[Dalyia]

..الرابحون – للأرجنتيني خوليو كورتاثار
(الحاصل على جائزة النسر الذهبي)..

حين يكتب الكبار، علينا أن نتعلم منهم فنون الكتابة وسر الإبداع، لأن الكبار هم من أدرك غواية اللعب وتركيب شبكات المعارف المعقدة، وهم البناؤون الحقيقيون لفن الرواية وسحرها، وما عداهم ليسوا إلا تجارب تحاول التقاط تلك البذور التي ألقاها هؤلاء الكبار في تربة الفن الروائي.أكتب هذا الكلام بعد قراءتي لرواية «الرابحون» للمبدع الأصلي «خوليو كورتاثار» الذي برهن لي عن ذلك الفارق الكبير بين ما يكتبه الصغار وما يكتبه كبارهم، الكبير يبقى كبيرا والصغير يبقى صغيرا... لماذا؟ لأن الكبير هو المبدع الحقيقي وليس ملتقطا لبذور رميت من قبل غيره، ولذا هو وحده القادر على أسر القارئ بالفعل، وهذا ما فعلته بي رواية الرابحون التي لا نجد فيها هذا الإيغال في استعراض البهلوانيات الكتابية، ولا تلك الغرائبية الخارجة عن منطق المقبول، ولا تلك الفنتازية الركيكة والمهلهلة في نسيج من السذاجة واللامعقول.
الرواية تحكي في بساطة عن حدث ما، مجموعة من الناس ربحوا تذاكر لرحلة بحرية تنظمها بلدية مدينة «بوينس آيرس» وهم يتكونون من طبقات مختلفة، ومنذ البداية يحذرهم ضابط السفينة من الذهاب إلى مؤخرتها حتى إشعار آخر، ومن هنا تبدأ الحكاية، وأي حكاية، إنها حكاية الإنسان الأزلية، البحث عن سر الفاكهة المحرمة التي لن يكف ولن يهدأ ولن يرتدع عن السير في طريق إزالة الأغطية وكشف الأحجبة، فينقسم الركاب ما بين رافض للمنع ومن رضخ لقرار المنع ورضي بفكرة الاسترخاء والتمتع بالرحلة المجانية، وتأتي لعبة «كورتاثار» في الكشف عن سر المنع من بداية الرواية بطرحه لكل الأفكار الممكنة، فيخبرهم الضابط من بعد إلحاحهم في معرفة السبب بأن هناك حالة إصابة بالتيفوس تم عزلها في مؤخرة السفينة، ولا يقتنع المشاغبون بهذا التبرير فيطرحون أسباباً ومبررات أخرى تختفي خلف غطاء التيفوس كأن يكون هناك تهريب لممنوعات، أو نقل لمواد نووية مشعة، أو أي مخالفات أخرى ينهى عنها القانون.
وينتهي بحثهم من بعد مغامرات عديدة إلى لا شيء مخبأ في خلفية السفينة أو أن المخبأ لم يفصح عن غموضه لهم، ومن خلال بحثهم تخلق لهم مبررات حين يمرض الطفل خورخي فيداهمون غرفة الإرسال التلغرافي بمسدساتهم، مما يؤدي إلى موت أحدهم بطلق ناري، وتنتهي الحكاية بإرجاعهم في طائرة «هليكوبتر» إلى بوينس آيرس مع تهديدهم بعدم الإفصاح عن عملية القتل التي تم تدويرها وتغييرها على انها حالة إصابة بالتيفوس، المهم أن الرحلة لا تنتهي بالحكاية السعيدة المرجوة، ولا يتم الكشف عن الغامض لأنه هكذا هي الحياة، الغامض يبقى غامضا لا نملك مفاتيحه وهو سر وجودنا ذاته، ولأنه (كورتاثار) لم يطرح نتائج في نهايات مبتذلة برغم الدراما القائمة كلها على هذا المخفي في نهاياته، ولو أنه أوصلنا إليها لانتهى مثل نهايات الصغار، ولكنه طرح نهاية أوسع وأكبر وأكثر تضليلا وتشظيا للنص ولنا، وهذا يدل على أنه أجاد الإنصات إلى شروط نصه مما جعل تقنية الحوارات هي سيدة الموقف، ففي هذا المكان الضيق لابد أن يفرض الحوار نفسه على واقع السفينة، مما كشف طبيعة الوضع والشخصيات، كما جاء التحليل العميق والمتصاعد للشخصيات من خلال الحوارات والمنالوجات، مما جعل الرواية تسير في نقلات موسيقية بطيئة ومتسارعة تعرف متى تبطئ ومتى تلهث، ومتى تقف لتأمل الأعماق كلها التي لا تنفصل، فكلها ذرات معجونة في بعضها البعض، الكون، الإنسان، المادة، الطاقة، الحركة، وهذا الغموض الملتف على بعضه، طيات تدرك وأخرى تطوينا في طياتها.

محتوى مخفي

يجب عليك الرد لرؤية النص المخفي

ツ】ઇ需مــــنـ◊ـقـ◊ـوول 需ઇ【ツ
قراءة ممتعة للجميع