عرض مشاركة واحدة
قديم 21-12-09, 06:18 PM   #4

جيرمون111

? العضوٌ??? » 104307
?  التسِجيلٌ » Dec 2009
? مشَارَ?اتْي » 112
?  نُقآطِيْ » جيرمون111 is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الثاني عشر
الفتاة اللطيفة
بدأت تدريجياً أشعر بتغيير في بيدي . كان شعرها لامعاً , ناعم الملمس , ويداها نظيفتان دائماً . لم جميلة ـ بل عادية , ولا يسعها أن تكون مثل استيلا , إنما كانت صاحبة لطف وحكمة وروح طيبة . وقد تدبرت كافة شؤون منزلنا بشكل رائع , كذلك فقد تعلمت كل ما تعلمته وظلت تواكبني على الدوام .
بعد ظهر يوم أحد , خرجنا نتمشى سوياً في منطقة المستنقعات . وحين بلغنا ضفة النهر وجلسنا إلى الضفة فيما المياه تترقرق عند أقدامنا , قررت أن الزمان والمكان مناسبان لمنح الثقة إلى بيدي . فقلت لها , بعد أن وعدت بحفظ السر : " أود أن أكون سيداً يا بيدي . "
أجابت : " لن أفعل ذلك إن كنت مكانك ! لا أعتقد أن ذلك يفيد ؛ ألا ترى أنك أكثر سعادة كما أنت الآن ؟ "
فقلت بتبرم : " لست سعيداً أبداً يا بيدي كما أنا . فقد نالني الاشمئزاز من مهنتي . ولن أرتاح إلا عندما أعيش حياة تختلف عن التي أعيشها الآن . "
قالت بيدي وهي تهز رأسها أسفاً : " إنه لأمر مؤسف ! "
ثم أخبرتها عن استيلا وكيف تعتبرني خشناً وعامياً , وأنها تفوق الجميع جمالاً , وكيف أنني شديد الإعجاب بها , وأريد أن أكون سيداً من أجلها .
" هل تريد أن تكون سيداً لمضايقتها أو للفوز بها ؟ فإن كنت تريد مضايقتها , فالأفضل عدم الاكتراث لكلماتها . وإن كان القصد هو الفوز بها , فاعتقادي هو أنها لا تستحق ذلك . "
قلت لبيدي : " ربما كان ذلك صحيحاً , لكنني في غاية الإعجاب بها . "
كانت بيدي أكثر الفتيات حكمة وتعقلاً , فلم تحاول النقاش معي أكثر , بل ربتت كلى كتفي بمواساة وقالت : " إنني سعيدة لأنك شعرت أن بإمكانك أن تمنحني ثقتك يا بيب . "
فصحت قائلاً وأنا أنهض : " بيدي , سأخبرك دائماً بكل شيء . "
فقالت بيدي : " إلى أن تصبح سيداً ؟ "
تابعنا السير قليلاً , ورحت أفكر إن كنت في وضع مناسب ومأمون أكثر مما لوكنت ألعب لعبة المتسول في الغرفة المظلمة ذات الساعات المتوقفة , حيث أتعرض للتحقير من استيلا . وتساءلت إن كنت على يقين لو كانت استيلا بجانبي في تلك اللحظة بدلاً من بيدي , إن كانت ستجعلني تعيساً . وكان لابد لي من الإقرار بأنني لم أكن متأكداً من ذلك , فقلت لنفسي : " تباً لك من أحمق يا بيب " .
تحدثنا كثيراً أثناء السير , وبدا كل ما قالته بيدي صحيحاً . لم تجرح بيدي مزاجي ولم تكن تكن متقلبة المزاج , بل كانت تتألم لمجرد التسبب بإيلامي , وتفضل كثيراً أن تجرح فؤادها بدلاً من فؤادي . فكيف لي ألا أحبها أكثر ؟ قلت لها ونحن في طريق العودة للمنزل : " حبذا لو تستطيعين تقويمي يا بيدي . "
قالت : " ليتني أستطيع ذلك . "
" حبذا لو أستطيع فقط إيقاع نفسي في حبك ـ هل تمانعين أن أتحدث بهذه الصراحة لصديقة ألِفتها ؟ "
قالت بيدي : " كلا يا عزيزي , أبداً لا تكترث لي . "
" حبذا لو أستطيع حمل نفسي على ذلك , إنه القضية لدي . "
قالت : " لكنك لن تفعل . "
التقينا بأورليك قرب باحة الكنيسة , فهمدر هذا قائلاً : " مرحباً , إلى أين ذاهبان ."
" أين ينبغي أن نذهب سوى إلى المنزل ؟ "
فقال : " حسناً , سأرافقكما إلى المنزل . "
عارضت بيدي بشدة ذهابه معنا , فهمست لي تقول : " لا تدعه يأتي ؛ فأنا لا أحبه . " . وبما أنني لم أكن أحبه كذلك , قلت له أننا نشكره لكننا لا نريد الذهاب إلى المنزل .تلقى النبأ بصيحة ضاحكة, وتخلف عنا , لكنه راح يتبعنا بتكاسل على بعد خطوات قليلة . سألت بيدي لماذا لا تحبه فأجابت : " أوه , لأنني ـ لأنني أخشى أنه يحبني . "
سألتها بغضب : " وهل أخبرك بأنه يحبك ؟ "
فقال وهي تسترق النظر من فوق كتفيها : " كلا ! لم يخبرني أبداً بذلك , لكنه يلقي علي نظرة كلما استطاع جذب بصري . "
استشطت غضباً إزاء جرأة أورليك العجوز على الإعجاب بها ؛ بلغ غيظي حداً وكأن ذلك إهانة لي . ومنذ تلك الليلة أخذت أراقبه بحذر .


الفصل الثالث عشر
الآمال الكبيرة
كانت السنة الرابعة من تدريبي المهني لدى جو , وكانت ليلة السبت حيث كنا متحلقين حول المدفأة في حانة (( النوتية الثلاث )) نصغي إلى السيد ووبسيل وهو يقرأ بصوت مرتفع .
لم ألاحظ إلا بعدما انتهى من القراءة , أن هناك سيداً غريباً ينحني فوق ظهر الكرسي المقابل لي . فتقدم وقال وهو ينظر إلي : " لدي ما يحملني على الاعتقاد بأن هناك حداد بينكم , اسمه جوزيف , أو جو غارجري . أيكم ذاك الرجل ؟ "
قال جو : " هذا أنا . "
تابع الغريب يقول : " هل لديك من يتدرب على مهنتك , يعرف عامة باسم بيب ؟ وهل هو هنا ؟ "
فهتفت قائلاً : " إنني هنا . "
لاحظت أن رأسه ضخم , وبشرته داكنة وعيناه غائرتان وحاجباه كثيفين سوداوين . قال لي:" أود إجراء حديث خاص معكما. لعل من الأفضل أن نذهب إلى منزلكما. "
سرنا إلى المنزل في صمت يكتنفه التساؤل , وحين وصلنا هناك دخلنا غرفة الاستقبال , فجلس الغريب إلى الطاولة وهو يجذب الشمعة إليه ويدقق في دفتر صغير لديه , ثم قال : " اسمي جاغرز , وأنا محام من لندن . لدي مهمة استثناية أنجزها معكما . والآن يا سيد جوزيف غارجري , إنني أنقل عرضاً يعفيك من هذا الصغير , تلميذك . لا أظن أنك ستعارض تخلية سبيله . بناء على طلبه وخدمة لمصلحته أو تبتغي شيئاً مقابل ذلك ؟ "
فقال جو : " لن أرغب في الوقوف في وجه بيب , ولا أريد شيئاً لقاء تخلية سبيله ."
قال السيد جاغرز : " حسناً , والآن , ما أريد أن أقوله لك هو أن بيب لديه آمال كبيرة . "
أخذت علينا الدهشة أنا وجو , ونظرنا إلى بعضنا البعض .
" إنني مكلف بإبلاغه بأنه سيحصل على ممتلكات لا بأس بها , وأن رغبة المالك الحالي هي بأن يُنقل بيب من هذا المكان , في حال أن ينشأ على تربية تليق بذوي الشأن . "
لقد تحقق حلمي , وتجاوزت الحقيقة مخيلتي الجامحة . فالآنسة هافيشام ستكون ثروتي .. تابع المحامي يقول : " والآن سيد بيب , سأوجه إليك ما بقي علي قوله . ليكن واضحاً لديك أولاً أنه بناء لطلب الذي تلقيت منه تعليماتي , أنك ستحمل دائماً اسم بيب . وليكن في علمك ثانياً أن اسم الذي أحسن إليك سيبقى سراً , إلى أن يقرر هو البوح بذلك . ويحظر عليك الاستقصاء عن هذا الأمر , أو الإشارة إلى أي شخص أثناء الاتصالات التي تجري بيننا . إن كان لديك اعتراض على هذين الشرطين , فالآن هو الوقت المناسب للإفصاح عن ذلك . قل بصراحة . "
تلعثمت بصعوبة قائلاً أن لا اعتراض لدي , فتابع السيد جاغرز : " لا أظن ذلك ! والآن سيد بيب , ننتقل بعد ذلك إلى تفاصيل الترتيبات . لدي مبلغ من المال يكفي تعليمك ومصاريفك . أرجو أن تعتبرني وصياً لك . من المفروض أن تتعلم بشكل أفضل , تمشياً مع وضعك الجديد . "
فقلت بأنني طالما تشوقت لذلك .
فاقترح السيد جاغرز اسم السيد ماثيو بوكيت ـ الذي سبق وأن سمعت الآنسة هافيشام تقول بأنه أحد أقرباءها ـ أن يكون معلمي , فعبرت عن شكري للسيد جاغرز على هذا الاختيار , وقلت بأنني سأجرب هذا السيد بكل سرور .
" حسناً , من الأفضل أن تجربه في منزله , ستمهد الطريق أمامك , ويمكنك أولاً أن ترى ابنه , الذي في لندن . متى ستأتي إلى لندن ؟ "
قلت وأنا أنظر إلى جو الذي كان يقف محدقاً دون حراك , إنني أعتقد أن باستطاعتي الذهاب فوراً .
" لابد أولاً أن تكون لك ثياباً جديدة تذهب بها , لنقل بعد أسبوع . ستحتاج إلى بعض المال . هل أترك لك عشرين جنيهاً ؟ "
تناول محفظة طويلة وراح يعد المال على الطاولة ثم دفع بها إلي . ثم جلس يؤرجح محفظته وهو يراقب جو .
" جوزيف غارجري , تبدو في غاية الدهشة فعلاً . "
فقال جو بلهجة حازمة : " فعلاً . "
" تذكر بأن الاتفاق كان بأنك لا تريد شيئاً لنفسك . لكن ماذا لو كان من ضمن التعليمات لدي أن أقدم لك هدية على سبيل التعويض ؟ "
فاستوضح جو قائلاً : " تعويض على ماذا ؟ "
" على خسارة خدماته . "
وضع جو يده على كتفي برفق وقال : " إنني أرحب بانطلاقة بيب نحو العزة والثراء . إن كنت تعتقد أن المال يمكنه التعويض عن خسارتي لهذا الطفل الصغير الذي أتي إلى دكاني , وكنت معه من أفضل الأصدقاء . " ولم يستطع قول المزيد .
فقال السيد جاغرز : " والآن يا جوزيف غارجري , أنبهك إلى أنها فرصتك الأخيرة . فلا حلول وسط معي . فإن أردت أخذ الهدية التي أُذن لي بتقديمها لك , قل بصراحة وستحصل عليها . أما إن كنت تريد القول ــ " وهنا لدهشته الشديدة , توقف عن الكلام لدى تهيؤ جو لقتاله . فقال المحامي : " حسناً سيد بيب , أعتقد أنه كلما أسرعت بمغادرة المكان ـ نظراً إلى أنك ستصبح سيداً ـ لكان ذلك أفضل . ليكن في الأسبوع المقبل , وسوف يصلك في غضون ذلك عنواني مطبوعاً . فيمكنك أن تستقل عربة لدى مكتب عربات السفر في لندن , وتأتي إلي مباشرة . "
عندما غادرنا , أقفل جو الباب الأمامي , وجلسنا بقرب نار المطبخ , نحدق بإمعان في الفحم المشتعل , ولم نقل شيئاً لفترة طويلة .
كانت شقيقتي في مقعدها الوثير , وبيدي تجلس إلى جانب جو تقوم بأشغال الإبرة , فيما كنت جالساً إلى الجانب الآخر منه . قلت في النهاية : "جو,هل أخبرت بيدي؟ "
" تركت الأمر لك يا بيب . "
" أفضل لو تخبرها أنت يا جو . "
فقال جو : " لقد أصبح بيب سيداً غنياً , ليباركه الله في ثروته . "
أوقفت بيدي عملها وراحت تنظر إلي . أمسك جو بركبتيه وراح ينظر إلي أيضاً . اطلعت إليهما , وبعد لحظة توقف , هنآني بحرارة , لكن مسحة حزن كانت في تهنئتهما , وأثارت لدي بعض الامتعاض .
حاولت بيدي أن تنقل لشقيقتي فكرة عما جرى لها , لكن جهودها باءت بالفشل .
بعد يومين , ارتديت أفضل ملابسي , وذهبت إلى المدينة باكراً قدر المستطاع على أمل أن أجد المحلات مفتوحة , فقمت أولاً بزيارة محل الخياط , حيث أخذ قياسي لخياطة بعض الثياب الجديدة , وتوجهت إثر ذلك إلى صانع القبعات وصانع الأحذية ومحلات أخرى ... ثم ذهبت إلى السيد بامبلتشوك , وقد سبق له وأن زار دكان جو وسمع الأخبار , فأعد وجبة خفيفة على شرفي . تلقاني بكلتا يديه ورحب بي بحفاوة وكأننا كنا أفضل الأصدقاء . فقال بعد أن نظر إلي بإعجاب لبضعة دقائق : " إن مجرد التفكير بأنني كنت الوسيلة المتواضعة التي أدت إلى هذا,لهو مكافأة عظيمة. "
رجوت السيد بامبلتشوك أن لا يغيب عن باله أن شيئاً لا ينبغي قوله أو التلميح به في هذه الخصوص .
دعاني السيد بامبلتشوك لتناول الدجاج , وأفضل شرائح اللسانات , والنبيذ . وراح يصافحني مراراً وتكراراً . وأفضى إلي , للمرة الأولى في حياتي , أنه لطالما تحدث عني قائلاً : " إنه ليس بالفتى العادي , استمعوا جيداً , إن قدره لن يكون قدراً عادياً . "
استأذنت في النهاية مغادراً وعدت إلى المنزل .
مرت الأيام , وفي صباح الجمعة ذهبت ثانية إلى السيد بامبلتشوك لارتداء ملابسي الجديدة والقيام بزيارة الآنسة هافيشام . فتحت سارة بوكيت الباب لي واصطحبتني إلى الطابق الأعلى . كانت الآنسة هافيشام تقوم ببعض التمارين في الغرفة قرب الطاولة الطويلة , وهي تتكئ على عصاها فقالت : " سأغادر إلى لندن غداً , آنسة هافيشام . وأظن لا مانع لديك على مغادرتي . "
فقالت وهي تدير عصاها حولي , وكأنها العرابة الجنية التي بدلت حالي , تمنحني الهبة الأخيرة : " إن مظهرك أنيق . "
تمتمت قائلاً : " حظيت بثروة وافرة منذ رأيتك آخر مرة آنسة هافيشام , وإنني في غاية الامتنان لذلك , آنسة هافيشام . "
قالت وهي تنظر باغتباط إلى سارة بوكيت الحسودة : " أجل , أجل , لقد رأيت السيد جاغرز , وعلمت بالأمر يا بيب . إذن أنت ذاهب غداً ؟ "
" أجل , آنسة هافيشام . "
" وهل تبناك رجل ثري ؟ "
" أجل , آنسة هافيشام . "
" ألم يذكر اسمه ؟ "
" كلا , آنسة هافيشام . "
" وهل عين السيد جاغرز وصياً عليك ؟ "
" أجل , آنسة هافيشام . "
وتابعت تقول : " حسناً ! أمامك مستقبل يبشر بالخير , كن صالحاً ـ واعمل على أن تستحق ذلك ـ واتبع إرشادات السيد جاغرز . "
ثم نظرت إلي ونظرت إلى ساره , وقد أثار هدوء ساره , وقد أثار هدوء ساره ابتسامة قاسية على وجهها المؤرق .
" وداعاً يا بيب ـ تعلم بأن عليك الاحتفاظ دائماً باسم بيب . "
" أجل , آنسة هافيشام . "
" وداعاً يا بيب . "
مدت يدها , فانحنيت على ركبتي ولثمتها بشفتي , ثم غادرتها . رجعت إلى بامبلتشوك وخلعت ثيابي الجديدة , ثم لففتها في رزمة , وعدت إلى المنزل في ملابسي القديمة , وأنا أشعر ـ في الحقيقة ـ بمزيد من الارتياح , رغم أن لدي الرزمة أحملها .
وهاهي الأيام الستة التي كان ينبغي أن تمر ببطء , ولت بسرعة وذهبت , وراح الغد يواجهني بحزم لم أستطع مواجهته به . كان علي مغادرة قريتنا في الخامسة صباحاً , وكنت قد أخبرت جو أنني أرغب بالرحيل وحدي . طوال الليل , كانت العربات تمر في نومي المتقطع , تضل سبيلها بدلاً من التوجه إلى لندن , تجرها الكلاب مرة والقطط مرة أخرى والرجال مرة ثالثة , لكن دون أن تجرها الخيول أبداً . تملكتني رحلات فشل غريبة إلى أن بزغ الفجر وراحت الطيور تغرد . فنهضت وارتديت ملابسي , لكنني كنت أفتقر إلى العزيمة للهبوط , إلى أن نادتني بيدي تقول بأنني تأخرت .
كان الفطور سريعاً من دون نكهة . ثم قبلت شقيقتي وبيدي وعانقت جو . ثم تناولت حقيبتي الصغيرة وخرجت .
انطلقت بخطوات سريعة معتبراً أن من السهل الرحيل أكثر مما تصورت . وأخذت أصفِّر لأجعل من الرحيل غير ذي شأن . لكن القرية كانت في غاية الوداعة والهدوء , وكنت بريئاً وصغيراً للغاية هناك , فيما كان كل شيء مجهولاً وعظيماً حتى أنني انفجرت بالبكاء في تلك اللحظة . حدث ذلك عند عامود الاتجاه في طرف القرية , فوضعت يدي عليه وقلت : " وداعاً يا صديقي العزيز الغالي . "


