عرض مشاركة واحدة
قديم 04-03-12, 12:45 PM   #1

منال عبد الحميد

قاصة في قسم قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية منال عبد الحميد

? العضوٌ??? » 189000
?  التسِجيلٌ » Jul 2011
? مشَارَ?اتْي » 46
?  نُقآطِيْ » منال عبد الحميد has a reputation beyond reputeمنال عبد الحميد has a reputation beyond reputeمنال عبد الحميد has a reputation beyond reputeمنال عبد الحميد has a reputation beyond reputeمنال عبد الحميد has a reputation beyond reputeمنال عبد الحميد has a reputation beyond reputeمنال عبد الحميد has a reputation beyond reputeمنال عبد الحميد has a reputation beyond reputeمنال عبد الحميد has a reputation beyond reputeمنال عبد الحميد has a reputation beyond reputeمنال عبد الحميد has a reputation beyond repute
افتراضي الابنة الثالثة عشرة ( قصة قصيرة باجزاء) *متميزة*










محتوى مخفي يجب عليك الرد لرؤية النص المخفي


لم يكن البارون " منليك " ينقصه المزيد من الفتيات.. الحقيقة أنه تعب من إنجاب البنات على مدار أثني عشر عاماً وهبه الرب خلالها عشر فتيات .. والحقيقة أن الرب كان كريماً معه ، فلم يسقط أي حمل لزوجته ولم يفقد أي مولودة له .. ودائماً ما تمني لو كان الرب أقل كرماً معه وأكثر تحديداً .. فبدلاً من عشر فتيات كان بإمكانه أن يمنحه غلامين فقط ليرثا أملاك عائلة " منليك " الشاسعة التي تمتد على زمام ثلاث مقاطعات في جنوب فرنسا ويحتفظا باسم العائلة الأرستقراطية العريقة التي تعد أعرق وأكبر أسرة في فرنسا الملكية .. لو كان من ( التتار ) المسلمين لأمكنه الزواج من أخري علها تهبه الغلام المنشود .. بل ليته على الأقل كان لوثرياً أو كلفينياً إذاً لأمكنه أن يطلق زوجته بسهولة ويتزوج بأخرى .. ولكن آه من هذه المرأة .. " جوليا بولنتادور " قريبة البابا " بيوس الرابع " ..هل يجرؤ على مجرد التفكير في التحول عن الكاثوليكية أو الحصول على الطلاق !
إذن لفقد كل أملاكه ومركزه العائلي الممتاز .. ولحرمه البابا وكان مصيره ديوان التفتيش !
فليس أمامه إذاً إلا أن ينتظر حتى تتمخض مفرخة البنات عن صبي بمعجزة ما !
كانت كل هذه الأفكار تدور في رأس البارون " فرانسوا منليك " وهو يدور كالمجنون في باحة قصره الخارجية منتظراً انتهاء زوجته من ولادتها الحادية عشرة .. أو على الأصح من خيبتها الحادية عشرة !
إنه للأسف يتذكر كل يوم ولدت له فيه بنت .. فعندما ولدت " جوليا " ؛ البكر سمية أمها ؛ قيل له يومها أن مجيء البنت في المرة الأولي بشري بطوفان من الذكور يلونها !
وسُميت " جوليا " باسم أمها وعمدت على يد البابا نفسه .. هل كان يمكن حينئذ ألا يتظاهر بالسعادة أمام الناس وأمام زوجته .. وقبلهم أمام نفسه !
ولم تكد " جوليا " تجلس على حجر أمها حتى لحقت بها " بولين " .. وبمجرد أن نطقت " بولين " أول كلمة ( بابا ) حتى هبطت " صوفيا " فوق رأسها ورأس البارون الذي بدأ يفقد صبره ويساوره الخوف من أنه لن يحظى بالغلام المنشود .. على الأقل في الأجل المسمي !
ومشت " صوفيا " مبكراً ولكن قدوم " ماريانا " أصابها بالغيرة القاتلة فتعسرت ومرضت وعادت للحبو من جديد .. وكانت " ماريانا " شقراء بالغة الجمال .. والحق أن البارون أحبها أكثر مما أحب أي واحدة من بناته السابقات أو اللاحقات .. ولا يدري إذا كان ذلك بسبب إنها أكثر بناته شبهاً به .. أم لأنها الوحيدة التي تركت له زوجته مهمة تسميتها بنفسه.. أم لأنها في النهاية حملت أسم والدته الحبيبة المرحومة !
آه والدته .. ليته أستمع إليها من البداية !
قالت له أنه سيتورط بزواجه من قريبة للبابا ولن يستطع بعد ذلك أن يفتح فمه أمامها .. وهل يستطيع أن يغضب القريبة العزيزة للرجل الذي يخافه ملك فرنسا نفسه ويرتعد بين يديه ؟!
قالت له أن بنات ( شمبانيا ) ماكينات لإنجاب البنات فلم يصدقها ولم يأخذ كلامها على محمل الجد .. وها هي ذي النتيجة !
أصبح أباً لعشر فتيات وزوجاً مرتعباً أمام ابنة عم البابا ال.... !
ولم يطل انتظار البارون هذه المرة .. والحق أن زوجته بدأت تسجل أرقاماً قياسية في ولاداتها الأخيرة .. فقد قذفت " شنتال " ؛ البنت قبل الأخيرة "؛ إلى الحياة في أقل من عشر دقائق .. أما البنت الأخيرة " ماري " فقد كان مولدها معجزة .. فقد ولدتها أمها وهي تغط في النوم ولم يوقظها إلا صرخات الخادمة حينما رأت شيئاً يتحرك تحت اللحاف وسمعت صوت صرخات البنت الأولي .. ولولا مجيء الخادمة بدون سبب لربما كانت البنت الآن في عداد الموتى !
وعلى حين غرة لمح البارون ؛ بينما هو غارق في أفكاره غير السعيدة ؛ مساعدة الطبيب تهرع نحوه وعلى وجهها تعبير يعرفه جيداً .. تلاشت كل أفكار البارون وأصابه وجوم مفاجئ ووجد نفسه عاجزاً عن النطق للحظة وتجمد مكانه حتى وصلت إليه الممرضة التي لم تنطق بدورها .. فقد كانت تعرف أن البشري التي تحملها تستحق عليها .. عضة كلب !
وأخيراً أستجمع البارون شتات نفسه وسأل الممرضة بحذر :
" ماذا ؟! بنت أخري ؟!! "
ولكن الممرضة هزت رأسها نفياً وما زال الوجوم يخيم على وجهها العابس فعاد البارون يسألها بلهفة وقد عاوده قليل من الأمل :
" ماذا إذاً ؟! ولد ؟! "
ولكن الممرضة هزت رأسها نفياً مرة أخري ..ولكن وقبل أن تأخذ الحيرة بمآخذ البارون نطقت الممرضة أخيراً وقالت بخوف :
" بنتان !! "
************
بعد عام واحد كان البارون قد تعافي من أثر الصدمة المريعة التي حلت عليه يوم مولد فتاتيه التوءم " جولييت "و" كولييت " .. وربما كان الفضل في تعافي البارون من هذه الصدمة يعود فقط لأبنته الحبيبة " ماريانا " التي نجحت وحدها بفضل جمالها الأخاذ وحنانها الدافق وتعلقها الجنوني بأبيها في نسيانه لمأساته أو على الأقل في إلهائه ؛ ولو قليلاً عنها .. وطوال خمسة أعوام لاحقة توقفت زوجته عن الحمل والولادة .. وأعتقد الطبيب الخاص بها أنها تعرضت لتلف خطير في الرحم في الولادة الأخيرة جعل من الصعب حدوث حمل جديد وأعلن الطبيب مخاوفه هذه دون حذر فسبب للبارون حزناً وغماً لا يوصف .. فقد أصابه يأس قاتل وأصبح على ثقة من أنه لن يحظى بالوريث المنشود أبداً !
وخلال الخمسة أعوام هذه تزوج الشقيق الوحيد للبارون " جوستاف " من فتاة قروية من أصول وضيعة فثارت ثائرة البارون لهذا الأمر .. والحق أن ثائرة زوجة البارون هي التي ثارت أولاً وحرضت زوجها على التصدي لأخيه ومحاولة إيقاف إتمام هذه الزيجة .. إذ كيف تقبل قريبة البابا أن تكون نسيبتها فتاة قروية وضيعة كانت تعمل خادمة في أملاك الأسرة ؟!
ولكن الزيجة تمت رغم أنف البارون وأنف زوجة البارون .. وأصبحت الفتاة الوضيعة زوجة لفرد من عائلة " منليك " ودخلت قصور الأسرة الفخمة لتلد فيها صبيين في ثلاثة أعوام !
وكانت هذه الضربة الأخيرة هي التي أفقدت البارون كل توازنه وتعقله .. فأندفع في مشاجرات ومشاحنات يومية مع زوجته وأصبحت الحياة بينهما لا تطاق حتى أن الخدم أصبحوا يفرون من القصر ولا تنجح كل الإغراءات المادية التي تقدم لهم في استبقائهم .. وكانت كل مخاوف البارون سببها أن شقيقه الآن أصبح لديه ولدين ومن حقه أن يرث كل أملاك الأسرة باعتباره والد الوريثين الشرعيين الوحيدين .. وهكذا لن ترث بنات " منليك " شيئاً على الإطلاق .. بل ربما أستطاع شقيقه أيضاً أن يجرده من كل أملاكه وهو حي .. و يضطر البارون العتيق وعميد عائلة " منليك " إلى طلب الإحسان من أخيه أو التسول في شوارع باريس !
وعندما حملت زوجة الأخ الأصغر للمرة الثالثة وقيل ؛ رجماً بالغيب ؛ أنها تحمل غلاماً ثالثاً تفجر الغضب والخوف في قلب " فرانسوا منليك " وأصابته حمي غريبة ظل صريعاً لها ثلاثة أشهر متتالية وصار عصبياً لا يطيق أحد ولا حتى عزيزته " ماريانا " نفسها !
ولم يتعافى البارون ولم يبدأ في استرداد صحته إلا عندما سمع خبر حمل زوجته للمرة الثانية عشرة !
************
هذه المرة كان البارون منتبهاً تماماً ومتابعاً لزوجته يوماً بيوم في حملها .. وكان هذا الأمر غريباً جداً بالنسبة للزوجة " جوليا " التي لم تري من زوجها أي اهتمام يذكر بها أو بحملها بعد مولد " صوفيا " ؛ البنت الثالثة .. وبالطبع فقد سُرت لهذا الأمر وبدأت تعيش دور العروس الحامل بكل دلاله وجماله .. وكان من في القصر كلهم ؛ بما فيهم البارون والبارونة ؛ يسيطر عليهم إحساس قوي وصل لدرجة العقيدة أن المولود القادم سيكون ذكر .. سيكون وريث البارون المنتظر !
ودون ترو .. بدأ البارون في الإعداد لوصول وريثه المنتظر وأحضر الكثير من اللوازم والمتطلبات الخاصة لاستقبال غلامه العزيز الذي طال الشوق إليه.. واشتري مهر عربي أبيض باهظ الثمن له شهادة نسب عليها خاتم سلطان عمان شخصياً ليكون أول حصان يتدرب البارون عليه لتعلم الفروسية.. حتى زجاجات النبيذ والشمبانيا الفاخرة خزن منها البارون كميات مهولة لحفل تعميد طفله العزيز !
ومضت الأيام أبطأ مما كانت عادة في أي حمل سابق للبارونة " جوليا " التي كانت تحيا ؛ ويحيا كل من حولها معها ؛ في هذا الحلم اللذيذ الجميل .. بل في هذا الوهم الملون البديع !
وذات صباح من يوم أثنين مشمس بديع وبينما كانت البارونة تتمشي الهوينى في الحديقة جيئة وذهاباً ؛ كما نصحها طبيبها ؛ أحست بآلام حادة مفاجئة تمزق جسدها .. لم تكن آلام طلق فآلام الطلق تأتي متدرجة من الضعف إلى القوة ومتقطعة على فترات زمنية قصيرة .. ولكن هذه كانت آلام مبرحة غريبة لم تجربها البارونة من قبل رغم ولاداتها الإحدى عشر ..ولم تكن هذه الآلام ؛ إن كانت نوع غير معتاد من الطلق ؛ مقتصرة على منطقة الرحم أو البطن فقط بل كانت البارونة تشعر كأن جسدها كله من أخمص قدميها حتى جذور شعرها تغلي وكأنها توشك على الانفجار !
وصرخت البارونة وسقطت أرضاً بين أيدي وصيفاتها وجاء البارون على عجل .. وحُملت البارونة إلى غرفتها وتم استدعاء الطبيب الذي جاء على عجل متعجباً من تبكير الولادة عن موعدها ثلاثة أشهر كاملة . إنه لم يري ولادة تتم في الشهر السادس من الحمل من قبل !
وكان أخشي ما يخشاه البارون أن يكون طفله قد مات في رحم أمه أو أن يكون على وشك الاحتضار لذلك فقد جاءت الولادة مبكراً ..
وبمجرد أن وصل الطبيب حتى قام بفحص البارونة بدقة متناهية أعلن
بعدها إن الولادة ما يزال أمامها ثلاثة أشهر وأن الآلام التي تعانيها
ليست آلام ولادة على الإطلاق !
أصيب البارون بدهشة شديدة وسأل الطبيب متعجباً ؛ وسط صرخات زوجته المدوية التي تتلوي ألماً أمامه ؛ عن سبب هذه الآلام المبرحة إذا لم تكن آلام ولادة .. فهز الطبيب رأسه نافياً أن يكون لديه تفسير قطعي لحدوث ذلك الأمر الغريب ، ومحاولاً تفسير الأمر بفرض أن التلف الذي أصاب رحم البارونة في الولادة الأخيرة قد يكون مسئولاً عن حدوث هذه الآلام الشديدة .. وأشفع الطبيب إعلان رأيه الحاسم بإعطاء البارونة كميات من أحد المسكنات مكتفياً بذلك !
وتناولت البارونة المسكن فهدأت الآلام قليلاً .. وأخيراً قرب الفجر تمكنت من أن تحظي بشيء من الراحة .. ولكنها قبل أن يكتمل شروق الشمس هبت صارخة وقد عاودتها الآلام .. أعنف وأوجع من المرة الأولي !
وظلت البارونة شهر كامل على هذه الحال .. تعاني الآلام ليلاً نهاراً .. ولا تكاد تتناول طعاماً أو شراباً حتى كرهت نفسها .. وصارت تتمني أن يسقط الجنين الذي في رحمها أو تموت هي وتستريح
من هذا العذاب !
أما البارون فقد كان حزيناً على ما يحدث لزوجته طبعاً.. ولكنه من ناحية أخري كان لديه شعور غريب أن ما يحدث هذه المرة دليل قاطع على أن زوجته لا تحمل بنتاً مثل كل مرة .. وقد صدق إحساس البارون في ذلك .. فالبارونة بالفعل لم تكن تحمل بنتاً .. ولكن هذا لا يعني
بالضرورة أنها تحمل ولداً !
************
وأخيراً في نهايات الشهر السابع من الحمل حدثت تغييرات غريبة في حمل البارونة .. فقد تدلي الجنين إلى أسفل في الحوض حتى أصبح بطنها كالكرة المنفوخة فوق الساقين مباشرة ، وصارت الأم تشعر بثقل دائم في جسدها وصارت تقريباً عاجزة عن الحركة .. ورغم ذلك لم تتوقف نوبات الآلام المبرحة بل ربما زادت عن ذي قبل .. وبعد يومين آخرين وفي بداية الشهر الثامن جاء الطلق حاداً سريعاً قاتلاً .. ورقدت البارونة بين يدي طبيبها الدائم تحوطها عناية وصيفاتها وخادماتها ويرقبها زوجها بكل قلق وأمل .. وتوقع الطبيب حدوث الولادة في فجر اليوم .. ولكن الغريب أن ذلك لم يحدث !
وفي اليوم التالي عادت آلام الطلق أعنف وأقوي من الليلة السابقة وبدأ رحم البارونة في تسريب السائل المحيط بالجنين بكثافة مما أدي لتوقع الجميع حدوث الولادة في نفس اليوم .. ولكن لم يحدث ذلك أيضاً .. الغريب أن السائل الذي قذفته البارونة كان أسود غليظاً مختلفاً تمام الاختلاف عن سائل الرحم العادي !
والأعجب أن نوبات الطلق استمرت عدة أيام متتالية دون حدوث ولادة .. أما أغرب شيء على الإطلاق فقد كان استمرار تدفق هذا السائل الأسود الغليظ من داخل الرحم دون توقف وكأنه بئر لا نهاية له !
وبعد مرور أسبوع كانت الأم قد وصلت إلى مرحلة لا توصف من الإعياء والإرهاق الشديد جعلتها تتمني أن تلد الشيطان نفسه .. المهم أن تتخلص من هذا الكابوس الراقد في جوفها والذي يأبى الخروج .. وبلغت مخاوف البارون على حياة البارون الصغير حداً جعله يفكر في أن يأمر الطبيب بالقيام بعملية الشق ولو كلفه ذلك حياة زوجته نفسها !
والحقيقة أن هذا التفكير بدأ يطغي على فكر البارون أكثر وأكثر كلما مضي يوم دون حدوث ولادة ودون توقف لنوبات الطلق والآلام المبرحة وتدفق السائل الأسود العجيب ..
وبينما كانت البارونة ترقد في هذه الحال الحرجة جاءت الأنباء ذات صباح إلى البارون تبشره بمولد صبي ثالث لأخيه الأصغر !
************
كان الطبيب ذو الأصل الأسباني جالساً على مقعد في غرفة ملاصقة لجناح البارونة " جوليا دي منليك " محاولاً التركيز والبقاء مستيقظاً أكثر وقت ممكن .. إنه يمر بوقت عصيب ولا أحد يستطيع رؤية الأمر على حقيقته سواه هو .. ربما يفقد البارون ابناً ووريثاً .. وربما تفقد البارونة ولداً وتفقد آخر فرصة للحمل في حياتها ، فالمؤكد أنها لن تحمل ثانية بعد ما عانته هذه المرة ، فالرحم ؛ كما يعرف بخبرته ؛ قد صار ولابد في حالة سيئة للغاية بعد كل هذه المعاناة .. هذا هو كل ما يفكر به البارون وزوجته .. أما بالنسبة إليه هو فإن الأمر أكبر كثيراً وأخطر مما يخطر ببال أحد .. إنه يجد نفسه لأول مرة في حياته ، ومنذ أن تخرج وحصل كل العلوم والكنوز التي أدخرها أجداده من معاهد العلوم الإسلامية الزاهرة في غرناطة التليدة ، عاجزاً وعلمه الذي تحصل عليه عبر سنوات من الدرس والخبرة غير قادر على إسعافه في هذا الموقف العصيب الذي يمر به .. إن البارون وأتباعه يطوفون به ليل نهار مشجعين ومعجبين بخبرته وعلمه ولكنه يعلم جيداً ما يمكن أن يحل به لو فشل في إخراج البارون الصغير إلى الحياة سليماً تماماً !
إن الأمر لا يقتصر على مجرد عملية ولادة عسرة مرهقة .. إنهم لا يفهمون ما يفهمه هو ولا يدركون حقيقة الأمر .. إن هذه ليست ولادة طبيعية على الإطلاق وحتى إذا ما ولدت البارونة أخيراً فلن يأتي جنين طبيعي .. ولن تعود الأمور طبيعية مطلقاً .. وهذا السائل الأسود الغريب ؟!
إنه يمارس الطب النسائي منذ ثلاثين عاماً ولكنه ولأول مرة يقف عاجزاً أمام ظاهرة لا تفسير لها .. لغز غريب لا يعرف له معني !
أي حمل هذا وأي ولادة .. وأي جنين .. أي جنين هذا ؟!
وبينما كان الطبيب غارقاً في أفكاره هذه أتت إليه مساعدته لتخبره بأن البارون يطلب لقاءه حالاً في غرفته الخاصة ؟!
************
وكانت هذه أول مرة يدخل فيها الطبيب إلى غرفة البارون " منليك " الخاصة على طول مكوثه وخدمته في هذا القصر.. لقد دخل جناح البارونة مرات كثيرة بالطبع بحكم عمله ، ولكن حجرة البارون الخاصة فهذه أول مرة .. ترى لماذا لم يستدعيه في حجرة المقابلات أو حتى في حجرات الاستقبال الخاصة ؟!
وبمجرد أن دخل الطبيب من باب الغرفة حتى وجد البارون واقفاً في منتصفها منتصباً كالرمح .. وأمامه خادمه الشخصي " لوجو " الذي أشار إليه البارون إشارة صغيرة برأسه فأسرع مغادراً بعد أن قام بإغلاق باب الغرفة بإحكام من الخارج !
كان البارون قد حسم أمره الآن .. ربما كان متردداً في الأيام السابقة .. ولكن الآن ؛ وبعد مولد ابن أخيه الثالث ؛ فلا مجال للتردد !
************
بمجرد انصراف " لوجو " دعا البارون الطبيب إلى الجلوس قبالته على أحد المقاعد .. وبدأ في سؤاله عن حال زوجته وعن فرص خروج الجنين حياً وعما إذا كان يتوقع حدوث الولادة في القريب أم أن الأمر سيطول أكثر من ذلك ..
وأخذ الطبيب يجيب عن أسئلة البارون بما عرف عنه من رزانة وهدوء محاولاً بث أكبر قدر ممكن من الاطمئنان في نفس البارون .. ولكن فجأة ووسط كلام الطبيب قاطعه البارون قائلاً بلهجة عادية وكأنما جاء الأمر عفواً :
" لو خيرت أيها الطبيب بين ضحية واحدة وبين ضحيتين فماذا تختار ؟! "
تظاهر الطبيب بالدهشة ؛ مع أنه في الحقيقة قد أدرك قصد البارون تماماً ؛ وتساءل بهدوء :
" ماذا تقصد يا سيدي ؟! "
فأجابه البارون وهو يميل بمقعده إلى الأمام ليقرب وجهه من وجه الطبيب :
" أقصد أنك أبرع طبيب نساء في فرنسا .. لا بل في أوربا كلها .. ولابد أنك تدرك أنه من الصعب أن تنجو البارونة مما أصابها ! "
أرتبك الطبيب لهذه الصراحة وتلعثم وهو يقول :
" عفواً يا سيدي .. ولكنك لست طبيباً ولا يمكنك إصدار الأحكام في مثل هذه الحالات .. أنا شخصياً ورغم كوني طبيب ليس من حقي أن أصدر مثل هذه الأحكام النهائية ! "
" ولكنك تعرف بخبرتك بالطبع ما إذا كانت الحالة التي تواجهك صعبة أم لا .. ولابد أنك تدرك مدي خطورة وصعوبة حالة زوجتي ! "
" نعم نعم .. إنها حالة صعبة .. ولكن ليس بإمكاننا الآن التنبؤ بحجم الضرر الذي أصاب الرحم ولا باحتمالات موت البارونة أثناء الولادة !"
وهنا فقد البارون أعصابه فصرخ في وجه الطبيب بصراحة كان يحاول تجنبها طوال الوقت :
" أنا لا تعنيني احتمالات موت البارونة .. بل كل ما يعنيني هو احتمالات حياة ابني !! "
" أعتقد يا سيدي أن الأمرين متلازمين وعلى نفس القدر من الأهمية .. فبحياة البارونة نضمن حياة الجنين .. إذا ماتت البارونة فسيعني هذا موت الجنين على الفور ! "
" ليس إذا كان الجنين خارجاً بالفعل عند حدوث وفاة البارونة ! "
" عذراً يا مولاي .. ولكن كيف سيحدث ذلك ؟! "
وهنا أبتسم البارون ساخراً وقال متلطفاً :
" لا تراوغني في الحديث يا عزيزي .. أنت تعرف تماماً ما أرمي إليه .. أنني الآن أسألك بصراحة : هل من الممكن القيام بعملية شق لاستخراج الجنين الليلة ؟! "
************
لم يعرف أحد ما الذي حدث في هذه الليلة بالضبط .. كل ما قيل أن البارون كان في حجرته الخاصة وبرفقته طبيب زوجته الخاص يتناقشان بحدة وبصوت مرتفع .. وفجأة قطعت مشادتهما صرخات حادة قادمة من جناح البارونة !
هرع البارون ؛ وفي إثره الطبيب ؛ إلى حجرة زوجته ليجد أمامه منظراً عجيباً لم يري مثله من قبل في حياته .. والمؤكد أنه لا يتمني رؤيته مرة أخري !
كانت زوجته ساقطة على الأرض بالقرب من فراشها وسط بركة من الدماء السوداء الغزيرة .. وحولها ثلاث وصيفات واثنتين من مساعدات الطبيب وكلهن ملطخات بالدماء مثلها .. وهي تصرخ دون توقف وهن يشاركنها الصرخات !!
أما بطن البارونة المنتفخ فقد تحول الآن إلى حفرة غائرة في مقدمة البطن وواضحة تماماً وكأن البارونة لا ترتدي ست قطع من الملابس فوق بعضها !
ولكن أين الجنين .. هذا هو بيت القصيد !
ذُهل " فرانسوا منليك " لهذا المنظر بالغ الغرابة .. وأخذ يتلفت حوله كالمجنون باحثاً عن أي أثر لوليده دون جدوى !
أما الطبيب فقد هرع نحو البارونة محاولاً فحصها وتبين حقيقة الأمر دون فائدة .. فقد حالت صرخاتها المريعة وحالتها العصبية الهستيرية دون تمكنه من لمسها .. كانت البارونة في الواقع تبدو على أعتاب الجنون نفسه !
وأعتاب الجنون نفسها هي التي كان البارون يقف عندها وهو يدور ويدور باحثاً عن وليده .. عن وريثه .. عن أي طفل وليد .. عن أي جنين دون جدوى !
الحق أن الطبيب والبارون وقفا عاجزين عن تبين حقيقة ما حدث وسط الحالة الهستيرية التي تعانيها البارونة وكل من حولها من نساء .. ولكن الأمر الواضح أن البارونة قد ولدت .. ولكن أين المولود هذا هو السؤال المهم !
وقبل أن يفق " منليك " من الصدمة والذهول سمع صوتاً غريباً قادماً من أسفل فراش زوجته .. كان صوتاً غريباً جداً وكأنه صوت نقيق ضفدع .. وقبل أن يجد فرصة لاستطلاع حقيقة الأمر فوجئ بشيء غريب يزحف خارجاً من تحت الفراش .. وفي هذه اللحظة انطلقت صرخات الوصيفات ومساعدات الطبيب المرعوبة وهرعن إلى الخارج لا يلوين على شيء وهن يصرخن بلوثة :
" الشيطان .. الشيطان ! "
أما البارونة فقد ظلت مكانها دقيقة تنصت لصوت النقيق وتنظر برعب لمقدمة الكائن الغريب الذي يزحف خارجاً من ظلام أسفل الفراش .. وفجأة شهقت بفزع ووضعت يدها على قلبها .. وفي اللحظة التالية مباشرة توقفت أنفاسها وشهقاتها ورعبها .. كان كل شيء فيها قد توقف .. كانت البارونة قد أسلمت الروح !
************
في هدأة الليل تحركت عربة مقفلة من قصر البارون " منليك " .. كانت كل نوافذ العربة وبابها الوحيد كلها مغلقة بإحكام شديد .. وتحركت العربة بهدوء تحت دجى الظلام وأخذت طريقها عبر التلال الجنوبية حتى وصلت منطقة " نوفارا " المنعزلة الموحشة .. وهناك فُتح باب العربة وهبط منها " لوجو " ؛ الخادم الشخصي للبارون وكاتم أسراره ؛ ثم تبعه البارون نفسه بعد قليل .. وبمجرد هبوط البارون من العربة أشار إلى " لوجو " إشارة معينة صامتة فتحرك الخادم متفقداً المنطقة ليتأكد من خلوها التام من أي مخلوق بشري .. فلما أطمأن إلى ذلك وتأكد منه عاد إلى حيث يقف البارون وأومأ له برأسه في صمت .. وعندئذ تحرك الاثنان ودخلا إلى العربة وبدآ في إنزال عدد من الصناديق الطويلة المتينة المحكمة الغلق .. أنزل البارون بنفسه "؛ بمساعدة " لوجو " صندوقاً وراء صندوق .. وقاموا بصفها إلى جوار بعضها حتى أفرغا العربة تماماً .. كانت الصناديق عددها ست على وجه التحديد .. وبعد فترة وجيزة بدأ " لوجو " في حفر حفرة عميقة واسعة محاولاً تعميق الحفر إلى أقصي قدر ممكن .. وما أن انتهى من إعداد الحفرة حتى ضرب البارون أحد الصناديق الست بقدمه فأنزاح من مكانه وأنزلق داخل الحفرة .. وبعدها قاما بالردم على الصندوق حتى أختفي تماماً في جوف الأرض .. وتكرر هذا الأمر ست مرات حتى تم دفن كل الصناديق ومواراتها باطن الأرض ..
ولما أنتهي ذلك .. وجه " لوجو " اهتمامه إلى تسوية التربة في المنطقة التي دُفنت فيها الصناديق الستة بعناية لإخفاء أي أثر لما حدث الليلة ..وقد تم كل ذلك دون أن يتبادل الرجلان كلمة واحدة !
وفي تباشير الفجر كان البارون في عربته عائداً إلى القصر ..وحده !
فقد كوفئ " لوجو " المخلص على عمله ومساعدته في إخفاء الصناديق ؛ بما تحتويه ؛ مكافأة عظيمة جعلته غير محتاج لخدمة البارون ؛ أو أي سيد آخر بعد ذلك .. كانت مكافأة " لوجو " حفرة سابعة بجوار الصناديق رقد فيها جثة هامدة .. بعد أن أطلق البارون عليه النار من خلفه خمس مرات !
وفي اليوم التالي أعُلن نبأ وفاة البارونة " جوليا منليك " زوجة البارون " فرانسوا منليك " أثناء الولادة .. وعرف الجميع أن البارونة توفيت ولحقت بها أبنتها الوليدة ، الابنة الثالثة عشرة للبارون " منليك " .. وتم دفن الصغيرة بعد أن أعطيت أسماً افتراضيا ؛ في حديقة القصر .. أما البارونة فقد حظيت بطقوس دفن فاخرة وتولي رئاسة قداس جنازتها ابن عمها البابا ( بيوس الرابع ) بنفسه .. ثم حُمل جسدها إلى ( مقبرة أسرة منليك ) ليدفن هناك !
وبعد مرور أيام الحداد .. وكما أكد الجميع أنه بسبب شدة حزنه أقدم البارون " منليك " على بيع كل أملاكه وأراضيه وxxxxاته وجمع كل ما له من أموال وأشتري سفينة خاصة وحمل عليها كل أمواله وكنوزه بالإضافة إلى بناته الإثنتي عشرة وهاجر إلى الأرض الجديدة ..أمريكا وهناك أستقر في ( نيواورليانز ) !
وحسنا فعل البارون .. فبعد أيام من رحيله هب الشعب الفرنسي في
ثورة رهيبة وحطموا سجن الباستيل وفتكوا بالنبلاء والأغنياء الذين أصبحوا طعمة سائغة للمقصلة .. وتم مصادرة كل الأموال والثروات .. وأخيراً جاءت النهاية بجز رقبة الملك نفسه ورقبة جلالة الملكة لتنتهي قصة الملكية في فرنسا إلى حين .. وتنتهي علاقة البارون " منليك " بوطنه فرنسا إلى الأبد !!
ورغم أن البارون قد أنقذ كل أمواله وكنوزه عندما هاجر إلى العالم الجديد .. ألا أنه لم يأخذ كل ما يخصه من فرنسا . فقد نسي هناك شيء ما .. شيء هام كان حرياً به ألا ينساه !
************





التعديل الأخير تم بواسطة سما نور 1 ; 31-10-17 الساعة 01:31 PM
منال عبد الحميد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس