عرض مشاركة واحدة
قديم 04-03-12, 01:00 PM   #3

منال عبد الحميد

قاصة في قسم قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية منال عبد الحميد

? العضوٌ??? » 189000
?  التسِجيلٌ » Jul 2011
? مشَارَ?اتْي » 46
?  نُقآطِيْ » منال عبد الحميد has a reputation beyond reputeمنال عبد الحميد has a reputation beyond reputeمنال عبد الحميد has a reputation beyond reputeمنال عبد الحميد has a reputation beyond reputeمنال عبد الحميد has a reputation beyond reputeمنال عبد الحميد has a reputation beyond reputeمنال عبد الحميد has a reputation beyond reputeمنال عبد الحميد has a reputation beyond reputeمنال عبد الحميد has a reputation beyond reputeمنال عبد الحميد has a reputation beyond reputeمنال عبد الحميد has a reputation beyond repute
افتراضي الجزء 3 والاخير

وبدأت أول ليلة للبارون وسط هذه المخلوقات الغريبة .. وبدأ أول قداس شيطاني يحضره معهم !
وتوجه واحد من الأتباع نحو منتصف القاعة بالضبط .. وهناك كانت نجمة خماسية عملاقة تتوسط حلقة مستديرة مرسومة على الأرضية وكانت أول مرة يراها البارون " منليك " أو يلاحظها .. ثم قام هذا التابع بإشعال نيران هائلة وسط الحلقة ، ثم بدأ بقية الأتباع يناولونه عدداً من الشموع السوداء الرفيعة ليقوم بإشعالها وأخذوا يعدون :
" أثني عشر .. ثمانية عشر .. أربع وعشرون .. ثلاثون .. ستة وثلاثون ! "
وهنا توقف العد وتوقف الأتباع عن إشعال المزيد من الشموع .. وكان " منليك " لديه في يده أحدي هذه الشموع السوداء التي أحضرها له " لوجو " وهم بأن يشعلها ويناولها لموقد الشموع هذا .. ولكن " لوجو " أمسك يده بجراءة وهتف بصوت خفيض :
" انتهي .. لا يصلح لأن العدد سيصبح سبعة وثلاثين ! "
فسأله البارون بحيرة وبنفس النبرة المنخفضة :
" وماذا في ذلك ؟! فليصبح سبعة وثلاثين أو أربعين حتى ..كن كريماً
يا أخي ! "
فأجابه " لوجو " بحزم وبنظرة باترة وكأنه هو السيد وليس الخادم :
" لا يصلح .. يجب أن يكون عدد الشموع من مضاعفات العدد ستة ويقبل القسمة التامة عليه ! "
وهنا أبتسم البارون بسخرية وقال لتابعه غريب الأطوار :
" الآن عرفت القسمة التامة يا " لوجو " ! رحم الله أيام أن كنت تنتظر أسبوعين لأفرغ واقرأ لك الخطاب الوارد من أمك ! "
ولكن إجابة " لوجو " أدهشت البارون حقاً فقد حدق في وجهه بعينيين ناريتين وأجاب بهدوء :
" أنا أجيد القراءة والكتابة بست وثلاثين لغة يا سيدي ! "
قال " لوجو " نعم .. ولكن بأرقي لغة لاتينية سمعها البارون في حياته !
وكاد البارون يعبر عن دهشته لهذه المعلومة الغريبة لولا أن الغرابة نفسها بدأت في تلك اللحظة .. فقد بدأ كل المشاركين في الطقوس ينزعون الجزء الأعلى من ملابسهم .. كاشفين عن جذوعهم النحيلة العجيبة وأضلاعهم النافرة وصدورهم المغطاة بأنواع وأشكال غريبة بالغة القبح من الوشم !
ولكن هل هو مطالب بأن يحذو حذوهم ؟
يبدو أنه كذلك لأن تابعه اللعين ؛ حذا حذوهم بالفعل ؛ وها هو ذا يشير للبارون بحزم كي يقلده .. وارتبك البارون ارتباكا مهولاً لهذا الأمر .. فهو غير متعود على التعري أمام أي أحد .. إلا أمام زوجته أحياناً !
ولكنه خضع في النهاية ونزع الجزء العلوي من ثيابه كاشفاً عن جذعه العريض القوي ولكنه في نفس الوقت أبي التخلي عن قناعه .. وخلال ثانية بدأ شخص غريب يقف ملاصقاً للعرش والجالس عليه في ترديد عبارات كثيرة متراصة بسرعة هائلة لم يفهم منها البارون شيئاً ، ويبدو أن " لوجو " اللعين أحس بغرابة الموضوع على سيده في المرة الأول ، فمال على أذنه وقال له بصوت لا يكاد يُسمع :
" إنه يردد المفاتيح السبعة ! "
وتعجب " منليك " من حكايات المفاتيح السبعة هذه وكاد يستفسر عنها لولا أن أحدهم قدم له في تلك اللحظة غليوناً ضخماً يتصاعد منه دخان رمادي كثيف ذو رائحة كريهة نفاذة .. أرتبك البارون ولم يدري ما يفعل بهذا الغليون فنظر إلى تابعه الذي كان هو الآخر قد قُدم إليه غليون آخر وأخذ يدخنه بشراهة .. ولم يكن الخادم وحده هو الذي يقوم بتدخين مثل هذا الغليون بل كان الحاضرين يمسكون بغلايين مشابهة ويدخنون بشغف .. وتردد البارون الذي أدرك أن الغليون يحوي مادة مخدرة ، ولكنه في النهاية وتحت وطأة نظرات من حوله رفع الغليون إلى شفتيه وبدأ يمتص رشفات حذرة منه .. فملئت أنفه وخياشيمه ألعن رائحة شمها في حياته .. ولكنه واصل التدخين رغم ذلك حتى أحمرت عيناه وضاق صدره وبصق هبة سوداء من الدخان ..
ثم سقط على الأرض فاقد الوعي !
وغاب البارون عن الوعي فجأة بضع لحظات.. بعدها عاد إليه وعيه ليري أغرب شيء توقعه في حياته .. فقد كان واقفاً ويديه متشابكتين في أيدي أثنين من أولئك الرعاع واحد عن يمينه والآخر عن يساره .. وكان الحشد كله ملتفاً في شكل حلقة حول العرش ومنهمكين في أغرب رقصة همجية رآها في حياته وأكثرها صخباً .. والغريب أن " منليك " وجد نفسه يشاركهم هذه الرقصة الشاذة .. واستمرت الرقصة طويلاً طويلاً طويلاًَ .. حتى بدأ كل من حوله يتساقطون على الأرض فاقدي الوعي .. وكان هو آخرهم !
************
واستيقظ البارون في الساعة الواحدة ظهراً ليجد نفسه في بيته وعلى فراشه المعتاد !
كان في غاية التعب والإرهاق ويشعر وكأنه قطع فرنسا كلها سيراً على الأقدام .. ولكنه بطريقة ما كان غير واع بأحداث الليلة الماضية ولديه استعداد تام أن يقسم أن ما حدث بالأمس لم يكن سوي كابوس
مزعج !
ولكن دخول " لوجو " المفاجئ بوجهه الغريب وملامحه السائبة الباهتة أيقظ عقل البارون على الفور وعادت له كل مشاهد الليلة الماضية دفعة واحدة !
قال " لوجو " بابتسامته السائحة غير مبال بملامح البارون الممتعضة
لرؤيته :
" صباحاً طيباً يا سيدي .. أراهن أنك لم تنم كما نمت هذه الليلة ! "
فأجابه البارون بصوت منخفض وهو يدعك عينيه :
" ماذا حدث يا رجل ؟! "
" لا شيء يا سيدي .. فيما عدا أنك دخلت في نومة الصلاة وظللت
راقداً حتى قبيل بزوغ الفجر وعندما حاول المركز الحي إيقاظك لم تستجب إطلاقاً .. فطلبوا أن أقلك إلى البيت ! "
فعاد البارون يسأله :
" وكيف حملتني بمفردك .. إياك أن تكون قد سمحت لواحد من أولئك الشرذمة الحقيرة باصطحابي إلى هنا .. سأذبحك لو سمحت لأحدهم بأن يطأ حديقة منزلي ! "
والحق أن البارون كان غاضباً جداً وهو يوجه هذه الكلمات الحادة لخادمه الخاص ولكن " لوجو " اللعين أحتفظ بهدوء أعصابه وظل بارداً سمجاً كلوح الثلج وهو يقول بهدوء لزج يغيظ :
" مولاي يعرف فطنتي جيداً .. لم أكن لأقدم على هذه الفعلة الغبية .. وأرجوا أن تحتفظ بأقصى قدر من رباطة جأشك يا سيدي .. فالليلة ستحتاج لكل هدوئك وقوتك لتشارك في القداس ! "
وأغاظت إجابة " لوجو " البارون ولكن ذكر كلمة القداس شحب وجهه وأصابته رعشة مفاجئة وسأل بحذر وبصوت خافت :
" أي قداس ؟! "
فرد " لوجو " :
" أول قداس حقيقي لك يا مولاي وسط جماعتك الجديدة .. القداس
الأسود ! "
وعند هذه النقطة أستيقظ " منليك " من أفكاره على قرعات عنيفة فوق بابه !
************
فجأة سمع البارون " منليك " فجأة صوت قرع عنيف على باب حجرته الخاصة فأنتفض فزعاً وتبخرت الأحلام التي كان يعيش فيها وهرع نحو الباب وفتحه .. ووجد وصيفة أبنته " ماريانا " تقف على بابه بوجه شاحب وبجسم مرتعش وبنبرات مذعورة قالت له :
" سيدي أن أبنتك مريضة جداً وقد ظهرت أشياء غريبة عليها ! "
وكانت هذه الكلمات كافية لإصابة البارون بالجنون والشلل ولكنه تماسك وهرع نحو غرفة " ماريانا " .. وهناك رأي ما لا يتصوره بشر ..
كانت " ماريانا " على الأرض بجوار فراشها تتلوي وتصرخ وهي تعصر بطنها وكأن ناراً تشتعل في جوفها .. ومن بين ساقيها كان يسيل هذا السائل الأسود الغليظ صانعاً بركة صغيرة مخيفة حولها ومن فمها يتدفق قئ بني غامق اللون ؛ أقرب للسواد ؛ غليظ وأغرب شيء على الإطلاق .. إنه قئ جاف تماماً وعلى شكل قطع صلبة !
أنفجر الفزع في نفس البارون وأخذ يرتجف كورقة شجر صغيرة وشحب وجهه أكثر من " ماريانا " نفسها وأسرع نحو ابنته وحاول إنهاضها دون فائدة .. فقد كانت متصلبة وأعضائها يابسة .. وفي هذه اللحظة دخلت شقيقاتها " بولين " و" سارة " و" ماري " الصغيرة إلى المكان وقد أقلق نومهن وأفزعهن صرخات أختهن العزيزة .. وبمجرد أن رأت " بولين " المنظر صرخت فزعاً ووضعت يدها لتغطي فاهها وكذلك فعلت " سارة " .. أما " ماري " الصغيرة فقد أسرعت نحو " ماريانا " وأخذت تبكي وتحاول لمسها .. وصرخ البارون مطالباً " بولين " و " سارة " بمساعدته لإنهاض " ماريانا " .. وبالفعل تمكن الثلاثة ؛ وبمساعدة وصيفة " ماريانا " ؛ من رفعها عن الأرض بمجهود شاق للغاية ووضعها في فراشها وقامت الأختان بتغطيتها وخرج البارون ليسمح لهن بتغيير ملابسها وليستدعي الطبيب فوراً ..
وجاء الطبيب وفحص " ماريانا " على مدار ساعتين متواصلتين خرج بعدها من غرفة الفتاة ووجهه يبدو عليه أنه في أزمة كبيرة !
ولما سأله البارون بلهفة عن حالة أبنته قال له محرجاً :
" لا أدري يا سيدي .. إنني لم أرى شيئاً كهذا من قبل ! "
فصرخ البارون الذي فقد أعصابه تماماً :
" ما معني أنك لا تعرف .. ومن يعرف إذن ؟! "
فأجابه الطبيب محاولاً تهدئته :
" سيدي أنني أقول لك أنني لم أري شيئاً كهذا من قبل .. ولا اعتقد أن أي طبيب في الأرض رأي مثل هذه الحالة ! "
فاهتاج البارون وصرخ بصوت كالرعد :
" لا تقل لي لم أري من قبل .. أبحث في كتبك .. أسأل زملائك الأطباء .. وإذا كنت عاجزاً عن معالجة ابنتي فدلني على أسم أكبر طبيب في الأرض وأنا أذهب إليه ولو كان الشيطان نفسه !! "
وعند هذا الحد انتهت المناقشة .. وبدأ عذاب " منليك "
الذي لا نهاية له !
************
وبدأت حالة الفتاة تسوء أكثر وأكثر .. وأستمر السائل الأسود والقيء البني يتدفقان من داخل جسدها وكأن هناك نهراً زاخراً في داخل جسدها الصغير .. ونحلت الفتاة وفقدت نصف وزنها في أقل من أسبوعين .وأصابها شحوب رهيب ما لبث أن أنقلب إلى صفرة داكنة .. وفقد وجهها الساحر جماله وفتنته شيئاً فشيئاً حتى أن أحداً ممن عشقوها لو رآها الآن لفزع من منظرها وأقسم بضمير مستريح أنها ليست " ماريانا " ابنة البارون " منليك !
أما البارون فقد كان في حالة يرثي لها .. وأسوأ ما في الأمر أنه الوحيد الذي يعرف ماذا يحدث بالضبط .. ولكنه آخر إنسان قادر على إيقافه !
" " إسموديوس" أيها الشيطان الجبان ! "
كان يعرف أنه أخطأ خطأً كبيراً حينما ولج بقدمه وكر الشيطان من أجل الحصول على الوريث الذي كاد يجن من أجله .. والمصيبة أنه يعرف ماذا يريد منه الشيطان ولكن جبنه يمنعه من تنفيذه !
لقد أنتظر حتى أبيض شعره وكبرت بناته ونمت " ماريانا " العزيزة حتى أصبحت أجمل زهرة في الكون .. أنتظر حتى تعلق بها أكثر وأحبها أكثر .. أنتظر حتى أصبحت عروساً تسر الناظرين .. ثم ها هو ذا يعاقبه و يسلب منه زهرته لتكون الضربة أقوى وأوجع !!
************
ومر أسبوع مروع وصارت " ماريانا " كأنها بقايا إنسان .. أو شبح .. ثم بدأت تغييرات مرعبة تصيبها !
فبعد أن نحل جسدها وتحول لونها الصافي الرائق البديع الذي يشبه لون الخوخ إلى صفرة قاتمة مرعبة .. بدأت ملامح الفتاة ذاتها تتغير !
ولم يكن التغيير تغييراً عادياً كالذي يصيب المرضي المصابين بأمراض شديدة الوطء .. بل كان تغيير في ملامح الوجه الثابتة ذاتها .. وبدا كأن جمجمة الفتاة ذاتها بدأت تتغير تغيراً جذرياً .. وجن جنون البارون وأيقن أن الشيطان اللعين لن يسلب الفتاة منه ببساطة .. بل إنه ينوي أن يعذبه تعذيباً رهيباً ويقتله في كل يوم مليون مرة وهو يري أبنته العزيزة وهي تنحدر بهذا الشكل الرهيب .. يعذبه كما عذبوا الفتاة الصغيرة ذات ليلة لن ينساها أبداً ما حيي .. وكيف ينسي وصوت صرخات الطفلة البريئة ما زال يرن في أذنيه بعد انقضاء كل هذه السنوات !
************
كان ذلك في أول قداس يحضره البارون مع جماعة عبدة الشيطان هؤلاء الذين ينتمي إليهم " لوجو " اللعين ..
ورغم نفوره وكراهيته لكل ما رآه هناك فقد كان يجب عليه حضور القداس الشيطاني .. يجب عليه أن يعود وإلا سيكون الانتقام منه أفظع من كل خيالاته وأحلامه .. ورغم مرور هذه السنوات الطويلة فما يزال ما حدث في تلك الليلة السوداء عالقاً بذاكرة البارون لحظة بلحظة !
************
ذهب البارون مرتدياً ملابس بسيطة فوقها عباءة ضخمة وقناع سميك على وجهه وكان بصحبته " لوجو " .. وتوجها نحو المكان السابق وهناك وجدوا الجمع اللعين محتشد حول العرش وحول الكائن الغامض الجالس عليه .. ولكن كانت هناك تغييرات هامة أجريت على الغرفة !
فقد أزداد عدد الشموع السوداء المشتعلة فيها حتى وجد البارون نفسه
يتساءل سراً كم عدد مضاعفات الستة من الشموع متواجد في هذه القاعة .. وكذلك فقد كان هناك مائدة غريبة وضعت في منتصف الحجرة تماماً ، وكان شكلها غريب يشبه مذبح الكنيسة .. وأكتشف البارون لأول وهلة أن عدد أتباع هذه الجماعة أكثر مما ينبغي فقد كان المتواجدون الليلة أكثر من أربعة أضعاف الذين رآهم في المرة الأخيرة .. أما أغرب شيء على الإطلاق فهو وجود طفلة صغيرة لا تتجاوز السابعة برفقة أحد المشاركين في القداس !
طفلة صغيرة تشارك في هذه الطقوس المشينة .. طفلة تعبد الشيطان ؟!
أي أب هذا الذي يسمح لنفسه باصطحاب أبنته الصغيرة في طقوس مثل هذه ؟!
ولكن لا ليست الطفلة من أعضاء هذه الجماعة .. وليست ابنة أحد الأعضاء .. وليست قادمة بصحبة أحدهم .. رباه ليتها كانت .. ليتها كانت أي شيء.. ليتها كانت وظلت أي شيء .. ولكنها لم تكن ولم تظل أي شيء!
كانت الطفلة واقفة بهدوء بجوار مخلوق متشح بالسواد من أعلاه حتى أسفله وله ملامح غامضة لا تستطيع مهما أوتيت من فطنة أن تجزم بأنها رجل أو امرأة .. ولكن تكوين الجسد وحده يعطي دليلاً على
كونها امرأة !
كانت الطفلة واقفة وعلى وجهها ابتسامة طفولية هادئة وفي فمها مصاصة حمراء كبيرة وكانت تمسك بيد السيدة وتتعلق بها بشدة .. ولكن رغم ذلك فقد عرف البارون أن الفتاة ليست ابنة هذه السيدة .. ولم يعرف السبب الذي جعله متأكداً من ذلك .. إلا أن شعوراًَ طاغياً تملكه مؤكداً أنها ليست أبنتها .. وقد صدق شعوره .. فلم تكن هذه المرأة أماً لهذه المخلوقة الجميلة التي تشبه الملائكة .. مستحيل أن تكون هذه أماً لمخلوق أياً كان !
كان البارون يتطلع للطفلة بحنان ؛ فقد ذكرته ملامحها بابنته الحبيبة " ماريانا " ؛ عندما بدأت طقوس القداس الشيطاني فجأة !
فبغتة سمع البارون ؛ وهو في موضعه الذي لم يغادره منذ حضوره ؛ ضربتين قويتين على صاج معدني فأجفل ونظر نحو مركز القاعة .. ووجد كل الحاضرين يفعلون مثله ويركزون نظراتهم على المذبح .. وكانت الطفلة في هذه اللحظة ما تزال واقفة إلى جوار هذه السيدة غريبة الملامح تلوك مصاصتها بسعادة وقد شعرت بنظرات البارون الحنونة نحوها ؛ رغم القناع المحكم الذي كان يرتديه ؛ فنظرت نحوه وابتسمت له بشفتيها الملطختين بلون المصاصة الأحمر ابتسامة عذبة .. ولكن فجأة حدث ما لا يتصوره عقل !
حدث ذلك في لحظة ، بل في أقل من لحظة .. فقد فوجئ البارون بشخص من الواقفين حول العرش يتجه نحو الطفلة ويختطفها فجأة من مكانها بجوار السيدة ويحملها ويرقدها فوق المذبح !
ليس هذا فقط بل قام ثلاثة آخرون وساعدوا هذا الشخص على التغلب على مقاومة الطفلة العنيدة وقيدوا ساقيها ويديها بالحبال ثم وضعوا غطاءً قماشيا أسود على وجهها .. وانطلقت صرخات الطفلة المسكينة المستغيثة وأخذت تستنجد بالسيدة التي كانت برفقتها وتصرخ بفزع :
" خالتي " صوفيا " .. خالتي " صوفيا " ! "
ولكن خالتها " صوفيا " بدلاً من أن تحاول إنقاذها ما كان منها إلا توجهت نحو المذبح وأمسكت برقبة الطفلة البريئة بين يديها وأخذت تضغط عليها بوحشية !
وعند هذا الحد كان البارون قد فقد قوة احتماله فهرع من مكانه نحو المذبح صارخاً محتجاً محاولاً تخليص الفتاة البريئة .. ولكن الباقين منعوه بالقوة وكادوا يفتكوا به لولا " لوجو " الذي تدخل لإنقاذه وحمله على الابتعاد
عن المذبح بالقوة !
وهكذا بدءوا في تعذيب الفتاة الصغيرة !!
في البداية جردوها من ثيابها تماماً .. ثم تقدم أحدهم حاملاً مدية صغيرة ووقف بجوار المذبح الذي ترقد عليه الطفلة لحظة ثم صرخ بجنون :
" من أجل سيدنا الشيطان ! "
وفجأة أغمد مديته في فخذ الطفلة فانهمرت دماءها وتعالت صرخاتها المستغيثة !
وصرخ البارون " منليك " وهو واقف مكانه ولكن الآخرين منعوه من فعل أي شيء وأحاطوا به إحاطة تامة !
وأستمر التعذيب الوحشي لأكثر من ساعة .. فبعد طعنة المدية في فخذها طعنوها عدة طعنات أخري في أنحاء متفرقة من جسدها الغض اللين .. ومع كل طعنة كانت الدماء تتدفق وصرخات الطفلة تعلو مستغيثة متوسلة باكية بحرقة .. ولكن هيهات أن تؤثر دموع البراءة في قلوب حيوانية متوحشة لا تعرف الرحمة !
وهكذا بعد أن امتلأ جسدها بالجراح النازفة .. أخذوا يكوون جسدها
بالنار دون ذرة واحدة .. ذرة واحدة من الرحمة .. وكان البارون في موضعه يكاد يجن بينما ظهرت ملامح الجذل الوحشي على ملامح الخالة " صوفيا " !
وبعد عذاب لا يتصوره عقل قام أحدهم وشق صدر الطفلة ؛ وهي بعد حية تتنفس ؛ وأخرج القلب الصغير الغض الدافئ وقضم منه قضمة بوحشية لا مثيل لها .. وبعد دقيقة وجد البارون " منليك " تابعه " لوجو " يتقدم نحوه وفي يده ؛ لعنة الله عليه ؛ قطعة من قلب الطفلة يقدمها إليه مطالباً إياه بأكلها !
وغمت نفس البارون وأصابه رعب وتقزز لم يعرفه من قبل في حياته .. ثم أختلس نظرة طويلة إلى المذبح المغطي تماماً بدماء الطفلة ، وجسد الطفلة الممزق المعذب المسكين ما زال راقداً عليه وقد أغلقت عيناها البريئتين وكان من سوء حظها أن آخر ما تقع عليه عيناها هو هذه الوحوش المفترسة القذرة .. ألا لعنة الله عليهم وعليه وعلى " لوجو " وعلى الوريث الذي أورده موارد التهلكة !
ومن تلك الليلة .. وبعزيمة لا تعرف الضعف قرر البارون ألا يعود لوكر الشياطين هذا .. مهما حدث ومهما كلفه الأمر .. ولكن " منليك " لم يعرف أنه سيدفع ثمناً أكبر كثيراً من كل تصوراته .. وانه ليس ثمناً واحداً بل أثمان متعددة .. لقد دخل جماعتهم وعرف سرهم وليس من السهل أن يتركوه يمضى هكذا ببساطة !
************
ومضت بضع ليال كئيبة مظلمة على البارون .. كان خلالها يعاني الأمرين مرة من إلحاح " لوجو " الدائم عليه بالعودة لحضور اجتماعات وحفلات جماعته الشيطانية .. ومرة من الكوابيس المتعددة التي بدأت تصيب زوجته وتقلق نومها وتفزعها .. وكان هذا كل يوم وكل ليلة !
وتطور الأمر حتى بدأ البارون يفضل أن ينام في غرفة منفصلة ليرحم
نفسه من نوبات الفزع والصراخ التي تصيب زوجته كل ليلة وبلا انقطاع !
وعندئذ بدأت تغييرات غامضة وغريبة تحدث للبارونة رافقها ؛ في نفس الوقت ؛ امتناع " لوجو " التام عن دعوة سيده الحارة لحضور قداسات الجماعة وحفلاتها السوداء !
وبعد مرور شهر وفي ليلة قر باردة شديدة البرودة وممطرة شاهد البارون منظراً أفزعه وروعه لدرجة أنه نسي كل ما شاهده ومحي من ذاكرته وكأنه لم يكن !
ففي هذه الليلة كان " منليك " يتهيأ لدخول فراشه الخاص في حجرته المستقلة عندما داهمه فجأة حنين مفاجئ لزوجته " جوليا " ؛ التي كان يحبها رغم كل شيء ؛ وأحس بأنه يرغب في أن يكون معها في تلك اللحظة !
وفعلاً ودون تردد أرتدي البارون روباً فاخراً فوق ثياب نومه وغادر حجرته متوجهاً نحو جناح زوجته ولم ينس في طريقه أن يطمئن على بناته خاصة " ماريانا " الحبيبة التي كانت نائمة في فراشها كملائكة الميلاد !
وذهب البارون إلى غرفة زوجته وفتح الباب برفق رغبة منه في مفاجأتها
بحضوره الذي سيسعدها كثيراً بلا شك .. ولكن عندما أطل البارون برأسه داخل الحجرة شاهد منظراً غريباً .. منظراً أفزعه وصدمه وروعه لدرجة أنه ظل عشر دقائق كاملة في مكانه لا يفهم ما الذي يجري بالضبط !
كانت البارونة " جوليا " راقدة في فراشها الوثير مرتدية ثياب نومها الحريرية اللامعة والفراش من تحتها ومن حولها في حالة فوضي عارمة وكانت هي نفسها مغمضة العينيين وتتنفس بطريقة غريبة ، أنفاس قصيرة سريعة متلاحقة .. وفوق ساقيها يرقد هذا المخلوق !
مخلوق غريب ملتف بالظلام ولا حدود ولا ملامح واضحة له .. واستمر " منليك " يحدق في المشهد الغريب الذي يجري أمامه دون أن يدرك ما يحدث بالضبط .. وكل ما ظل يذكره بعد ذلك أنه أستيقظ صباحاً ليجد نفسه نائماً بجوار زوجته .. وكانت هي تلتصق به وتمسح خده وتمسد على رأسه بحب وحنان .. والسعادة تقفز من عينيها !
************
وبعد أشهر قليلة قام الطبيب بفحص البارونة وأعلن بسعادة أنها حامل .. للمرة الثانية عشرة !
واجتاحت موجة من البشر والسعادة البارون وكل الأسرة وكل من يعملون عنده وطغي إحساس غريب على الجميع يؤكد لهم أن الغلام المنشود آتٍ عما قريب .. وأنه قد آن الأوان أخيراً .. أخيراً .. أخيراً . لكي يحصل البارون على الوريث المرتجي !
ونفس هذا الإحساس لازم الزوجة " جوليا " نفسها وجعلها تطفو في
السماء في موجة هائلة من السعادة .. واستمر هذا حتى بدأت نوبات
الألم المخيفة وتبعها تسرب هذا السائل الأسود اللزج كريه الرائحة من الرحم بشكل مستمر !
عندئذ بدأت البارونة تضيق بالأمر وتشعر بالضيق والغضب الشديد
كلما باغتتها نوبات الآلام المبرحة .. وكان سبب ضيقها وإحساسها بالغضب أنها وجدت نفسها مضطرة إلى تحمل متاعب الحمل والولادة مرة بعد مرة بعد مرة ؛ إلى ما لا نهاية ؛ حتى تحقق للبارون حلمه وتأتي له بالولد المنشود .. وذلك دون أي التفات لصحتها أو لمتاعبها !
وبدأت العلاقة بين الزوجين تتوتر وبدأت " جوليا " تنظر لزوجها على أنه زوج أناني لا يعرف إلا مصلحته وأحلامه .. أما هو فقد ضاق فعلاً بها وبالبنات اللائي أنجبتهن له مفرخة البنات وتمني لو أنه فعل فعلة أخيه وتزوج واحدة من سفلة الشعب .. لعلها كانت تكون أكثر حذقاً ومهارة من ابنة عم البابا !!
ومرت الشهور طويلة كئيبة مليئة بالألم والعذاب والقلق والفزع .. حتى حان يوم الولادة الملعونة .. ويومها فقط تذكر البارون المشهد الغريب الذي رآه في غرفة زوجته ذات ليلة .. وفهم معناه وأصابه رعب وغضب وحشي لم يعرفهما من قبل !
لقد عرف الآن فقط ما الذي كان يجري بالضبط .. لقد ذهب إلى الشيطان ليهبه الولد ففعل .. ولكنه وضع تغييراً بسيطاً على الخطة .. فبدلاً من أن يمنحه ابن " منليك " منحه أبنه هو .. أبن الشيطان !
أو بالأحرى ابنة الشيطان .. التي من المفترض أنها ابنة البارون " منليك " .. أبنته الثالثة عشرة !
************
ومرت أيام قليلة كانت شديدة الوطأة على أسرة البارون " منليك " ..
وعلى أبنته المفضلة " ماريانا " التي تحولت لما يشبه هيكلاً من العظام الجافة .. أو شبح بشر !
وكان الألم يعتصر قلب البارون كلما رأى الحالة التي وصلت إليها حبيبته وابنته العزيزة .. هل هذا الوجه الشاحب المخيف وهذا الجسد الضامر الذابل وهذه البشرة الميتة الداكنة هي لماريانا ؟!
مستحيل .. مستحيل أن يصدق أن ابنته ستؤخذ منه هكذا ببساطة .. مستحيل أن يسمح بحدوث هذا !
وفكر البارون طويلاً حتى توصل إلى الطريقة التي من الممكن عن طريقها إنقاذ ابنته من لعنة أفعاله القبيحة .. كانت طريقة مريعة وتحوي أخطاراً هائلة بالنسبة له .. ولكنها كانت للأسف الطريقة الوحيدة !
وأعلن البارون لأسرته أنه ذاهب إلى فرنسا ؛ التي لم يفكر في الذهاب إليها طوال عشرة أعوام ؛ لأمر في غاية الأهمية .. ودهشت " ماريانا " لهذا وقالت له بعينيين غائمتين مليئتين بالدموع والألم :
" هل تتركني في هذه الحالة .. أبقي معي يا أبي .. إنني أحتاج إليك "
فأجابها البارون بصوت يخنقه الحزن والألم رغم أنه يحاول التظاهر بالشجاعة والهدوء :
" لابد أن أذهب يا صغيرتي .. ذاك أمر في غاية الأهمية ! "
وذهب البارون وهو واثق ومتأكد .. أنه لن يعود ثانية أبداً !!
************
باريس بعد عشرة أعوام من الغياب !
باريس التي تركها مدينة زاهية راقصة منيرة معتزة بنفسها متباهية بجمالها الملكي ؛ حتى وإن كان زائفاً مصطنعاً ؛ وعاد إليها وقد أضحت مدينة الموت والوحشية والظلام والمقصلة .. لم تتخلص بعد من لعنة " روبسبير " وكل جزاري الثورة الذين وضعوا مبدأ ( الحرية والإخاء والمساواة ) خصيصاً ليخالفوه ويعملوا كل ما هو ضد هذه المبادئ البراقة التي وضعوها تحت تأثير ( النبيذ ) و( الروم ) الرخيص .. وعندما أفاقوا ندموا عليها واعتبروها كأن لم تكن !
قصور النبلاء نُهبت وأصبحت مساكن للشحاذين والمتسولين والحيوانات .. والأراضي الشاسعة التي كان يملكها هو وأسرته قد صُودرت فيما صُودر ونهب من الأملاك والأموال .. وآه لو أحس أحد من جواسيس الثوار أن النبيل الهارب " فرانسوا منليك " قد عاد إلى باريس .. ستكون نهايته دون أدنى شك !
ولكن "منليك " لم يكن غبياً فلم يأتي إلى فرنسا تحت اسم مستعار اعتباطا ولم يؤمن نفسه بمجموعة من المرافقين الأمريكيين عبثاً لأنه كان مهتم بإتمام مهمته التي جاء من أجلها لإنقاذ ما تبقي من ابنته الغالية " ماريانا " .. فهو ببساطة لم يأتي للعبث مع رجال الثورة المجانين أو لإضاعة وقته معهم !
وكان كل ما يهم البارون المتخفي تحت أسم " ألبرت مونكان " أن يعرف الموضع الذي تقع به مقابر أسرته القديمة الآن لأن جزء كبير من المدينة قد خُرب عمداً وتغيرت طبوغرافية المدينة إلى حد صار من المتعذر معه معرفة المواضع القديمة العزيزة .. ولكن البارون لم يعدم مرشداً وتمكن من معرفة الموضع الذي توجد به مقابر أسرة " منليك " العريقة القديمة التي أشاع رجال الثورة كذباً وبكل فخر أنهم قضوا على ثلاثة أرباع أفرادها وقضموا رؤوسهم بالمقصلة الحبيبة وما زالوا في انتظار العثور على الربع الباقي من العائلة لينفذوا فيهم حكم الشعب .. رغم أن الشعب نفسه كان يعلم علم اليقين أن هذا ليس إلا هراءً وتخريف !
ووصل البارون إلى المنطقة الخربة التي تقع بها مقابر أسرته .. ولم يكن البارون يريد المقابر الرسمية نفسها .. بل كل ما كان يعنيه هو الموضع الخرب الذي يعلمه تماماً .. والذي دفن به ضحاياه السبعة منذ أعوام تبدو له الآن بعيدة كل البعد .. هل هي لعنة من الله أم لعنة
من الشيطان ؟!
هل لعنه الله لأنه قتل ستة من الأبرياء دون ذنب ولمجرد أنهم أطلعوا على جزء من سره الرهيب ورأوا الشيطان الذي ولدته زوجته .. أم لعنه الشيطان لأنه قتل تابعه المخلص " لوجو " .. الذي أكتشف البارون فيما بعد أنه كان أحد مختاري هذه الجماعة .. أي أنه يعتبر من كهنة الشيطان .. كهنة ( أسموديوس ) اللعين .. ولكن لا فالله لا يأخذ البريء بذنب المجرم ولو كان الله يعاقبه على جرمه لعاقبه هو نفسه وليس " ماريانا " ابنته البريئة التي لم تجني على أحد .. إذن فمعركته ليست مع القدر أو الزمن الغادر أو المرض الخبيث .. بل مع الشيطان الذي أرتضي لنفسه أن يعاهده يوماً ما ثم خان عهده معه لأنه لم يحتمل تبعات هذا العهد الملعون .. معركة البارون كانت مع الشيطان ومع شخص آخر لن يصدق البارون أبداً من هو !
************
عندما وصل البارون إلى المنطقة المنعزلة لاحظ أنها هُجرت بالكامل على امتداد خمسة وعشرون ميلاً .. صحيح أن منطقة ( نوفارا ) هذه كانت مهجورة من الأساس ولكن بقربها كانت تقع قري بسيطة عديدة كلها مهجورة الآن والبوم ينعق فوق بيوتها وأسطحها الخربة الخاوية !
دهش البارون لذلك الأمر فالغريب أن هذه القرى كانت ما تزال عامرة بالناس في الوقت الذي كان النبلاء الملكيون يستنزفون الفلاحين والبسطاء بالضرائب البالغة الارتفاع تماماً كما تستنزفهم الكنيسة الموقرة بالعشور والصدقات التي هم في أشد الحاجة إليها .. ولكن الغريب أنه الآن وبعد زوال سلطان النبلاء ؛ وإلى حد ما الكنيسة أيضاً ؛ هُجرت القرى !
أمر غريب غريب !!.. ولكن البارون سمع إشاعات كثيرة في قلب باريس نفسها عن ظهور متعدد لكائن شيطاني مخيف سبب ذعراً هائلاً لسكان المنطقة وأرغمهم على الفرار من بيوتهم وتركها .. لقد هربوا من المنطقة كالدجاج المذعور .. وطبعاً لم يكن البارون بحاجة إلى معرفة من أين أتي هذا المخلوق الشيطاني المخيف .. إنها أبنته .. أبنته الثالثة عشرة !
************
وحده مخترقاً ظلمات الليل وبرد التلال وأطباق الضباب كان البارون " منليك " يخترق منطقة ( نوفارا ) المظلمة الموحشة .. تماماً كما أخترقها منذ سنوات طويلة هو وتابعه اللعين " لوجو " ليخفي سر عمره وجريمته الكبرى .. ولكن الفارق أنه ذهب المرة السابقة بصحبة رجل حي وستة موتي وعاد بمفرده .. ولكنه هذه المرة يذهب بمفرده تماماً وان كان واثقاً أنه لن يعود !
هنا تماماً ..نعم المنطقة الملعونة التي يعرفها البارون جيداً والتي أخفي
فيها جثث ضحاياه المساكين .. الطبيب ومساعداته ووصيفات زوجته
.. و" لوجو " اللعين الذي لم تبكي عليه السماء ولا الأرض !
وهناك كانت تقبع قبة إردوازية غريبة الشكل يخفيها الظلام والضباب .. هذه القبة لم تكن موجودة من قبل .. ولم يتساءل البارون طويلاً عن سر ذلك فقد أصبح كل شيء معتاد بالنسبة له .. وهل من رأى الشيطان ولامس يده من الممكن أن يدهشه شيء ؟!
ولكن القبة لم تكن خالية بل كان هناك ظل باهت يعلوها .. ظل لمخلوق يجلس فوق القبة متسربلاً بالظلام ملتفاً بالضباب الكثيف ..وعندما وصل البارون إلى زاوية نظر مناسبة أدرك أن المخلوق القابع فوق القبة له أيضاً جناحان هائلان فردهما بغتة وحلق بهما عالياً مثل النسر الجسور متوجهاً نحوه .. نحو البارون " منليك " !
أرتجف البارون ذعراً ولكنه حافظ على ثباته الخارجي .. كان يدرك جيداً أنه أمام اختيارين: إما أن يستسلم لمخاوفه وذعره ويلوذ بالفرار مضحياً بابنته الغالية " ماريانا ".. وإما أن يثبت ويتشجع وعندها ربما .. أقول ربما يفلح في إنقاذها !
ووصل المخلوق إلى حيث يقف البارون .. وحلق فوق رأسه بالضبط .. ثم هبط أمامه !
************
في هذه اللحظة كانت " ماريانا " المعذبة المسكينة ترقد فوق فراشها في غرفتها المظلمة بمفردها .. فقد ذهبت كل واحدة من شقيقاتها إلى حيث تشاء غير مباليات بها .. بل ربما كن سعيدات لأنها ترقد مريضة مرض الموت لعلها موتها يريحهن من الغيرة القاتلة التي يشعرن بها نحوها ويساعدهن على الوصول لمآربهن !

كانت " ماريانا " راقدة في الظلام تعاني سعالاً متواصلاً حاداً .. أخذت تسعل وتسعل وتسعل حتى كادت أضلاعها أن تتحطم .. وعندئذ رفعت نفسها بصعوبة عن الفراش ومدت يدها لتصل إلى المنضدة الصغيرة المحملة بالأدوية جوار فراشها .. كانت هناك عشرات وعشرات من زجاجات وعلب الأدوية هناك .. ومدت الفتاة البائسة يدها إلى أقصي ما تستطيع حتى وصلت إلى علبة من الدواء ذات لون أصفر فاقع وسط كومة الزجاجات والأدوية .. وفتحتها بصعوبة وهي تنهج وتلتقط أنفاسها بصعوبة بالغة وتناولت منها قرصين وهمت ببلعهما بدون ماء .. ولكن فجأة وكأنه سحر اشتعلت أحدي الشموع المطفأة الموضوعة على حامل المرآة بمفردها .. وتراقص ضوء الشمعة والقي ضوءاً خافتاً على المرآة .. ضوءاً ضئيلاً خافتاً ولكنه يكفي لكي تري " ماريانا " من موضعها على الفراش وجهها وما آل إليه حالها ..
وألقت " ماريانا " نظرة واحدة على وجهها فصدمت وروعت .. ألهذا أمر أبوها برفع المرآة من حجرتها ومنع أي أحد من إعطائها واحدة .. من أحضر هذه المرآة إذن ومتى ؟!
على أنه مهما كان الذي جاء بالمرآة ووضعها هنا بعد رحيل البارون إلى فرنسا فقد قصد أن يجعلها تري وجهها .. وقد رأته !
تأملت " ماريانا " وجهها البشع المشوه لحظة واحدة .. ثم بهدوء مدت يدها إلى العلبة الصفراء مرة ثانية .. وفي هذه المرة أفرغت كل ما في العلبة ببطء فوق كفها .. وبدون ماء أيضاً ابتلعت الحبات الصفراء واحدة وراء واحدة !
************
لم يخرج البارون " منليك " ثانية من منطقة ( نوفارا ) الموحشة ولم يسمع أحد عنه أي شيء بعدها .. وقلق رفاقه الأمريكيون لطول غيابه وبدءوا في البحث عنه أياماً وأسابيع وشهوراً طويلة دون جدوى .. ووجدوا أنفسهم مضطرين آخر الأمر إلى اللجوء إلى السلطات الفرنسية والاعتراف أمامها بحقيقة الرجل علها تساعدهم في البحث عنه .. وبالطبع لم يبدي الفرنسيون أي اهتمام بمصير الإقطاعي الفرنسي السابق .. بل لقد أسعدهم اختفاؤه الغامض واعتبروه دليلاً على حماية الله لثورتهم المباركة وانتقامه من كل أعوان الملك السابق .. واولهم " فرانسوا منليك " الذي أتعبهم في تعقبه والبحث عنه طيلة هذه السنوات !
وأعتبر قادة الثورة هذا الأمر مكسباً سياسياً ونصراً لهم وأعلنوا بدون خجل أنهم تمكنوا من القبض على البارون الهارب " منليك " وأعدموه بالمقصلة !
وصدق الناس القصة الزائفة .. ووضُع أسم " منليك " في ملف من قضمت المقصلة رؤوسهم وختم الملف بالختم الجديد وأودع في أرشيف الأمة الفرنسية بكل فخر وحبور !!
ولم يكن أحد يدري أن " منليك " قد ضحي بحياته وواجه أصعب تجربة يمكن أن يخوضها بشر ورأي من الرعب ما يكفي شعباً كاملاً .. من أجل أن ينقذ أبنته .. ولكن للأسف فقد ضحي بعمره من أجل لا شيء .. ففي نفس اللحظة التي كان البارون " منليك " يلفظ أنفاسه وسط الضباب والظلام في هذا القفر الموحش مردداً من قلبه :
" من أجل " ماريانا " .. من أجل " ماريانا " ! "
كانت " ماريانا " نفسها ترقد فوق وسادتها مفتوحة العينيين على اتساعهما وقد تحولت لشيء أشبه بكومة من الجلد والعظام .. ولم يكن حولها سوي شقيقتيها " شارلين " و " إليزابيث " تتبادلان نظرات السعادة والبهجة .. لقد تعبتا كل هذا التعب ومشتا كل هذا المشوار الطويل من أجل هذه اللحظة .. وقد وصلتا أخيراً إلى ما تمنتا .. لذلك كان الحبور يملأ أعطافهما .. والشيطان ؛ الذي عرفتاه طويلاً وتقربتا إليه بكل وسيلة ؛ يطل من عيونهما ! .
[/]



التعديل الأخير تم بواسطة سما نور 1 ; 13-07-17 الساعة 04:00 AM
منال عبد الحميد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس