عرض مشاركة واحدة
قديم 12-12-11, 11:56 AM   #3

جين اوستين333
 
الصورة الرمزية جين اوستين333

? العضوٌ??? » 66163
?  التسِجيلٌ » Dec 2008
? مشَارَ?اتْي » 1,009
?  نُقآطِيْ » جين اوستين333 has a reputation beyond reputeجين اوستين333 has a reputation beyond reputeجين اوستين333 has a reputation beyond reputeجين اوستين333 has a reputation beyond reputeجين اوستين333 has a reputation beyond reputeجين اوستين333 has a reputation beyond reputeجين اوستين333 has a reputation beyond reputeجين اوستين333 has a reputation beyond reputeجين اوستين333 has a reputation beyond reputeجين اوستين333 has a reputation beyond reputeجين اوستين333 has a reputation beyond repute
افتراضي

1-جاءت الرسائل وفيها رسالة لم تتعود جوسلين تلقيها من ابنة عمها كاميليا التي تزوجت رجلاً فرنسياً وهي حامل و تطلب حضور جوسلين بسرعة... إنها رحلتها الأولى خارج الحدود.

كانت جوسلين تعد المهلبية الساخنة عندما سمعت باب علبة البريد ينفتح ثم يغلق. سحبت القدر عن النار و خرجت إلى البهو لإحضار الرسائل. من بين عشرات المغلفات العائدة كلها إلى دعايات و منشورات طبية و مخبرية, وجدت فاتورة للغاز و رسالة من فرنسا.
كانت الفتاة تكتب إلى كاميليا رسالة كل شهر, لكن ابنة عمها لم ترسل إليها سوى بطاقات بريدية تدون على قفاها بعض الكلمات السريعة المقتضبة.
وضعت الفتاة الرسالة في جيب فستانها و ناولت والدها الفاتورة بينما كان يهبط السلم, ثم قالت:
-صباح الخير, يا أبي. الفطور جاهز تقريبا. وكيف حال الطفل؟
-إنه صبي و وزنه أربعة كيلوغرامات.
قبّل الدكتور بيشوب ابنته على خدها ورافقها إلى المطبخ. مثله, كانت جوسلين ممشوقة القامة, طويلة. وكانت رفيقاتها في المدرسة ينعتنها " الفاصوليا الخضراء" مما اضطرها إلى تقويس ظهرها لتبدو أقصر مما هي. لكنها الآن, في التاسعة عشرة من عمرها و تتقبل نفسها ببساطة و اعتزاز.
نادراً ما تتناول عائلة بيشوب وجبات طعامها على مائدة السفرة في غرفة الطعام الواسعة, بل تفضل البقاء في المطبخ, المطل على الحديقة والذي تدخله الشمس طوال النهار. لكن, في هذا الصباح من نهار الاثنين, غابت الشمس عن مائدة الفطور, المغلفة بشرشف أبيض معرق والمليئة بالآنية الفخارية البيضاء و الزرقاء الخاصة بمنطقة كورنويل الشهيرة الواقعة في شرق انكلترا. بعد فصل شتاء ناعم ورطب, اشتد البرد فجأة, و بدأت السماء ترسل ثلجاً في أواخر شهر آذار/ ماريس.
جلس الأب أمام المائدة ووضع فوطة حول عنقه, فسألته الابنة:
-في أي ساعة عدت إلى المنزل, يا أبي؟
-جاء المولود السعيد في الواحدة بعد منتصف الليل, وأنا عدت قبل الثانية بقليل. لكني بدأت أتساءل في أي ساعة عادت الآنسة ديفييس, الممرضة الشابة. ولحسن الحظ أن الآنسة مايس ستسأنف عملها اليوم. في كل حال, آن لنا أن نوظف ممرضة ثالثة, على الأقل نصف دوام, ما دامت المنطقة تستمر في الازدهار والعمران ويزيد كثافة سكانها يوماً بعد يوم.
قبل الحرب جاء جد جوسلين, الطبيب أيضاً, وسكن في هذه القرية ومارس فيها مهنته وأورثها إلى ابنيه, واحدهم يدعى جون بيشوب, والد جوسلين. و ظلت القرية على ما كانت عليه قبل الحرب, إلى حين اصبحت الفتاة في سن المراهقة, إنه حي كبير, هادئ الجو يذكر بالحياة الريفية القديمة. لكن, حول البلدة, اختفت الحقول والبساتين الشاسعة لتحل مكانها المنازل والمباني الجديدة. وفيها اسكنت البلدية العمال الزراعيين الذين كانوا يعيشون في أكواخ خالية من المراحيض والماء والكهرباء. وقام متعهدو البناء بفرز أراض كثيرة, عالمين مسبقاً أن المدينة المجاورة سيصل بها الوقت إلى عدم استيعاب جميع السكان, الذين سيبدؤون بالتزوج إلى الجوار وخاصة إلى الضواحي القروية, حيث ستبنى من أجلهم المنازل ويتم استقرارهم فيها بشكل نهائي.
و هذا ما حدث بالفعل منذ أكثر من سنة. امتلأت المنازل الجديدة بأصحابها ومستأجريها, و غيرها قيد البناء. واصبحت مدرسة القرية الابتدائية مزدحمة بالتلاميذ, وازداد نشاط الدكتور بيشوب, الذي, بواسطة ممرضتيه, ساعد على انجاب اطفال بفوق عددهم بكثير مواليد السنوات الفائتة.
وبسبب هذا التطور السكاني, وضع اعلانا في الصحف المحلية يطلب فيه طبيبا مساعداً. وبعد غربلة المتقدمين, تم اختيار طوم كالي, الذي يلم بشؤون الطب القروي, كونه ابن مزارع قديم.