الفصل الرابع عشر
السيد بوكيت الابن
استغرقت الرحلة من المدينة إلى العاصمة نحو خمس ساعات , وعندما وصلت إلى مكتب السيد جاغرز , أخبرني الكاتب أنه في المحكمة , وأنه ترك خبراً بأن أنتظر في غرفته . فاصطحبني إلى غرفة داخلية كانت مغمة للغاية . وبعد انتظار طويل , وصل السيد جاغرز .
اندفع نحوه الكثير من الناس , رجالاً ونساءً , كانوا ينتظرونه خارج المكتب . فخاطب اثنين من الرجال وهو يشير إليهما بأصبعه : " ليس لدي ما أقوله لكما الآن. ولا أريد أن أعرف أكثر مما أعرفه . أما بالنسبة للنتيجة , فهي مسألة حظ . لقد أخبرتكما منذ البداية أنها مسألة حظ . هل دفعتما لـ ويميك ؟ "
فقال الاثنان معاً : " أجل , سيدي . "
" حسناً , يمكنكما الذهاب . والآن لن أسمع المزيد ! "
وأشاح لهما بيده لدفعهما خلفه : " إن نطقتما بكلمة سأتخلى عن القضية . "
بدأ أحد الرجلين يقول وهو يخلع قبعته : " اعتقدنا , سيد جاغرز ـ "
فقال جاغرز : " هذا ما طلبت إليكما الامتناع عنه . اعتقدتم ! أنا الذي أعتقد أنكما , هذا يكفي . إن احتجت لكما , فأنا أعرف أني أجدكما . لا أريدكما أن تجداني , والآن لن أسمع المزيد , لن أسمع أية كلمة . "
راح الرجلان ينظران إلى بعضهما البعض فيما أشار السيد جاغرز لهما بالخروج , فخرجا بتواضع دون أن ينطقا بكلمة .
وبعد أن تعامل مع الآخرين بنفس الأسلوب ، اصطحبني أنا وصبي إلى غرفته الخاصة , حيث أخبرني بأنه علي أن أذهب إلى (( نزل برنارد )) إلى جناح السيد بوكيت الابن ، حيث م إرسال سرير لتأمين راحتي . وكان عل البقاء مع السيد بوكيت الابن حتى نهار الاثنين ، فأذهب معه نهار الاثنين لزيارة منزل والد ، لأتبين كم سيروقني . قدم لي مخصصي من المال , وبطاقات بعض أصحاب المتاجر الذين سأتعامل معهم للحصول على جميع أنواع الملابس وساءر الأشياء التي قد أحتاجها . وكان على ويميك كاتبه , مرافقتي إلى منزل السيد بوكيت .
ألقيت نظرة على السيد ويميك أثناء سيرنا , فوجدته رجلاً جافاً , قصيراً للغاية , ووجهه مربع جامد . ترائى لي أن أعزب بثيابه الرثة . وكانت له عينان لامعتان ـ صغيرتان وحادتان , وسوداوين ـ وشفتان رقيقتان واسعتان .
خاطبني قائلاً : " إذن لم تأت إلى لندن أبداً من قبل . "
قلت : " كلا , وهل هي مكان سيء ؟ "
قال : " قد تتعرض للخداع والسرقة والقتل في لندن . إنما هناك الكثير من الناس في كل مكان يتسببون لك بذلك . "
وما لبثنا أن وصلنا إلى نزل برنارد , حيث يقطن السيد هربرت بوكيت . كان مجموعة من المساكن الوضيعة المغمة قسمت شققاً , وكان كثير منها برسم الإيجار.
اصطحبني السيد ويميك فتسلقنا سلماً يؤدي إلى شقة في الطابق الأعلى . وقد كُتب على الباب (( السيد بوكيت الابن )) , وضعت رقعة على صندوق الرسائل تقول : (( عائد بعد قليل )) . تمنى السيد ويميك لي نهاراً سعيداً وغادرني . ولم تمض أكثر من نصف ساعة طويلة حتى سمعت وقع أقدام السيد هربرت على السلم . كان يحمل كيساً من ورق تحت كل إبط وسلة صغيرة من الفاكهة في إحدى يديه , وقد انقطع نفسه . قال : " السيد بيب ؟ "
فقلت السيد : " السيد بوكيت ؟ "
قال مندهشاً : " يا إلهي ! إنني آسف جداً , لكنني علمت أن هناك عربة قادمة من بلدك في منتصف النهار , فاعتبرت أنك ستأتي بها . "
وبعد جهود في معالجة الباب , انفتح أخيراً ودخلنا . فقال السيد بوكيت بعد ذلك : " اعتبر والدي أنك ربما أحببت قضاء نهار الأحد معي أكثر من قضاءه معه , وربما أحببت التجول في أرجاء لندن . إن من دواعي سروري لا ريب أن أطلعك على لندن . إن مسكننا ليس فاخراً بأية حال , إن علي أن أكسب قوتي . هذه هي غرفة نومك ،وقد تم استئجار الأثاث لهذه المناسبة ، لكنني على ثقة بأنه سيفس بالغرض."
حين وقفت أمام السيد بوكيت الابن , أصيب بدهشة وقال وهو يتراجع : " يا إلهي , إنك الفتى الذي تقاتلت معه ! "
فقلت : " وأنت الشاب الهزيل ! "
وقفنا ننظر إلى بعضنا البعض حتى انفجرنا بالضحك . فقال : " تصور كونه أنت !"
فقلت : " تصور كونه أنت ! "
قال هربرت : " لم تكن قد حظيت بثروتك حينذاك ؟ "
قلت : " كلا . "
فوافق معي : " كلا , لقد علمت أن ذلك حدث لاحقاً . أنا شخصياً كنت أفتش عن ثروة جيدة آنذاك . وأرسل الآنسة هافيشام في طلبي لترى إن كانت ستحبني . لكنها لم تستطع ـ على كل حال , فلم تفعل . ربما لو كنت ناجحاً , لتمت خطبتي على استيلا . "
" وكيف تحملت خيبة أملك ؟ "
فقال : " أفٍ ! لم أكترث كثيراً بذلك . فهي فتاة متقلبة المزاج . إنها قاسية ومتعجرفة ومزاجية حتى آخر الحدود , وقد أنشأتها الآنسة هافيشام لتثأر من جنس الرجال . "
" وما قرابتها بالآنسة هافيشام ؟ "
قال : " ليست بقربتها بل تبنتها فقط . "
" ولماذا تثأر من جنس الرجال ؟ وأي ثأر ؟ "
فقال : " عجباً يا سد بيب , ألا تعرف ؟ "
" كلا . "
" يا للعجب ! إنها قصة حقاً , وسأحتفظ بها إلى حين وقت الغداء . "
تميز هربرت بوكيت بأسلوب صريح وبسيط وجذاب للغاية . لم يتسنى لي حتى الآن اللقاء بمن يعبر لي بشكل جازم أكثر منه , في كل نظرة ونبرة صوت , عن عجزه على القيام بما هو سري ودنيء . كان لديه شيء يوحي بالأمل بشكل مدهش , وشيء يهمس لي في الوقت ذاته أنه لن يكون ناجحاً و ثرياً على الإطلاق .
أخبرته بقصتي , وشددت على أنه محظور علي السؤال عن هوية الذي أحسن إلي .
في وقت الغداء , روى لي قصة الآنسة هافيشام فقال : " كانت الآنسة هافيشام طفلة مدللة , وقد توفيت والدتها وهي لا تزال صغيرة , فلم يرد لها والدها أي طلب . كان السيد هافيشام في غاية الثراء وغاية التكبر . وكذلك كانت ابنته , لم تكن طفلته الوحيدة , بل كان لها أخ من والدها . فقد تزوج والدها مرة ثانية ـ من طاهية على ام أعتقد . "
" خلته متكبراً . "
" وكذلك كان . لقد تزوج من زوجته الثانية سراً , وقد توفيت هذه مع مرور الزمن. حينما توفيت , أخبر ابنته بما فعل , وأصبح ولده مذَّاك جزءاً من العائلة يسكن البيت الذي تعرفه . ولما شب الفتى , أصبح فاسقاً ومبذراً ـ فاسداً بالإجمال . في نهاية الأمر حرمه والده من الإرث , ولكنه ما لبث أن لان حين شارف على الموت , فترك له ثروة حسنة , لكن لي بالقدر الذي تركه للآنسة هافيشام . وراح يبذر ماله ورزح تحت ديون طائلة . ثم ظهر رجل تظاهر بحب الآنسة هافيشام , وأخذ يلاحقها عن كثب, فأحبته كثيراً . فاستغل عاطفتها وحصل منها على أموال ضخمة. كان أقرباءها فقراء ماكرين , باستثناء والدي الذي كان في فقر شديد لكنه لم يكن حسوداً ومستغلاً للظروف أو حسوداً . كان المستقل الوحيد بينهم , فحذرها من أنها تجاوزت حدودها في سبيل ذالك الرجل ,وأنها تضع نفسها تحت رحمته دون تحفظ. فاغتنمت أول فرصة تسنت لها لطرد والدي بغضب من المنزل , بحضور الرجل , ولم يرها والدي منذ ذلك الحين . لنعد إلى الرجل وننهي قصته . حدد موعد الزفاف, ووجهت الدعوة إلى ضيوف الزفاف . وحل يوم الزفاف , لكن العريس لم يحضر . بل كتب رسالة ـ "
فتابعت عنه : " تلقتها حين كانت ترتدي ثياب الزفاف ؟ عند التاسعة إلا ثلثاً ؟ "
قال هربرت : " في تلك الساعة والدقيقة بالذات . " وهو يهز رأسه , " وهو الوقت الذي أوقفت فيه جميع الساعات بعد . ولما شفيت من مرض شديد ألم بها , تركت المكان يستحيل خراباً , مثلما رأيت , ولم تعد تر ضوء النهار منذ ذلك الحين . "
سألت بعد شيء من التفكير : " هل هذه كل القصة ؟ "
" هذا كل ما أعرفه عنها . لكنني نسيت شيئاً . فهناك اعتقاد بأن الرجل منحته ثقة لا يستحقها , كان يعمل طوال الوقت بالاتفاق مع أخيها من أبيها , وأن المؤامرة هي من تدبير الاثنين , وأنهما كانا يتقاسمان الربح . "
فقلت : " أتساءل لماذا لم يتزوجها ويحصل على جميع ممتلكاتها ؟ "
" ربما كان متزوجاً من قبل . "
" وماذا حل بالرجلين ؟ "
" غرقا في مزيد من الذل والعار والخراب ــ إن كان هناك أكثر . "
" وهل هما على قيد الحياة الآن ؟ "
" لست أدري . تعلم الآن كل ما أعرفه عن الآنسة هافيشام . "
سألت هربرت في مجرى الحديث عما يكون . فأخبرني بأنه رأسمالي ــ يعمل في تأمين السفن لكن لم تكن في غرفته إشارة تدل على قضايا الشحن أو رأس المال . قال : " لن أقنع بمجرد استخدام رأسمالي في تأمين السفن . سأشتري حصصاً لا بأس بها في مجال التأمين على الحياة , وسأعمل قليلاً في مجال التعدين . أظن أنني سأتاجر مع جزر الهند الشرقية في الحرائر والشالات والبهارات والأصباغ والحرائر والعقاقير والأخشاب الثمينة . إنها تجارة شيقة . "
قلت : " وهل الأرباح كبيرة ؟ "
قال : " هائلة . " ثم قال وهو يضع إبهامه في جيب صدرته : " أظن أنني سأتاجر أيضاً مع جزر الهند الغربية في السكر والتبغ وسراب الرم , كذلك في سيلان خاصة في مجال أنياب الفيلة . "
" ستحتاج إلى سفن كثيرة . "
" أسطول كامل . "
ولشدة دهشتي حيال ضخامة هذه العمليات , سألته أين تبحر السفن التي يؤمن عليها في الوقت الحاضر , فأجاب : " لم أبدأ بالتأمين بعد . فأنا أنتبه لنفسي , وأعمل في مكتب للمحاسبة . "
" وهل مكتب المحاسبة يوفر ربحاً ؟ "
" آه , كلا , ليس لي . إنه لا يوفر لي شيئاً , وعلي الاستمرار , المهم هو أن تنتبه لنفسك . ذلك هو الشيء الأهم . ثم يحين الوقت فتجد المجال مفتوحاً أمامك . فتدخله وتبني رأسمالك ,وها أنت ! وحين تبني رأس مالك , لن يكون عليك سوء توظيفه ."
كان ذلك أشبه ما يكون بأسلوبه في القتال الذي جرى بيننا في الحديقة , يشبهه كثيراً ــ وطريقته في تحمل الفقر أيضاً جاءت توازي طريقته في تحمل الهزيمة . كان واضحاً أنه لا يملك سوى أبسط الضروريات , إذ كل ما رأيته تبين أنه أرسل على حسابي من المقهى أو من مكان آخر .
ذهبنا مساء ذلك السبت للتنزه في شوارع لندن , وذهبنا إلى المصنع بنصف التعرفة , وفي اليوم التالي ذهبنا إلى الكنيسة في وستمينستر آبي , وتمشينا مساءً في المنتزهات .
بعد ظهر الاثنين , ذهبنا إلى منزل السيد بوكيت في هامر سميث حيث تم تقديمي إلى السيد والسيدة بوكيت في حديقتهما . واصطحبني السيد بوكيت بعد ذلك إلى المنزل وأراني غرفتي . ثم قرع باب غرفتين مماثلتين ليعرفني إلى من يشغلهما , باسم بنتلي درامل وستارتوب , كان درامل ذا بنية ثقيلة ومظهر عجائزي وكان يصفر , فيما كان ستارتوب , الأصغر سناً ومظهراً , يقرأ ويمسك رأسه وكان يظن نفسه في خطر انفجاره بالمعرفة المفرطة .
بعد يومين أو ثلاث , حين استقر بي الحال في غرفتي وذهبت إلى لندن عدة مرات لطلب ما أحتاجه من أصحاب المتاجر الذين أتعامل معهم , كان لدي مع السيد بوكيت حديث مطول . كان يعرف عن مجرى حياتي المنشود أكثر مما أعرفه بالذات , فقد ذكر أن السيد جاغرز , أخبره بأنني لم أكن مقصوداً لأي مهنة , وأنه ينبغي أن أتعلم ما يكفي لأكون نظير الشاب العادي الذي ينعم بظروف ملائمة . فوافقت بالطبع , دون أن يكون لي علم بما هو عكس ذلك .
نصحني بارتياد بعض الأمكنة في لندن لأحصل على المعرفة التي أحتاج , وأفاد بأنه سيتولى إدارة جميع دروسي , لقد وضع نفسه موضع ثقتي بطريقة رائعة , ويمكنني القول في الحال أنه كان من الحماس دائماً ومن الصدق في تنفيذ اتفاقه معي , ما حملني على الحماس والصدق في تنفيذ اتفاقي معه , ولو أنه أبدى شيئاً من اللامبالاة كأستاذ , فليس لدي شك بأنني كنت فعلت الشيء ذاته كتلميذ .
سويت هذه الأمور وبدأت العمل بجدية , خطر لي بأنني لو استطعت استعادة غرفة نومي في نزل برنارد , لاختلفت حياتي بشكل أفضل , ولن يتسبب سلوكي بالإساءة إلى عشرة هربرت . لم يعارض السيد بوكيت هذا الإجراء , لكنه ألح أنه قبل اتخاذ أي خطوة , ينبغي عرضها على وصيي . وحين أفصحت عن رغبتي هذه للسيد جاغرز , وافق وأوعز إلى ويميك بأن يدفع لي عشرين جنيهاً لشراء الأثاث اللازم .


الفصل الخامس عشر
جو الطيب

صباح يوم الاثنين , تلقيت رسالة من بيدي تخبرني فيها عن عزم جو القيام بزيارتي في نزل برنارد في الصباح التالي . لم أتشوق لهذه الزيارة , ولو تسنى لي إبعاده بالمال , لفعلت ذلك لا ريب . لكنني اطمأننت حين علمت بأنه سيأتي إلى مسكني في لندن وليس إلى منزل السيد بوكيت في هامر سميث . كنت أعارض بعض الشيء أن يراه هربرت أو والده , وكلاهما كنت أكن لهما الاحترام , إنما كانت لدي حساسية حادة حيال أن يراه درامل , إذ كنت أزدريه لبلادته وحمقه وتعجرفه .
نهضت في الصباح الباكر وجعلت غرفة الجلوس والمائدة تبدوان في أبهي حلة لهما. وما لبثت أن سمعت خطوات جو على السلم .
عرفت أنه جو من طريقته الخرقاء في صعود السلم ـ فأفضل أحذيته كان كبيراً جداً على قدميه ـ ومن الوقت الذي استغرقه في قراءة الأسماء الموجودة في الطوابق الأخر أثناء صعوده . وفي النهاية , طرق الباب طرقة خفيفة ودخل .
" كيف حالك يا جو ؟ "
" كيف حالك يا بيب ؟ "
" سعيد برؤيتك يا جو , أعطني قبعتك . "
لكن جو أمسك بها بعناية بكلتا يديه , كأنها عش عصفور به بعض البيض , ولم يكن ليسمح بالتخلي عن ملكيته تلك . ثم قال : " لكم كبرت وسمنت وأصبحت سيداً ! لا ريب أنك مدعاة اعتزاز لمليكك وبلادك . "
" وأنت كذلك يا جو تبدو في أحسن أحوالك . "
فقال جو : " جمداً لله . إن شقيقتك ليست أسوأ مما كانت عليه . وبيدي دائماً على ما يرام وحاضرة لتقديم المساعدة . وكذلك جميع أصدقاءك . باستثناء ووبسيل الذي ترك الكنيسة وتحول إلى التمثيل . "
عند ذلك دخل هربرت الغرفة , فقدمت جو إليه . مد هربرت يده , لكن جو تراجع وبقي ممسكاً بقبعته .
" خادمك سيدي . رجائي أيها السادة أن تنعما بصحة وعافية في هذا المكان . لعل الرأي في لندن هو أن المكان صالح جداً , لكنني لن أبقي على خنزير فيه شخصياً ـ لن أفعل ذلك إن أردت له أن ينعم بصحة ويصبح سميناً . "
وحين دُعي للجلوس إلى الطاولة , راح ينظر إلى الغرفة ليجد مكاناً مناسباً يضع فيه قبعته , فأسندها في النهاية عند طرف بعيد في رف الموقد , حيث راحت بعد ذلك تسقط بعد حين وآخر .
سأله هربرت الذي كان دائماً يتولى الإشراف على الفطور : " هل تتناول الشاي أم القهوة , سيد غارجري ؟ "
فقال جو وقد تصلب من الرأس حتى القدمين : " شكراً سيدي . سأتناول ما يطيب لك . "
" ما رأيك بالقهوة ؟ "
أجاب جو فيما اتضح أنه لم يُعجب بالفكرة : " شكراً سيدي . بما أنك تفضلت واخترت القهوة , فلن أعاكس اختيارك . لكن ألا تجد القهوة حامية قليلاً ؟ "
قال هربرت وهو يصب القهوة : " إذن , تتناول الشاي . "
هنا تدحرجت قبعة جو من على الموقد , فهرع من كرسيه والتقطها , ثم وضعها في نفس المكان . أما بالنسبة لياقة معطفه وياقة قميصه , فكانتا تحيران من يفر بهما . ترى لماذا ينبغي على المرء أن يضغط نفسه إلى هذا الحد ليتصور بأنه أنيق الملبس؟ولماذا عليه الافتراض أن الضرورة تقتضي أن يعاني بسبب ملابس العطلة؟
وما لبث جو أن غرق في نوبات من التأمل وهو يمسك بشوكته بين صحنه وفمه , ثم سعل سعالاً ملفتاً للنظر وابتعد عن الطاولة , وصار يسقط أكثر مما يأكل , حتى سررت من صميم قلبي حين تركنا هربرت ليذهب إلى الوسط التجاري .
لم يكن لدي الإحساس السليم ولا الشعور المناسب لأدرك أن ذلك كان خطأي , وأنني لو كنت أخف وطأة مع جو , لكان جو أخف وطأة معي . فشعرت بنفاذ الصبر والغيض تجاهه .
بدأ جو يقول : " بما أننا بمفردنا الآن , سيدي ــ "
فقاطعته قائلاً : " جو , كيف تدعوني سيداً ؟ "
رمقني لبرهة وجيزة بنظرة توحي بما يشبه الخزي والهوان . ثم تابع يقول : " بما أننا بمفردنا الآن , سأذكر سبب زيارتنا . كنت في النزل ذات مساء حين جاء بامبلتشوك وأخبرني أن الآنسة هافيشام ترغب في محادثتي . فذهبت في اليوم التالي وقابلتها . سألتني إن كنت على اتصال معك , وحين أجبتها بأنني كنت كذلك , طلبت إلي إعلامك بأن استيلا عادت إلى المنزل وأنها ستسر بلقائك . انتهى حديثي الآن يا سيدي . "
وقال وهو ينهض من كرسيه : " كذلك يا بيب , أتمنى لك أن تكون في سعادة دائمة وأن تنعم بازدهار دائم نحو أرقى المراتب . "
" لكنك لست ذاهب الآن يا جو . "
قال : " بلى , إنني ذاهب . "
" لكنك ستعود للغداء يا جو ؟ "
فقال : " كلا , لن أعود . "
تلاقت نظراتنا وتلاشت أصداء كلمة (( سيد )) من ذلك القلب الشريف حين مد لي يده مصافحاً . ثم قال : " بيب , أيها الصديق العزيز . إنني في غير منظري في هذه الملابس , وفي خارج مكاني خارج دكان الحدادة والمطبخ أو بعيداً عن المستنقعات. إنك لن تجد نصف أخطائي لو فكرت بي وأنا في ملابس العمل , أحمل المطرقة أو حتى الغليون في يدي . لن تجد نصف هذه الأخطاء بشخصي لو رغبت بلقائي , فجئت تطل برأسك من نافذة الدكان لترى جو الحداد هناك , أمام السندان القديم , في مريوله البالي المحترق , يلازم عمله القديم . ليباركك الله , يا عزيزي بيب , ليباركك الله ! "
شعرت لديه بكرامة ساذجة , فلمسني بلطف على جبهتي وخرج , وما أن تمالكت نفسي كفاية , حتى أسرعت وراءه ورحت أبحث عنه في الشوارع المجاورة , لكنه توارى عن النظر .


الفصل السادس عشر
استيلا الفاتنة
استقليت عربة بعد الظهر إلى المدينة . ووصلت هناك في وقت متأخر من المساء . فنزلت في ال (( بلو بور )) لتمضية الليل , ونهضت في الصباح الباكر لزيارة الآنسة هافيشام . كان الوقت ما زال باكراً على القيام بأي زيارة , فأخذت أتسكع في المدينة وأنا أفكر في مولاتي وأرسم صوراً رائعة لخططها التي تضعها من أجلي . لقد تبنت استيلا , وتبنتني أنا أيضاً , ولا بد أن تكون نيتها تربيتنا معاً . كانت تريد مني إحياء المنزل المهجور , وإدخال نور الشمس إلى الغرفة المظلمة , وإدارة الساعات وإشعال المواقد الباردة ـ وبعبارة موجزة , القيام بالأعمال الرائعة التي بقوم بها الفارس الشاب في القصص الخيالية , وأتزوج الأميرة .
نظمت خطواتي كي أصل إلى المنزل في وقتي المعهود . وحين قرعت الجرس , فتح الباب شخص هو آخر من كنت أتوقع أن أراه هناك . (( أورليك )) !
" آه , سيدي الصغير , فهناك تغيرات أكثر مما لديك . لكن أدخل , أدخل . سأخالف التعليمات لو أبقيت البوابة مفتوحة . "
دخلت , فأقفل البوابة وسحب المفتاح .
" كيف جئت إلى هنا ؟ "
فأجاب : " جئت على قدمي . "
" هل أنت هنا على الدوام ( أم بنية حسنة ) ؟ "
" لا أعتقد أنني هنا بقصد الأذى , سيدي الصغير . "
لم أكن متيقناً من ذلك . اتجهت إلى الممر الطويل ولقيت ساره بوكيت التي اصطحبتني إلى غرفة الآنسة هافيشام . قالت هذه : " أدخل يا بيب . "
كانت تجلس في كرسيها قرب الطاولة القديمة بثوبها القديم , ويداها فوق عصاها . كانت تجلس بالقرب منها سيدة أنيقة لم يسبق لي أن رأيتها . كررت الآنسة هافيشام تقول : " أدخل يا بيب , كيف حالك يا بيب ؟ إنك تقبل يدي وكأنني ملكة , ايه ؟ حسناً ؟ "
قلت : " بلغني , آنسة هافيشام , أنك تكرمت باستدعائي لمقابلتك , فأتيت مباشرة . "
رفعت السيدة الأخرى عينيها ونظرت إلي بغرور , فوجدت العينين هما عيني استيلا .
لكنها تغيرت كثيراً وباتت أكثر جمالاً وأنوثة بكثير , وأحرزت تقدماً رائعاً حتى بدوت وكأنني لم أتقدم بعد . وتخيل لي وأنا أنظر إليها بأنني عدت ذلك الفتى العامي الخشن ثانية .
مدت لي يدها , فتمتمت كلاماً عن السرور الذي حل بي برؤيتها من جديد , وأنه طالما غمرني الشوق للقائها .
قالت الآنسة هافيشام بنظرتها الجشعة : " هل تجدها تغيرت كثيراً يا بيب ؟ "
" عندما دخلت يا آنسة هافيشام ,لم يتراءى لي شيء من الشكل أو الوجه من استيلا, لكن من المؤكد الآن بما يلفت النظر أنها ... السالفة . "
قاطعتني الآنسة هافيشام متسائلة : " ماذا ؟ لن تقول أنها استيلا المعروفة ؟ "
ثم تابعت تقول : " كانت متكبرة ومهينة , وأردت الابتعاد عنها . ألا تذكر ؟ "
فقلت بارتباك أن ذلك كان منذ زمن بعيد , وأنني لم أعرف حينذاك أفضل منها أو مثلها . ابتسمت استيلا بهدوء تام وقالت أنها لا تشك بأنني كنت مصيباً وأنها كانت مزعجة للغاية . ثم سألتها الآنسة هافيشام : " هل تغير ؟ "
قالت استيلا وهي تنظر إلي : " كثيراً جداً . "
قالت الآنسة هافيشام وهي تداعب شعر استيلا: " وهل أصبح أقل خشونة وعامية ؟"
ضحكت استيلا ونظرت إلي . كانت ما زالت تعاملني معاملة الفتى , لكنها مضت في إغرائي .
وتم الاتفاق على أن أمضي بقية النهار هناك , وأعود من ثم إلى الفندق ليلاً , وإلى لندن في النهار التالي . بعد أن تحدثنا بعض الوقت , صرفتنا الآنسة هافيشام لنتمشى سوياً في الحديقة المهملة . وفيما اقتربنا من المكان الذي تقاتلت فيه مع الشاب الهزيل ,توقفت وقالت : " لابد أنني كنت طفلة غريبة لأختبئ وأشاهد القتال حينذاك, لكنني فعلت ذلك واستمتعت به كثيراً . "
عند ذلك أخبرتها أننا الآن صديقان حميمان .
" حقا ! أظن أني أذكر بأنك كنت تقرأ مع والده . "
قلت مكرهاً : " أجل . " , لأن ذلك بدا وكأنه يجعل مني صبياً .
كانت الحديقة كثيفة بشكل يحول دون السير بسهولة , وبعدما طفنا حولها مرتين أو ثلاثة , خرجنا ثانية إلى مصنع الجعة , فذكرتها حين خرجت من البيت وأعطتني بعض اللحم والشراب , فقالت : " لا أذكر . "
فقلت : " ألا تذكرين أنكي دفعتني للبكاء ؟ "
قالت : " كلا . " وهي تهز برأسها وتنظر حولها .
أظن أن عدم تذكرها وعدم اكتراثها أبداً حملاني على البكاء ثانية , بيني وبين نفسي ـ وهذا أشد البكاء إيلاماً .
قالت : " يجب عليك أن تعرف بأن لا قلب ولا تعاطف ولا مشاعر . "
سمحت لنفسي بأن أشك في ذلك , وقلت بأنه يستحيل وجود مثل هذا الجمال من دون قلب .
قالت : " إني جادة , فإن كنا سنترك سوية كثيراً , عليك تصديق ذلك في الحال . لنتمشى حول الحديقة مرة أخرى , ثم ندخل . تعال ! ليس عليك أن تذرف الدمع لقسوتي اليوم ؛ بل ستعتني بي وتدعني أستند إلى كتفك . "
أمسكت بفستانها الأنيق بيد , ولامست بالأخرى كتفي ونحن نسير . طفنا في الحديقة الخربة مرتين أو ثلاث , وبدت لناظري مزدانة بالزهور والورود .
عدنا في النهاية إلى المنزل حيث علمت أن وصيّي قد جاء ليقابل الآنسة هافيشام بزيارة عمل وأنه سيعود للغداء . كانت الآنسة هافيشام جالسة في كرسيها تنتظرني, وحين ذهبت استيلا لتحضير نفسها للغداء وغدونا وحدنا , التفتت نحوي وقالت بهمس : " هل هي رشيقة وجميلة وناضجة ؟ وهل أنت معجب بها ؟ "
" كل من يراها لابد أن يعجب بها , آنسة هافيشام . "
وضعت ذراعها حول عنقي وجذبت رأسي نحو رأسها وهي تجلس في الكرسي , وقالت : " أحبها , أحبها , أحبها ! كيف تعاملك . "
قبل أن أتمكن من الإجابة ( هذا إن تمكنت من الإجابة على سؤال صعب كهذا ) رددت قائلة : " أحبها , أحبها , أحبها ! إن كانت ستستحسنك , فأحببها . إن جرحتك أحببها , إن حطمت قلبك أشلاءً , أحببها , أحببها , أحببها ! اسمعني يا بيب , لقد تبنيتها لتحظى بالحب . ربيتها وعلمتها لتحظى بالحب , فأحببها , سأخبرك ما هو الحب الحقيقي , إنه التضحية العمياء , والخضوع التام والثقة والإيمان بنفسك , وبالعالم أجمع , فتمنح قلبك وروحك جميعاً إلى من تحب ـ مثلما فعلت أنا . "
بعدما قالت كلمتها الأخيرة , أطلقت صيحة جامحة , ونهضت من كرسيها ثم راحت تضرب في الهواء , كأنما تريد أن تضرب بنفسها إلى الحائط لتقع جثة هامدة . لكنها ما لبثت أن تمالكت نفسها بلمح البصر , إذ ذاك دخل السيد جاغرز للغرفة . وبعد حديث وجيز مع الآنسة هافيشام , اصطحبني للخارج لنتناول الغداء مع استيلا والآنسة ساره بوكيت . بقيت الآنسة هافيشام جالسة في كرسيها , إذ لم تكن تتناول الطعام أو الشراب مع الآخرين . أكلنا حتى الشبع , وبعد الغداء وُضعت قنينة من نبيذ البورت الأصيل أمام وصيي , ثم تركتنا السيدتان .
لم يسبق لي أن رأيت أحداً في المنزل يساوي السيد جاغرز في قدرته على التكتم . إذ ظل يحافظ على نظراته وقلما أشاح ببصره إلى وجه استيلا أثناء الغداء . وحين أصبحنا بمفردنا , جعلني أشعر بتضايق شديد , وكان كلما رآني أوشك على سؤاله شيئاً , ينظر إلي فيما يحمل كأسه بيده ويحرك الشراب بفمه وكأنه يطلب إلي أخذ العلم بأن ذلك لا يجدي نفعاً لأنه لا يستطيع الإجابة .
صعدنا بعد ذلك إلى غرفة الآنسة هافيشام ولعبنا الورق .
في غضون ذلك الوقت , كانت الآنسة هافيشام قد وضعت أجمل الحلي من طاولة تزيينها على شعر استيلا وحول عنقها وذراعيها , ورأيت أن حتى وصيي راح ينظر إليها من تحت حاجبيه الكثيفين بعدما بدا جمالها أمامه .
لعبنا حتى الساعة التاسعة , ثم اتفقنا على أن يصار إلى إبلاغي مسبقاً عن مجيء استيلا إلى لندن , فأقابلها عند العربة . بعد ذلك استأذنتها بالانصراف وعدت أدراجي إلى المنزل .
في وقت متأخر من الليل , راحت كلمات الآنسة هافيشام تتردد في أذني : " أحببها, أحببها , أحببها . " فعدلت فيها ورحت مخاطباً وسادتي : " أحبها , أحبها , أحبها ." مئا المرات . ثم غمرني شعور بالامتنان في أنها ستكون من نصيبي , أنا الذي كنت مساعد الحداد ذات يوم . ثم تساءلت متى يا ترى ستبدأ بالإعجاب بي , ومتى ينبغي أن أوقظ القلب الذي في صدرها , وهو الآن في سبات ؟
اعتبرت تلك عواطف سامية ونبيلة . لكنني لم أتصور أبداً أن هناك من الحقارة والدناءة في ابتعادي عن جو لعلمي بأنها ستحتقره . ففي اليوم السابق فقط حملني جو على البكاء , لكن دموعي ما لبثت أن جفت , فليغفر لي الله ! لقد جفت بسرعة .


