[MooNy87]

كانت أضواء الزحافات تعمى العيون .. لكن الجليد المتساقط جعلهم عاجزين عن فتح عيونهم أصلا ..

إن المشى على هذا الجليد عسير حقا .. أضفلهذا أن عضلاتك كلها متجمدة حتى توشك على أن تهشمها فى كل مرة تحرك فيها , و برغم معاطف الفراء السميك و القلنسوات و القفازات , فإن البرد كان قادرا على الوصول إلى مركز وجودك ذاته .. تذكر ( هالتين ) الدعابة القديمة حول الكرة التى طارت فى الهواء فتجمدت و لم تسقط على الأرض .. هذا مخالف لقانون الجاذبية , لكن قانون الجاذبية نفسه قد تجمد !

أضواء ( سانت ألمو ) فى كل مكان , و هى ظاهرة عجيبة لمن لم يرها من قبل .. إنها تلك الهالة الزرقاء حول الأنوف و الغلايين المشتعلة .. و لم يكن ( هالتين ) يعرف أن هذه الظتهرة تحدث فى ( ألاسكا ) .. كان يحسبها مقتصرة على القطبين فقط ..

سيارة الشرطة تقف جوار الزحافة و أضواؤها لا تكف عن الوميض .. أزرق .. أحمر .. أزرق .. أحمر ..

رجل الشرطة يقترب منه و هو ينفض الثلج عن كتفيه و يقول له :

- " يمكنك الحفر .. إن وضعكم قانونى تماما .. "

لمن لا يعرفون أن هذه القرية ( بريفيج ) , نقول لهم بكل ثقة إنها قرية ( بريفيج ) .. تلك القرية المنكوبة التى أبيدت عن بكرة أبيها عام 1918 بوباء الإنفلونزا القاتل .. حتى صارت تذكرك ب ( سدوم و عمورية ) .. الفارق هنا أن هذه القرية لم تعرف بالشرور بشكل خاص ..

ها هنا يرقد ضحايا الإنفلونزا تحت الثلوج منذ مائة عام تقريبا .. معنى هذا أن أنسجتهم سليمة ..

و على ضوء الكشافات الساطعة ووسط رجال الشرطة , بدأ البلدوزر يزيح الجليد عن تلك الساحة التى يعتقد أن أهالى القرية دفنوا فيها قديما ....

مهمة صعبة هى .. و قد استمرت بضع ساعات , و فى النهاية استطاعوا أن يروا عظاما بشرية ..

- " أوقفوا الحفر و ليستمر الرجال بالرفوش "

و راح الرجال يزيحون الثلج و هم يلهثون .. و اللهاث نفسه كان يتحول إلى مسحوق ثلج يتعلق بحواجبهم و لحاهم .. لم يكن البرد مما يسمح للعواطف بأن تبرز إلى السطح , و لهذا لم يستطع أحد فى أن يفكر فى كل هؤلاء الذين عاشوا و أحبوا و ضحكوا منذ ثمانين عام تقريبا , ثم هلكوا جميعا فى أسبوع واحد .. و الغريب أن أحدهم لم يتصور أن عظامه ستخرج إلى الناس بعد كل هذا الزمن لتقدم جوابا على سؤال ..

لكن ( هالتين ) لم يكن مسرورا :

- " عظام ! .. هذا لا يعد بالكثير .. النتيجة لن تختلف عن أية مقبرة فوق السطح .. "

ثم حك رأسه :
- " هناك طبقة جليد لا تقل عن متر .. فماذا كان دورها ؟ "

قال رئيس الشرطة و هو يصب لنفسه بعض القهوة الساخنة من ترموس , حيث وقف جوار سيارته :

- " لا نعرف ما حدث خلال مائة عام بالتحديد .. ربما ذاب الجليد عدة مرات .. "

و ساد الصمت ..

فجأة هتف أحدهم أنه وجد شيئا .. و جرى ( هالتين ) ليقترب محاذرا أن ينزلق على الجليد فيحطم عنقه .. ووقف ينظر عبر الحفرة التى تحت مستواه بمترين ..

كانت هناك امرأة .. ( بالفعل جثة امرأة بدينة نائمة على ) و هو يرمق ملامحها و شعرها الأشقر المتجمد على الكتفين .. بدا له كأنما ظهرها .. امرأة كاملة المعالم فيما عدا أن يديها المعقودتين على صدرها كانتا عظاما .. و قد ارتجف ( هالتين ) هى نائمة لا أكثر .. و كان وجهها جميلا .. أضف لهذا أن بدانتها المفرطة – على الأرجح – كانت من عوامل الجمال عام 1918 . عن هذه المرأة كانت الأشعار تكتب منذ ثمانين عاما ثم لم تعد هناك امرأة و لا أشعار و لا شعراء ..

لكن لو شغلنا جهاز التجرد العلمى , لقلنا إن هذا هو النجاح بعينه .. سر جمالها قديما هو سر نفعها حديثا ..

و هتف ( هالتين ) و هو يرتجف انفعالا و حماسا :

- " هذا الدهن عامل عزل ممتاز .. و لا بد أن الفيروس فى رئتيها ما زال بحالة طيبة ! "

سوف يجد ( تاونبرجر ) كل الأنسجة التى يريدها ..

هنا قال أحد رجاله و هو يناوله شيئا :

- " قد أبدو مبالغا يا دكتور ... لكن ألا ترى معى أن وقت وضع الكمامات قد حان ؟ !! "



**************