وبسرعة , وقبل أن تستمر في نبش الماضى , حول الضوء إليها : " وأبوك يا أليسيا , قد ورث ملايينه . وهكذا ليس لديك فكرة عما تعنيه كلمة فقير " - لكنك لم تعد فقيرا , يا سيد ياتيراس . إن لديك من السفن بعدد سفن أسطول بريطانيا التجارى . وبالرغم من أصلك المتواضع ليس من الصعب أن تجد عروسا بسيطة .. أكثر مني لهفة لقبول الزواج منك . - لكنني لا أستطيع العثور على " داريوس ليموس " آخر . - إذن , أنت فى الحقيقة تريد الزواج من أبي . كانت ذكية , وابتسم بفتور وقد عاد يشعر بالتسلية مرة أخرى للتناقض بين مظهرها الهادئ الصافي , وداخلها الناري . ووجد نفسه فجأة يتساءل عما تخفيه في داخلها من مشاعر , ربما محمومة كجهنم . كانت خصلات شعرها الذهبية تتراقص على خدها . فراح ينظر بإعجاب وهي تلامس أذنيها , فشعر بدافع مفاجئ للإقتراب منها لرفع هذه الخصلة عن وجه هذه المرأة التى تسحره . إنه سيستمتع بالزواج من امرأة كهذه . اتكأت أليسيا إلى الخلف من مقعدها , وثوبها البني يبرز صدرها الصغير وأهدابها المسدلة تخفي ما تنطق به عيناها : " كم تبلغ معرفتك بأبي ؟ " - إلى القدر الذى يجعلني أعرفه . سمحت لنفسها أن تفوز بابتسامة صغيرة . ولاحظ كريستوس غمازة شمال فمها الممتلئ , ربما سيتاح له أن يقبلها . - لابد أن أبي مسرور جدا لأنه وضغك فى جيبه الخلفى , يمكنني أن أتصوره تماما وهو يفرك يديه معا مبتهجا ضاحكا. ورفعت أهدابها : " لقد فرك يديه بعد أن أبرمتما الصفقة , أليس كذلك ؟ " لهجتها , صوتها , عيناها , شد ما يرغب فيها . ومال فجأة إلى الأمام وأمسك بشعرها المعقود على رقبتها .. اتسعت عيناها عندما اشتدت أصابعه على شعرها لحظات قبل أن ينحنى ليعانقها . شهقت أليسيا عندما بدأ يعانقها , ولم تفته شهقتها والليونة المفاجئة في ردة فعلها . تصلب جسده , وجرى دمه حارا . ومن بعيد سمع نحنحة , إنها الراهبة ! إن طرده إلى خارجة المكان الآن سيكون كارثة , وهكذا تركها ببطء , قائلا : " كم أنت لذيذة " شحب وجه أليسيا وانتفض جسمها كأنما تحاول أن تمسح آثاره عنهما : - حاول هذا مرة أخرى وسأستدعي رئيسة الدير . وضع قدمه على المقعد بجانبها , وشعر بجسدها يرتجف : " وماذا ستقولين , يا أليسيا الحلوة ؟ إن زوجك عانقك ؟ " - نحن غير متزوجين , بل نحن غير مخطوبين حتي . وحدق في صدرها المضطرب الأنفاس : " أتحبين الرهان ؟ " فارتجفت بوضوح : " لا , أنا لا أقامر أبدا " - هذا أمر يدعو إلى الإعجاب , لكنني أحب الرهان . إننى يا أليسيا , أعرف عنك أكثر مما تظنين . ورأي ما بد عليها من شك , فشعر بالرضا : " في السابعة عشرة من عمرك حصلت على منحة من معهد عال لدراسة الفنون في باريس . وعشت فى غرفة فوق السطح مع " دزينة " من دارسي الفنون . كانت حياة بوهيمية نوعا ما , مع أطفال يجرون بين الأقدام . وعندما كانت نقودك تنفد . كنت كالآخرين , تقومين بأعمال شاذة متنوعة . عملت , ذات صيف مدبرة منزل ثم فى مخبز . وأطول عمل قمت به هو مربية لمصمم وأسرته " فقالت بفتور وقد شحب وجهها : " كانت جميعا أعمالا محترمة " - ومحترمة جدا , لكنها مختلفة تماما عن الملعقة الفضية التى فى فمك . - هل ثمة غرض من قولك هذا ؟ تلاشت ابتسامته ومال إلى الأمام : " لقد أمضيت ثماني سنوات من حياتك محاولة الهرب من أبيك " انفرجت شفتاها ولكن دون صوت . وأخذ يتأملها مراقبا كل خفقة من عينيها . - أمضيت فترة من حياتك حرة , رسمت وسافرت واستمتعت بالحياة بين مجموعة من الأصدقاء , ولكن عندما مرضت وضعك أبوك فى مستشفى في " بيرن " , ومنذ ذلك الحين تملكك , جسدا وروحا . - ربما جسدا , ولكن ليس روحا أبدا . إنها النار مرة اخرى , والتمرد العنيف , وشعر بتماثل بينهما لم يشعر به إلا نحو قليلات من النساء , ورقق من صوته : " فكري في الأمر , يا أليسيا . في اليونان أنت دون قوة , وأبوك رأس الأسرة .. السلطة الكاملة له . لديه الحق في أن يختار لك زوجك . لديه الحق في أن يسجنك هنا . لديه الحق في أن يجعل حياتك تعسة " - لماذا لا تغادرين الدير إذن ؟ حبست أنفاسها , بتوثب آسر . واتسعت حدقتا عينيها , وتوترت شفتاها . فقال بعد قليل من التردد : - يمكنك أن تغادري اليوم , حالا , وستكونين حرة أخيرا . بقيت لحظة لا تجيب , وهي تتفحصه بنفس العزم الذى قابلته فيه . ثم قالت : " الزوجات اليونانيات لايملكن الحرية أبدا " - لا . ربما ليس بالطريقة التى تفكرين فيها , لكنني سأسمح لك بالسفر , وبمزاولة الهوايات التى تهمك , وسأسمح لك بإختيار اصدقائك وسيكون بإمكانك أن تعودي إلى الرسم . - ولكن بإمكانك ذلك , فقد سمعت بأنك ماهرة فيه . ضحكت فجأة بصوت منخفض وأخذ جسدها يرتجف توترا , وعقدت ذراعيها فوق صدرها : " لابد أنك بحاجة ماسة إلى سفن أبي " تملكت كريستوس موجة من مشاعر حلوة بشكل لم يشعر به من قبل . رأي نفسه كما هو بالضبط , منقادا , حذرا بشكل أناني . يخدم نفسه بكبرياء , وهذه المرأة , هذه المرأة الجميلة النقية الشابة , تعلم بأن أهميتها الوحيدة تكمن في أنها جزء من صفقة مقدار ما تدفعه من بائنة . وما يستحق الاهتمام فيها هو اسمها فقط . وفي جزء من اللحظة شعر بكراهية لهذا النظام ولنفسه , لكنه ما لبث أن أزاح اعتراضه هذا جانبا دون رحمة .. سوف يحصل عليها . انزلقت أليسيا من تحت ذراعه وابتعدت عنه عدة خطوات , وسارت إلى آخر الحديقة , ثم ركعت عند شجيرة لافندر , وهمست وهي تقطف زهرة : - السفن ... لشد ما أكرهها ! وأخذت تشم الزهرة الأرجوانية . فقال وهو يفكر في أنها أشبه بلوحة زيتية : " وأنا أحبها " انحناءة عنقها , رقبتها البيضاء , شعرها المجموع على قفا رأسها بلون العسل الطبيعى , يتألق فى أشعة الشمس الذهبية . إنه يريد هذه المرأة , سواء كانت صفقة أم لا . وأطبقت على الزهرة في قبضتها وهي تقول : " يا سيد باتيراس , ألم يخطر في بالك قط أن تتساءل عما يدفع رجلا ثريا مثل أبي إلى منح ثروته لمن يأخذ ابنته ؟ " كانت الشمس تتألق ذهبية دافئة على قمة رأسها , والنسائم تعبث بخصلة شعر أخري : " أنا بضاعة تالفة يا سيد باتيراس , ولايمكن لأبي أن يعطيني إلى طالب زواج يوناني حتى ولو حاول ذلك " أكثر تلفا مما قد يظن , كانت أليسيا تعترف بذلك بكآبة , وهي تسحق زهرة اللافندر في كفها , فقد تبادر إلى ذهنها , دون رغبة منها , ذكرى المصح الذى كانت فيه في سويسرا . لقد أمضنت هناك قرابة أربعة عشر شهرا , طوال سنتها الواحدة والعشرين , قبل أن تأتى أمها فتنقذها وتساعدها على السكن فى شقة صغيرة في " جنيف " . وقد أحبت أليسيا جينف إذ لم يكن لها فيها ذكريات سيئة . وقد عاشت فيها بهدوء وسعادة حوالى عامين , راضية بوظيفتها في متجر للملابس , متذوقة الأمان فى شقتها البسيطة .. كانت تتصل أسبوعيا بأمها في " أونوساي " وتتحدث إليها فى أشياء كثيرة مختلفة سارة ليس فيها ما يؤلم بل ما يفرح . لم تسألها أمها عن المصح , أو عن حياتها في باريس على الإطلاق , ولم تسأل أليسيا عن أبيها قط . كانت كل واحدة منهما تتفهم الأخرى , وتتفهمان آلام بعضهما البعض . وما كانت أليسيا لتعود قط إلى اليونان , أو إلى بيت أبيها , لولا مرض أمها بالسرطان . رنين الأجراس المفجع أثار مشاعر أليسيا فجفلت فجاة , وأسدلت أهدابها وتوترت شفتاها وهي تجد في رنين الأجراس هذا ما يذكرها بموت أمها وجنازتها . استمرت الأجراس في الرنين , رنينها أشبه بأظافر تخدش لوحا أسود بحدة . آه , لشد ما تكرهه هنا ! لقد قامت الراهبات بكل ما يستطعن للترفيه عنها واكتساب مودتها , لكن أليسيا لم تكن تستطيع احتمال يوم آخر من رنين الأجراس والصلاة والصمت . لم تشأ أن يذكرها شئ بما فقدت . كانت تريد فقط أن تستمر في العيش . الأخت " إيلينا " , ذات الوجه الصام والقلب الحنون , أشارت إليها بأن وقت عودتها إلى الداخل قد حان . شعرت أليسيا بالذعر , وأدار اليأس رأسها . شعرت فجأة بأنها لا تحتمل مغادرة الحديقة , أو وعود الحرية . وكأنه أحس بكراهيتها تلك , فمد لها كريستوس يده : " لست مضطرة إلى الدخول . يمكنك , بدلا من ذلك , أن تغادري الدير معي " لقد شعر بضعفها , و أحس باضطرابها . ومرة أخرى قال بصوت رقيق : " تعالي معي هذا النهار وستبدئين من جديد , وتدخلين حياة جديدة ... كل شئ سيكون جديدا مثيرا " إنه يغيظها , يعبث بها . لكنها تلهفت إلى الحرية رغم نفورها من الصفقة هذه . يمكنها أن تغادر الدير إذا هي ذهبت معه بصفتها زوجته . يمكنها ان تهرب من أبيها إذا هي ارتبطت مع هذا الغريب . سألته وهي تهرب من نظرات الأخت إيلينا القلقة . وتستدير إلي هذا الرجل الأميركي اليوناني الغامض الوسيم الواقف على بعد قدم منها فقط . - أنا أعرف أن أبي حدثك عن ... صحتي . كل كلمة قالتها كانت أشبه بقطرة سم على لسانها . وخلف عينيها تجمعت دموع ساخنة . - قال إنك لم تكوني بصحة جيدة وذلك منذ سنوات . لكنه طمأنني إلى أن صحتك جيدة الآن . وشكلك جيد , وفي الواقع جيد تماما رغم نحولك نوعا ما . التوت شفتاها بإبتسامة سخرية بالنفس : " قد يكون المظهر خداعا " فهز كتفيه : " أول سبع سفن لدي كانت تالفة . جردتها حتى أصبحت هياكل , ثم أصلحتها . وفي خلال عام درت علي ربحا مليوني الأول . مر عليها الآن عشر سنوات وما زالت حتى الآن أفضل قطع أسطولي " تصورته يجردها ثم يحاول أن يجعل منها شيئا ما . صعقتها هذه الصورة الواضحة وأشعرتها بالخوف . لقد مرت سنوات وسنوات منذ كانت على علاقة حميمة مع رجل . وهذا الرجل .. كرهت الدم الذى تصاعد إلى وجهها , ثم رفعت رأسها : " أنا لن أدر عليك أي مليون " تضايقت لتقييمه القاسي هذا , وتصلب ظهرها : - عليك أن تعيره إلى أبي . لقد سبق أن أخبرتك بأنني لن أتزوج ابدا . - تعنين مرة أخري , أي أنك لن تتزوجي أبدا مرة أخري . جمدت مكانها , وتسمرت نظراتها على ميناء ساعة أثرية . أتراه يعلم ؟ - لقد تزوجت من قبل عندما كنت في سني المراهقة , وكان هو إنكليزيا يكبرك بست سنوات . وأعتقد انكما تعارفتما في باريس . ألم يكن رساما هو أيضا ؟ التفتت إليه ببطء , متسعة العينين , ممزقة بين الذعر والاقتنان إزاء تفاصيل ماضيها . ماذا تراه يعرف أيضا ؟ وماذا أخبروه أيضا ؟ وأجابته بصوت راعش , ذلك أن زواجها من جيريمي كانت غلطة مأساوية : - لا أريد أن أتحدث معك عنه أو عن الزواج . - أبوك قال إنه كان يريد ثروتك . التمعت عيناه الداكنتان , وخطر لها أن هذا ليس رجلا سهلا . اقترب منها إلى حد اضطرها إلى رفع رأسها لترى وجهه . وخفق قلبها فزاد ذلك من قلقها . كان طويلا , أطول من أكثر الرجال الذين عرفتهم , وصلب الجسد عريض الصدر , وذا عضلات في ذراعيه تملأ كمي سترته . كانت متوترة الأعصاب , وبحثت عن شئ , أي شئ يعيد إليها اليد العليا مرة أخرى . فقالت : - الرجل اليوناني الأصيل لا يحب أن يكون الزواج الثاني لامرأته . - لقد سبق أن تفاهمنا أننى لست رجلك اليوناني التقليدي . أنا أعمل ما أريد , وبطريقتي الخاصة . |