الفصل السابع عشر
حديث الأصدقاء

في الصباح التالي , أخبرت وصيي الذي كان يقيم معي في (( البلو بور )) بأنني لا أظن أن أورليك هو الشخص الملائم للعمل لدى الآنسة هافيشام , وأخبرته بما أعرفه عنه . فقال : " عظيم يا بيب , سأذهب هناك في الحال وأصرفه . "
لدى عودتي إلى حانة برنارد , وجدت هربرت يتناول غداء من اللحم البارد , وكان فرحاً في لقائي مجدداً . وبعد أن بعثت الولد الخادم إلى المقهى لإحضار المزيد من الطعام , شعرت بأن علي إخبار صديقي بسري ذلك المساء بالذات . بدأت حديثي قائلاً : " عزيزي هربرت , لدي شيء خاص جداً أخبرك به . "
أجاب : " عزيزي هاندل ( كان يحب تسميتي هاندل ) , ستكون ثقتك محط نقديري واحترامي . "
فقلت : " إنه يتعلق بي يا هربرت وبشخص آخر . "
وضع هربرت رجلاً فوق أخرى وراح ينظر إلى النار وقد أمال برأسه جانباً , وبعد أن تطلع إلى النار عبثاً لبعض الوقت , نظر إلي لأنني لم أتابع الكلام .
قلت وأنا أضع يدي فوق ركبته : " هربرت , أنا أحب , أنا أهيم بـ(( استيلا )) . "
أجاب هربرت بطريقة بسيطة متوقعة : " هذا صحيح , حسناً . "
" حسناً يا هربرت , أهذا كل ما تقوله , حسناً ؟ "
فقال : " أقصد ماذا بعد , إني أعرف ذلك طبعاً . "
قلت : " وكيف تعرف ذلك ؟ "
" كيف أعرف ذلك يا هاندل ؟ أعرفه منك بالطبع . "
" لم أخبرك أبداً . "
" تخبرني ! لم تخبرني أبداً حين تقص شعرك , إنما لدي الوعي لملاحظة ذلك . كنت دائماً تهيم بها , منذ عرفتك . لقد أحضرت هيامك بها وحقيبتك معاً . تخبرني ! بل كنت دائماً تخبرني طيلة النهار . حين أخبرتني بقصتك كلها , فقد أعلمتني بوضوح أنك بدأت تهيم بها منذ أن رأيتها , حين كنت صغيراً جداً بالفعل . "
قلت : " حسناً , إذن لم أتخل عن ولعي بها . لقد عادت , وهي أكثر جمالاً وأناقة . لقد رأيتها البارحة , ولئن كنت أعبدها من قبل , فإني أعبدها أضعافاً الآن . "
فقال هربرت : " فهذا من حسن حظك يا هاندل , فقد تم اختيارك وصرت نصيبها . لكن هل لديك فكرة عن وجهة نظرة استيلا حول الموضوع ؟ "
" آه ! إنها على بعد آلاف الأميال عني . "
" صبراً يا عزيزي هاندل : متسع مكن الوقت , متسع من الوقت . ألديك المزيد لتقوله ؟ "
أجبت : " أخشى أن أقوله , ولكن قوله ليس بأسوأ من التفكير به . أنت تدعوني إنساناً محظوظاً . طبعاً , فأنا كذلك . لم أكن بالأمس سوى مساعد حداد . ولم أفعل شيئاً لأنهض بنفسي في الحياة . بل الحظ وحده رمقني ومع ذلك , فحين أفكر باستيلا , لا يسعني أن أصف لك كم أشعر بالضعف والغموض , وكم أتعرض لمئات الصدف . إن كل آمالي تعتمد على شخص واحد , وكم هي واهية وغامضة هذه الآمال . "
أجاب هربرت : " ألم تخبرني أن وصيك السيد جاغرز قد أعلمك منذ البداية إنك لم تمنح الآمال فقط ؟ حتى وإن لم يخبرك بذلك , ألا تعتقد أن السيد جاغرز ـ من بين سائر الرجال في لندن ـ هو الذي سيحتفظ بعلاقاته المالية تجاهك , إلى أن يتأكد من مركزه ؟ "
قلت بأنه لا يسعني الإنكار بأن هذه نقطة مهمة .
فقال هربرت : " أظن أنها نقطة مهمة , أما بالنسبة للباقي , فينبغي أن تمنح وصيك بعض الوقت , وعليه كذلك أن يمنح موكله بعض الوقت , ستبلغ الواحدة والعشرين قبل أن تعرف أين أنت , ولعلك تحصل إذ ذاك على بعض المعلومات . والآن أود إزعاجك بعض الشيء للحظة . لقد كنت أعتقد أنه لا يمكن لاستيلا أن تكون شرطاً لميراثك , إن لم يذكر وصيك ذلك . ألم يشر المحسن إليك مثلاً أن لديه بعض الأفكار بشأن زواجك ؟ "
" أبداً . "
" إذاً يا هاندل , بما أنك لم تُخطب لها , ألا تستطيع الابتعاد عنها ؟ "
" لا أستطيع ذلك يا هربرت . "
" ألا تستطيع الابتعاد عنها ؟ "
" كلا , مستحيل . "
فقال هربرت : " حسناً , سأحاول الآن أن أكون لطيفاً من جديد . " ثم أخبرني عن عائلته , وعن نفسه بشكل خاص . لقد كان مخطوباً لفتاة تدعى كلارا , تعيش في لندن , وكان والدها عاجزاً يلازم غرفته على الدوام ويتسبب فيها بمشاجرات عنيفة .
أخبرني هربرت أنه منذ أن بدأ يجني المال , كان ينوي الزواج من تلك الفتاة , وأضاف قائلاً : " لكن تعلم أنك لا تستطيع الزواج حين ما تزال تخطط لأمورك . "


