وتعثرت فى مشيتها مندفعة إلى ما بين ذراعيه ، وأخذت تضغط وجهها على صدره الواسع ،
وتمتمت بالشكر ، بعد أن لفتها ذراعاه القويتان . ثم أنهارت ساقاها وتمسكت به حتى أنه اضطر إلى حملها وجرها إلى السيارة ليضعها فى المقعد الأمامى ، وأغمضت عينيها فأحست أنها على وشك الاغماء ففتحتهما ،
وقال لها الرجل الأسمر الملتحى :
- أهلا بك فى السيارة .
- أحمد الله أنك أتيت !
وشهقت وأخذت تحدق بعينيه الرماديتين ، وقالت :
- لقد أنقذت حياتى ! كانت الضباع تطاردنى .... اثنان منها ...
- الضباع ؟
الصوت العميق كان غير مصدق لكلامها .
وتبعت نورما نظراته ... وعلى بعد عشرات الأقدام تحت المطر ، كان يقف اثنان من الخنازير البرية الصغيرة ، ووجهاهما بديا سخيفان من الوحل والمطر . واستدارا راكضين ، نحو الأجمة ، فصاحت :
- أوه ...
- لا تبدى هكذا وكأن املك قد خاب .
فقد كان يمكن بسهولة أن يكونا من الضباع .
وسارا مبتعدين ليلتف حول السيارة ويجلس وراء المقود ، مضيفا :
- ماذا كنت تفعلين هنا على كل الأحوال ؟
ونظرت إلى الوجه الملتحى بابتسامة ودودة :
- لقد تعطلت سيارتى ، فقررت أن أعود إلى المخيم سيرا .
- فى هذه العاصفة ؟ لوحدك ودون سلاح ؟
- حسنا ...
لم أكن أعرف ما إذا كان سيأتى أحد لنجدتى هناك . وشكر لله أنك أتيت . المسافة ليست أكثر من عشرة أميال ، ولم أكن أعتقد أن العاصفة ستنفجر باكرا ...
- ليس عليك أن تدافعى عن نفسك ،
إذا كنت تنوين قتل نفسك فهذا من شأنك .
وأجال النظر فيها بهدوء وأضاف :
- لقد أوقعت نفسك فى ورطة أيتها الشابة .
وأدركت فجأة أن سترتها الجلدية مفقودة فقالت بحزن :
- أوه ... سترتى ! لقد أوقعتها فى مكان ما على الطريق !
- عندما طاردتك الضباع ؟
واحمر وجهها لهذه السخرية الرقيقة :
- فيها كل مالى ... ومفاتيح السيارة .....
ورفع يده السمراء القوية :
- أوكي .. لقد وصلتني الرسالة ,
سوف نلقي نظرة.
وادار السيارة بلمسة , وسارت بهما فوق الطريق الرملي الأحمر كالدم . ونورما تحدق خارج النافذة . وهي تشعر ببعض الاضطراء لوجود هذا الغريب الهادئ قربها . وقالت :
- شكرا لأنك أنقذتني ..
لست أدري ماذا كنت سأفعل لو لم تصل .
- لا شكر على واجب , لايمكن أن يجد الانسان غريبة جميلة تعانقه كل يوم .
ونظرت إليه بسرعة ولكن وجهه أو ما استطاعت ان تراه منه , كان هادئا , وسألته :
- هل أمضيت وقتا طويلا في التفتيش ؟
- لم أكن افتش ابدا .
فى الواقع كنت في طريقي لمقابلة صديق لي .
أخلاقه كانت على ما يبدو لطيفة , واللحية الكثة أعطته منظرا متوحشا تقريبا , وبحذائه الطري وملابسه العسكرية المموهة , يمكن أن يكون جنديا أو حطابا .
ولكن صوته كان هادئا ومتسلطا ويداه فوق المقود قويتان ومن الواضح تعودهما على العمل القاسي , ولكنهما لم تكونا خشنتنان , والتقت عيناه الرماديتان بعينيها ثانية , وفيهما لمحة ساخرة :
- أرجو أن تكوني مبقية نظرك على سترتك الثمينة .
وابعدت نظرها عنه ونظرت إلى الخارج وقد احمر وجهها .
- ها هي هناك !
وأسرعت بالنزول من السيارة مسرعة لالتقاطها ,
وانزلق حذاء رعاة البقر الذى ترتديه , فوجدت نفسها وهي تشهق جالسة على مؤخرتها بألم وسط بحيرة كبيرة من الوحل واكتست باللون الأحمر , وكافحت لتقف ونظرت الى خلفها نحو السيارة , والتقطت سترتها وتفحصت وجود المفاتيح ,
ثم سارت عائدة الى السيارة , وهي تمسك بذراعها الذى اصيب بالخدوش .
وما إن فتحت الباب حتى تفحصتها عيناه بقلق وقال لها بهدوء :
- هل لديك فكرة عن الحالة التى أنت فيها ؟
ونظرت إلى بنطلون الجينز الذى ترتديه وإلى الوحل العالق بكل شئ فيها ,
والسترة المتسخة على ذراعها , ومسحت شعرها الاشقر تبعده عن عينيها , ونظرت إليه .
- أنا آسفة !
- إنها ليست سيارتي .
ولكنها أحست بأنه يضحك عليها , وتابع :
- ولا أريدك ان تفسدي المقاعد فيها يا آنسة ..
- ليستر ... نورما ليستر .
- آنسة ليستر ,
أنا واثق بأنك ستجدين مكانا تجلسين فيه في المؤخرة , ربما فوق الإطار الاضافي ؟
وتسلقت المؤخرة بائسة . وحشرت نفسها بين علبة العدة والإطار الاضافي , وهي تشعر تماما كأنها كلب موحل أبعده أصحابه , وسألته :
- ماذا عن سيارتي ؟
- اعتقد انها مؤجرة ؟ الافضل ان تتركيها حيث هي .. واتصلي بالشركة من المخيم .
- أوه .. لقد أنقذت حياتي فعلا .
لو لم تجدني الضباع لضربتني صاعقة .
- اوكي .. لنقل إنك مدينة لي بجميل . قولي لي من هو رالف؟
- عفوا ؟
- عندما رميت نفسك بين ذراعي كنت تهذين باسمه .
- أجل .. اعتقد هذا . انه .. انه خطيبي .
- آه .. ظننت انه قديسك المنقذ .
ونظرت إليه متفحصة عبر المسافة بينها وبين المقاعد , إ
نه رجل ضخم عريض الكتفين , دون معدة بارزة . وعيناه اللتان تراقبان الطريق بدقة , كانتا كبيرتين ورماديتين بلون سفينة حربية , وكأنهما عينا صياد متمرس , أو بحار . أنفه مستقيم أنف نورماندي قوي ومتعجرف , وعظام وجهه قاسية .
ولكن الجزء الاسفل من وجهه كما لاحظت , ملئ بلحية سوداء يخالطها اللون الذهبي .
- لقد ظننتك حارس المحمية في البداية .
ولم يرد عليها فقالت من جديد :
- ألست حارسا في المحمية ؟
- ماذا ؟ .. آه . لا .
انا في عطلة هنا .
- وهل ستمكث هنا لمدة طويلة ؟
- لا .. أنا مسافر الليلة .
وقالت بصوت بدا عليه خيبة الأمل .
- أوه .. نحن مسافرون غدا .
- لقد كنت سخيفة جدا لخروجك وحدك في هذا الطقس الردئ .
ألن يكون رالف غاضبا منك ؟
- لا , في الواقع , رالف في انكلترا . لقد أتيت الى هنا مع بعض الاصدقاء .
- آه .. آخر رحلة عزوبية قبل الرباط الزوجي ؟
- ليس بالضبط , لقد قررنا أن ..
وتوقفت عن الكلام ,
انها ليست مدينة لهذا الغريب بأي توضيح .
- عطلتانا لم تكنا في نفس الوقت . هذا كل شئ .
وكانت عينا الرجل تراقبانها عبر المرآة الأمامية , وهز كتفيه دون مبالاة , وكأنه يقول إن هذا ليس من شأنه ,
وبدت أمامهما البوابة الخشبية لمخيم "بوبي" عبر الامطار , وأمامها التمثالين المشهورين لفيلين . ودلته نورما على الكوخ الذى تشاركه مع بيتر واصدقائه .
كلمة كوخ كانت إشارة مهذبة الى منزل ريفي كالقصر يحتوي على أفخم وسائل الراحة التى يمكن لهذا المكان توفيرها , وبينما هو يساعدها للنزول من اللاندروفر , خرجت الفتاتان سينيثيا وجولي من الباب ,
وصاحت سينثيا :
- نورما حبيبتى أيتها العزيزة المسكينة ! ماذا حدث لك ؟
- لقد تعطلت السيارة ..
ولاحظت الفرق بين حالتها المزرية وأناقة الفتاتين اللتين كانتا تحدقان بمنقذها بفضول :
- هذا الرجل المحترم وجدني .
فردت جولي :
- هذا لطف كبير منه .
واخذت عيناها اللوزيتان تجولان بجسده الطويل الجذاب :
- أنا أدعي جولي بيركنز .
وصافحها بإختصار دون ان يتكلم ,
محدقا بهما مظهرهما المائع والذهب والماس يلمع عليهما . واستطاعت نورما ان تخمن تماما ما كان يظنه بهما .. عاهرتين ثريتين ,
لهجتهما المائعة ووجهيهما الفاسدين يعلنان بصراحة عمن هما . وخرج بيتر أشتون بدوره , ووجه الوسيم محمر منتفخ من الشرب . و أخرج سيكارته من فمه وحدق بثيابها الموحلة وقال :
- نورما , يا فتاتي العزيزة . ماذا حدث ؟ أين السيارة ؟
وتطوعت سينثيا للإجابة . وهي تبتسم :
- لقد تعطلت , وهذا السيد اللطيف أوصلها إلى هنا .
ونظر إليه بيتر وقال :
- هذا لطف منك , ادعي بيتر أشتون .
- آلان سان كلير .
وأخذ الرجل الملتحي يد بيتر ليصافحها على غير إرادة منه . وارتفع حاجبا بيتر :
- هل أنت قريب لآموري سان كلير ؟
- لا ..
- حسنا أيها الرجل العزيز . تفضل إلى الداخل لتشرب شيئا .
وقال آلان سان كلير بهدوء , وكان فى وجهه لمحة سخرية وهو يتفحص الجميع :
- أرجوك لا تزعج نفسك .
أنا فى الحقيقة مستعجل . على أن أقابل شخصا بعد بضع دقائق .
وتمتمت جولي وهي تهز جفونها :
- أرجوك لا تذهب .. كوب قهوة فقط .. أرجوك ؟
وقال بيتر بإصرار :
- أجل تفضل يا رجل . فنجان قهوة بسرعة .
على كل الشمس لم تغب بعد تماما , و ..
وتوقف ثم أشار الى الرجل بيده :
- لقد عرفتك أنت ابن جان سان كلير , أليس كذلك ؟
وهز رأسه , ثم نظر إلى ساعته .
- هذا صحيح .. هل تعرف والدي ؟
- لقد بني لي قاربي . جان سان كلير أفضل مصمم للقوارب في العالم . أنا مسرور لرؤيتك يا عزيزي . والآن انظر ..
عليك أن تشرب شيئا معنا ...
- أخشى اننى لا استطيع . إضافة إلى أن نورما يجب ان تأخذ حماما ساخنا ..
وعلى الفور حدق بيتر وسينثيا بنورما , وهما يصيحان صيحة عطف زائف . وانسحب الرجل منهم , وصعد إلى سيارته ولوح لهم بسرعة ,
وقاد السيارة مبتعدا وتبعته الفتاتان بنظراتهما وهو يبتعد مبديتان الأسف .
وتمتمت جولي :
- من هو هذا الرجل الغامض ؟
وهزت سينثيا رأسها :
- حقا يا نورما , كيف استطعت التقاطه . إنه أكثر جاذبية من..
وصاح بيتر ضاحكا :
- هاي .. أنت لايجب أن تفكري برجل آخر يا سينثيا . انت معي .
لقد كانت سينثيا صديقته .
وأمسك بذراعها بطريقة متملكة فالتفت اليه ضاحكة :
- بالطبع أنا معك . ولكن من هو ؟
- والده هو أكبر مصمم للقوارب في بريطانيا "مؤسسة سان كلير لبناء القوارب" إنها مؤسسة للهندسة البحرية .
اما آلان فقد التقيته مرة من قبل فى لندن . إنه شاب لطيف ولكنني لم اعتقد بأنه يتابع مهنة أبيه . لدي فكرة انه يعمل فى مجال الطائرات . ربما طيار ؟ على كل .. إنه يبدو مستعجلا جدا . لندخل الآن ..
ونظرت جولي خلف اللاندروفر وقالت :
- يجب ان تعرفنا عليه عندما نعود إلى لندن .
أنه يبدو كشخص يجب ان اتعرف اليه . مهما كانت مهنته .
وقالت سينثيا بابتسامة صغيرة :
- سيأكلك على الإفطار يا جولي ..
- وهل سيفعل ؟ أحب أن أري من سيأكل الثاني ..
وقال بيتر :
- في الواقع .. لا أظنه يستطيع الاحتفاظ بك يا عزيزتي .
اذكر ان بعض الشائعات تقول بأن أعمالهم قد أفلست .
- يا للعار .. ربما لهذا السبب يربي لحيته ؟ ما قولك يا سينثيا أيمكن ان يكون متخفيا عن الدائنين ؟
- لايبدو وكأن الدائنين يطاردونه .
على كل لندخل فقد ابتللت .
ودخل الجميع الى المنزل يتحدثون ويضحكون تاركين نورما واقفة باضطراب عند المدخل . ولم يكن احد منهم قلقا عليها .
وأخذت تفكر بعيني آلان سان كلير الرماديتين قاسيتان هادئتان .
تقولان للعالم أجمع : " اللعنة عليك ! " ..
بالتأكيد لايبدو رجلا يطارده الدائنون . عندما تراه ثانية يجب ان تشكره بشكل لائق . وتنهدت وأخذت تنظر إلى مظهرها الموحل , سيكون حمام ساخن طويل نعمة من السماء ,
وأخذت تنظف حذائها من الوحل , ومدت ظهرها التعب الى الخلف وتبعت الآخرين الى الداخل .
يجب عليها حقا أن تشكره بشكل لائق . عندما تراه ثانية .
* * *