بعد مرور ساعات ، ومع بزوغ الفجر وانحسار ظلام الليل ، تخلى زاين عن فكرة الاستسلام للنوم . استلقى على سريره فى الغرفة التى كانت غرفته لأكثر من نصف عمره . ما زالت الصور والجوائز التى نالها فى المكان الذى وضعها فيه بالتحديد . فقط لو انه يستطيع إغماض عينيه لأعتقد أنه لم يغادر هذا المنزل مطلقا . لكنه يعلم أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك ، كما ان الساعات القليلة الأخيرة برهنت له ان كل ما يفكر به هو امرأة فى عينيها ألسنة من نار ، ولسانها حاد كالمبرد . امرأة ولدت كحورية وتقاتل كالنمرة . ليلة البارحة ، عندما ثار غضبها وصفعته ، لم تحاول التراجع قيد أنملة على موقفها . توقع زاين أنها ستواجهه بالمزيد من الغضب والجرأة . حتى عندما وافقته فى آخر تبادل للكلام بينهما ، اجابته بنقد لاذع وهى تغادر . وعندما جذبت ذراعها من قبضته من جديد ، لم يجد أى خيار أمامه إلا أن يدعها ترحل .
يا لها من امرأة شجاعة ! تقلب مرة أخرى فى السرير محاولا أن يجد بعض الراحة . تساءل كيف تراها تتصرف مع عشيقها . . . يمكنه أن يراهن أنها مليئة بحيوية تفوق ما هى عليه فى حياتها اليومية . لكم وسادته للمرة الأخيرة قبل أن يتخلى عن فكرة النوم كليا . نهض من السرير وأخذ يتجول فى الغرفة . مرر يديه فى شعره الأشعث محاولا التفكير فى المشاكل التى يعانى منها . ما الذى يحدث له بحق السماء ؟ ما همه كيف تتصرف روبى مع عشيقها .
من جهة أخرى ، هناك الكثير من المشاكل الضاغطة التى تشغل باله الآن ، والتى يجدر به التعامل معها . أولا عليه الاهتمام بأمر الجنازة ، كما ان هناك مستقبل العمل هنا . من الطبيعى أن يأخذ مكان والده فى الوقت الراهن كما هو متوقع ، لكن عليه أن يضع خططا أكثر فعالية فى ما بعد . ربما من الأفضل أن يبدأ بالقيام بذلك قبل أن تتمكن روبى من التدخل . من المحتمل أنها تحتل مكانا رفيعا فى حياة لورانس العاطفية ، لكنه الآن هنا ، ولا شك أن الأمور ستتبدل جذريا .
وجد زاين كيوتو بانتظاره ما إن دخل إلى المطبخ . أخيرا ها هو يشعر ببعض الراحة بعد الاستحمام مطولا وارتداء ثياب نظيفة . رحب كيوتو به بصوت عال وهو يقترب منه : " سيد زاين ! "
بدا كأن وجهه المجعد يتلوى بين الألم والفرح لرؤيته وهو يتابع : " كم تسعدنى رؤيتك فى المنزل من جديد ! أعددت لك فطورا مميزا "
فجأة لفته ذراعان قويتان بقوة فى عناق خاطف ، قبل أن يتركه كيوتو ويعود بسرعة إلى عمله فى قلى البيض كأنه لم يلمسه مطلقا . ابتسم زاين لنفسه ، فما زالت لغة كيوتو عرجاء كما كانت ، لكنه لا يستطيع أن يتذكر مرة لم يكن فيها قادرا على التعبير عن عواطفه .
قال له زاين بصدق : " تسعدنى جدا رؤيتك من جديد ، كيوتو "
هز كيوتو رأسه بأسف وهو يقدم له طبقا مليئا بالطعام : " أنا آسف جدا لما حدث لوالدك"
ما إن وضع كيوتو أمامه القهوة الساخنة وطبقا مليئا بالتوست بجانب طبق الطعام ، حتى شعر أن خسارة هذا الخير أكبر من خسارته . ابتعد كيوتو وهو يتحدث مع نفسه ، فيما بدا زاين بتناول الطعام فى الغرفة الواسعة المطلة على الحديقة المليئة بالأزهار . مضت ساعات على تناوله آخر وجبة حقيقية ، وهو لطالما أحب ما يعده كيوتو من طعام ، فكيف وهو فى هذه الحالة . ثم عاد كيوتو ووضع شيئا ما على الطاولة أمامه . رمش زاين بعينيه من جراء الصدمة الكبيرة التى شعر بها لرؤيته الصندوق الخشبى الصغير المقفل .
صندوق اللؤلؤ القديم الذى كان يحتل المكان الأبرز على مكتب والده هو الآن أمامه يتحداه ويسخر منه . إنه تذكار من عهد قديم . عندما كانت اللآلئ الطبيعية كنزا حقيقيا ، وكان الربح الأكبر النادر عندما يتم العثور على لؤلؤة لا عيب فيها ، من تلك اللآلئ التى توضع داخل الثقب الصغير فى القفل ، وهكذا تبقى بأمان أثناء اصطياد اللؤلؤ فى أعماق البحر . لكنه بالطبع لا يتوقع أن يجد لؤلؤا فى هذا الصندوق . إنه بالأحرى يحتوى على مفاجأت مزعجة .
قال كيوتو مجيبا عن سؤال لم يتفوه به زاين : " قال والدك إن هذا الصندوق لك "
أبعد زاين طبقه جانبا ، ورشف آخر ما فى كوب قهوته ، من دون أن يبعد عينيه عن الصندوق . ازداد قدم الخشب ، وتحول لونه إلى لون نحاسى اكثر مما يتذكره . بدا القفل المعدنى مليئا بالخطوط مع مرور الزمن ، لكن المفتاح الصغير ما زال مكانه ، يدعوه ويعذبه . من الصعب أن يكون هو ما أراد والده أن يحتفظ به ويقدمه له ، بل ما يحتويه . وزاين يعلم جيدا ماذا هناك فى الداخل . هل أعتقد والده حقا أنه لا يعلم ، أم أنه قصد أن يؤثر به بسبب عودته إلى المنزل عن طريق أكبر تذكار مرير لظروف رحيله ؟ لا مجال لذلك ! اتخذ زاين قراره . مما لا شك فيه أن لورانس لم يطلب رؤية زاين لينهى الخلاف بينهما ، بل طلبه لكى يواصل ذكر الأمر له . تجعدت جبهته بسبب تلك الذكريات المؤلمة . كان مجرد شاب يافع يومها. . .
أثناء عودته من عطلة مدرسية تسلل زاين إلى مكتب والده عبر الشرفة ، وبدأ بالبحث والتنقيب داخل أدراج المكتب حتى لمست يده مفتاحا صغيرا . فكر على الفور بالصندوق الموضوع على سطح المكتب . . . الصندوق المقفل منذ أن بدأ يعى الحياة ، والذى كان دائما مصدر حيرة واهتمام له .
وهكذا صعد على مكتب والده محاولا أن يفتح القفل . ما إن وضع المفتاح وأداره حتى فتح من المحاولة الأولى . بإحساس بير من فرح الاكتشاف رفع القفل والسلسلة المعدنية عن غطاء الصندوق . ما زال يتذكر كيف حبس أنفاسه وهو يرفع الغطاء لينظر خلسة إلى الكنوز التى توقع ان يراها فى داخله . عاوده الإحساس العميق بخيبة الأمل ، ذلك الاحساس الذى أصابه عندما وجد أنه لا يحتوى إلا على كومة من الرسائل القديمة . رفع أول رسالة منها . فتح الورقة بلا اكتراث وحدق إلى محتواها . غنها رسالة من والده إلى الخالة بونى ، الصديقة المفضلة لأمه . وجد فى الرسالة لائحة من الأرقام وشيئا ما يتعلق بمنزل ودفعات شهرية لم تعن شيئا لعقله اليافع . لكن لم يتسن له الوقت للنظر أكثر فقد وجدته مربيته فى الغرفة فمنعته من الدخول إلى هناك ثانية ، وحذرته من الدخول إلى أماكن ليس عليه التواجد فيها .
للحظة تساءل زاين ما الذى تقصده بكلامها هذا ، لكنه سرعان ما وجد لعبة جديدة يتسلى بها ، ثم عاد إلى مدرسته ، ونسى كل ما يتعلق بالصندوق . حتى ذلك اليوم منذ تسع سنوات خلت ، عندما تذكر الرسالة وما حوته ، وفجأة بدا كل شئ أمامه بمنتهى الوضوح . أطلق زاين زفرة قوية وهو ينظر إلى الصندوق ، شاعرا بالمرارة فى أعماقه . ما الذى يقصده والده بلعبته تلك ليترك له الصندوق بهذه الطريقة ؟ هل يتوقع منه أن يقرأ كل ما فى داخله ؟ لاشك أنها رسائل غرامية تؤكد أن زاين عرف الحقيقة القذرة كلها . أهذا ما أعتقد لورانس أن إبنه يستحقه بعد غياب دام تسع سنوات ؟ أهذا هو ميراثه ؟ لم يستطع زاين إلا أن يبتسم بسخرية وهو يتأمل الصندوق . حسنا ! لورانس لم يرغب بأن يمر الأمر بسهولة ، فهو لم يكن شخصا لطيفا أو ودودا ، أما هو فلن يشارك بهذه اللعبة . قرأ بما فيه الكفاية منذ سنوات مضت . بإمكان الصندوق أن يبقى مقفلا إلى الأبد .
غسل كيوتو الأطباق ، وأكمل تنظيف كل ما أستعمله . بعد مرور دقائق أصبح كل شئ لامعا من شدة النظافة . سأله كيوتو مقاطعا أفكاره : " أتريد المزيد من القهوة ؟ "
هز زاين رأسه رافضا ، ثم أبعد الصندوق بدفعة أخيرة قبل أن ينهض ، فهو لا يريد أى ذكريات من الماضى . لديه روبى لتذكره بها .
- شكرا لك ، كيوتو . لا أريد المزيد . على أن أنهى بعض الأعمال الهامة . هل هناك سيارة أستطيع قيادتها أثناء بقائى هنا ؟
هز رأسه ، وتبع يسأله : " لكنك عدت إلى المنزل لتبقى فيه دوما . أليس كذلك ؟ "
تنفس زاين بقوة . ما يفكر به الآن بالنسبة إلى الشركة لا يتعلق بالتزامه بها على المدى الطويل ، وهذا يستلزم عودة سريعة إلى لندن وإلى عمله هناك . بالطبع ، لابد من وجود عوائق عليه التعامل معها نظرا لموت والده المفاجئ . شخص ما عليه إستلام إدارة العمل فى تجارة اللؤلؤ . سيتمكن من وضع مدير إدارى بطريقة ما ، لكن البقاء ليس خياره الآن .
أجاب من دون أن يعطى أى وعد : " سنرى ماذا سنفعل ، كيوتو . لكن أولا ، على التأكد من أن الشركة ستتابع أعمالها فى هذه المرحلة العصيبة من دون وجود أبى كمدير وحارس لها "
علق كيوتو ملوحا بيده كأنه يبعد عنه قلقه : " ليس هناك من مشكلة . الآنسة روبى تهتم بكل شئ ، فلا تقلق "
تجمدت ملامح زاين ، كأن سكينا حادة بدأت بتقطيع أفكاره . سأله : " ماذا تقصد بقولك ؟ "
- الآنسة روبى هى الآن فى المكتب ، تتولى إدارة كل الأمور العالقة .
إنها تجلس الآن فى مكتب الده كانها تملكه . تضع الملاحظات على جهاز الكومبيوتر النقال ، وهى تدرس ملفا وضعته أمامها على طاولة المكتب . قال زاين معلنا حضوره بكلمات قاسية : " أرى أنك لم تضيعى أى دقيقة من الوقت "
رفعت روبى نظرها ، وللحظة بدت مندهشة ، قبل أن تنزل أهدابها ، وتتحول عيناها إلى لون أزرق بارد كالثلج ، وتمتلآن بالحذر . - توقعت أن تنام لفترة أطول .
ابتسم بسخرية ، وأجاب : " وهل أعتقدت أنك ستتمكنين من إدارة الشركة قبل أن أستيقظ ؟ "
قطبت روبى جبينها ، وسألته : " لماذا تفكر على هذا النحو ؟ "
حرك يده مشيرا إلى المكتب الفخم قائلا : " لأنك هنا ، وبالكاد مضت أربع وعشرين ساعة على وفاة والدى . أنت فى مكتبه ، تحتلين مركزه "
وضعت روبى قلمها جانبا ، واستندت إلى الوراء على كرسيها ، بل كرسى والده . ضاقت عيناها وهى تنظر إليه قبل أن تجيبه : " أهذا ما يشغل بالك ؟ أتخشى ان آخذ ميراثك الغالى منك ، وأسرق ثروة باستيانى للمجوهرات فيما أنت تنظر إلى وتراقبنى ؟ "
قال زاين من بين أسنانه ، وبنبرة لا تحمل أى شك بما يقوله : " لن تجرؤى حتى على التفكير بذلك ! "
ابتسمت ابتسامة لم تظهر إلا أسنانها : " إذا ربما من الأفضل أن تعلم أننى لست مهتمة للأمر مطلقا "
سألها وهو يسير ليصبح أقرب إلى المكتب العريض : " إذا كيف تفسرين وجودك هنا . اليوم السبت ، وهو ليس يوم عمل كما تعلمين "
فكرت ، كان على مغادرة المنزل . . . كان على الابتعاد عنك ! لكنها لن تقول له ذلك . لن تعترف بأفكارها تلك حتى لنفسها . بدلا من ذلك ، استجمعت كل ما لديها من قوة لتواجه اقترابه قائلة : " هناك عمل على القيام به . كنت ولورانس منشغلين بمشروع معا فى الأسبوع الماضى عندما أصيب بالأزمة ، وما زال الملف على مكتبه . كما أننى لا أعتقد مطلقا أنه كان لينزعج لو استعرت مكتبه لفترة قصيرة "
لم يعلق مطلقا على سخريتها . سألها : " أى نوع من الأعمال ؟ "
تأملته روبى مليا وهو يلتف حول المكتب ليقف بجانبها . لاحظت أنه يرتدى سروالا قطنيا وقميصا ذات قماش ناعم . شعرت بالضيق مع كل خطوة تقربه منها . إنها ترتدى ثيابا رقيقة لتتحمل الحر ، فلماذا تشعر فجأة أن حرارتها ترتفع ؟ تبا له ! هذا ما قالته لنفسها طوال الليل . الآن وبعد أن تخطت صدمة لقائهما الأول ، وأصبح كل منهما يعرف تماما موضعه من الشخص الآخر ، عليها أن تبقى منيعة ضد قوته وجاذبيته الطاغية . اقنعت نفسها أنها ستجمع كل ما لديها من غضب لمواجهته ، لكنها أدركت أنها تخدع نفسها . لماذا هربت من المنزل ما إن لاح اول شعاع نور فى السماء ؟ ولماذا تشعر بمثل هذه الحرارة لاقترابه منها ، وكأنها تلامس مشعلا من نار ؟ ما زال غضبها كبيرا ، وكذلك انزعاجها منه ، لكن لا قدرة لديها على تجنب التأثر بهالة باستيانى . الابن سر أبيه! |