الفصل الثامن عشر
إلى ريتشموند بصحبة استيلا
في ذات يوم تلقيت رسالة بالبريد , أثار مجرد غلافها الخارجي نشوة عظيمة في نفسي , إذ أنه لم يسبق لي أن رأيت الخط الذي كتيت به , فقد تعرفت على صاحب الخط . تقول الرسالة :
(( يُفترض حضوري إلى لندن بعد يوم غد بعربة الظهر . أعتقد بأنه تم الاتفاق بأن تحضر للقائي . على كل حال , هذا ما تراه الآنسة هافيشام , وأكتب رسالتي تقيداً بذلك . إنها ترسل لها تحياتك ــ
المخلصة : استيلا . ))
لو كان لدي الوقت الكافي , لأوصيت على بضع بدلات لهذه المناسبة , لكن بما أن الوقت ضيق , فلابد بأن أقتنع بما لدي . تلاشت شهيتي في الحال , ولم يهدأ لي بال إلى أن حل ذلك النهار , ولم يهدأ لي بال حينذاك , إذ رحت أتردد على مكتب العربات حتى قبل أن تغادر العربة (( البلو بور )) في بلدتنا .
ووصلت النافذة أخيراً ورأيت وجه استيلا ورأيت يدها تلوح لي .
بدت استيلا في ثياب السفر أكثر جمالاً ورقة مما كانت عليه في السابق حتى بالنسبة لعيني . كان تصرفها أكثر جاذبية مما سبق لها أن اكترثت بإظهاره نحوي , فاعتقدت أني كنت أشهد تأثير الآنسة هافيشام في ذدد التغيير .
وقفنا في باحة النزل وأشارت لي إلى حقائبها , وحين تم استلامها جميعاً تذكرت ـ بعدما نسيت كل شيء في غضون ذلك ما عداها ـ فأنني أجهل المكان الذي تقصده . فقالت لي : " إني ذاهبة إلى ريتشموند , والمسافة هي عشرة أميال . علي أن أستقل عربة , وعليك بمرافقتي . هذه محفظتي , وعليك دفع الأجور منها . أوه , لابد أن تأخذ المحفظة . ليس لدينا خيار أنا وأنت سوى التقيد بالتعليمات . "
" علينا أن نرسل بطلب عربة يا استيلا , هلّا ترتاحين قليلاً هنا ؟ "
" بلى , علي أن أرتاح هنا , وأن أتناول بعض الشاي , وعليك الاهتمام بي في هذه الأثناء . "
تأبَّطت ذراعي وكأن ذلك كان هو المفروض , وطلبت من خادم كان يحدق بالعربة كرجل لم يسبق أن رأى مثل ذلك الشيء في حياته , أن يقودنا إلى غرفة جلوس خاصة . فأرشدنا إلى غرفة في الطابق الأعلى , وطلبت الشاي لاستيلا . سألتها : " إلى أين أنت ذاهبة في ريتشموند ؟ "
قالت : " سأسكن لقاء نفقة كبيرة مع امرأة تدعى السيدة براندلي , وهي تستطيع اصطحابي هنا وهناك , والعمل على تقديمي وتعريف الناس علي وتعريفي عليهم ."
" أظنك ستسعدين بالتغير والإعجاب . "
" أجل , أعتقد ذلك , هلأنت سعيد مع السيد بوكيت ؟ "
" أعيش هناك بسرور , على الأقل بسرور كأي مكان أكون فيه بعيداً عنك . "
فقالت بهدوء : " أيها الأحمق , كيف تنطق بمثل هذه التفاهات ؟ صديقك السيد ماثيو باعتقادي أفضل من باقي عائلته . "
" بلغني أنه بالفعل من أصحاب الإيثار , وأسمى من الحسد الوضيع والكراهية . "
" يقيني بأن لدي كل سبب يحمل على هذا القول . "
قالت : " وليس لديك كل سبب لقول ذلك عن باقي قومه , فهم دائماً ما يرسلون تقارير ليست في مصلحتك إلى الآنسة هافيشام . وقلما تستطيع إدراك مدى الكراهية التي يضمرها هؤلاء القوم حيالك . "
" آمل ألا يتسببوا لي بالضرر . "
انفجرت استيلا بالضحك بدلاً من أن تجيب , وقالت : " كلا , كلا , كن على يقين من ذلك . تأكد بأنني أضحك لأنهم يفشلون . يا لهؤلاء القوم ويا للعذاب الذي يتذوقونه ! "
ضحكت ثانية , وقد بدا أن ضحكتها لا تنسجم مع الموقف , فتبادر إلي أنه بالفعل هناك ما يتجاوز حدود معرفتي بالأمور . وأضافت تقول : " كن مطمئناً بأن هؤلاء القوم لم ولن يُضعِفوا من مركزك لدى الآنسة هافيشام حتى بعد مائة عام . وإضافة إلى ذلك , فإنني مدينة لك لأنك السبب بانهماكهم وبعدم جدوى حقارتهم , وهاك يدي عربوناً لذلك . "
حين مدت لي يدها بدلال , أمسكت لها ووضعتها على شفتي . فقالت : " أيها الفتى السخيف , ألا تأخذ بالتحذير ؟ أم أنك تقبل يدي بذات الروح التي سمحت لك بها مرة تقبيل خدي ؟ "
قلت : " أي روح كانت تلك ؟ "
" علي التفكير للحظة . روح الازدراء بالمتآمرين . "
" إن قلت نعم , فهل لي أن أقبل خدك ثانية ؟ "
كان عليك السؤال في أن تلمس اليد . لكن نعم , إن كنت ترغب في ذلك . "
انحنيت وكان وجهها الهادئ كتمثال , فقالت وهي تنسل مبتعدة فور لمسي خدها : " والآن عليك الاهتمام بتناولي الشاي , وعليك مرافقتي إلى ريتشموند . "
قرعت الجرس لطلب الشاي , وبعد أن أتى الشاي وتم تناوله ودفع الحساب , صعدنا العربة وانطلقنا بعيداً . وحين مررنا بهامر سميث , أشرت ها أين يعيش السيد بوكيت , وقلت أنه لا يبتعد كثيراً عن ريتشموند , وبأنني آمل لقاءها من حين لآخر .
" أوه , بلى , يجب أن تراني , وأن تأتي جين تجد الوقت مناسباً . يجب أن يجري ذكرك لدى العائلة ؛ في الواقع فقد تم ذكرك هناك . "
وصلنا ريتشموند أسرع مما كان متوقعاً , وكان المكان الذي نقصده منزلاً قديماً لا بأس به , فظهرت عند الباب حين قرعت الجرس خادمتان جاءتا لاستقبال استيلا . أعطتني يدها بابتسامة , وتمنت لي ليلة سعيدة ثم توارت في الداخل . مكثن أحدق للمنزل وأنا أفكر بالسعادة التي سأنعم بها لو أنني أعيش معها هناك , وأنا مدرك بأنني لم أسعد معها أبداً , بل كنت في تعاسة دائمة .




الفصل التاسع عشر
الهوامش المالية

فيما اعتدت على الآمال لدي بدأت أشعر بتأثيرها النفسي على نفسي وعلى الذين من حولي , فعشت في حال من القلق المستمر حيال تصرفي مع جو , ولم يكن ضميري مرتاحاً تجاه بيدي . وحين كنت أستيقظ في الليل , كنت أفكر بنفس كئيبة بأنني ربما كنت أكثر سعادة لو أنني لم أتعرف إلى وجه الآنسة هافيشام , وبلغت الرجولة قانعاً بكوني شريك جو ف دكانه القديم المتواضع .
لم يكن مركزي الجديد بذي فائدة لهربرت . فقد دفعه تبذيري لمصاريف فاقت قدرته , وأفسد البساطة في حياته , وأصاب طمأنينته بالقلق والندم .
وبدأت أغرق بالدين , وسرعان ما لحق بي هربرت . كان بودي أن أتحمل مصاريف هربرت , لكن هربرت كان معتداً بنفسه , فلم أستطع التقدم إليه بمثل هذا الإقتراح . وهكذا غرق بالمصاعب من كل حدب وصوب , وبقي ينتبه لنفسه .
كان في كل صباح يذهب إلى الوسط التجاري , وغالباً ما كنت أزوره في مكتبه لكنني لا أذكر أني رأيته مرة يفعل شيئاً سوى النظر حوله . فكنت أقول له أحياناً : " يا عزيزي هربرت , إن وضعنا سيء . "
" يا عزيزي هاندل , لئن صدقتني , فقد كنت على وشك النطق بهذه الكلمات . "
وكنت أقول : " إذن لنمعن النظر في أمورنا . "
كنا نشعر دائماً بمتعة بالغة عن تحديد موعد لهذا الغرض . فنطلب وجبة خاصة على الغداء مع زجاجة نبيذ غالية لشحذ الفكر لتلك المناسبة . وبعد الغداء , نأتي بالأقلام والورق . فأتناول ورقة وأكتب في أعلاها : " مذكرة بديون بيب . " كذلك كان هربرت يتناول ورقة ويكتب عليها : " مذكرة بديون هبرت . " ثم يرجع كل منا إلى كومة أوراق بجانبه , سبق أن ألقيت في الأدراج , أو استحالت نتفاً في الجيوب , أو أصابها بعض الإحتراق من الشموع , أو ألصقت إلى المرآة طوال الأسبوع , أو لعلها أتلفت بشكل أو بآخر . فكان صرير الأقلام يبعث فينا أثناء الكتابة كثيراً من الانتعاش حتى أنه كان يصعب أحياناً التفريق بين القيام بهذا العمل وتسديد المال بالفعل .
وبعد أن نكتب لبعض الوقت , كنت أسأل هربرت كيف تسير معه الأمور , فيقول : " إنها تتصاعد يا هاندل , لعمري إنها تتصاعد . "
فأجيب : " كن حازماً يا هربرت , واجه الأمر ودقق في شؤونك . "
وتكون لأسلوبي الجازم نتائجه , فينكب هربرت على العمل من جديد , ثم يستسلم بعد فترة , مبرراً بأن بعض الفواتير قد فقدت .
" إذن قدرها يا هربرت , قدرها بأرقام مدورة وسجلها . "
فيجيب صديقي بأعجاب : " يا لك من إنسان بارع , فلديك في مجال الأعمال قدرات رائعة حقاً ! "
اعتقدت ذلك أيضاً , واعتبرت نفسي في تلك المناسبات رجل أعمال من الدرجة الأولى : حازم , حاسم , واضح وهادئ المزاج .
ومن إحدى عوائدي في العمل ما كنت أدعوه " تخصيص هامش " . فلو افترضنا مثلاً أن ديون هربرت هي مائة وأربعة وستون جنيهاً .
أقول : " أُترك هامشاً وسجلها مئتين . " . أو لنفترض أن ديوني هي أربعة أضعاف ذلك, فإنني أترك هامشاً وأسجلها سبعمئة . كنت شديد الإيمان بالحكمة من هذا الهامش , لكن لابد لي من الاتعراف من أنها طريقة مكلفة . إذ سرعان ما نعرف بديون جديدة تغطي الهامش بأكمله وتتجاوز حدودها لتدخل في حيز هامش آخر .
إنما كان يسودنا شعور بالسكينة والإرتياح نتيجة التدقيق بأحوالنا , وهو ما عززني آنذاك بموقف من الإعجاب بالنفس . ذات مساء كنت في حالة السكينة هذه حين وصلتني رسالة من بيدي تعلمني فيها عن وفاة شقيقتي وتطلب إلي حضور الدفن نهار الاثنين التالي .
يندر أن أتذكر شقيقتي بحنان كثير , لكن حسبي أن هناك صدمة من الندم , بغياب مشاعر الحنان . وبتأثير ذلك , امتلكني غيظ شديد من المهاجم الذي عانت الكثير بسببه , وشعرت بأنه لو كان لدي الدليل الكافي , لكنت طاردت أورليك , أو أي إنساناً آخر , إلى آخر الدنيا انتقاماً .
كتبت إلى جو معزياً , وحين حل النهار استقليت عربة إلى قريتي وسرت باتجاه دكان الحدادة .
بعد انتهاء مراسم الدفن , تناولت غداء بارداً مع جو وبيدي . وقد سُر جو كثيراً حين سألت إن كان بوسعي أن أنام في غرفتي الصغيرة . وفيما بدأت تقترب بداية الظلمة , اغتنمت فرصة للخروج إلى الحديقة مع بيدي في نزهة قصيرة . قلت لها : " أظن أن من الصعب عليك البقاء هنا يا عزيزتي بيدي . "
فقالت بلهجة أسف :" أوه , لا يمكنني ذلك يا سيد بيب . لقد كنت أتحدث إلى السيدة هابل, وسأذهب إليها في الغد . آمل أن تستطيع الاهتمام بالسيد غارجري , سوياً إلى أن يستقر . "
" وكيف ستعيشين يا بيدي ؟ إن كنت بحاجة إلى المال ــ "
" كيف سأعيش ؟ سأخبرك يا سيد بيب . سأحاول الحصول على وظيفة معلمة في المدرسة الجديدة المنجزة تقريباً هنا , لقد تعلمت منك الكثير يا سيد بيب ؛ وكان لدي الوقت للتقدم منذ ذلك الحين . "
" أعتقد أنك ستتحسنين دائماً يا بيدي , وفي كافة الظروف . "
ثم أخبرتني بتفاصيل وفاة شقيقتي . إذ ظلت في إحدى حالاتها السيئة أربعة أيام , وحين خرجت منها في المساء , قالت (( جو )) بوضوح . فاستدعي جو من الدكان وأشارت إليه بأنها تريد أن يجلس بالقرب منها , ثم ألقت برأسها على كتفه بارتياح ورضى . وقالت (( جو )) ثانية و (( سامح )) , ومرة (( بيب )) . ولم ترفع رأسها بعد ذلك , وبعد ساعة كانت قد فارقت الحياة .
" ألم يُكتشف شيء يا بيدي ؟ "
" لا شيء . "
" هل تعلمين ماذا حل بأورليك ؟ "
" أعتقد من لون ملابسه أنه يعمل في مقالع الحجارة . "
ثم أخبرتني أنه ما زال يحاول إيقاعها في حبه , الأمر الذي أثار غضبي الشديد , كان علي الذهاب في الصباح الباكر . وفي الصباح الباكر , كنت في الخارج أنظر خلسة من إحدى نوافذ دكان الحدادة . وقفت هناك بضع دقائق , أتطلع إلى جو وقد باشر عمله , فيما وهج الصحة والقوة بادٍ على محياه .
" وداعاً يا عزيزي جو ! كلا , لا تمسحها ـ بالله عليك , أعطني يدك المسودة ! سأعود ثانية ومرات عديدة . "
فقال جو : " ليس عاجلاً يا سيدي , وليس دائماً يا بيب . "




الفصل العشرون
الوجه المشرق

انتقلت مع هربرت من سيء إلى أسوأ بويادة ديوننا والبحث في شؤوننا ، ووضع الهوامش ، وما شابه ذلك ، ومع مرور الوقت بلغت سن الحادية والعشرين . وقبل بلوغي الحادية والعشرين بيوم واحد , تلقيت مذكرة رسمية من ويميك يعلمني فيها أن السيد جاغرز سيكون سعيداً إن قمت بزيارته في الخامسة من بعد ظهر اليوم التالي .
حين وصلت المكتب , هنأني ويميك وأومأ لي برأسه للدخول إلى غرفة وصيي .
صافحني السيد جاغرز وهو يخاطبني بالسيد بيب وقدم لي تهانيه . ثم سألني عن أحوال معيشتي , فلم أستطع الإجابة على ذلك السؤال .
سألته إن كنت سأتعرف على هوية المحسن إلي ذلك النهار . فأجابني بالنفي , ثم قال إنه على علم بأنني مدين , فقدم لي ورقة نقدية بقيمة خمسمئة جنيه , وأضاف بأنني سأحصل على نفس المبلغ سوياً , وأن علي أن أعيش ضمن هذه الحدود إلى أن يظهر المحسن إلي . بدأت بالتعبير عن امتناني للمحسن لكرمه الفائق الذي يخصني به , حين أوقفني السيد جاغرز ليقول : " أنا لا أتلقى أجراً لأنقل كلماتك للآخرين يا بيب . " . وبذلت جهوداً متتالية لأتبين متى سيتم الكشف عن المحسن السري . وإن كان سيأتي إلى لندن , لكنها باءت جميعها بالفشل . بل كل ما استطعت حمل السيد جاغرز على قوله هو : " حين يكشف لك ذلك الشخص عن نفسه , سيتوقف دوري في المهمة . " . من هنا استنتجت أن الآنسة هافيشام لم تخبره ـ لسبب أو لآخر ـ عن إعدادها لي للزواج من استيلا , أو أنه يستاء من ذلك ويشعر بالغيرة حياله , أو يعارض المخطط بشدة ولا يرغب القيام بشيء بصدده .
تركته وذهبت إلى مكتب ويميك , ولما أصبحت الجنهات الخمسمئة في جيبي , خطرت ببالي فكرة ورأيت أن أستشير ويميك . فأخبرته أنني أود مساعدة صديق يحاول الانطلاق في ميدان التجارة لكنه لا يملك المال لذلك . فكان رأي السيد ويميك بأنني أرتكب ضرباً من الحماقة لو فعلت ذلك , وسيكون حالي كمن يلقي بماله سدى في نهر التايمز .
لكن ويميك كان في منزله أكثر كرماً من المكتب , ولذا قمت بزيارته عدة مرات في المنزل , ووجدنا في النهاية تاجراً شاباً يدعى كلاريكر كان يحتاج إلى مساعدة عاقلة ورأس مال , وقد يحتاج في حينه إلى شريك له . وقد وقعت معه على اتفاق سري بشأن هربرت , فدفعت نصف مبلغ الخمسمئة جنيه الذي أملكه , ووعدت بتسديد دفعات أخرى من دخلي بتواريخ محددة .
كان العمل من التنظيم البارع حتى أن هربرت لم يكن لديه أدنى شك بضلوعي فيه . ولن أنسى أبداً وجهه المشرق الذي عاد به ذات مساء ليخبرني خبراً مذهلاً , هو أنه تعرف إلى تاجر شاب أبدى إعجاباً باهراً به , وأنه مؤمن بأن الفرج قد جاء أخيراً . يوماً بعد يوم أخذت آماله تكبر ووجهه يبتهج .إلى أن تم أخيراً إنجاز كل شيء ودخل ميدان العمل. بكيت فرحاً عندما ذهبت إلى السرير , لأنني رأيت أن آمالي قد منحت شخصاً بعض الخير .


يتبع ...


جيرمون111 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس