عرض مشاركة واحدة
قديم 18-09-08, 10:46 PM   #5

اسيرة الماضى

نجم روايتي وناقدة في قسم قصص من وحي قلم الأعضاء

 
الصورة الرمزية اسيرة الماضى

? العضوٌ??? » 5714
?  التسِجيلٌ » Apr 2008
? مشَارَ?اتْي » 2,703
?  نُقآطِيْ » اسيرة الماضى has a reputation beyond reputeاسيرة الماضى has a reputation beyond reputeاسيرة الماضى has a reputation beyond reputeاسيرة الماضى has a reputation beyond reputeاسيرة الماضى has a reputation beyond reputeاسيرة الماضى has a reputation beyond reputeاسيرة الماضى has a reputation beyond reputeاسيرة الماضى has a reputation beyond reputeاسيرة الماضى has a reputation beyond reputeاسيرة الماضى has a reputation beyond reputeاسيرة الماضى has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصـــــــــل الثانــــي


كان المنزل برواش البالغ ثلاثمائة عاماً من العمر ، مبنياً من الحجر الرملي ، وكان السقف مائلاً وإطارات النوافذ الخشبية مدهونة باللون الأبيض . كما كانت الجدران تبلغ القدمين سماكة . وكان روري و نيرن قد جهزا في الطابق الأسفل منه تدفئة مركزية ولكن لم يكن باستطاعتهما وضع نفس الشيء في الطابق الأعلى . ولهذا كانت غرف النوم باردة على الدوام في ما عدا فصل الصيف ، وكان هناك مدافىء ولكنهم كانوا يشعلونها في حالة المرض فقط لكي يشعر المريض بالدفء .
أو في مثل ظرف هذه الليلة . إذ جاءهم ضيف هو ستروم غالبريث والذي لا بد أنه يرقد الآن في فراشه بكل راحة ودفء ذلك أن غرفته تقع فوق المطبخ مباشرة كما أن النار تضطرم في المدفأة عنده .
كانت نيرن تفكر في كل ذلك وهي متكومة تحت الأغطية لم يسبق أن شعرت بالبرد قط في ما مضى . ولكن الأمر قد أصبح مختلفاً هذه السنة . وكانت صممت منذ أسابيع على أن تبتاع لنفسها بطانية كهربائية ، ولكنها ما زالت ترجئ الأمر إذ كانت دوماً تعتبر أن هناك ما هو أهم في الوقت الحاضر .


ولكنها هذه الليلة ، تأكدت من أنه لا يوجد على ظهر الأرض ما هي بحاجة إليه أكثر من تلك البطانية الدافئة ، فقد جعلها الركض بين الأشجار هذا المساء تشعر بالبرد في كل جسمها . ومع أنها جلست أمام المدفأة في غرفة الجلوس لمدة نصف ساعة تقريباً ، بعد أن خرجت كيلا و أسرتها فما زال البرد ينخر عظامها ، ورفعت ركبتيها إلى صدرها لتغطي بقميص نومها ، جسمها حتى قدميها المثلجتين ، وهي تلقي ببصرها إلى المنبه الموضوع بجانب صورة روري على المنضدة الملاصقة للفراش ...
كان الليل يقترب من منتصفه ..
ما هذا؟
وأمسكت أنفاسها . ما هذه الضجة فوقها؟ انه صوت ارتطام بالأرض ، وكأن شخصاً اصطدم بشيء ليقعا معاً على الأرض .
ودون أن تقف لتفكر في الأمر ، أنارت المصباح الموضوع على المنضدة ، ثم أزاحت الأغطية جانباً ، ومن ثم قفزت من السرير . ذلك أنه لم يكن هناك أحد في المنزل ما عداها و ذلك الضيف ستروم غالبريث ، فماذا يمكن أن يكون حدث؟ هل تراه وقع أرضاً؟ هل أصابه ضرر ما؟ أم أنه أصيب بنوبة قلبية؟
وكانت قبل دخولها الفراش قد نشرت فوق الأغطية معطفها المنزلي طلباً لمزيد من الدفء فأسرعت ترتديه وهي تسرع خارجة من الغرفة على ضوء مصباح صغير كانت قد تركته مضاءه ، قبل دخولها إلى غرفتها . وعلى ضوئه توجهت نحو غرفة ستروم .
كانت قد صممت على أن تقرع باب غرفته بعنف ، منادية إياه باسمه ولكنها ترددت عند وصولها إلى الباب . ماذا لو لم تكن الضجة آتية من غرفته . ماذا لو كان نائماً؟ انه لن يكون شاكراً لها إيقاظه من نومه في منتصف الليل.
بدلاً من ذلك ، قررت أن تفتح الباب بهدوء ثم تتسلل إلى الداخل ، دون الحاجة إلى إنارة المصباح لأن الضوء المتوهج من نار الموقد كان كافياًَ لتعرف منه ما إذا كان الضيف بخير أم لا . وهكذا ، أمسكت بمقبض الباب الخشبي ، ثم أدارته بكل حذر وصدر لذلك صوت ضئيل جعلها تعبس وهي تهمس لنفسها متجاهلة البرد الذي تشعر به في قدميها الحافيتين ، بينما ابتدأت تدفع الباب إلى الداخل بكل هدوء وأنفاسها ترتجف .
ولكنها لم تكد تفتح الباب عدة سنتمترات حتى جذب الباب من الداخل بعنف ، فشهقت ولكن قبل أن تستطيع الرجوع إلى الخلف ظهر ستروم غالبريث في العتبة مشرفاً عليها بقامته التي بدت كشبح مظلم .
لم يحاول أن يشعل المصباح , لأن المكان كما سبق وتكهنت كان مناراً بالضوء المتوهج من نار المدفأة . فاستطاعت أن ترى شعره الأسود مشعثاً.
وسألها بعنف ويداه على وركيه : " ماذا تريدين؟ "
وسرعان ما تبدد شعور نيرن بالارتياح لدى رؤيتها له واقفاً بدلاً من أن يكون مسطحاً على الأرض ، تبدد إزاء لهجته العدائية تلك بما تتضمنه من اتهام .
وعندما جالت ببصرها في أنحاء الغرفة رأت أن لا شيء في المكان قد اختل نظامه ، فقد كانت حقيبته موضوعة بجانب الخزانة ، كما كانت حافظة نقود من الجلد موضوعة على منضدة الزينة بجانب الباب ، وعدا عن ذلك وعن بعثرة أغطية الفراش ، لم يكن في الغرفة ما يدل على أنها مسكونة ، ما جعل نيرن تفكر في أن السيد ستروم غالبريث هو رجل منظم حقاً .
ولكنه كان أيضاً في هذه اللحظة رجلاً في غاية الغضب .
وقالت له بسرعة : " ظننت أنني سمعت ضجة ما ... كلا ، بل سمعتها بالتأكيد . سمعت صوت تحطم شيء ثم شيئاً ثقيلاً يرتطم بالأرض وكأنه جسد ... فظننت أنه ربما حدث لك مكروه .... "
فقال : " ما أغرب هذا ، فأنا لم أسمع شيئاً . "
ولاحظت تغير التعبير الذي كان على ملامحه ، وقد تلاشى التوتر الذي كان يضغط شفتيه ، لتظهر بدلاً من ذلك على شفتيه ابتسامة باهتة .
فقالت بعناد : " ولكن لا بد أنك سمعت إلا إذا كنت نائماً . "
فقال : " إن نومي خفيف جداً ، يا سيدة كامبل ، وأنا أؤكد لكِ أنه لو كان هناك ضجة من أي نوع كان لأيقظتني حتماً . "
فقالت : " إذن ..... " وقطع كلامها صوت قرقعة النار في المدفأة أشبه بسلسلة من المتفجرات . إن هذا طبعاً يفسر عدم سماعه أي ضجة أخرى .
وتابعت قائلة : " لا بد أن صوت قرقعة النار قد غطت على أي صوت آخر ...."
فاستند إلى جانب الباب بتراخ وهو يقول : " أو ربما لم يكن هناك أي ضجة . ربما ...... "
لقد علمت بالطبع ما سيقوله قبل ثانية واحدة من قوله هذا . علمت بالضبط ما يظنه سبب حضورها إليه في منتصف الليل.
لقد قال بلطف : " ربما يبدو المكان هنا موحشاً في ليالي الشتاء الطويلة ، ربما كنتِ تريدين رفيقاً ... " وقبل أن تدرك ما الذي يفعله ، كان يتأملها بنظرات تنم عن السخرية أكثر منها استفزازية وهو يتابع قائلاً : " ربما تشعر الأرملة الجميلة بالوحدة ... "
فتراجعت نيرن إلى الخلف ، ثم قالت بصوت حاولت أن يبدو هادئاً : " يا سيد غالبريث أن الرجل الذي يتكلم عن الأشياء البغيضة ، تلميحاً لا يعجبني ، فأنا أفضل الحديث المباشر مهماً كان فظاً . فإذا كنت تظن أنني جئت إلى غرفتك بغية التحرش بك ، فلماذا لا تقول هذا بشكل مباشر؟ "
وأدركت فجأة أنها كانت تقبض يديها بعنف ما جعل أظافرها تنغرز في راحتيها ففتحت قبضتيها ثم وضعت يديها في جيبي معطفها ، وهي تتابع قائلة :" إن هذا هو عندي أفضل كثيراً من ذلك التلميح المهين . ولكنني سأجيبك على ذلك على كل حال . نعم إنني أرملة ، ونعم يبدو البيت موحشاً ، موحشاً جداً من دون زوجي ولكنني لا أبحث عن بديل يحتل مكانه ... ولكن إذا كنت أبحث فأنا لا أظنك تصل حتى إلى التصفية النهائية بين المرشحين . فأنت رجل يبدو خالياً من أي دفء إنساني ."
هاهي قد قالت كل ما ينبغي أن يقال ، فإذا كانت قد بالغت في ذلك فهذا ما لم يكن بمقدورها تجنبه. وشعرت بقدميها كتلتين من الثلج ، حتى أنها بذلت جهداً كبيراً لتحركهما . فاستدارت عائدة إلى غرفتها وكانت طيلة الوقت تحبس أنفاسها متوقعه أن يتبعها ليعتذر إليها ، ولكنه لم يفعل .
وبعد ذلك بلحظات ، كانت قد عادت إلى فراشها وقد تأكدت بأنها لن تتمكن الآن من النوم . ليس لأنها كانت تشعر ببرد أكثر مما كانت تشعر به قبل أن تقوم بهذه الرحلة التعسة إلى غرفة ضيفها ذاك ، وإنما لتأثيره الغريب ذاك عليها والذي تعذر عليها تفسيره .
غرفة لهذه الليلة ، هذا ما قاله . حسناً إن هذا يعني ليلة واحدة فقط وهذا معناه أنه سيرحل بعد تناوله طعام الفطور . ومن الواضح الجلي أن لهذا الرجل مشكلات ، مشكلات هامة . أما هي فان لديها ما يكفي من المشكلات ، فهي تحاول أن تتدبر أمور نزلها برواش من دون زوجها ، كما أنها قلقة بالنسبة لإيجاد أعمال للفتية المراهقين الذين يعملون لديها لكي تشغلهم بها في خارج الموسم دون الحاجة إلى استخدام غيرهم . فلو كان عندها ما يكفي من الوقت لكان بإمكانها بطبيعة الحال أن تساعد هذا الرجل الغريب .... أو على الأقل ، وضعه في الطريق حيث يتابع بنفسه الوصول . ذلك أنه من المؤكد تقريباً أن هنالك شيئاً في ماضيه يعذبه .. وما لم يخرجه إلى العلن ليواجهه مباشرة ، فلن يكون في إمكانه أبداً أن يتعامل مع مستقبله . وتنهدت نيرن وهي تدعك قدميها الواحدة بالأخرى مرة بعد مرة ، مرغمة نفسها على إبعاد التفكير بهذا الرجل لتوجه أفكارها إلى أنها في بلد دافئ الآن مثل شاطئ استوائي والجو خانق الحرارة والشمس ترسل أشعتها اللاهبة على الأرض ....
وأخيراً ، ابتدأت تشعر بالدفء ولكن ما أن ابتدأت تستسلم للنوم ، حتى طرأ على ذهنها خاطر أيقظها تماماً ، وهو إذا لم يكن ما سمعته من خبط وارتطام بالأرض قد قام به ستروم غالبريث ، وليس لديها ما يدفعها إلى الاعتقاد بأنه كاذب فمن هو الفاعل إذن ؟
أترى هذه الضجة جاءت من الغرفة الصغيرة على السطح؟ ربما هي الريح قد هبت من إحدى النوافذ مما تسبب بسقوط شيء على الأرض ، فيكون هذا هو الصوت الذي سمعته والمصحوب بالارتطام بالأرض . لا بد لها من تفحص الأمر ....
وأغمضت نيرن عينيها وهي تجر الغطاء إلى ما فوق رأسها . إنها طبعاً لن تفتش عن مصباح لتصعد ذلك السلم الضيق المكشوف وحدها إلى تلك الغرفة الصغيرة لكي تطوف هناك بين الظلال متحسسة الأشياء غير عالمة بما قد تجد . كما أنه ليس بإمكانها أن تطلب من السيد ستروم غالبريث مرافقتها بعد ذلك الاستقبال الذي تلقته منه آنفاً . إنها ستؤجل تفحص تلك الغرفة إلى الصباح بعد أن يكون هو قد غادر المنزل .
كان الجو دافئاً تعبق فيه رائحة البيض المقلي والقهوة ، عندما صدر عن الكلب شادو زمجرة منخفضة عرفت هي منها أن الضيف في طريقه إليها قادماً من غرفته . فاغتصبت ابتسامة وهي تستدير إليه حاملة المقلاة في يدها ،
وفي اليد الأخرى ملعقة طويلة ، لتراه واقفاً على العتبة تشع منه رجولة فياضة بكنزته وبنطلونه الأسودين وشعره الأسود المسرح إلى الخلف بدون اهتمام . وتسارعت خفاقات قلبها قليلاً وهي ترى النظرة غير العادية التي بدت في عينيه الزرقاوين وذلك باستدارتها المفاجئة إليه على غير انتباه منه . فقد خيل إليها أنها رأت في عينيه ومضة غريبة سرعان ما أخمدها بنظراته السريعة .
وحدثت نفسها وهي تحييه بخفة ، بأنها لا بد كانت تتخيل ذلك فما الذي يجذبه فيها؟ فهي ليست من نوع نساء المدن الرشيقات الأنيقات اللاتي قد اعتاد عليهن . إنها لا تعدو أن تكون امرأة ريفية طويلة القامة ذات شعر كثيف أحمر جلب الشقاء إلى حياتها! فلماذا يجعلها وجوده تشعر بمثل هذا الضيق؟ لماذا أصبحت فجأة تهتم بمظهرها؟ وحدثت نفسها تأمرها بالهدوء . فهو سرعان ما سيرحل إنها ستقدم إليه الفطور ثم ترسله في طريقه وعندما تنتهي من تغيير ملاءات سريره وتنظيف الغرفة ستنسى كل شيء عنه وكأنه لم يكن .
وقالت له : " إنني أقدم الطعام للمستأجرين ، عادة في غرفة الطعام ولكن بما أنك بمفردك لا أظنك تمانع في تناول الفطور في المطبخ ، فهو أكثر دفئاً في فصل الشتاء ."
وأشارت بالملعقة التي في يدها إلى المائدة الخشبية المستديرة وهي تتابع قائلة : " يمكنك أن تسكب لنفسك القهوة وسأكون معك بعد لحظة . "
ورغبة منها في التظاهر بالعفوية وعدم الاهتمام ، أخذت تهمهم بأغنية خفيفة وهي تعد شرائح اللحم والبيض المقلي ، والفطر والطماطم المشوية ، ذلك أنها قررت بحزم أن أفضل ما يمكنها عمله هو أن تتظاهر بأنه لم يحدث بينهما شيء قط الليلة الماضية .
واستدارت متوقعة أن تراه جالساً إلى المائدة ولكنه كان واقفاً ينظر من خلال النافذة وظهره إليها ، فتنحنحت وهي تتقدم من المائدة تضع عليها طبقه وتقول : " لقد تغير الجو هذا الصباح فهو يبدو كأيام الربيع . كنت ارتديت سترتي السميكة عندما خرجت للتمشي من فترة ، ولكنني عند عودتي خلعتها بعد أن شعرت من حرارة الجو بأن كنزتي هذه تكفي تماماً . "
فاستدار إليها ، لترى أن بشرته كانت أشد اسمراراً مما كانت تظن . وبدا أن لونه القاتم قد أظهر زرقة عينيه الحادتين أكثر جلاء وسألها : " هل سبق لكِ الخروج هذا الصباح؟ "
فأجابت : " نعم فأنا آخذ شادو كل صباح في نزهة قصيرة . "
فقال وهو يلوي شفتيه : " نزهة قصيرة؟ كم من الوقت تبلغ هذه النزهة القصيرة يا سيدة كامبل؟ "
فألقت نيرن نظرة على الكلب الذي كان يضرب الأرض بذيله بعد إذ سمعهم يذكرون اسمه وقالت : " إننا نسير إلى الطرف الآخر من غلينكريغ ثم على امتداد البحيرة إنها تأخذ قرابة الساعة .... فهي على بعد أميال تقريباً . "
فقال ساخراً : " آه ، أهذه هي النزهة القصيرة؟ " وعاد ينظر من النافذة نحو مشاتل النباتات الممتدة إلى اليمين وهو يقول : " هل لديك مزرعة لتزويد السوق بالخضراوات ؟ "
فهمهمت وهي تشكر حظها على أنه يبدو على خلق مهذب هذا الصباح ويبدو أنه قرر هو الآخر أن يضع ما حدث الليلة الماضية خلف ظهره .
أدنت كرسياً نحو المائدة لأجله وكتمت ابتسامتها وهي ترى ومضة دهشة على ملامحه إذ رآها تجلس هي أيضاً . هل كان يتوقع منها أن تتصرف كخادمة فتنتظره إلى أن يفرغ من طعامه لتجلس وتتناول طعامها؟ وسكبت فنجانين من القهوة وانتظرت إلى أن جلس فمدت إليه يدها بفنجانه .
قالت وهي تدهن قطعة من الخبز المحمص بالمربى : " كنت تسألني عن المزرعة وسأشرح لك الأمر الآن . إنها عملية مزدوجة في الحقيقة ذلك أن المنزل مؤلف من قسمين ، المزرعة والمنزل ، فقسمي أنا هو المنزل .. وأثناء الصيف كما أخبرتك أدير نزل برواش الذي يقدم غرفة وفطوراً . أما روري والفتيان فقد كانوا يعتنون بالمزرعة فيستنبتون الخضر والفواكه لبيعها في الجنوب غالباً ولكن ..... "
فسألها مقطب الحاجبين وهو يرفع لقمة إلى فمه : " الفتيان؟ "
فأجابت : " لقد كنا أنا وزوجي ، مشتركين في مؤسسة اجتماعية تخص المنطقة قبل أن أرث نزل برواش وقد اهتممنا بعمل المؤسسة تلك بشكل خاص ، فكنا نوظف الأحداث الذين يرتكبون الأخطاء لأول مرة والذين توصينا بهم المحاكم ، فنعطيهم عملاً وتدريباً وتفهماً ، وعندما يصبح لديهم الاستعداد الكافي ، يتركوننا إلى العمل في الأسواق تاركين مكانهم لآخرين هم أكثر حاجة منهم إليه . "
سألها قائلاً : " وكم لديك الآن منهم؟ "
فأخذت رشفة من قهوتها قبل أن تجيب : " انهم ثمانية حالياً بما فيهم كيلتي ، بالرغم من أن وضعه مختلف ولكنهم ليسوا هنا حالياً . "
ولسبب ما لم تفهمه نيرن ، توتر الجو في الغرفة فوضعت الفنجان من يدها وهي تتفرس بفضول في وجه الرجل الجالس أمامها . كان قد وضع لتوه لقمة في فمه بدا أنه سيظل يمضغها دون نهاية ، إلى أن ازدردها أخيراً ،
فوضع الشوكة والسكين في طبقه ، وقال وهو يستند إلى الخلف : " الفتيان ليسوا هنا؟ "
كان في صوته بساطة متكلفة كذبها التوتر الذي بدا على ملامحه وهو يتابع : " وأين هم؟ "
فأجابت : " انهم في مكان ما في الشاطئ الغربي ... إنني لا أعرف مكانهم بالضبط حيث انهم يبحرون في سفينة ، إنها رحلة بحرية خارج البلاد وسيتغيبون لمدة ثلاثة أسابيع وهي من تخطيط المركز الإقليمي وسيثير عجبك عندما تراهم يعودون وقد امتلئوا ثقة بأنفسهم وشعوراً بالكرامة ، وحسن تهذيب ، وبالنسبة إلى البعض منهم فهي المرة الأولى ... "
وتلاشى صوتها وهي تراه منصرفاً عنها كلياً وذلك في نظراته الشاردة وتملكتها موجة انفعال ،
ليس بسببه فقط وإنما بسبب كل الآخرين الذين يتضايقون من الحديث عن المراهقين ومشكلاتهم . ألا يعلمون أنهم بإهمالهم هذه المشكلات وبعدم معالجتها من جذورها سيواجه المجتمع في السنوات القادمة مشكلات أكثر خطورة؟
ودفعت نيرن بشكل مفاجئ كرسيها إلى الوراء وجمعت جدائل شعرها الأحمر إلى ظهرها وهي تتنهد بضعف فان هذا الجهد القليل الذي تبذله في سبيل حل هذه المشكلات سينتهي وقريباً جداً حيث أن روري لم يعد هنا ليشاركها هذا العبء لقد استطاعت بمساعدة الفتيان ، أن تتدبر الأمر بدونه ، على نحو ما ، في الصيف الماضي ولكن هاهو ذا الربيع يقترب بينما هي تعلم أنه لم يعد بإمكانها أن تؤجل قرارها بعد الآن وهو أن الحالة الاقتصادية لم تعد تسمح لها بأن تتابع العمل في برواش من دونه . واستئجار شخص لمعاونتها قد أثبت استحالته لقد سبق وأجرت مقابلات لبعض طالبي العمل في الشؤون الاجتماعية ، ولكنها لم تجد الشخص الذي يجمع إلى اختصاصه ذاك ، مهارة في الزراعة والتسويق والميكانيكا وكل المهارات الأخرى التي كان روري يحسنها . المهارات التي كانت توفر عليهما الكثير من التكاليف ،
وعادت تتنهد تاركة المائدة وهي تقول : " أرجو المعذرة ، بإمكانك أن تتابع فطورك بمزيد من القهوة والخبز المحمص إذا شئت . "
فأجاب : " كلا ، علي أن أذهب الآن ، لقد كانت وجبة ممتازة . "
وأضاف الجملة الأخيرة بإيجاز وكأنه يعرف الكلمات الصحيحة ولكنه لا يعرف الطريقة الصحيحة لألقائها ،
و أزاح كرسيه إلى الخلف ، ثم هب واقفاً وهو يقول : " أريد منك الفاتورة من فضلك ."
كانت نيرن قد أعدت الفاتورة مسبقاً فناولته إياها وأخذت تنظر إليه وهو يضع يده في جيب بنطلونه الخلفي ، ثم رأته يعقد حاجبيه وهو يقول : " لقد نسيت المحفظة في غرفة النوم . "
فقالت : " لماذا لا تصعد وتحضر أشياءك انك ستجدني هنا في المطبخ حين تعود ."
أخلت نيرن المائدة ومسحتها بعد أن وضعت الأطباق في حوض الغسيل الذي سبق وملأته بالماء الساخن ومسحوق التنظيف ، ثم أسرعت تغسل الفناجين والصحون بعد أن ارتدت قفازي العمل المطاطين وكانت على وشك أن تعلق فنجاناً على العلاقة الخاصة بالفناجين عندما سمعت صوت خطوات ستروم في القاعة كانت خطواته عنيفة توحي بالغضب وزمجر الكلب وهو يخرج من مكانه الدافئ تحت الموقد قادماً نحو نيرن وقطبت هي جبينها بينما كانت تخلع قفازيها ثم ربتت على رأس الكلب وهي تهمس له : " لا بأس اهدأ ..."
" إنها غير موجودة " وكانت عينا ستروم غالبريث تقدحان شرراً وهو يقول : " كانت محفظتي موضوعة على طاولة الزينة حين نزلت ولكنها الآن غير موجودة ..... "
فقالت : " ولكن هذا مستحيل فليس هنا غيرنا نحن الاثنين ربما تراها انزلقت خلف المنضدة أو .... "
فقال مزمجراً : " ألا تفكرين في أننـــي لا بد وفتشت عنـــها في هذه الأمكنة؟ "
وحاولت نيرن أن تلتزم الهدوء فان لهذا الرجل سلوكاً خشناً يكاد يخرجها عن طورها ، وبسهولة تامة . وقالت بصوت هادئ قدر الإمكان : " دعني أصعد بنفسي وأعاود التفتيش . "
وعندما كانت تجتاز الصالة ، كانت تشعر بخطواته خلفها إلى حد كادت تحس معه بحرارة أنفاسه الغاضبة ، وأخذت تتساءل بقلق أين عسى أن تكون محفظته تلك؟ ما الذي جعلها تركض خلفه تلك الليلة؟ لماذا لم تتركه يذهب وحده؟ لقد سبق وأخبرته كيلا أن النزل يفتح أبوابه أثناء الصيف فقط .. فما الذي جعلها تركض خلفه بهذا الشكل؟ لقد سبب لها هذا الرجل من المشكلات أكثر مما سببه لها كل نزلائها معاً .
كان باب غرفة نومه مفتوحاً ، فدخلها ستروم على الفور ، بينما تحولت عيناها نحو المنضدة التي كانت رأت فوقها المحفظة في الليلة الفائتة و ......
وهتفت بحدة : " تلك هي محفظتك ، أمام عينيك! كيف لم ترها؟ "
واستدارت تحدق فيه بعينين تنطقان بالاتهام وهي تتابع قائلة : " ما الذي جعلك تقوم بهذه اللعبة؟ "
ولكنها اعترفت في داخلها بأنه فوجئ هو الآخر بل أكثر من هذا كان مصعوقاً تماماً فإذا كان يمثل عليها دوراً فهو ممثل قدير .
وقال وهو يتخلل شعره بأصابعه مذهولاً : " ولكنني أقسم .... "
فقالت بحزم وهي تأخذ المحفظة ثم تلقيها إليه : " حسناً يا سيد غالبريث فأنت لا تبدو من ذلك النوع من الرجال الذين يتهربون من دفع الفاتورة ، هل لك أن تفتح المحفظة لتتأكد من أنه لم ينقص منها شيء من فضلك؟ " وأخذت تحملق فيه وقد رفعت وجهها .
واشتد التوتر بينهما ، وهو يتحقق من محتويات المحفظة من الأوراق المالية ثم مجموعته من بطاقات البنوك .
وأخيراً قال بفتور : " لا شيء مفقود . "
وودت نيرن لو تسأله عما كان يتوقع ، ولكنها قالت بدلاً من ذلك : " هذا حسن ." ثم مدت يدها وهي تتابع ببرود : " والآن إذا شئت أن تدفع لي الحساب ثم تحمل معطفك وحقيبتك وتذهب ، فسننسى كل ما حدث . "
بدا عليه الذهول وهو يتناول الأوراق المالية من محفظته دون أن ينطق بكلمة ثم يناولها إياها ، ويستدير ليحمل حقيبته . وعندما فتح فمه ليقول شيئاً ، عاد فأطبقه بعد أن رأى نظرة اللوم في عينيها كان واضحاً أنه لم يجد من الكلام فائدة .
وبعد دقائق كانت توصله إلى الباب الأمامي وبعد تحية مختصرة جداً ألقتها عليه أغلقت الباب خلفه جيداً وهي تحدث نفسها قائلة ها قد انتهيت من السيد ستروم غالبريث و تابعت وهي تستند بظهرها إلى الباب مغمضة العينين تستمع إلى صوت هدير سيارته وهي تبتعد ، تابعت تفكر في أنه من ذلك النوع من الرجال الذين يتسببون بالمشكلات أينما يحلون . كان في نفسيته نوع من القلق كان ينتقل منه إلى نفوس المحيطين به ، كما انتقل إليها هي نفسها على الأقل . اعترفت بذلك شاعرة بالاستياء . كان كل ما تريده بعد رحيل روري هو السلام وأن تبقى وحدها مع ذكرياتها . صعدت السلالم بخطوات يملؤها التصميم وابتدأت تجمع ملاءات سرير ستروم وبعد أن ألقت بها في الغسالة ، عادت تنظف الغرفة والمدفأة وعندما عاد كل شيء كما تريد ، وغسلت يديها من الرماد وسواد الفحم ، تنفست بارتياح بعد أن أنهت هذه المهمة التي كانت تنتظرها طيلة الصباح .


اسيرة الماضى غير متواجد حالياً  
التوقيع
سكرنا ولم نشرب من الخمر جرعة
ولكن احاديث الغرام هي الخمر
فشارب الخمر يصحوا بعد سكره
وشارب الحب طول العمر سكران




اشعر اننى انفاس تحتضر....بين رحيل قادم... ورحيل ماضى.....متعبا كل ما فينى
رد مع اقتباس