وبينما كان الدكتور يرد على مكالمة هاتفية وهو يحتسي الشاي, وصل طوم وقال:
-صباح الخير, يا جوسلين. هل بقي شاي؟
دخل إلى المطبخ وهو يفرك يديه ببعضهما لشدة البرد, والابتسامة تضيء وجهه. إنه شاب قصير القامة, سمين, بكتفين عريضتين وعينين زرقاوين, وشعر غزير أشقر. احمر وجه جوسلين وقالت:
-سأعد المزيد منه.
استلطفت جوسلين خذا الطبيب الشاب منذ ستة أشهر مضت لدى وصوله إلى القرية. ومنذ بداية السنة, يخرجان معاً لحضور الأفلام والمسرحيات والحفلات الراقصة. صحيح أنها تشعر تجاهه بالمحبة و تشاركه بعض افكاره وانتماءاته, لكن لم يخطر أبداً في بالها أن طوم يشعر اتجاهها بشيء يفوق الصداقة العادية.
ومساء أمس, وبينما كانا عائدين من حفلة سنيمائية, راح يعانقها بانفعال, لكن من دون شقف. وقبل ان تنام فكرت مراراً بما حدث, هل تأخذ قراراً صعباً, غير منتظر, أو تترك الأمور تسير على طبيعتها و عفويتها. ربما من الأفضل أن تفهمه بلياقة بأنها على غير استعداد للانخراط في مغامرة عاطفية جديدة. وحيال هذا التردد الكبير, لم تنم جيداً و شعرت بتوتر واضطراب وحيرة, لم تعرف مثلها من قبل.
ألقى الطبيب الشاب نظرة على ما تبقى على مائدة الفطور وقال:
-ام م م م ... مهلبية وبيض مقلي! أراهن بأن والدك لن يموت جوعا! أنا, لم أتناول سوى زبدة و مربى, هذا الصباح.
ضحكت جوسلين وشعرت بارتياح لتصرفه الطبيعي تجاهها وقالت:
-هل تريدني أن اقتنع بأن السيدة براين لا تغذيك كفاية. سمعتها شهيرة بأنها طاهية ماهرة, ولهذا السبب طلب منها والدي أن تؤجرك غرفة عندها.
-صحيح, إنها تعتني بي جيداً. لكن مهما يكن, لن أمانع في تناول قطعة الخبز المحمصة هذه, إذا قدمتها لي.
أجابت وهي تملأ ابريق الشاي:
-تفضل, أرجوك.
ثم أضافة وهي تراه يغمس الخبزة في وعاء المهلبية:
-إذا لم تنتبه لنفسك من كثرة الطعام, ستصبح سمينا أكثر.
-كلا, أنا أعمل كثيراً هذه الأيام. أما أنت, فلا أراك تحرمين نفسك من شيء, ولا أرى أي اشارة سمنة فيك. هذا الثوب الأزرق جميل عليك. وكيف جرى انك لا تشبكين في شعرك ملاقط, كمعظم النساء. هل نزعتها قبل وصولي؟
لمست جوسلين شعرها الكستنائي الفاتح: إنه مالس, يلتوي في أطرافه بشكل طبيعي. غالبا تتركه ينسدل على كتفيها, ونادرا ما ترفعه بشكل كعكة فوق رأسها. يكفي أن تغسل وجهها بالماء البارد, وتفرك أسنانها, ثم تسرح شعرها لتكون مستعدة كل صباح.
قالت بصوت خفيف:
-آه. أكره أن أنام والملاقط في شعري.
دخل والدها المطبخ و أعلن فوراً:
-كانت السيدة أليس تحدثني على الهاتف. يبدو أنها امضت الليل كله ساهرة على ابنها برنارد الذي كان متقوقعا في سريره من شدة الألم. أظنه يعاني من التهاب في الزائدة. طوم, أرجوك ان تمر على المزرعة, في الحال.
-حسنا.
جرع الشاب فنجان الشاي ثم خرج.
قطب والد جوسلين حاجبيه وقال:
-يا له من طقس شيء. لن أفاجأ إذا تكاثف الثلج اليوم.
ذكرته جوسلين حين قالت:
-لا أهمية لذلك. فبعد اسبوعين ستكون في بلاد الشمس.
نظر إليها بعينين مليئتين بالمحبة و قال بحرارة:
-أنت شديدة اللطف, يا جوسلين. لا تقلقي, فأنا سعيد بذلك.
-آه, يا أبي, أما زلت تعتقد بأنني أتصنع الحب لأليزابيث؟ كلا, أنا أجدها امرأة رائعة, و روبرت كذلك. يا إلهي, الساعة اشرفت على التاسعة. ستصل انيتا بعد قليل ولم أفرغ مائدة الفطور بعد.
انيتا لاين امرأة في الستين من عمرها, نشيطة و ظريفة. منذ صغرها تتذكرها جوسلين في هذا البيت. فقد الطبيب زوجته عندما كانت ابنته في الخامسة من عمرها, فاعتنت بها السيدة لاين وعالجتها خلال امراض الطفولة, كما قامت بإدارة المنزل, إلى أن أصبحت جوسلين في عمر يسمح لها بأخذ هذه المسؤوليات عنها. بعد شهادة البريفيه, توقفت الفتاة عن الدراسة إذ اقنعت والدها بضرورة البقاء في المنزل بدل العمل كموظفة في أحد مكاتب المدينة. تأتي انيتا مرتين في الاسبوع لمساعدتها كي يتسنى لها الاعتناء بالحديقة و بأمورها الشخصية الأخرى.
ولما وصلت انيتا على متن دراجتها القديمة, كانت جوسلين قد انتهت لتوها من غسل الصحون و الفناجين. فسألت انيتا لاهثة:
-هل أنجبت أليس لامب أخيرا؟
ساعدتها جوسلين في خلع معطفها وقالت:
-نعم. انجبت صبيا. آه, يا انيتا, يداك مجلدتان. ادخلي إلى الدفء, سأعد لك فنجان قهوة.
-ساعديني على نزع حذائي, يا حبيبتي, من فضلك. صرت سمينة إلى درجة أصبح صعبا عليّ انتزاعها بنفسي.
جلستا في المطبخ ربع ساعة تثرثران و تحتسيان القهوة, قبل أن تبدآ, كل من جانبها في التنظيف المنزلي الأسبوعي.
وبينما كانت جوسلين تصعد إلى الطابق الأول بقية توضيب الأسرة, تذكرت رسالة كاميليا. سحبتها من جيبها و مزقت الظرف وجلست أمام طاولة الزينة في غرفة نومها وشرعت تقرأ رسالة ابنة عمها المكتوبة بخط سيء بالكاد استطاعت قراءته. تقول الرسالة:
" عزيزتي جوسلين
ألف شكر على رسالتك الطويلة الرائعة. و لا يمكنك أن تعرفي بأي شوق انتظر وصول البريد, و أنا مسمرة في هذا المكان المعزول, حيث لا انسان انكليزي على بعد أميال من هنا. الخبر الذي بشرتني به دهشني كليا. لم أكن أتخيل أبداً أن عمي جون سيتزوج من جديد. و حسب ما قلته لي, ان خطيبته تناسبه تماما. لكن ربما تتقبلين بصعوبة أن يأخذ أحد غيرك إدارة و مسؤولية هذا المنزل.
لدي فكرة رائعة! عندما يعود العروسان من شهر العسل, لماذا لا تأتين لزيارتي و قضاء اسبوع أو اسبوعين معي. أنت كنت تقولين لي دائما بأنك ترغبين بالسفر, وهذه فرصة العمر بالنسبة إليك.
جوسلين, أرجوك, تعالي. و إلا سأجن. جان-مارك لطيف جداً, لكنه يتغيب طول النهار و الآخرون ما زالوا غير مسرورين لأنه تزوجني. لا يظهرون له ذلك, لكنهم ينتقمون مني من وراء ظهره. أخوه, نادراً ما يحدثني, لكنه يرمقني بنظرات غامضة, غاضبة, و عمته, إذا استطاعت فلن تتأخر لحظة بوضع السم في طعامي للتخلص مني. أمس كنت نائمة, ولما افقت, رأيتها منحنية فوق رأسي متذمرة. انها تخيفني. شيء شيطاني ينبع منها.
لو باستطاعتي فقط الخروج من حين إلى آخر, لأموه عن نفسي, بالرغم من عدم وجود أي مكان يستحق الزيارة في هذه العزلة, لكن الطبيب نصحني بأن أظل ممددة حتى ولادة الطفل. أرجوك, حبيبتي جوسلين, أتوسل إليك, تعالي! أنا بحاجة ماسة ان يكون أحد من افراد عائلتي قربي. أحيانا أشعر برغبة في الموت, لشدة رعب هذا المكان. وربما أموت قبل ولادة الطفل. هذه الفكرة أصبحت هاجسي اليومي و تجلب لي الكوابيس المرعبة. حتى جان-مارك لا يفهم. و بالطبع اللوم كله على أعصابي. جوسلين, يجب ان تأتي, لا أستطيع الصمود وحدي. كاميليا".
شعرت جوسلين بقلق أمام لهجة هذه الرسالة, وقررت أن تريها لوالدها في الحال قبل أن يبدأ بزيارة مرضاه. لكنها فضلت أن تنتظر موعد الغداء كي تتمكن من مناقشة الأمر بهدوء و متعة.
وصلت إليزابيث راندل حوالي الحادية عشرة و وجدت جوسلين راكعة وسط تلة من الشراشف و المناشف, فقالت:
-صباح الخير, يا جوسلين. يبدو أنك شديدة الانهماك بالعمل.
نهضت الفتاة و أجابت:
-أهلا وسهلا بك. احاول ترتيب المنزل قبل وصولك. هيا بنا نأخذ القهوة, سأنهي العمل بعد قليل. هل ستجلبين معك الكثير من البياض, يا إليزابيث؟
-أقل شيء ممكن. روبرت ينمو بسرعة و الملابس الصغيرة أرسلها إلى المعوزين و لا أدعها تتكدس عندي.
خطيبة الطبيب امرأة نحيلة و سمراء, في الأربعين من عمرها, ارملة و أم لصبي في الثالثة عشرة من عمره. تسكن القرية منذ سنة, و نعرف جوسلين بأن والدها وقع في حبها منذ وقع عليها نظره.
وتتذكر الفتاة والدتها بغموض ولا تفهم لماذا توقع معظم اصدقائها أن تغضب على أبيها لأنه سيتزوج مرة ثانية. وهو رجل جذاب ولطيف للغاية, في الثامنة و الأربعين من العمر. وكيف باستطاعتها أن تشعر بالغيرة تجاه إليزابيث, تلك المرأة الناعمة التي تتمتع بحس مرهف وروح النكتة و الفكاهة. بالعكس كانت فرحة جداً لهذا الاتحاد.
جلستا في الصالون حول القهوة, فقالت إليزابيث:
-وصلتني بطاقة من محلات سميث, يعلن فيها المدير أن ثوب العرس أصبح جاهزاً. وما زلت بحاجة إلى مساعدتك لاختيار القبعة المناسبة.
-يسرني أن أرافقك إلى المدينة. أنا أيضا بحاجة لبعض المشتريات.
بعد حديث عادي ومقتضب, قالت جوسلين:
-وصلتني صباح اليوم رسالة من ابنة عمي كاميليا, تلك التي تزوجت من شاب فرنسي التقت به في باريس حيث كانت تعمل كعارضة ازياء. لقد سبق و حدثتك عنها, هل تتذكرين... والدها أخ والدي البكر. إنه طبيب أيضا و يعيش في بلاد الشرق و ما التقيت به مرة. إنه يدير مستشفى ريفياً في اقاصي غينيا الجديدة.
-نعم, أخبرتني ذلك عندما تزوجت ابنة عمك بغتة. والداها منفصلان, أليس كذلك؟
-نعم. يقول والدي أنه ما كان مفروضا أن يتزوجا من الأساس, لأنهما لا يناسبان بعضهما البعض على الاطلاق. عمي ديفيد يحب عمله كثيراً و زوجته جانيت رائعة الجمال وتحب الحياة و المجتمع. استطاعت البقاء معه أربع سنوات, لكنها لم تحتمل طويلا, فهربت مع رجل آخر. لا يمكن لومها لو أنها ما تخلت عن ابنتها, كاميليا.
-و أخبرتني أيضا أن كاميليا درست في استراليا, أليس كذلك؟
-نعم. كانت في مدرسة داخلية في بريسيان و تأتي إلى غينيا الجديدة في العطل. و لما اصبحت في السابعة عشرة من عمرها, اقنعت والدها كي يسمح لها أن تأتي إلى انكلترا للتعرف على عائلتها. عاشت سنتين في لندن عند جدتي و أصبحت عارضة أزياء. نجحت في هذه المهنة و اشترت شقة فخمة و سيارة جديدة.
-ثم تخلت عن كل شيء لتتزوج من هذا الشاب الفرنسي.
-نعم. تعرفت إليه لأسابيع قليلة قبل أن تتزوجه. لو أعلمتنا بالأمر مسبقاً, لحاول والدي زيارتها و اقناعها بالتخلي عنه أو التحلي بالصبر. لكن, للأسف, عرفنا بأمر زواجها عندما أرسلت لنا بطاقة بريدية من مدينة كان الفرنسية, حيث كانت تقضي شهر العسل. يتهيأ لي الآن, أن التاريخ يتكرر. سأقرأ عليك رسالتها و بإمكانك الحكم بنفسك.
قرأت عليها جوسلين الرسالة بصوت عال, دون أن تقرأ الفقرة العائدة إلى زواج عمها. بعد قليل, قالت إليزابيث:
-إنها تصرخ من القلب, أليس كذلك؟ أين يسكن العروسان, في فرنسا؟
-في البداية سكنا قرب مرسيليا. لكن عندما حملت كاميليا, استقرا في بلدة زوجها, وهي مزرعة كبيرة تخص شقيقه. هل تعتقدين أنها حقاً يائسة و منهارة, بسبب وضعها الصحي, أم أنه وضع خطر حقاً؟
-انتظار مولود جديد, وضع دقيق نفسياً, بخاصة في الأشهر الثلاثة الأخيرة. ويبدو أكثر صعوبة إذا كانت المرأة الحامل تعيش في الغربة, بعيدة عن كل ما اعتادت إليه. بنظري, عارضة أزياء في عائلة مزارعين قرويين, كمزيج الماء و الزيت من الصعب تحقيقه... لماذا لا تذهبين بنفسك للتحقق من صحة ما يجري هناك؟
اندهشت جوسلين و قالت باستغراب:
-أنا, أذهب إلى فرنسا.
ابتسمت إليزابيث و قالت:
-ولم لا. أنا معجبة بك كثيراً, خاصة لطريقتك في إدارة هذا المنزل, و لاهتمامك البالغ بوالدك. ستصبحين في المستقبل زوجة مثالية, لكنك ما تزالين في التاسعة عشرة من العمر, يا جوسلين. بالنسبة إلى بنات جيلك, أنت تعيشين حياة ثابتة, و يجب عليك رؤية العالم قليلاً, قبل أن يأتي النصيب ليخطف حريتك و شبابك المراهق.
بعد ساعتين, وكان الطبيب بيشوب, يقول الكلام نفسه:
-ستكون مغامرة بالنسبة لك. لا شك بأن كاميليا تؤزم الوضع و لكن لا بد أنها تجد صعوبة في التكيف بسهولة و بالسرعة المطلوبة. هذا ما كنت أخشاه: فخليط الجنسيات يجعل الزواج معقداً دائماً.
-لا أعتقد أن المشكلة تقع بين الزوجين, بل مع عائلة الزوج. العمة العجوز تبدو انسانة صعبة ولا تحتفل.
-انه لخطأ كبير أن يعيش الزوجان تحت سقف واحد مع العائلة. . . اتساءل لماذا يجب على كاميليا أن تبقى طريحة الفراش, انها لا تشكو من فقر دم, على ما أظن. مهما يكن الأمر, إذا وافقت على قضاء اسبوعين معها, سترين الأمور على ضوء, و ربما باستطاعتك تسويتها, قدر المستطاع.
-لكن مصاريف الرحلة ستكلف غالياً, أليس كذلك؟
-لا أعتقد. إذا كنت ذاهبة مع إليزابيث إلى السوق, استعلمي بوضوح عن ثمن البطاقة في الطائرة, ذهاباً و إياباً.
في المساء اعلنت الفتاة لوالدها بأن بطاقة السفر ستكلفها حوالي الأربعين جنيهاً استرالياً, ثم أضافت تقول:
-لكني لا أتوقع من عائلة العريس أن تعيني مجاناً. ومن المفروض أن اشترك على الأقل في مصروف الطعام. و إذا بقيت هناك ثلاثة أسابيع مثلاً, سأحتاج إلى مبلغ مماثل, أي في المجموع, حوالي ثمانين جنيهاً استرلينياً.
ناولها الطبيب شيكاً وقال مبتسماً:
-كنت سأشتري لك مجوهره, هدية الزواج, لكنني اعتقد بأن رحلتك إلى فرنسا ستكون فكرة أفضل.
-لكن, أبي! ليس هذا عرسي أنا.
0ابن العروس سينال دراجة نارية كهدية عرسنا, ولا أرى لماذا تحرم ابنة العريس من هدية لمثل هذه المناسبة.
-لكنني وفرت 15 جنيها من مصاريف المنزل لهذا الشهر.
-صحيح! في هذه الحال, سوف أخفض الميزانية من الآن فصاعداً! حسناً, احتفظي بها و اشتري بعض الملابس الأنيقة, قبل سفرك.
-كزرعة آل سانتوت لا تقع في الكوت دازور, إنما في غرب مارسيليا, على ما أظن. ولمثل هذا المكان لست بحاجة إلى ملابس أنيقة.
في سريرها, تلك الليلة, توصلت جوسلين مع نفسها إلى نتيجة منطقية. هذه الرحلة, لن تخدم معنويات و نفسية كاميليا فحسب, بل ستسمح لإليزابيث أن تتمرن على إدارة المنزل و التصرف به كما تشاء, كما سيساعد الفتاة على أن تنظر إلى مستقبلها بطريقة واضحة.
خلال شهر العسل في جزر فيشي, اهتمت جوسلين بروبرت, ابن زوجة أبيها: توصله إلى المدرسة كل صباح, لم تذهب إلى السوق في المدينة. و اشترت فستاناً واحداً و سروالين و قميصين متناسقين وحذاء مريحاً, استعداداً للرحلة المقررة إلى فرنسا.
وكان طوم الطبيب المساعد يناوب مكان والدها كل مساء ولم يستطيعا الخروج معاً مرة واحدة. لكنه جاء إلى المنزل, انما وجود روبرت منعهما من أي جلسة وحدهما.
ويوم موعد عودة العروسين, امضى روبرت الصباح بكاملة في تنظيف و تلميع سيارة الطبيب بيشوب, بينما انهمكت جوسلين في المطبخ تعد الطعام و تضعه في الفرن قبل ذهابها إلى محطة القطارات.
في الرابعة و النصف بعد الظهر كانت جوسلين و روبرت في المحطة ينتظران وصول القطار. أخيراً هتف الصبي عندما توقف القطار ونزل ركابه:
-ها هما!
أضافت جوسلين وهي تلوح بيدها:
-آه, انظر كم لوحت الشمس بشرتهما! لا شك أنهما امضيا وقتاً ممتعاً.
ثم قالت لنفسها: " يبدو أبي عشر سنوات أصغر من عمره".
اقترب العروسان. فقبلت إليزابيث ابنها أولاً, ثم جوسلين, وقالت:
-عزيزاي الحبيبان, كم أنا فرحة لرؤيتكما! كنا في الجنة, لكننا اشتقنا إليكما كثيراً. في السنة المقبلة سنذهب معاً. هل تم كل شيء على ما يرام؟
ابتسمت جوسلين وقالت:
-نعم. اكتشفت معنى الفرح في أن يكون لي أخ. لكنني لا أعرف إذا كان روبرت قد فرح مثلي, بأن تكون له أخت كبرى.
قال الصبي:
-جوسلين فتاة لذيذة و ممتازة, لكنها ليست مثلك, يا أمي, فهي لا ترغمني على غسل يدي و وجهي باستمرار.
أجابت إليزابيث ضاحكة:
-هذا يعني انك لم تنظف اذنيك ابدأ منذ رحيلنا. آه, كم أنا مسرورة للعودة إلى المنزل, وأنت يا جون هل تشعر بالشيء نفسه؟
هز الطبيب برأسه موافقاً. ولم وصل الجميع أمام ساحة المحطة, لاحظ الطبيب لمعان سيارته وقال مندهشاً:
-من لمع السيارة. لم يسبق أن رأيتها براقة هكذا.
أجاب روبرت بفخر:
-أنا, يا سيدي, قالت لي جوسلين انك لا تمانع إذا اعتنيت بها.
-هذا لطف كبير منك, يا روبرت. انه عمل جيد بالفعل... افضل بكثير مما يفعلونه في محطات الوقود أو الكراجات الخاصة. إذا رغبت في تنظيفها من وقت إلى آخر, سأعلمك قيادتها على مدرج الطيران القديم.
بفرح كبير هتفت جوسلين لنفسها: " آه, برافو, يا أبي... روبرت يرغب ذلك كثيراً..."
كانت الفتاة تخشى ألا يستطيع روبرت تحمل سلطة والدها, خاصة لأنه يجتاز في هذه المرحلة سناً صعبة. فما زال يعلق صورة والده في غرفته ولا شك أنه ما زال يتذكره لأن ايان راندل مات عندما كان الصبي في الثامنة من عمره.
في حوالي منتصف الليل, صعدت جوسلين إلى غرفتها بعدما اعدت حقيبتها لرحيلها باكراً في اليوم التالي. لكنها لم تنم بسهولة. الخوف و الاثارة و المجهول, كل هذا جعلها متوترة الاعصاب. و لما افاقت في الصباح على صوت المنبه شعرت بتقلص حاد في معدتها, فلامت نفسها قائلة: " كم أنا حمقاء! لم أعد فتاة صغيرة, ولست ذاهبة إلى آخر العالم ".
عندما انتهت من الاغتسال و ارتداء ملابسها, نزلت إلى المطبخ و اعدت الشاي و حملته على صينية إلى غرفة والدها. أحست بشعور غريب لرؤية إليزابيث قربه بشعرها المشعث. فتحت الستائر و قالت:
-آسفة لإيقاظكما بكاراً, لكن طوم سيصل قريباً جداً ليوصلني إلى المحطة, و لا أحب الذهاب من دون أن أودعكما.
قالت إليزابيث باستغراب و فرح:
-آه, الشاي! يا لهذا الترف! شكراً, يا جوسلين. أظن بأنك متوترة قيلاً. لا تنسي أن تتصلي بنا هاتفياً, حين وصولك.
قالت الفتاة معترفة:
-لم أعد أشعر برغبة في الذهاب. آمل ألا ينتابني الغثيان خلال الرحلة.
طمأنتها زوجة والدها قائلة:
-طبعا لا. هذا نادر حصوله في الطائرة. آه, ترتدين بزة جميلة, هل هي جديدة؟
-لا لكنني لا أرتديها إلا نادراً. لا يسعني التصديق بأن غداً, في مثل هذا الوقت, سأفيق في فرنسا. كما اتساءل أي نوع من الاستقبال سيخصني به آل سانتون.
قال الطبيب ناصحاً:
-في كل حال, لا تقفي دائما إلى جانب كاميليا, ولا تقفزي إلى الاستنتاجات بسرعة. ربما تكون ابنة عمك فتاة طائشة. لكنها تكبرك بثلاث سنوات وباستطاعتها أن تدافع عن نفسها وحدها. كوني حذرة, يا ابنتي!
وبينما كانت ساعة الحائط في الصالون تدق دقاتها السبع, سمع زمور سيارة طوم. خرج الطبيب مع ابنته, وضع حقيبتها في الصندوق, ثم قبلها لآخر مرة قائلاً:
-إلى اللقاء, يا حبيبتي. استمتعي بوقتك كثيراً.
-إلى اللقاء, يا أبي, إلى اللقاء. . . إلى اللقاء.
في المحطة, اصر طوم أن ينتظر القطار معها. و خلال الطريق إلى المحطة لم يقل شيئاً, لكن جوسلين كانت تشعر بأنه لا بد أن يظهر عن أحاسيسه في اللحظة الأخيرة. لما دخل القطار إلى محطته, صعد طوم مع الفتاة و اختار لها مقعدا قرب النافذة, فقالت له:
-لا ضرورة لانتظار إقلاع القطار, شكرا لك على كل شيء, يا طوم.
ضمها إليه بشدة وقال:
-سأشتاق إليك كثيراً, يا جوسلين.
-لن أغيب سوى ثلاثة أسابيع.
-لا تنسي أن تكتبي لنا بعد وصولك إلى فرنسا.
-طبعاً
ثم أضافت بابتسامة ساخرة:
-أنا لم أعد تلميذة مدرسة.
قال مازحاً:
-مهما يكن, فلا تتحدثي إلى أشخاص تجهلينهم.
-هذا لا أستطيع فعله بطبيعة الأحوال. ولغتي الفرنسية ليست جيدة, لكنني آمل في تحسينها.
-إياك أن تقعي في غرام شاب فرنسي!
-آه, يا طوم, انزل من القطار. انهم يغلقون الأبواب. إلى اللقاء. سأرسل إليك بطاقات بريدية.
أطلقت الفتاة تنهيدة ارتياح عندما نزل طوم. لكنه سرعان ما عاد وصعد القطار و أخذها بين ذراعيه و عانقها.
من محطة فيكتوريا في لندن, استقلت جوسلين سيارة أجرة نقلتها إلى مطار هيثرو الدولي. وهناك, في جناح شركة الخطوط الجوية الفرنسية سجلت بطاقتها و صعدت مع الركاب في طائرة الكارافيل التي أقلعت في الحادية عشرة وهبطت في مطار أورلي ظهراً. بعد نحو ساعة استراحة, انطلقت الطائرة من جديد لتهبط في الثانية و النصف في مطار سنريتيان ومن هناك استقلت باص شركة الطيران فأوصلها وبقية الركاب إلى قلب مارسيليا.
توجهت جوسلين في الحال إلى محطة القطارات لتستعلم عن مواعيد الاقلاع إلى مدينة آلرز, فقيل لها أن موعده في الخامسة. كان لديها ساعتان لبعض التجوال السياحي, و ضعت الفتاة حقيبتها في أمانة المحطة, وانطلقت في شوارع مارسيليا, إلى ساحة الكاتوبيار, المكتظة بالمقاهي و المحلات. فامتلأ قلبها فرحاً.
في انكلترا, شوارع القرية في مثل هذا الوقت لا شك أنها فارغة. الرجال ينعسون قرب موقد النار أو يتنزهون في الحديقة. الأولاد يعودون من المدرسة, ومعظم النساء يسترحن بعد الانتهاء من غسل الصحون أو يحضرون الشاي.
و جوسلين, الآن, على بعد ألف كيلومتر من انكلترا. هذه المدينة تعج بالحياة و الحركة المستمرة. خدم المقاهي, بصوانيهم المليئة قهوة و مقبلات ينتقلون من طاولة إلى طاولة. البحارة بالقبعات الحمراء يصفرون و يتحرشون بالفتيات الجميلات اللواتي يقدن الدراجات... رسام متشرد, ملتح, ذو شعر طويل, يحاول بيع لوحاته التجريدية, ذات الألوان الفاقعة, إلى المارة و الاجانب.
مشت جوسلين حتى المرفأ القديم, ثم سلكت الرصيف المواجه نحو الكانويبار. استجمعت شجاعتها و دخلت إلى أحد المقاهي و اختارت طاولة على الشرفة, بانتظار قدوم الخادم. شعرت الفتاة بانزعاج, لكن لا أحد ينظر إليها. فهم الخادم ما طلبته. بسرعة أحضر الخادم فنجان قهوة مع الكريما و قطعة حلوى باللوز.. و كتذكار, وضعت الفتاة الزرقة الملفوفة على قطعة السكر, في حقيبتها, بسبب وجود عنوان واسم المقهى عليها.
بقيت هناك حتى موعد ذهابها إلى محطة القطار. جلست تنظر إلى حركة السير المزدحمة و الناس, تصغي إلى أحاديثهم علها تفهم ما يقولون. . . إنها حرة, مستقلة, تكتشف العالم, هي التي لم تعش حتى الآن سوى حياة رتيبة اعتيادية.
في السادسة وصلت إلى مدينة آلرز, ساعدها الحمال على رفع حقيبتها و سألها:
-هل تريدين سيارة أجرة, يا آنسة.
وبلغة فرنسية مترددة, أجابت:
-كلا, شكراٍ. هناك من ينتظرني.
بقيت على رصيف المحطة, تنظر إلى المارة, متوقعة قدوم جان-مارك في أي لحظة. تعرفه من صورة ارسلتها كاميليا منذ فترة قصيرة. لكن, لم يأت أحد. ربع ساعة مضت وهي واقفة قرب حقيبتها, قلقة و متوترة و خائفة جداً. أخيراً سمعت صوتاً يقول:
-آنسة بيشوب.
انتفضت في مكانها والتفتت لترى رجلاً, ممشوق القامة, يرتدي سترة جلدية قديمة و قبعة رمادية واسعة,’ لم ينتزعها عندما قدم نفسه قائلا:
-أنا جيرفيه سانتون. آسف لتأخري. من فضلك أن تتبعيني. . .
انحنى مرحبا و حمل الحقيبة و سبق الفتاة, خارجاً من المحطة.
ريح عنيفة عصفت في الخارج, وهنأت الفتاة نفسها لأنها ارتدت معطفا سميكاً راقياً. وضع الرجل الحقيبة في صندوق سيارة الجيب, ثم ساعد الفتاة على الصعود و الجلوس في المقعد الأمامي, و وضع فوق ركبتيها بطانية صوفية, فأجابته بخجل:
-شكراً, يا سيد.
نظر إليها الرجل مفصلاً, وهو يدور حول السيارة ليجلس أمام المقود. خف الازدحام و الشمس تشرف على المغيب, وبرد الهواء.
خارج المدينة, الريح تعصف بقوة يؤرجح سيارة الجيب بعنف. من حين إلى آخر, تهب الرياح دافعة بالسيارة نحو الحفر. فالطريق غير معبدة, و مليئة بالحجارة المتطايرة. تهيأ للفتاة أن عظامها تفككت. فجأة عم الظلام ولم يعد باستطاعتها تأمل القرى الريفية المجاورة. قالت بصوت مرتفع كي يسمعها الرجل, المنصب بكل اهتمامه على الطريق:
-كم يبقى من مسافة حتى نصل إلى مزرعتك؟
-حوالي 25 كيلومتراً.
ارتعبت الفتاة و خارت قدماها. لا شك أنهما يجتازان منطقة مليئة بالمطبات, تمسكت الفتاة بمقعدها, متقلصة اليدين وقالت لنفسها: " يا كاميليا المسكينة! أفهم الآن لماذا تري هذا المكان منعزلاً!".
بدت الطريق كأنها بلا نهاية. السيارة تجتاز من حين إلى آخر جسوراً خشبية تدفع الفتاة إلى الأمام باستمرار. و الرجل لا يعتذر عن صعوبة الرحلة, ربما لأنه اعتاد عليها.
أخيراً توقفت السيارة أمام منزل مضاء, فحمل الرجل حقيبة الفتاة بيد و تأبط ذراعها باليد الثانية وساعدها على اجتياز الساحة المعبدة, حتى وصلا إلى مدخل المنزل.
لم يسمع أحد صوت محرك السيارة لشدة الريح القوية. دق الجرس, فتحت الباب امرأة, بلباس أسود, وبيدها قنديل غاز. انسلت الريح إلى الداخل, فأغلق السيد سانتون الباب في الحال و أحكم اقفاله, ثم قال كلمات سريعة للعجوز, دافعا الفتاة إلى الممر, فإلى غرفة واسعة يشتعل الموقد في داخلها. جلست الفتاة على كرسي قرب النار, سمعت الرجل يقول لها:
-سأحضر الشاي في الحال.
بعد أن جرع الرجل فنجانه دفعة واحدة, استأذن منها و تركها وحدها. حرارة المدفأة و سخونة الشاي في أحشاءها انعشا الفتاة بسرعة. فنهضت من مكانها و خلعت معطفها و راحت تتفحص المكان.
الغرفة كبيرة و جدرانها مطلية بالكلس و روافدها ظاهرة. أرضيتها عارية غير مبلطة. طاولة واسعة تحل إحدى جهاتها, تتسع لأكثر من عشرين شخصاً.
دخلت المرأة و وضعت على الطاولة صحنين, شوكتين و سكينتين و ملعقتين, فلم تعرف جوسلين إن كانت هي العمة أو خادمة المكان. سألتها بتهذيب:
-أين ابنة عمي, يا سيدة؟
بحركة حانقة, بدأت تتكلم المرأة بسرعة ولم تفهم جوسلين منها إلا " انهيار عصبي ".
عاد جيرفيه سانتون بعد أن خلع سترته. قميصه الكتاني الأزرق مفتوح على صدره, مظهراً كتفيه العريضتين. وسرواله الكاكي لا يتعدى الوركين, وشعره الغامق قصير جداً. قالت جوسلين باللغة الانكليزية:
-أخشى أن تكون لغتي الفرنسية ضعيفة, يا سيد. هل تتكلم الانكليزية؟
قطب الرجل حاجبيه و أجاب بالإنكليزية و باشمئزاز واضح:
-نعم يا آنسة بيشوب. لكن كامليليا قالت لي بأنك تجيدين الفرنسية.
بارتباك أجابت:
-صحيح؟ هذا أمر غريب. أين كاميليا, يا سيد. هل باستطاعتي رؤيتها الآن؟
بعد صمت قصير أجاب:
-ابنة عمك نائمة, أصيبت اليوم بألم حاد في رأسها و أعطتها عمتي حبة منوم. ولن تفيق قبل صباح الغد. والآن, من فضلك أن تجلسي أمام المائدة. عمتي أحضرت لنا العشاء.
كان الطعام بسيطاً وشهياً, مؤلفاً من شوربا الخضار و عجة البيض بالأعشاب, وجبنة الروكفور و الفاكهة و القهوة. خلال العشاء, لم ينطق الرجل بكلمة و كبتت الفتاة رغبتها في طرح الاسئلة العديدة الفضولية, إنما اكتفت بالنظر إلى صاحب المكان و ملاحظة تصرفاته الانيقة. يبدو أنه يعيش حياة قاسية, مع أن يديه نظيفتين و أظافره مقلمة.
بينما كانا يحتسان القهوة, تجرأت الفتاة و قالت:
-كنت أتوقع أن يكون الطقس حاراً هنا بالنسبة إلى انكلترا. هل هذه العواصف تحصل بشكل متكرر, يا سيد.
رفع الرجل كتفيه و أجاب:
-إنها رياح الميسترال, تأتي من الشمال, مروراً بوادي نهر الرون. تعصف منذ أيام عديدة, ولن تستمر طويلاً.
على أثر الحديث عن الرياح و الميسترال, علقت العمة الجالسة قرب النار, فشرح جرفيه للفتاة ما قالته:
-عمتي تقول بأننا سنحاول جعل إقامتك ممتعة قدر المستطاع, لكن منطقة الكامارغ لا تلفت السياح اجمالا. ولا شك أن ابنة عمك اعلمتك بأن الحياة هنا قاسية. . .
-أنا أيضا بنت ريف. من فضلك أن تقول لعمتك أنني أتشكرها كثيرا للسماح لي بزيارة ابنة عمتي. أعرف بأن العمل لا ينتهي في المزارع, و سأحاول كل جهدي عدم ازعاجكم.
وبينما كان الرجل يترجم لعمته, ظل يرمقها بنظرات غريبة, و بريق ساخر أنار عينيه. أخيرا سألها:
-هل تركبين الخيل, آنسة بيشوب.
أجابت و عيناها مسمرتان في القهوة:
-كلا.
-هل تخافين من الأحصنة, مثل ابنة عمك.
-كلا. لم أكن أعرف أن كاميليا تخشاها. ربما بسبب وضعها, فهي متوترة الآن أكثر من العادة.
-ربما. لكن هنا, منذ الصغر يتعلم المرء ركوب الخيل. يجب على ابنة عمك أن تتعلم ركب الخيل, بعد ولادة الطفل.
اندهشت جوسلين وقالت:
-لكنني كنت أعتقد بأنهما يسكنان هنا بشكل مؤقت.
-هل لمحت لك ابنة عمك بأنها لا ترغب بالعيش هنا؟
-آه, لا... لم تخبرني اطلاقاً عن مشاريعها المستقبلية. لكنني طنت أظن بأنهما سيعيشان في منزل يخصهما.
-هل تعتقدين بأن على المرأة أن تأخذ القرار بهذا الشأن, يا آنسة بيشوب؟ هنا الرجل صاحب القرار.
-في انكلترا, القرارات تتخذ من قبل الزوجين, مشاركة. . .
تقلصت ملامح جيرفيه و تذكرت جوسلين نصائح والدها. فقال الرجل بلهجة قاطعة:
-لكننا لسنا في انكلترا, هنا, يا آنسة, و بما أن ابنة عمك اختارت الزواج من رجل فرنسي, فعليها أن تتعلم قبول تقاليدنا و عاداتنا.
عضت الفتاة على شفتيها, ثم أجابت بتعجرف:
-طبعاً. أنا أكيدة بأن كاميليا ترغب في التكيف. لم تعرف من قبل الحياة البيتية و العائلية. لكن شقيقك لا يعمل في المزرعة, ومن الأفضل لهما أن بسكنا قرب مركز عمله.
-أخي ما زال في سنوات الشباب الأولى. و كشباب جيله, يحب الحركة و التنقل. لكن الريف في دمه, و هذا ما لا يستطيع الأجانب فهمه. قريباً, سيريد أن يستقر هنا نهائياً. ابناء منطقة الكامراغ لا يستطيعون العيش في المدينة أكثر من سنة أو سنتين.
شعرت جوسلين بالحوار. كل ما رأته حتى الآن, يؤكد لها بأن ابنة عمها كاميليا لن تعرف طعم السعادة في هذا المكان. حتى الكهرباء, لا وجود لها هنا.
نهض جيرفيه فجأة و قال:
-الساعة تجاوزت الثامنة, وهنا, في ماس-سان-تون, ننام باكراً, يا آنسة بيشوب. لا شك أنك متعبة من رحلتك الطويلة. عمتي مادتون سترافقك إلى غرفتك.
تناولت جوسلين معطفها و شالها و قفازيها و قالت بلهجة باردة و مهذبة:
-مساء الخير, يا سيد. شكراً لمجيئك إلى المحطة و اصطحابي إلى هنا.
أجاب بالفرنسية:
-تصبحين على خير, يا آنسة.
غرفة جوسلين كالحة وأكثر تقشفاً من الغرفة الكبيرة, فيها سرير ضيق, فوقه ناموسية خضراء, و خزانة صغيرة من خشب الصنوبر, و منضدة زينة وضع عليها ابريق ماء و وعاء فخاري واسع. تحت المنضدة دلو مليء بالماء. المراحيض تقع في الخارج و الخروج إليها مغامرة, في هذه الريح العاصفة الباردة.
-تصبحين على خير.
ودعت جوسلين العمة, ذات الشعر الرمادي المرفوع كعكة, والثوب الطويل الأسود, التي بدت كأنها حارسة سجن في لقرن التاسع عشر.
عندما أغلقت الفتاة الباب قالت بأنها لن تفاجأ إذا سمعت المفتاح يدور في القفل.
α α α α


جين اوستين333 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس