها،ولكنه يستجدي التحامه بكل ما أوتي من قوة..وتملكها الفضول بشأن زوجته السابقة، ولاوعي أشرف لم يتفانى عن جعله يردد اسمها عدة مرات.
ابتلعت ريقها تتأمل تورد خديه بسبب الحمى وخصلات شعره الملتصقة بجبينه دغدغت جدار معدتها،فمدت أناملها تمسح على شعره بحنان لم تستطع ألا تغدقه به، ولسبب ما شعرت أنه يحتاجها الآن،ويحتاج بأن تشعره بأنه ليس وحده،فما حدث مؤخرا جعلها تكتشف أشرف جديد لم ترى منه سابقا سوى لمحة صغيرة جدا…وصلابته أمام ما حصل لشقيقه فاجأتها بشكل جعلها تقع في فخ حبه بشكل أعمق من أي وقت مضى…كشف الستار عن زرقاوتيه فهمس بوهن"سمارا" وتلاقت نظراتهما لثواني بدون أن تبعد كفها عن شعره،فتسارعت دقات قلبها وهو يرفع يده ليضع فوق كفها ويبعدها برفق بدون يفلتها،
سألها وإبهامه تتحسس راحة يدها"أين أنا؟!" وعينيه تنتقل بين وجهها والمكان الغريب الذي استوعبه الآن فقط.
ردت عليه ببساطة تداري بها الارتباك الذي اجتاحها من حركة إبهامه"أنت في غرفتك في الفندق، لقد أصبت بالحمى، هل تشعر بأنك بخير الآن؟!"
أغمض عينيه بألم وقال"رأسي سينفجر"
نظرت لعلبة الدواء على المنضدة والحساء بجانبها ثم ردت عليه"لقد طلبت من خدمة الغرف طعاما والدواء أيضا، تناول طعامك أولا ثم اشرب حبة الدواء ونم"
أومأ وأغمض عينيه بتعب وهو على وشك الغط في نوم عميق مجددا، فحركت جسده بكفها وهي تردد"أشرف،أشرف..لا تنم قبل أن تتناول طعامك" ووقفت تجذبه بإلحاح من كتفه تحاول مساعدته على النهوض، والجلوس بدل الاستلقاء،فاستجاب لها على مضض والألم ينهش جسده بالكامل.
جلست على حافة السرير تحمل صينية الطعام على حجرها ثم تذوقت الحساء وهمست"لا زال دافئا"ورفعت نبرة صوتها"لا يحتاج لتسخين" أومأ فلاحقها بنظراته وهي تبحث عن شيء ما قبل أن ترفع منديلا وتهم بمسح الملعقة التي تذوقت بها الحساء سابقا،لكنه أوقفها عما كانت ستفعله بمسك ذراعها التي تحمل المنديل،فنظرت له باستغراب وأخذ الملعقة من يدها ثم غمسها في الحساء وقربها من شفتيه ثم ابتلع محتواها،فضيقت حاجبيها وتوسعت عينيها تدريجيا على إثر ما قاله،عندما همس بصوت غير مسموع،لكنها استطاعت التقاطه"تتصرفين كأننا لم نتبادل قبلة من قبل!"
رفعت حاجبها الأيمن وقالت بنزق"ألا يصاب لسانك بالحمى أيضا، تغلبك وقاحتك وأنت في أضعف حالاتك أيضا!"
نظر لها بعيون متسعة ومتعبة يتصنع البراءة وهمس"ماذا قلت أنا!"
رمت علبة الدواء فوق حجره ثم أشارت للدلو الصغير بجانب السرير وقالت بانزعاج"اشرب دواءك قبل النوم،وإذا شعرت بارتفاع حرارتك،ضع المنشفة على جبهتك، تصبح على خير" وغادرت الغرفة تحت نظراته المستغربة، مغلقة الباب خلفها بقوة وهي تتمتم بشيء لم يسمعه سواها.
في خضم ما كان يعيشه مؤخرا،لم تغادر تفكيره ولو لحظة،وصادف أنها كانت شاهدة على كل ما حدث وكان عبيرها المنتشر في المكان بمثابة بلسم يذكره أنها هنا بجانبه ماديا ومعنويا حتى وإن لم تتعمد ذلك.
******
قطع رنين الهاتف سيل أفكارها،فكان المتصل مكتسح أفكارها بالفعل، ردت عليه بهدوء"نعم!"، فأتاها صوته من الجهة الأخرى قائلا بهدوء أيضا"سأنتظرك لنفطر سويا"، أومأت كأنه يراها ثم ردت عليه"سأنزل بعد لحظات" وأغلقت الخط.
تستغرب سلميته مؤخرا كما تستغرب سلميتها أيضا، فأرجعت الأمر إلى أن أفكاره المشتتة بشأن شقيقه هي ما جعلته مسالما مؤخرا،وتقديرها لظروفه هي ما جعلتها تتناسى ما حدث ولو لبعض الوقت،فما إن يستعيد رباطة جأشه حتى تعود لجفائها لتحمي قلبها المنزوي وحيدا بداخلها.
_____________________
'في اليوم التالي'
'في المستشفى'
اجتازت رواق المشفى ترتدي بيجاما بيضاء خاصة بالممرضات،وتصفف شعرها على شكل ضفيرة حمراء طويلة…تأملت المكان من حولها،نساء تعانين من مخاض الولادة وأخريات قد خرجت من عمليات مختلفة،لكنهن يتشاركن نفس الشيء،الألم…وهي تتشارك معهن الألم أيضا،لكن الفرق بينها وبينهن،أن ألمهن ملموس يمكن إخماده بالمسكنات،وألمها غير ملموس ينخر روحها…لازال اتصال سكينة بها يقض مضجعها،وجعلها تفكر أنها ربما اختارت الطريق الأطول للخلاص…فلا زالت دراستها للتمريض في بدايته ولن ينتهي الأمر قبل عامين وبضعة أشهر وتعتمد مئة بالمئة على مدخولها من الكوفي شوب،فتحتفظ بنصفه لأقساط المدرسة،وتعتمد على النصف الآخر في العيش وسد حاجياتها الضرورية، وفكرت في العديد من المرات ما إذا كان راتبها الشهري سيكفيها لو كانت تدفع حق السكن أيضا، وتستنتج في كل مرة أنه كان سينتهي بها المطاف مرمية في الشارع وملابسها بدون رحمة ولا شفقة، لكن من حسن حظها أن حياتها منذ مغادرتها لبيت والدتها لم تكن بذلك السوء إذا تغاضينا عن بعض الأشخاص والأحداث الذين عرقلوا سيرورة مسارها منذ بدايته.
فتحت الباب المؤدي لسلم الطوارئ،ثم جلست تتنفس الصعداء بعد هذا اليوم الطويل جدا، وقد باشروا تدريباتهم على الإسعافات الأولية على أرض الواقع منذ أيام،لكن كان الوضع كارثيا اليوم وهم يشهدون ضحايا حادثة سير،بعضهم كانت حالتهم خطيرة وآخرون يعانون من جروح، استوجبت تدخل جميع أفراد الطاقم الطبي، والمتدربون أيضا.
احتضنت جسدها ثم أغمضت عينيها تستجمع شتات نفسها،لتكمل يومها،الذي انتهى بالنسبة للبعض لكنه مازال في بدايته بالنسبة إليها…لم تنهي الطلبيات التي انهالت عليها من حساب سمر بعد، وأمامها ساعات من الدوام في الكوفي شوب.
زفرت نفسا عميقا وهي تتذكر أسامة، الذي يتساهل معها في كل شيء، فبالرغم من جهلها لسوق الشغل ولكنها أكيدة من أن أرباب العمل لا يتساهلون في شيء كتخفيض ساعات العمل للنصف تقريبا وإن فعلوا يكون ذلك بتخفيض الراتب أيضا، لكنه لم يفعل ذلك وكان متفهما جدا عندما بدأت حصصها التدريبية التي تأخذ وقتا أطول من الحصص التعليمية، ولم يبدي أي اعتراض أبدا…تسربت خفقة سريعة من بين ثنايا قلبها فتصلب فكها لثواني ولم ترق لها المشاعر الدخيلة التي تسيطر عليها مؤخرا بشأنه..مشاعر لذيذة تشعر أنها ستخمد ما بداخلها من نيران، تعتبرها الوقود الذي يقودها نحو الأمام..نحو أهدافها.
___________________
'في الحي الصناعي'
طرقات رتيبة على باب مكتب زكريا، ثم نطق بهدوء"تفضل!" ورفع نظراته للباب ينتظر أن يدخل الزائر الذي يدرك من هو سابقا.
أقبلت عليه عزة بملامح هادئة مختلفة تماما عن الابتسامة الرقيقة التي كانت تخصه بها كلما دخلت مكتبه…نبست بهدوء"مرحبا!"
فرد عليها بنفس النبرة"مرحبا!" وعيناه تتأمل وجهها الشاحب وعينيها الفاقدة للشغف.
جلست على الكرسي بجانب مكتبه ثم قالت بهدوء"لقد ناديتني!"، أومأ ثم سألها"كيف حال والديك؟"
تمتمت"مرتبكين،خائفين،ومتر� �بين للأيام القادمة، لكنهما بخير والحمد لله"
أومأ بتفهم ثم قال بقلق"أراك شاردة الذهن كثيرا"ثم ألقى نظرة سريعة على وجهها وذراعيها وأكمل"وفقدت الكثير من الوزن وقد اتفقنا سابقا أنك ستتناولين طعامك وستحاولين جاهدة أن تعودي لطبيعتك، فهذا سيساعد مراد أيضا ووالديك!"
أومأت بذهن مشغول ثم ردت عليه"أنا أحاول أن أفعل ذلك، لكن أجدني منغمسة في أفكار كثيرة تفقدني القدرة على الخروج من تأثير ما حدث"صمتت قليلا ترتب الأفكار في دماغها ثم رفعت نظراتها نحوه وقالت بشرود"لقد كنت على وشك أن أفقد شقيقي يا زكريا، ولن أسامح نفسي أبدا على تهاوني معه بدعوى أنها فترة مراهقة ستمر سريعا وكفى!"
استقام واقفا ثم تجاوز مكتبه وجلس على الكرسي المقابل لها، ثم استند بكوعيه فوق فخديه وركز نظراته على عينيها قائلا بصوت هادئ تغلغل لأعماقها"حالة مراد تتحسن كما قال طبيب المركز، وما حدث معه لم يكن سوى قرصة أذن لكم جميعا وله هو بالخصوص، فلا أظنه سيلجأ للتعاطي مجددا بعد كل ما عاناه، وقسوتك على نفسك بهذا الشكل لن تنفعك في شيء أبدا"خفضت بصرها تستمع لكلماته فقال بهدوء"عزة! انظري إلي"
رفعت عينيها لخاصته،فابتسم في وجهها بتشجيع وقال"هل تريدين أن نزوره معا هذه المرة؟"
اهتزت حدقتيها برضا عن الفكرة فأومأت بهدوء ثم قال"لنذهب إذن،لكن ستتناولين الطعام أولا"
ثم وقف وحمل سترته قبل أن يشير لها بأن تتقدمه أولا، ولحق بها متجهين إلى سيارته.
********
صف زكريا سيارته أمام Mariposa ثم نزل منها أولا واستدار ليفتح باب عزة التي سألته باستغراب"ماذا نفعل هنا؟!"
ابتسم بهدوء ثم رد عليها ببساطة"أخبرتك أنك ستأكلين أولا ثم نذهب لمراد، هيا انزلي"
استجابت له في صمت،فنزلت ثم دخلا معا فاستقبلهما أسامة ببشاشة قائلا"يا أهلا وسهلا ب_"صمت مفكرا وألقى عليهما نظرة مشاكسة قبل أن يكمل"صديقاي"
ربت زكريا على كتفه ثم قال بهدوء"نريد أسرع وجبة لديك هنا، لنلحق زيارة مراد قبل إغلاق المركز"
رد أسامة"حالا!" ثم نظر لعزة وقال باهتمام"كيف حالك يا صغيرة؟!"
ابتسمت برقة وردت عليه بهدوء"أنا بخير"، فبادلها الابتسامة بأخرى أوسع ورد"جيد! فراحتك تهمنا سيدة عزة، وأشرف تركك أمانة عندنا"
ضحكت بخفة لاستظرافه ثم أشار لهما لإحدى الطاولات ليستريحا في انتظار أن يجهز الفتية الطعام.
***
دخلت ثريا بخطوات متثاقلة، تحمل حقيبة ثقيلة على ظهرها، فمسحت المكان بعينيها للتأكد من عدد الزبائن قبل أن تباشر العمل، فلمحت عزة تجلس وتتبادل الحديث مع زكريا…توجهت نحوها بلهفة وهي تهتف باسمها"عزة!"
استجابت الأخيرة لاسمها فتهللت أساريرها ما إن لمحتها ثم وقفت واتجهت نحوها تحتضنها.
صاحت ثريا بعتاب"لماذا لا تردين على هاتفك، كنت أريد الاطمئنان عليك فقط"
ردت عليها عزة بخجل"آسفة يا ثريا، لكنني كنت أحتاج لوقت مع نفسي" ثم ربتت على كتفها وسألتها"كيف حالك أنت؟!"
فكت ثريا الحضن أولا ثم ردت عليها ببساطة دفعة واحدة"أنا بخير بخير! وأنت كيف حالك!؟ لقد سمعت من عَلْيا ما حصل بمراد،آسفة لذلك" ثم ربتت على كتفيها وأكملت"سيتحسن إن شاء الله وسيعود لما سالما لينشر مشاكساته في المكان"
أومأت عزة تؤكد كلامها واكتفت بقول"أتمنى ذلك!"
احتضنها ثريا مجددا ثم ألقت نظرة سريعة على زكريا وحيته بأدب فبادلها التحية بمثلها وأكمل عبثه بهاتفه.

تناولا طعامهما على عجل ثم انطلقا للمركز،وقد قارب وقت انتهاء الزيارة..جرت في الرواق وتلاحقها خطوات زكريا..ثم توقفت أمام غرفة مراد وهي تستمع لصوت مألوف، ففتحت الباب لتفاجأ بتواجد…
___________________
أقشور، منطقة جبلية تتواجد بشمال المغرب، عبارة عن مزيج خلاب من التلال المكسور برداء أخضر تخترقها شلالات من المياه الصافية.
*****
'تبعد أيام'
استيقظ أشرف على صوت خرير المياه،تقلب في سريره يمينا وشمالا وحرك ذراعه يبحث عن هاتفه..ثم فتحه ليستقبل اتصالا من أنس يخبره أنه قد زار المركز العلاجي اليوم،وأن حالة مراد تتحسن تدريجيا ثم أرسل إليه فيديو لشقيقه يتحدث مع الطبيب ويبدو هادئا ومستجيبا للحديث.
في الأيام التي قضاها في هذه المنطقة،كان أصدقاؤه وعزة يتناوبون على زيارة مراد، ويحرصون على إطلاعه عن حالته بالتدقيق،حاولوا جاهدين إقصاء شعور الذنب الذي كان يراوده منذ حدث ما حدث ولومه لنفسه لأنه لم يكتشف الأمر باكرا،ثم التزامه بالعمل الذي أجبره على ترك شقيقه في منتصف الطريق.
قضى عاداته الصباحية بسرعة ثم ارتدى ملابس العمل وكان متأكدا من أنه سيقابل المنظر الصباحي الذي اعتاد عليه في الأيام الماضية، سمر عائدة من حصة الجري التي تمتد لساعة ونصف تقريبا.
خرج من غرفته الملاصقة لغرفتها، وقد كانت الغرفتين تطلان على ردهة واسعة تشبه الحديقة،ومقابلة لمنظر التلال الخضراء والشلالات، ثم سلم خشبي يقود لمرآب تقليدي للسيارات وغرفة الاستقبال، كان تصميم الفندق مناسبا لكون المنطقة تعج بالسياح طوال السنة.
كانت سمر تلم شعرها على شكل كعكة فوق رأسها ووجهها خالي من مساحيق التجميل، وتضغط على ظهرها بكفيها وتمد جسدها للخلف مغمضة عينيها تستنشق بعض الهواء النقي..وقف خلفها بهدوء يتأمل ملامحها،مستنشقا رائحة عرقها بنكهة اللافندر…تقابلت نظراتهما ما إن فتحت عينيها،فقالت بدهشة"أشرف!" قم اعتدلت في وقفتها ومدت رقبتها يمينا وشمالا قائلة"صباح الخير"
تمتم"صباح النور"
فسألته باهتمام وهي تجفف وجهها وعنقها بمنشفتها الصغيرة التي كانت تتموضع فوق عنقها سابقا"هل تشعر بأنك بخير الآن!"
أومأ بهدوء وهو يشعر بالضيق من خروجها وحدها في الصباح الباكر فسألها"هل يزعجك أحد أثناء الجري"
هزت رأسها نفيا قائلة"لا، من النادر رؤية أحدهم في هذا الوقت الباكر، خاصة في هذه المنطقة"
رد عليها بضيق"أو ليس من الأفضل الاستغناء عن رياضتك الصباحية إلى حين عودتنا!؟"
حركت سبابتها أمام وجهه وهي تهم بالدخول لغرفتها"أنا مستمتعة بالأمر! لا تقلق علي!"
غمغم بضيق"لست قلقا!"
استدارت تنظر لوجهه لثواني ثم همست"جيد!"
وسافرت بها ذاكرتها لقبل أيام وتحديدا بعد وصولهم للمنطقة.
'قبل أيام'
صف أشرف سيارته في مرآب الفندق ثم تفقد هاتفه بوهن،يبحث عن وثيقة الحجز التي زودها به محمد سابقا، لكنه كان يشعر بتعب شديد يلم بأطرافه وألم في رأسه ورقبته، رمش بعينيه عدة مرات يحاول التركيز، ومازاده ذلك إلا ألما فظيعا،فمد كفه التي تحمل الهاتف لسمر التي ناظرته بقلق واستغراب وتمتم"ابحثي عن ورقة الحجز في المحادثة بيني وبين العم محمد"
سألته بقلق"هل أنت بخير؟!"
أومأ مغمضا عينيه ثم فرك بين حاجبيه هامسا"أنا بخير!"
بحثت بسرعة عما يريده ثم مدت له الهاتف، واستلمه فورا ثم نزل من سيارته متجها إلى الصندوق، وحمل حقيبتيهما ثم اتجه إلى مكتب الاستقبال،واستقبله شاب يماثله في الطول بابتسامة واسعة مرحبا"مرحبا بكما في فندق***،هل حجزتما غرفة سابقا،أم ستحجزانها حالا؟"
رد عليه أشرف باقتضاب"غرفتين!" ثم وضع الهاتف على المنضدة التي تفضل بينهما.
أومأ الشاب بهدوء ثم تفقد حاسوبه وقال بترحيب"تفضلا معي سأقودكما لغرفكما" ثم حمل إحدى الحقيبتين وصعدوا الدرج معا.
ترنح جسد أشرف المتعب فأسندت سمر ذراعه وهمست بقلق"لا بد أنك متعب، فأنت لم تنم منذ أيام"
رد بهمس وهن"رأسي سينفجر!"
قاطعهما صوت الشاب مشيرا لغرفتين متجاورتين "هذه غرفتك سيدتي، وهذه غرفتك سيدي، أتمنى أن تستمتعا برحلتكما وإذا احتجتما لأي شيء فستجدانني في الأسفل، وهذا رقم هاتفي" ثم مد بطاقتي العمل لهما والمفاتيح،فأخذتهم سمر وشكرته بإيجاز.
سحب أشرف مفتاح غرفته من يدها ثم حاول إدخاله في الفتحة، مرة، مرتين وكانت تخونه كفه في كل مرة فينزلها بتعب ليستريح…انتبهت سمر لذلك فأبعدته برفق وأخذت المفتاح من كفه ثم فتحت الباب بسهولة وسبقته للداخل أولا وهي تجر حقيبة ملابسه فلحق بها وارتمى بجسده فوق السرير، سألته مجددا"أشرف هل أنت بخير؟ هل تشعر بأنك مريض؟"
أغمض عينيه بانزعاج من ضوء الغرفة ونبرة صوتها التي بدت له عالية ثم همس"أنا بخير، سأنام!"
تأملت جسده بقلق ثم قالت بتردد"سأغادر الآن،إذا احتجت شيئا اتصل بي"
همهم بوهن ولم يهتم بنزع حذائه أو التموضع بشكل مريح فوق السرير أكثر من إخماد رغبته الملحة في النوم لأطول مدة ممكنة والتخلص من التعب الذي ينهش جسده الآن.
ألقت عليه نظرة مترددة أخيرة قبل أن تغلق الباب وتتجه لغرفتها.
'بعد ساعة تقريبا'
خرجت من الحمام بذهن مشغول تجفف شعرها،فارتدت ملابسها على عجل وتفقدت هاتفها إن كان قد رد على رسالتها، وكانت قد أرسلتها تطمئن إن كان بخير قبل أن تدخل للاستحمام..لكنه لم يرد..مطت شفتيها بقلق وقطعت الغرفة ذهابا وإيابا ثم حسمت أمرها أخيرا وهي تلمح مفتاح غرفته التي نسيته في سترتها سابقا..وأرسلت له رسالة مجددا مفادها"سأدخل لأطمئن عليك،لقد نسيت مفتاحك في سترتي" ولم تنتظر أن يرد عليها بل اتجهت إلى غرفته فورا وطرقت الباب عدة مرات قبل أن تقتحمها لتجدد جسده مازال ممددا بنفس الطريقة،نائما على بطنه ولا يبدو أن شيئا تغير في الغرفة منذ خروجها.
اقتربت منه بتردد فلاحظت ارتجاف جسده، تحسست جبهته بقلق فعقدت حاجبيها وهي تستشعر درجة حرارته المرتفعة ثم نادته بهمس"أشرف، أشرف" همهم بتعب فسألته"هل تسمعني!"
رمش بوهن ينظر لها ثم أغمض عينيه مجددا يغرق في النوم..دفعت جسده لتمدده على ظهره فتأوه بألم ثم استجاب لها ونام على ظهره ثم ابتلع ريقه وهمس"م..ماء"
ضيقت عينيها بقلق ثم ناولته قنينة ماء صغيرة كانت على المنضدة بجانب السرير فارتشفها جرعة واحدة وأغلق عينيه مجددا والعرق يتصبب من جبينه ورقبته. تحسست جبينه ثم هرعت نحو الحمام وأغرقت إحدى المناشف بالماء البارد ثم اقتربت منه مجددا ووضعتها على جبهته فارتجف مصدرا صوتا من بين شفتيه المرتجفتين قبل أن يسكن جسده مجددا وهمهم براحة، وسرعان ما أصبحت المنشفة دافئة فأغرقتها بالماء مجددا ووضعتها على جبينه،وبقيت على تلك الحالة لساعات، تحاول خفض حرارة جسده.
كان يهذي بالكثير من الجمل المبهمة لم تتبين منها سيئا سوى اسمها واسم عزة ومراد وهند، وكان اسمها واسم مراد أكثر ما يتكرر.
خصته بنظرة تحمل الكثير من التعاطف والمشاعر القوية التي تستمر في التضخم اتجاهه،ثم الشفقة على قلبها المنزوي في إحدى جوانب صدرها يصيح متقيحا من كبرياء تم طعنه من طرف الشخص المستلقي أمامها،ولكنه يستجدي التحامه بكل ما أوتي من قوة..وتملكها الفضول بشأن زوجته السابقة، ولاوعي أشرف لم يتفانى عن جعله يردد اسمها عدة مرات.
ابتلعت ريقها تتأمل تورد خديه بسبب الحمى وخصلات شعره الملتصقة بجبينه دغدغت جدار معدتها،فمدت أناملها تمسح على شعره بحنان لم تستطع ألا تغدقه به، ولسبب ما شعرت أنه يحتاجها الآن،ويحتاج بأن تشعره بأنه ليس وحده،فما حدث مؤخرا جعلها تكتشف أشرف جديد لم ترى منه سابقا سوى لمحة صغيرة جدا…وصلابته أمام ما حصل لشقيقه فاجأتها بشكل جعلها تقع في فخ حبه بشكل أعمق من أي وقت مضى…كشف الستار عن زرقاوتيه فهمس بوهن"سمارا" وتلاقت نظراتهما لثواني بدون أن تبعد كفها عن شعره،فتسارعت دقات قلبها وهو يرفع يده ليضع فوق كفها ويبعدها برفق بدون يفلتها،
سألها وإبهامه تتحسس راحة يدها"أين أنا؟!" وعينيه تنتقل بين وجهها والمكان الغريب الذي استوعبه الآن فقط.
ردت عليه ببساطة تداري بها الارتباك الذي اجتاحها من حركة إبهامه"أنت في غرفتك في الفندق، لقد أصبت بالحمى، هل تشعر بأنك بخير الآن؟!"
أغمض عينيه بألم وقال"رأسي سينفجر"
نظرت لعلبة الدواء على المنضدة والحساء بجانبها ثم ردت عليه"لقد طلبت من خدمة الغرف طعاما والدواء أيضا، تناول طعامك أولا ثم اشرب حبة الدواء ونم"
أومأ وأغمض عينيه بتعب وهو على وشك الغط في نوم عميق مجددا، فحركت جسده بكفها وهي تردد"أشرف،أشرف..لا تنم قبل أن تتناول طعامك" ووقفت تجذبه بإلحاح من كتفه تحاول مساعدته على النهوض، والجلوس بدل الاستلقاء،فاستجاب لها على مضض والألم ينهش جسده بالكامل.
جلست على حافة السرير تحمل صينية الطعام على حجرها ثم تذوقت الحساء وهمست"لا زال دافئا"ورفعت نبرة صوتها"لا يحتاج لتسخين" أومأ فلاحقها بنظراته وهي تبحث عن شيء ما قبل أن ترفع منديلا وتهم بمسح الملعقة التي تذوقت بها الحساء سابقا،لكنه أوقفها عما كانت ستفعله بمسك ذراعها التي تحمل المنديل،فنظرت له باستغراب وأخذ الملعقة من يدها ثم غمسها في الحساء وقربها من شفتيه ثم ابتلع محتواها،فضيقت حاجبيها وتوسعت عينيها تدريجيا على إثر ما قاله،عندما همس بصوت غير مسموع،لكنها استطاعت التقاطه"تتصرفين كأننا لم نتبادل قبلة من قبل!"
رفعت حاجبها الأيمن وقالت بنزق"ألا يصاب لسانك بالحمى أيضا، تغلبك وقاحتك وأنت في أضعف حالاتك أيضا!"
نظر لها بعيون متسعة ومتعبة يتصنع البراءة وهمس"ماذا قلت أنا!"
رمت علبة الدواء فوق حجره ثم أشارت للدلو الصغير بجانب السرير وقالت بانزعاج"اشرب دواءك قبل النوم،وإذا شعرت بارتفاع حرارتك،ضع المنشفة على جبهتك، تصبح على خير" وغادرت الغرفة تحت نظراته المستغربة، مغلقة الباب خلفها بقوة وهي تتمتم بشيء لم يسمعه سواها.
في خضم ما كان يعيشه مؤخرا،لم تغادر تفكيره ولو لحظة،وصادف أنها كانت شاهدة على كل ما حدث وكان عبيرها المنتشر في المكان بمثابة بلسم يذكره أنها هنا بجانبه ماديا ومعنويا حتى وإن لم تتعمد ذلك.
******
قطع رنين الهاتف سيل أفكارها،فكان المتصل مكتسح أفكارها بالفعل، ردت عليه بهدوء"نعم!"، فأتاها صوته من الجهة الأخرى قائلا بهدوء أيضا"سأنتظرك لنفطر سويا"، أومأت كأنه يراها ثم ردت عليه"سأنزل بعد لحظات" وأغلقت الخط.
تستغرب سلميته مؤخرا كما تستغرب سلميتها أيضا، فأرجعت الأمر إلى أن أفكاره المشتتة بشأن شقيقه هي ما جعلته مسالما مؤخرا،وتقديرها لظروفه هي ما جعلتها تتناسى ما حدث ولو لبعض الوقت،فما إن يستعيد رباطة جأشه حتى تعود لجفائها لتحمي قلبها المنزوي وحيدا بداخلها.
___________________
'في المستشفى'
اجتازت رواق المشفى ترتدي بيجاما بيضاء خاصة بالممرضات،وتصفف شعرها على شكل ضفيرة حمراء طويلة…تأملت المكان من حولها،نساء تعانين من مخاض الولادة وأخريات قد خرجت من عمليات مختلفة،لكنهن يتشاركن نفس الشيء،الألم…وهي تتشارك معهن الألم أيضا،لكن الفرق بينها وبينهن،أن ألمهن ملموس يمكن إخماده بالمسكنات،وألمها غير ملموس ينخر روحها…لازال اتصال سكينة بها يقض مضجعها،وجعلها تفكر أنها ربما اختارت الطريق الأطول للخلاص…فلا زالت دراستها للتمريض في بدايته ولن ينتهي الأمر قبل عامين وبضعة أشهر وتعتمد مئة بالمئة على مدخولها من الكوفي شوب،فتحتفظ بنصفه لأقساط المدرسة،وتعتمد على النصف الآخر في العيش وسد حاجياتها الضرورية، وفكرت في العديد من المرات ما إذا كان راتبها الشهري سيكفيها لو كانت تدفع حق السكن أيضا، وتستنتج في كل مرة أنه كان سينتهي بها المطاف مرمية في الشارع وملابسها بدون رحمة ولا شفقة، لكن من حسن حظها أن حياتها منذ مغادرتها لبيت والدتها لم تكن بذلك السوء إذا تغاضينا عن بعض الأشخاص والأحداث الذين عرقلوا سيرورة مسارها منذ بدايته.
فتحت الباب المؤدي لسلم الطوارئ،ثم جلست تتنفس الصعداء بعد هذا اليوم الطويل جدا، وقد باشروا تدريباتهم على الإسعافات الأولية على أرض الواقع منذ أيام،لكن كان الوضع كارثيا اليوم وهم يشهدون ضحايا حادثة سير،بعضهم كانت حالتهم خطيرة وآخرون يعانون من جروح، استوجبت تدخل جميع أفراد الطاقم الطبي، والمتدربون أيضا.
احتضنت جسدها ثم أغمضت عينيها تستجمع شتات نفسها،لتكمل يومها،الذي انتهى بالنسبة للبعض لكنه مازال في بدايته بالنسبة إليها…لم تنهي الطلبيات التي انهالت عليها من حساب سمر بعد، وأمامها ساعات من الدوام في الكوفي شوب.
زفرت نفسا عميقا وهي تتذكر أسامة، الذي يتساهل معها في كل شيء، فبالرغم من جهلها لسوق العمل ولكنها أكيدة من أن أرباب العمل لا يتساهلون في شيء كتخفيض ساعات العمل للنصف تقريبا وإن فعلوا يكون ذلك بتخفيض الراتب أيضا، لكنه لم يفعل ذلك وكان متفهما جدا عندما بدأت حصصها التدريبية التي تأخذ وقتا أطول من الحصص التعليمية، ولم يبدي أي اعتراض أبدا…تسربت خفقة سريعة من بين ثنايا قلبها فتصلب فكها لثواني ولم ترق لها المشاعر الدخيلة التي تسيطر عليها مؤخرا بشأنه..مشاعر لذيذة تشعر أنها ستخمد ما بداخلها من نيران، تعتبرها الوقود الذي يقودها نحو الأمام..نحو أهدافها.
___________________
'في الحي الصناعي'
طرقات رتيبة على باب مكتب زكريا، ثم نطق بهدوء"تفضل!" ورفع نظراته للباب ينتظر أن يدخل الزائر الذي يدرك من هو سابقا.
أقبلت عليه عزة بملامح هادئة مختلفة تماما عن الابتسامة الرقيقة التي كانت تخصه بها كلما دخلت مكتبه…نبست بهدوء"مرحبا!"
فرد عليها بنفس النبرة"مرحبا!" وعيناه تتأمل وجهها الشاحب وعينيها الفاقدة للشغف.
جلست على الكرسي بجانب مكتبه ثم قالت بهدوء"لقد ناديتني!"، أومأ ثم قال بقلق"أراك شاردة الذهن كثيرا"ثم ألقى نظرة سريعة على وجهها وذراعيها وأكمل"وفقدت الكثير من الوزن وقد اتفقنا سابقا أنك ستتناولين طعامك وستحاولين جاهدة أن تعودي لطبيعتك، فهذا سيساعد مراد أيضا ووالديك!"
أومأت بذهن مشغول ثم ردت عليه"أنا أحاول أن أفعل ذلك، لكن أجدني منغمسة في أفكار كثيرة تفقدني القدرة على الخروج من تأثير ما حدث"صمتت قليلا ترتب الأفكار في دماغها ثم رفعت نظراتها نحوه وقالت بشرود"لقد كنت على وشك أن أفقد شقيقي يا زكريا، ولن أسامح نفسي أبدا على تهاوني معه بدعوى أنها فترة مراهقة ستمر سريعا وكفى!"
استقام واقفا ثم تجاوز مكتبه وجلس على الكرسي المقابل لها، ثم استند بكوعيه فوق فخديه وركز نظراته على عينيها قائلا بصوت هادئ تغلغل لأعماقها"حالة مراد تتحسن كما قال طبيب المركز، وما حدث معه لم يكن سوى قرصة أذن لكم جميعا وله هو بالخصوص، فلا أظنه سيلجأ للتعاطي مجددا بعد كل ما عاناه، وقسوتك على نفسك بهذا الشكل لم تنفعك في شيء أبدا"خفضت بصرها تستمع لكلماته فقال بهدوء"عزة! انظري إلي"
رفعت عينيها لخاصته،فابتسم في وجهها بتشجيع وقال"هل تريدين أن نزور معا هذه المرة؟"
اهتزت حدقتيها برضا عن الفكرة فأومأت بهدوء ثم قال"لنذهب إذن،لكن ستتناولين الطعام أولا"
ثم وقف وحمل سترته قبل أن يشير لها بأن تتقدمه أولا، ولحق بها متجهين إلى سيارته.
********
********
صف زكريا سيارته أمام Mariposa ثم نزل منها أولا واستدار ليفتح باب عزة الذي سألته باستغراب"ماذا نفعل هنا؟!"
ابتسم بهدوء ثم رد عليها ببساطة"أخبرتك أنك ستأكلين أولا ثم نذهب لمراد، هيا انزلي"
استجابت له في صمت،فنزلت ثم دخلا معا فاستقبلهما أسامة ببشاشة قائلا"يا أهلا وسهلا ب_"صمت مفكرا وألقى عليهما نظرة مشاكسة قبل أن يكمل"صديقاي"
ربت زكريا على كتفه ثم قال بهدوء"نريد أسرع وجبة لديك هنا، لنلحق زيارة مراد قبل إغلاق المركز"
رد أسامة"حالا!" ثم نظر لعزة وقال باهتمام"كيف حالك يا صغيرة؟!"
ابتسمت برقة وردت عليه بهدوء"أنا بخير"، فبادلها الابتسامة بأخرى أوسع ورد"جيد! فراحتك تهمنا سيدة عزة، وأشرف تركك أمانة عندنا"
ضحكت بخفة لاستظرافه ثم أشار لهما لإحدى الطاولات ليستريحا في انتظار أن يجهز الفتية الطعام.
***
دخلت ثريا بخطوات متثاقلة، تحمل حقيبة ثقيلة على ظهرها، فمسحت المكان بعينيها للتأكد من عدد الزبائن قبل أن تباشر العمل، فلمحت عزة تجلس وتتبادل الحديث مع زكريا…توجهت نحوها بلهفة وهي تهتف باسمها"عزة!"
استجابت الأخيرة لاسمها فتهللت أساريرها ما إن لمحتها ثم وقفت واتجهت نحوها تحتضنها.
صاحت ثريا بعتاب"لماذا لا تردين على هاتفك، كنت أريد الاطمئنان عليك فقط"
ردت عليها عزة بخجل"آسفة يا ثريا، لكنني كنت أحتاج لوقت مع نفسي" ثم ربتت على كتفها وسألتها"كيف حالك أنت؟!"
فكت ثريا الحضن أولا ثم ردت عليها ببساطة دفعة واحدة"أنا بخير بخير! وأنت كيف حالك!؟ لقد سمعت من عَلْيا ما حصل بمراد،آسفة لذلك" ثم ربتت على كتفيها وأكملت"سيتحسن إن شاء الله وسيعود لما سالما لينشر مشاكساته في المكان"
أومأت عزة تؤكد كلامها واكتفت بقول"أتمنى ذلك!"
احتضنها ثريا مجددا ثم ألقت نظرة سريعة على زكريا وحيته بأدب فبادلها التحية بمثلها وأكمل عبثه بهاتفه.

تناولا طعامهما على عجل ثم انطلقا للمركز،وقد قارب وقت انتهاء الزيارة..جرت في الرواق وتلاحقها خطوات زكريا..ثم توقفت أمام غرفة مراد وهي تستمع لصوت مألوف، ففتحت الباب لتفاجأ بتواجد…

نهاية الفصل الرابع والعشرون






فاطمة الزهراء أوقيتي متواجد حالياً  
التوقيع
رواية:
وشمتِ اسمك بين أنفاسي~
بقلمي
🤍أكتب لأحيا الواقع بنكهة الخيال🤍
رد مع اقتباس