عرض مشاركة واحدة
قديم 17-05-11, 04:09 PM   #20

القلم الحر

نجم روايتي كاتب و شاعر متألق في القسم الأدبي

 
الصورة الرمزية القلم الحر

? العضوٌ??? » 127837
?  التسِجيلٌ » Jun 2010
? مشَارَ?اتْي » 1,320
?  نُقآطِيْ » القلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond repute
افتراضي

28

ها أنا في الشقة وحدي ، أرتمي بلامبالاة على الأرض وأرنو للسقف في فتور ..
.. وأعيد في رأسي حديث هيفاء !

أشعل سيجارةً بعد أخرى .. باعثاً مع أنفاسي البنفسجيّة أفكاري ، فـ يتصاعد الدخان لأعلى راسماً وجه ساره ..
كنت في طريقي لمنزلنا ، لكن حديث هيفاء غيّر وجهتي ، أردتُ الإختلاء بنفسي هنا في هذه الشقة المهجورة إلا كل مساء ..
ثلاث ساعات لم أتحرك .. لم أغير حتى وضعيتي ، هكذا ، تمددتُ على الأرض وبدأتُ أستوعب ما قيل ..
أراجع كل كلمة وكل حرفٍ سمعت .


كنتُ أحتاج خبراً يأتي كنهارٍ ينقذني من ظلمتي .. يخبرني أن سارة تعيش معي هذه الحياة ولم تمت ..
خبراً يبتّ في أمر وساوسي التي تعصف بي كل ليل !
كان غيابها الطويل قد بدأ يصيّرها في تفكيري ميتة .. أيقنني بموتها و هذا أشد ما كان يحزنني .. كنتُ أرثي من لستُ على علمٍ بحقيقة موته !
طوال الشهرين المنصرمين ، وحين أفكر فيها ، كان قلبي يهجسُ بموتها ، ينقبض ، شيءٌ ما يخبرني أنها ماعادت حيّة ..
وأسوأ مافي الفقد ليس الفقد ذاته ، بل إجباره لك أن تنحدر في التفكير ونبش كل احتمالات الغياب .. كل شيءٍ مرجّح ! هكذا يخبرنا الغياب المفاجيء ،
لهذا .. كنتُ ضائعاً شهرين ، ميّتاً أمضي في زحمة الأحياء .. ولست منهم !

أما الآن .. في هذه اللحظة الآنيّة التي أتمدد فيها على أرضية الشقة .. الأمر اختلف !
بعد أن هاتفتني هيفاء .. شعرتُ أن الروح تسري فيني من جديد ، وبدأتُ أستعيد وعيي وأدرك ماحولي ، كرجلٍ أفاق من غيبوبة !
طالما سارة تتنفس هذا الأكسجين الذي أتنفسه ، وتشرق عليها الشمس التي تشرق علي ، ويغطيها الليل الذي يغطيني فأنا على الأقل .. حيّ !


جاء صوت صديقتها في طريق الخرج مثقلاً بالعتب ، وجاءها صوتي مثقلاً بالتعب !
كانت غاضبةً مني .. لستُ غبياً لتفوتَ علي اللهجة العدائية .. لكني لم أبالي بذلك ..
لم أهتم لنبرتها الحانقة ، آخر شيءٍ أفكر فيه هذا التعنيف الذي بدأتْ تسوقه ، كأنما كانت تتصل بي مكرهةً ليس إلا ..
شعرتُ في نبرتها بغضاً لي .. واحتقاراً لم آبه له ، حين أخبرتُها بأنني أنا فيصل من أنتِ ؟ ضحكت بإزدراء !


- هه انت فيصل .. اللي . . اللي ضيعت سارة !

وهتفتُ بسرعة :

- سارة بخير ؟!

- ماشاء الله يهمك يعني تكون بخير .. ما كأنك ..

- سارة حية ؟! تكفين لا تقولين ماتت ! سارة حية !
- حيّة أو ميّتة وش الفرق بالنسـ

- يا شينه انثبري .. قولي عايشة ولا لا !
...أغلقت الهاتف في وجهي !

كنتُ خرجت عن السيطرة على أعصابي، وأنفاسي تتلاحق كراكض ، أعرفُ أن خلف هذه المكالمة أخبارٌ أترقبها..
أوقفت سيارتي جانباً لأني لم أعد أستطيع القيادة ..
كل السيارات كل الطرقات كانت ترتسم في عيني كحرف " س " ، .. ركنتُ جانباً وبحثتُ عن رقمها في سجل مكالماتي المستلمة ..
بعد إعادة الاتصال ثلاث مراتٍ متوالية كإزعاج طفل ... أجابتني أخيراً .


- نعم خير !
- آسف ، انا منتهي ، أقسم بالله وضعي غير طبيعي شهرين .. تكفين قدّري
- رجاءً مرة ثانية انتقي ألفاظ أرقى مـ..
- طيب ! بس قولي سارة بخير، قولي ثم أنصحيني للصبح ..

كنتُ على وشك البكاء ..
وبدأ الأمر يتضح ..

" سارة بخير " .. جاءت هذه العبارة كنشيدٍ عذب .. ضربت مقود سيارتي منتشياً رغم جهلي بكافة التفاصيل اللاحقة ..
مازلتُ غريقاً لكنها على الأقل جرعة نفس !
أن تكون موجودةً معي في هذا الكون هذا ينفي عني صفة اليُتم الذي عشته شهرين !

" سارة بالرياض يافيصل " .. وهذه الجملة ماكانت إلا غناءً ، لم تكن مجرد خبر ، أردتُ أن أنزل من سيارتي وأصرخ في المارة ساااااارة بخير !
هذا يجعلني أدخل الرياض الآن كما لم أدخلها منذ شهرين ،
كنت أدخلها كمدينةٍ للأموات .. الأشباح .. كلما فيها يدب رعباً ، الآن عرفتُ أن فيها بعض حياة ..



أمنياتي مع سارة في هذه الأشهر كانت تتأرجحُ صعوداً ونزولا .. في البدء ، كنتُ أتمناها مجرد صديقة .. ليس أكثر ،
تأخذ أخباري وآخذ أخبارها ، نتشارك تفاصيل أيامنا كصداقةٍ مختلفة الجنس وغير معتادةٍ في بلدي ..
لكن صعد مؤشر الأمنيات فجأة ،
فأصبحت أتمناها حبيبةً أراها وتراني كعاشقين أوربيين نسكنُ عاصمة الصمت ..
سقفُ أمنياتي لم يتوقف هنا ، تصاعد عالياً يوم ضمتنا غرفةٌ واحدة قبل شهرين ،
حين كنتُ أخفي حقيقتي حتى عن نفسي وأقول " جلبتها هنا للحديث ليس إلا "!
والآن ..
الآن انظري ياسارة كيف هَوَت أمنياتي للدرك الخفيض ، مجرد أن تكوني بخير رغم البعد والفراق ،
أن تكوني على قيد الحياة .. هذه باتت غاية أحلامي .. أين كنا ، كيف صرنا !
"ماني على خبرك حبيبي تراني .. حتى عن صغار الأماني تنازلت .."

وبدأ الظلام الكثيف ينقشع رويداً .. جاء النور بعد شهرين .. متأخراً خيرٌ من أن لا يأتي ..

هاتفوا والدها في ليلة القبض على الحب !
كانت أكثر حظاً مني ، خرجتْ في ذات الليلة، لم تبت مثلي ثلاثة أيامٍ حسوما !
لكنها أسوأ مني حظاً فيما تبقى من أمور ..
لأول مرةٍ كان والدها يضربها منذ زفها القدر إليه قبل 23 عاماً !
كانت تتحدث لهيفاء وهيفاء تنقل لي ، حتى أشقائها عاملوها كقطعةٍ نجِسة ، تجافوا عنها مبغضين ..
حُرمت من حريتها من سائقها من أجهزتها حتى من غرفتها المستقلة ،
باتت تنام وتصحو في غرفةٍ تقابل غرفة والديها ، غرفةٌ تخلو من مفتاح .. يتعاهدونها بالزيارة كل ليل كـ سجينة !


أشعل سيجارتي الـ لا أعرف رقم كم .. أشعلها في سماء الشقة وأفكر ، كيف تفكيري أخذني بعيداً ..
كنتُ قد أصبحتُ جازماً في اعتقادي أن أهلها لا يبالون بشيء .. ليسوا مثلنا بتاتاً ..
عندما أراها تخرج وتدخل للبيت بحريةٍ لا تجدها النساء في مجتمعي ، بدأتُ أرى أهلها مجرد عائلةٍ غربيةٍ لا تهتم لأمر فتياتها !
حتى عندما قبضوا علينا .. كان في أعماقي رغم خوفي ، صوتٌ خفيٌ يهتف باستحياء أن أهلها لن يقفوا كثيراً عند هذا الأمر ،
"الأثرياء والغير منتميين، هؤلاء يتخطون الأمر سريعاً ليسوا مثلنا! " هكذا كنتُ أعزي نفسي .. يا للتفكير الرديء ..
كأنما باتت الغيرة وسورة الغضب والخوف على الأعراض أمرٌ يحدده آخر الإسم في البطاقة .. يخص أناساً دون سواهم ! هه
ابتسمتُ لأول مرة وأنا أنفث دخاني .. يا لظنوني الحمقاء ياسارة !


في الرياض ، كل فئةٍ من البشر ، كل الأسر التي تشكل نسيجاً وحيداً ، لا بد أن تحمل صفةً تلازمها وخصوصيّاتٍ لا ندري من أخبرنا بها .. لكننا نؤمن فيها جيداً !
الفلانيون : ابتعد عنهم ، لصوصٌ مهما أحبوك ، إن واتتهم الفرصة لسِرقتك لن يتوانوا عن فعلها !
الفلانيون : بخلاء ، لا يكرمون الضيوف ويخلون من الشهامة!
الفلانيون : لا يبالون بمحارمهم ، يفتقدون للغيرة ، لا يهتمون لأمر نسائهم !
الفلانيون : لا تصادق أحداً منهم لا تسافر معه لا تتحدث إليه بأسرارك " قليلين خاتمة " !
وهكذا .. نروح في دفاتر تعميماتنا نهب التعريفات بين قدح ومدح .
تجمعنا الرياض وتفرقنا الأسماء ، نتوارث هذه التعميمات كابراً عن كابر ..
وإن ادعينا الثقافة والوعي تفضحنا لحظة الغضب لينطلق السباب بكل هذا وأكثر !
لا نؤمن بالفرد ونتاج ادائه الخاص ، لكنا نؤمن بجماعته وعبارة التعميم الخاصة بها ونحاكمه بناءاً عليها ..
فيكتور هوجو يقول " كل عبارات التعميم خاطئة بما فيها عبارتي هذه " ..
لكن هوجو لو جاء إلينا لما توانينا عن محضه وجماعته تعميماً يليق به ونعتنقه كحقيقة ..


وما أنا إلا ابن بيئتي ومدينتي .. لهذا كان وقع الخبر عليّ فاتكاً ..
أحقاً والد سارة غضب للأمر كما نغضب ( نحن ) !! أحقاً ضربها كما كنا سنفعل لو صار الأمر في بيوتنا !
أليس ثرياً .. لا يهتم إلا لأعماله و****اته وأملاكه ، أليس يخلو اسمه من ( لقبٍ رنّان ) ! كيف صار مثلنا ( غيوراً ) ..
ألم يعطِ بناته كافة الحرية للدخول والخروج ، إذن ماالذي أغضبه ..
كنتُ أبتسم أخرى وأنا أردد هذا السؤال الذاتيّ، فسرتُ أمر حريّتهم الجزئية بعيداً بعيداً .. كما نفسر كل شيء بطريقةٍ خاطئة !

في الرياض .. أن تتحدث الفتاة بصوتٍ واثق في المستشفى في السوق ..
هذا يجعلها في نظرنا نحن البسطاء مجرد أنثى اعتادت محادثة الرجال !
أن نرى فتاةً ساهمةُ تتأمل البحر في المدن الساحلية ،
هذا يترك لنا إيحاءً غير لطيفاً ، إنها تريد منا المبادرة لعرض أنفسنا عليها ..
أن تمشي إحداهنّ بحسن نية ، فقط تمارس رياضة الجري ،
هذا يجعلها بالنسبة لنا صيداً ثميناً لأنها لا تستحي، يا لتفسيراتنا يا بلدي ..
أمثالنا البسطاء يجب أن ينفوا من الدنيا ، نحن أعداء الوعي ومصدر التلوث للحضارة .. قلتها لنفسي وللمرة الثالثة ابتسمت نافثاً دخاني ..
نفثتُه كما لو كنتُ أسدل الستار على كل هذه التعميمات الحمقاء .. وهذه الظنون السوداء .. وشعرت أني مدينٌ للإعتذار لسارة ..
كان سماعي لخبر ضربها من والدها قاصماً لي ولكل تعميمٍ آمنتُ به يوماً .. ولكل تفسيرٍ أحمق فسرته يوماً!


حتى شقيقها تركي ، الشاب الذي رأيته في الصيدلية قبل ثلاثة أشهر ، شقيقها الذي قالت إنه صديقٌ لها قبل أن يكون أخ ..
حتى هو أعلن مقاطعتها وتبرأ منها للأبد ..
أخبرتني هيفاء أنه بكى حين سمع الخبر .. ضربها وهو يبكي ، كان يضربها وينوح .. ثم تجافى عنها ولم يحدثها حتى اليوم !
أي مصيبةٍ أدخلتُ فيها تلك العائلة المسكينة ..
نعم ، لم يضربوا سارة في مركز الهيئة ، لكنهم تركوا الضرب لأهلها كما تركوا لسُمعتها الذبول كطرف شمعة ..
وذكرتُ وجه سارة و جسمها اللدن الغض وهو يتلقى الضرب .. وكرهتُ نفسي .. وعادت صرختها باسمي ترن في سمعي ..
وتخيلتها تصرخ في منزلها بين والدٍ مهتاج وشقيقٍ غاضب.. وشعرتُ بملوحةٍ تنسل في ريقي وعرفتُ أني رحتُ أبكي !



- كيف حصلتِ على رقم هاتفي ؟
- من سارة ، كنت عندها بالأمس ، بالكاد اختلينا دقيقتين حتى أعطتني رقمك وحملتني إليك رسالة ..
- ما هي ؟!
- أربع جمل : " عش حياتك فيصل ، الله يوفقك ، لا أستطيع العودة إليك أبداً ، سأبقى أحبك "


أربع جملٍ أعدتها في ذاكرتي منذ سمعتها .. منذ وصلت الشقة ورميت نفسي على الأرض وهي كالصدى تهطلُ في عقلي كل مرة ..
بلغ بي جنوني أن كتبتها في نص رسالةٍ في هاتفي وبدأت أقرأها ..أفتش حروفها جيداً .. أتأملها علني أكتشف فيها خبيئة .. أقرأها بصوتٍ عال وتارةً بيني وبين نفسي ..
أعدتُ قراءتها حتى أيقنتُ أن السطور و مابين السطور لا يوجد ثمة شيء.. إلا النهاية
و أن الأمر بات مستحيلاً .. وأننا حقاً افترقنا !


حين سألتُها عن حزن صديقتها يوم التقتني ..لماذا ؟! لماذا كانت نحيلةً شاحبة الملامح
قالت بأنها دفنت عنك خبراً لم ترد أن ينغصك ..
كانت تعيشُ جحيماً في أسرتها لمدة اسبوعين حتى وافقت !
-" وافقت على ماذا " ..
قالت لي وكأنها تطعنني بخنجرٍ مسموم : وافقت على الزواج بمنصور ، ابن صديق والدها !

آه ياسارة ، حين التقينا في تلك العمارة اللعينة قبل شهرين ، كان منظر عينيك يشي بأنكِ ترزحين تحت آلامٍ جسام ،
وكابرتِ حين قلتِ لي " دعنا من هذا الحديث، أحقاً نحن لوحدنا يافيصل " !
تباً لمنصور .. وتباً لوالده .. والأثرياء جميعاً .. وتباً لقبيلتي .. لو كنتُ خالياً منها لما سبقني إليكِ أحد !
وعاد الملح يتغزر في ريقي .. وأردتُ أن أهرب عن عقلي بإتجاه الشُرب لكن شعرتُ أني ثقيلٌ عن الحركة ..
كأنما تقيدني أغلالٌ إلى الأرض التي أرقد فوقها ..


- عرفتُ منها يافيصل أنها رضخت لوالدها وأعلنت موافقتها قبل لقائك بليلتين !

هه ، كان واضحاً لي بأن في صوتها نبرة تحدي حين قالت " أريد أن أراك ، خذني لأي مكان، أي مكان " !

- .. أخبرتني أنها كانت تشعر بخيانتها لك ، لهذا أرادت لقاءك .. رضت بالخروج معك لهذا المكان المعزول !

هه ، وأنا الذي كنت أقول لنفسي " سأجلبها للحديث " ، يا لغبائي ، بينما خرجَتْ معي منهارةً كأنما أرادت تعويضي ، أي ثمنٍ كنتِ ستدفعينه يا سمرايَ المتهورة !
ماأرخص الأثمان في زمن الحب .. لا ياسارة ، لم أكن لأعوي وأنحدر من آدميتي لأكون ذئباً كاسراً ، حتى وإن بتّ طاوياً، حتى وإن قدمتِ لي نفسك على طبق!


- هيفاء ، ماذا حدث في هذه الشهرين ، هل تم الأمر الآن رسمياً !

- تقصد منصور ؟! لا لم يعودوا .. كان الأمر مشروع خطبة ، لكنهم لم يعودوا ليتمموا الأمر " قلعتهم هم الخسرانين " !

كانت مستاءةً لصديقتها ، جملتها الأخيرة تخفي كثيراً ..
جعلتني أردد في نفسي حديثاً قلته ذات يومٍ لصديقي فهد : الرياض مدينةٌ كبرى ، لكنها عند الفضائح .. تصغرُ لتصبح حجرة !

ها هي أصوات المآذن تنادي لصلاة المغرب ، أصواتٌ ما عدت ألبيها ..
مسحتُ دموعي و قطعت حبل بكائي ، وخرجت من الشقة قبل وصول الأصدقاء .. آخر ما ينقصني هذا اليوم وجود رِفقة !
ثلاث ساعاتٍ من الاجتماع بقلبي ..ثلاث ساعاتٍ من السباحة في أفكاري حد الغرق ، ختمتُها برسالةٍ لهيفاء :

" قولي لها ، لن أعيش إلا بك ، وسأنتظرك العمر كله " !


* * *




منذ أن صرت معلماً ووالدي يتغير تجاهي تماماً ، أصبح ينظر لي بعين الإحترام والإجلال ، وحدي من حقق طموحاته بأن أكون معلماً !
مسكينٌ والدي .. وقف أمام المدارس بواباً وحارساً ومراسلاً حتى بات يعشق التعليم والمعلمين ، وحدي من حقق له هذا الحلم ..
صار اسمي " الأستاذ فيصل " ، و لي قدسيتي بين أشقائي ، وحين يسألني عن ذبولي وشحوبي أتعذر له بمسافة الطريق التي أقطعها كل يوم ..
وبدا أن عذري يُفلح ..


حتى سهراتي في الشقة ، لم تعد تزعج والدي كما كنت طالباً . . أصبحتُ أسهر وأخرج في حريةٍ تامة ..
صرتُ في عين والدي رجلاً يستحق التقدير .. كلماتُ الزجر والتعنيف اختفت من لسانه ، محضني احتراماً لم يمنحهُ لي من قبل ..
حين يراني يبتسم ، كأنما لا يشاهدني ، بل يشاهد حلمه متجسداً أمامه ، فينظر لي مزهواً ..
و لو عرف مأساتي .. لو أطلَ جيداً في عيني ، لو تعمق في خفائي، لعرف أني حطام رجل !


خمسة أيام من التفكير الطويل ..
خمسة أيامٍ من العزلـة ..
خمسة أيامٍ من الموت حياً ..
خمسة أيام بعد هيفاء !


نزلتُ من غرفتي حاث الخطى تجاه أبي وأمي ، كانوا يشربون قهوتهم المسائية وحدهم في الفناء ،
وكان البيت هادئاً إلا من أصوات الأطفال الذين يلعبون الكرة في الشارع أمام باب منزلنا ..
كان مجرد تفكيري في الأمر مجدداً يجعلني أحجم عن القول .. لهذا هرعتُ سريعاً للنطق :


- أريد أن أتزوج !

كانت هذه الجملة كافيةً ليرقص كل شيءٍ في الفناء بِشراً في عينيهما ..


- شقيقة صديقي ، تـركي !


ولا أدري أشعرتُ بابتسامةٍ في داخلي أو مرارة ، أظن أنني شعرتُ بالأمرين تباعاً !

تهليلاتُ أمي وسعادتها الغامرة يقطعها سؤال والدي السعيد ..

- من يقال لهم !

- آل فلان !

- وش يرجعون وانا ابوك ..

- من الرياض !

- وش يرجعون !

- أجواد من الرياض !

- قبيلتهم ؟!

.. يا للسؤال الذي فكرتُ في إجابته أياماً خمسة ، ضاع جوابي الذي حفظتهُ جيداً قبل نزولي ..
لم أتردد ، وبوجه رجلٍ صارم أطلقتُ قنبلةً دوّت في الفناء:

- لا ينتمون لقبيلة .. لكني أريد القرب منهم ...





لن أنسى ما حييت ..
.. نظرة والدي لي، لن أنساها ماحييت !


كل شيءٍ في الفناء بات قاتماً ..
ما حييت .. لن أنسى نظرتهُ تلك !

وضع عينه في عينيّ صامتاً نصف دقيقة ..
ثلاثون ثانيةٍ شعرتُ أن المكان من حولي بات جامداً بكل مافيه .. حتى سيقان الأطفال اللاعبين أمام بيتنا والذين انقطعت أصواتهم بغتة!
لم يقل لي شيئاً .. فقط ، وضع فنجاله على الأرض، أسدل شماغه على كتفه وخرج ..
خرجَ مطرقاً كما لو شاهد حلمهُ يتهاوى أمامه !
وصعدتُ لغرفتي واجماً ..
وأنا أدرك أن باب المتاعب يُفتح لي على مصراعيه منذ اللحظة ..!



يتبع ..


القلم الحر غير متواجد حالياً  
التوقيع
( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي )




أضغط على الصورة لدخول المدونة
رد مع اقتباس