عرض مشاركة واحدة
قديم 29-05-12, 11:28 AM   #3508

كاردينيا الغوازي

مراقبة عامة ومشرفة وكاتبة وقاصة وقائدة فريق التصميم في قسم قصص من وحي الأعضاء

alkap ~
 
الصورة الرمزية كاردينيا الغوازي

? العضوٌ??? » 126591
?  التسِجيلٌ » Jun 2010
? مشَارَ?اتْي » 40,361
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Iraq
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » كاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond repute
?? ??? ~
من خلف سور الظلمة الاسود وقساوته الشائكة اعبر لخضرة الامل واحلق في سماء الرحمة كاردينيا الغوازي
افتراضي

الفصل الخامس عشر

بعد سنتين..
لم تصدّق اخلاص أذنيها وهي تقترب من باب المطبخ، كما لم تصدق عينيها وهما تتطلعان بانشداه لآمال وهي تبكي بحرقة! اقتربت منها على عجل وقالت بلهفة وهي تضع يدها على كتف آمال " ماذا حدث؟! لماذا تبكين هكذا؟! لم اركِ يوما تبكين بحرقة هكذا"
لم ترد آمال وهي تحاول ان تكفكف دموعها دون فائدة، فقالت اخلاص وقد شحبت تماما " هل الجميع بخير؟! بالله عليكِ طمئنيني على الاقل " تماسكت اخلاص وهي تمسح دموعها وتقول بصوت مبحوح من البكاء " لا تقلقي اخلاص، انا كنت اشعر بالضيق الشديد فقط " بحيرة سألتها إخلاص " ما الذي يضنيكِ هذه المرة؟! سليمان وأصبح يأتي دوما لزيارتنا مع ياسمين والاطفال، وسمية تأخذ علاجا جديداً وعسى الله ان يكرمها بالحمل، والباقون بخير والحمد لله، ماذا يزعجك اذن؟!" ردت آمال بصوت خافت واحساس بالذنب يقتلها " اشعر ان ما يحدث لسمية بسببي أنا يا إخلاص، انا اتعذب كلما رأيت نظرة الانكسار في عينيها وهي تتطلع لأطفال العائلة حولها، لقد مرّ عامان وجربتْ علاجات كثيرة دون فائدة، أوشكتُ.. أوشكتُ على اليأس من حملها " هتفت اخلاص وهي تضرب على صدرها " لا سمح الله! لا تقوليها يا امال، دعينا نأمل خيراً، بإذن الله الطفل قادم، فقط توكلي على رزّاق العباد وهو لن يخذلك،" همست امال بانكسار " اشعر بالخجل ان اطلب من الله أن يرزق ابنتي يا اخلاص! كأني لا أستحي منه، بل وكأني اطلب ما لا استحقه!" ردت اخلاص بإشفاق " صفّي قلبك يا امال، هذا هو طريقك له عز وجل، انا اعلم جيدا إنك وبعد كل ما حدث ويحدث فما تزالين لا تتقبلين ياسمين، ما تزال نظراتك تنطق بمشاعر النفور والكره كلما وقعت عليها تلك المسكينة " هتفت امال ناكرة " هذا غير صحيح، انا.. انا.. " قاطعتها اخلاص وهي تتنهد " بل انه صحيح، لا داعي لتداري امامي أنا، قد تجيدين إخفاءها عن الآخرين، لكني اعرفك أكثر منهم جميعاً، حتى أكثر من زوجك، انت لا تستطيعين تجاوز مشاعرك نحو ندى مهما حاولتِ ومهما بلغ شعورك بالذنب! خاصة والتاريخ يعيد نفسه وسليمان انفصل معها في بيت آخر خارج بيت العائلة " أبعدت آمال وجهها عن اخلاص لتنكر بكبرياء وكِبر " لا يهمني ان اخذت ابني وانفصلت بعيدا، سيبقى سليمان ابني انا ولن تستطيع فصله عني، وها هو يعود لأحضاني مرة اخرى، وربما يفكر قريبا بالعودة إلى بيت العائلة ويكسر أنفها تلك المغرورة شبيهة أمها "
هزّت اخلاص رأسها بيأس وقالت " أ رأيت يا ابنة عمي؟ لم تمضِ دقيقة واحدة على شعورك بالذنب لتعودي وتتمسكي بحقدك القديم الذي لا يموت! " تنهدت قبل أن تضيف " لا فائدة تّرجى! انتِ هي انتِ، لن تتغيري، تعاندين نفسك وتناقضينها!"
العناد جعل آمال تشمخ وهي تمسح دموعها وتقول " انت تكبرين الامور كعادتك! كل ما في الأمر أني قلقة على ابنتي لا أكثر، أ كفرت أني بكيت قليلاً وفضفضت معك بالكلام؟! "
تهز إخلاص رأسها يميناً ويساراً وهي تتحرك لتغادر المطبخ، لكن آمال نادتها لتوقف خطواتها وهي تسأل مستعيدة نبرتها القوية الواثقة " بدوتِ كمن يريد إخباري بشيء عندما دخلتِ عليّ المطبخ يا ابنة عمي "
كست البشاشة وجه إخلاص الطيب لتقول ببهجة " يا إلهي.. أجل كنت أبحث عنك لأخبرك، لن تصدقي من يريد الزواج! " ابتسمت آمال ساخرة " عماد.. أليس كذلك؟" عقدت اخلاص حاجبيها وهي تتساءل بحيرة " كيف عرفتِ؟! للتو فقط أخبرني!" ردت آمال بابتسامة ثقة " انا اعرف كل ما يجري في هذا البيت "
***
في اليوم التالي، ظهراً
طوت جنى ساقيها تحتها وهي تجلس فوق الاريكة في غرفة المعيشة، ما تزال لم تغير ملابسها منذ عودتها من العمل، تبتسم باسترخاء وهي تفكر بالمتدربة الجديدة التي التحقت بالعمل في المصرف اليوم، جميلة ولطيفة لكنها كانت مذعورة حرفياً!
ذكرتها بنفسها قبل عامين عندما دخلت المصرف لأول مرة تنظر حولها في ارتياب وتوجس!
كم مرت الأشهر سريعاً؟! من يصدق أنها اليوم تحب المصرف كأنه بيتها الثاني؟! تبذل كل جهدها لتثبت جدارتها، والمدير أكثر من راضٍ عنها ويعدها بترقية.
تثاءبت وهي تشعر بالنعاس فترخي رأسها للخلف وتنادي بصوت مرتفع وهي تتدلل على امها " ندى.. أنا جائعة! "
ردت أمها من المطبخ بتوبيخ " هل على قدميك نقش الحناء؟! تعالي وصبي لنفسك الطعام، أنا أعدُّ بعض الكيك الذي يحبه (حمادة) "
عبست جنى وهي ترد بغيرة طفولية " وماذا عن أختِ (حمادة)؟! أم لأنه آخر العنقود فيحظى بمعاملة خاصة؟! ألا يكفي تدليل أبي له؟! " لا تسمع جنى إلّا صوت ضحكات أمها لتضيف بمزيد من المشاكسة " وماذا عن ولدك الأكبر (علاوي)؟ هل سيأكل الكيك أم يجب أن نعجن له كليجة العيد؟! "
لم ترد أمها هذه المرة فتأففت جنى وهي تطبق أجفانها تكاد تستلم لإغفاءة، لكن رنين جهاز الهاتف جوارها جعلها تجفل لتفتح عينيها ثم تمد جسدها حتى تصل الجهاز فترفع السماعة إلى أذنها، وحالما قالت " نعم " أتتها صرخة هالة ببهجة وانفعال " جناااااااااا، لقد نطق أخيراً " لتتبعها صرخات انفعالية من كلا الجانبين!
هرعت ندى على صوت صرخات جنى لتقف عند باب غرفة المعيشة تحدق في ابنتها المجنونة وتسأل بدهشة" ماذا جرى لك؟! للتو كنت ستنامين على نفسك؟!" ردت جنى بابتسامة واسعة كلها انفعال " لقد نطق يا امي، نطق.. نطق! " عقدت الام حاجبيها وهي تتساءل " من الذي نطق يا ابنة محمد؟!"
ردت جنى بينما صوت ضحكات هالة يصلها عبر الهاتف " المعتوه الذي كان يلاحق هالة منذ سنوات " شهقت الأم وهي تسأل " هل هناك معتوه يلاحق هالة؟! ومنذ سنوات؟!" جلجلت ضحكة جنى وهي تقول " اجل.. ألم نخبرك عنه؟! لقد اكتشفنا ان المعتوه معها في الجامعة، المهبول قضى سنوات يعذبنا بـ(الصمتِ الرهيبِ)! كل الخطط لم تنفع لجعله ينطق، لكن لا.. لقد نطق.. نطق وسيتقدم لخطبة هالة " ثم أطلقت صوتاً ابتهاجياً عالياً جعل ندى تضرب كفاً بكف وهي تضحك! لتقول أخيراً " انتما الاثنتان مجنونتان رسمياً! وعندما تهدأ احداكما فلتفهمني قصة المعتوه هذا "
تركتهما ندى لشأنهما وهي ما تزال تضحك، بينما هالة تقول عبر الهاتف بكلمات مبعثرة " لا اصدق جنى، لقد فاجأني دون مقدمات! قال انه كان ينتظر تخرجه وانتظامه في عمل ثابت قبل ان يفاتحني بالموضوع " ردت جنى بسعادة تغمر قلبها " الحمد لله اننا لم نكن نحلم! لقد أوشكنا أن نشك بقوانا العقلية، كل الدلائل كانت تشير انه معجب ولهان بك!" ثم ضحكت ضحكة عالية قبل أن تضيف " أ تذكرين ما كان يفعله أيام المدرسة؟ لا اصدق أننا أمضينا كل هذه السنوات معه؟ لقد بات رسمياً من العائلة قبل أن ينطق حتى! "
ضحكت هالة وهي تقول " لو يدري بما كنا نقوله عنه لراجع نفسه في التقدم لخطبتي " أخذت جنى تُرقّص حاجبيها وهي تقول " لذلك انتظري حتى نورطه بالزواج ثم أطلعيه على كل التحليلات المعمقة لكل نظرة منه، فلم نحظَ إلا بتلك النظرات اليتيمة! ولا تنسيّ فترة (الشكوك السوداء) ونحن نعتقده مريضاً مهووساً بكِ هرب من مستشفى المجانين! "
وبعد موجة ضحك جديدة، أخبرتها هالة بجدية عن تفاصيل الحوار، وحالما انتهت سألت جنى " هل أخبرتِ أختك الكبرى؟ " فردت هالة " ليس بعد، أنتِ أولاً "
ابتسامة حنان مرّت على ثغر جنى، ثم تذكرت أمراً لتطلع عليه هالة فقالت " أنا أيضاً لدي أخبار مهمة، أخبار زيجة في الواقع " بعفوية سألت هالة في اندفاع " لا تقولي ان هناك من تقدم لخطبتك من وراء ظهري ووالدك وافق!"
صمت لحظيّ انتاب جنى ثم استجمعت الكلمات لتتكلم بنبرة مرحة شابها الشجن وهي تقول " انا؟! لا يا صديقتي، انا لن اتزوج ابدا، لقد اعتدت حياتي هكذا وسعيدة بها وراضية، بيت أبي هو بيتي، وعملي هو نجاح حياتي "
لم تجادلها هالة، فلم يحن الوقت الصحيح او الفرصة المناسبة كي تفتح معها الموضوع، لذلك اكتفت بالقول " إذن من سيتزوج؟ " ردت جنى وكأن حملاً ينزاح عن صدرها " الاسبوع القادم ستتم خطبة عماد على احدى قريباتنا "
تنهدت هالة لتقول بصدق " الحمد لله، هذا يعني أنه أوقن باستحالة ارتباطكما أخيراً، في الواقع يجب أن أعترف أني سعيدة لأجله أيضاً، كان يثير شفقتي، رغم أن لا ذنب لك في مشاعره نحوك " ردت جنى بتفكير " اعترف أني في السنوات الأخيرة فقط بدأت أشعر بالتفهم نحوه، ليس ذنبه أنه كبر وتربى على هذا.. حقاً سعيدة أنه قرّر الارتباط بغيري بعد طول تردّد ومحاولة بعث الحياة في آمال ميتة، أتمنى من قلبي ان يجد راحة البال مع فتاة جيدة ويتحرر من مشاعره نحوي نهائياً " تمتمت هالة " أجل ينساكِ.. ويمنحك حريتك كاملة أنتِ الأخرى "
***
بعد اسبوع..
تقدمت جنى نحو العروسين لتهنئهما على الخطبة وعقد القران، كانت ترسم الابتسامة على وجهها وهي تنظر بثبات نحو عماد الذي بادلها بنظرات لامعة تلكأت كثيراً على فستانها الذهبي الشاحب فأصاب جنى التوتر.
عروسه ايضا كانت تنظر نحوها بتوتر لا يخلو من التعالي وبعض العدائية، عدا هذا فقد بدت جميلة، فتاة سمراء مملوحة ذات جاذبية، ربما بالغت بعض الشيء في تبرجها لكنها جميلة.
تمسكت جنى بابتسامتها وقد أصبحت تدرك ان هذه الفتاة تعلم بقصتها مع عماد، مدّت يدها لتصافح العروس أولاً تهنئها، ثم انحنت لتقبلها على خديها، فاستقبلت العروس قبلات جنى ببرود شديد، وأخيراً ابتعدت عنها جنى وهي تبتسم بأدب، قاومت حتى لا تأخذ نفسا قبل ان تنظر باتجاه عماد ومدّت يدها لتصافحه وهي تقول بلطف " مبارك يا ابن عمي، اتمنى لك كل السعادة " يده احتضنت يدها بالكامل ليحتفظ بها فترة أطول من المتعارف عليه، بينما عيناه تنظران إليها بجوع لم يستطع إخفاؤه.
شعرت جنى بالحرج الشديد وضيق أشد، أرادت سحب يدها لكنه ضغط عليها كي يمنعها ثم قال بصوت مُحشرج " شكرا لإنك حضرتِ " ابتسمت بمزيد من الحرج وهي تتجنب النظر نحو العروس التي تكتم حنقها بوضوح لتقول جنى بنبرة هادئة " انت ابن عمي وأخي، مؤكد لن اتأخر عن يوم كهذا "
أصابع يده الضاغطة حول يدها تراخت، أظلمت عيناه باستسلام حزين ثم ابتسم بشجن وهو يحرّر يدها أخيراً ويقول " تبدين جميلة، كعادتك دوماً "
التفت ذراع سمراء حول ذراعه وضحكة متقنة أطلقتها العروس وهي تقول " عماد يعزّك كثيراً جنى، انت أكثر من اخت له " ابتسمت جنى شاكرة بلطف وهزّت رأسها وهي تستدير لتبتعد عنهم وهي تطلق أنفاسها بعد طول اختناق.
***
اليوم التالي، عصراً
بيت محمد الشرقي
يكاد حامد يشدّ بشعره وهو يتحرك ذهاباً وإياباً في غرفة المعيشة بانتظار عودتهم.
لقد احضرها الى بيت عمه في زيارة، ثم تركها بصحبة جنى وخرج للقاء بعض الاصدقاء، ليتفاجأ عند عودته إليها أنها ذهبت بصحبة عمه محمد وجنى الى المختبر! كان يفترض أن تجري الاختبار بعد يومين، فلماذا تعجّلت؟! لماذا لم تنتظره على الأقل ليأخذها بنفسه ويكون معها؟! يدعمها لو كانت النتيجة كما في كل مرة.. سلبية!
زفر أنفاسه بقوة.. الاحباط المتكرر يعلم الانسان ان يتوقع الاسوأ دائما ليحمي نفسه من التحطم على صخرة الآمال الواهية.
رعب يعتصر قلبه، لقد طال الامر.. طال كثيرا وقد تعب هو، تعب من نظرات الإشفاق في عيون الجميع، تعب وهو يحاول ادعاء القوة امام سمية، تعب وهو يحاول ان يواسيها رغم انه يحتاج للمواساة أيضاً!
لم يتفهمه أحد غير الخالة ندى، كلما ضاق صدره يلجأ إليها، لديها شيء ما يجعله يستكين فيتجدد الامل في داخله.
" لا تقلق هكذا بنيّ "
التفت حامد ليرى الخالة ندى تقف على بعد خطوات منه وهي تنظر إليه بابتسامة حلوة بينما تضيف لتبثه بعض الأمل " بإذن الله النتيجة خير هذه المرة، أنا اتفاءل بهذا المختبر، كما إنهم الاسرع بإعطاء النتائج "
تنهد حامد وهو ينظر لساعة يده ويسأل " لقد مضت ساعتان! " ثم صمت للحظة قبل أن يضيف " لا أدري متى يخترعون اختبار حمل أسرع من هذا! لقد سمعت أن في دول الغرب لديهم أجهزة منزلية لهذا الغرض، فمتى تصل إلينا ونحن في تسعينيات القرن العشرين؟! "
تبسمت ندى وهي تنظر إليه بحنان، هذا الشاب الدافئ يذكرها بزوجها في بعض تصرفاته، كم يمس القلب وهو يهتم بتفاصيل كهذه، فيبحث عن وسائل أكثر حداثة في اختبارات الحمل!
قبل أن ترد عليه صوت دخول السيارة في باحة البيت جعل كلاهما يلتفت للشباك، ليتحرك حامد من فوره مهرولاً ناحية الباب المطل على الباحة ليفتحه.
كان محمد يترجل من السيارة مبتسماً! فخفق قلب حامد وهو يبحث عن وجه سمية، لتترجل جنى هذه المرة وهي تزغرد!
قلبه ينبض بعنف.. لا يريد أن يفسّر! بل يريد نتيجة واقعية ملموسة، لن يعيش أملاً دون أن يتأكد.
يبتلع ريقه وهو يرى سمية أخيراً تترجل بثوبها الاخضر، تحني وجهها ليغطيه شعرها الطويل الاسود فلا يتبين تعابيرها.
الفرح، ذلك الشعور الذي عندما يجد طريقه إلينا بعد طول يأس؛ فإنه يتغلغل ببطء وتأنٍ، وكأنه لا يريد أن يفاجئنا! العقل يخادعنا للحظات فيوحي إلينا إنه مجرد حلم! فنعيش خلال هذه اللحظات؛ التي تطول بشكل عجيب، نعيش في حالة من التخبط بين الحلم الذي تهفو روحنا لتحققه وبين الواقع الذي نخاف تصديقه!
ارتفع معدل الخفقان وهو ما يزال ينكر، يحاول تفسير ما يراه بشكل مغاير لحماية نفسه، فيتقدم نحو سمية وهو يقول لنفسه؛ ربما جنى المجنونة تزغرد لزيادة حصلت عليها في راتبها الشهري، وربما عمي محمد يبتسم وعيناه تلمعان لـ.. لـ..
ارتفعت زغاريد الخالة ندى التي يميّزها بين كل الزغاريد فكانت وكأنها صكُّ الفرح،
لم يشعر حامد إلّا بدموع تتجمع في عينيه وهو يهفو نحو سمية.. يصل إليها ويمد ذراعيه نحوها، انهارا معاً وهما يجثيان على ارضية الباحة يضمان بعض لتختلط الدموع، كانت سمية تشهق بالبكاء وهي تردد " انا حامل.. أخيراً يا حامد " يقبّل رأسها فوق شعرها وهو يتمتم بصوت مرتفع ودموعه تجري " ألف حمد وشكر لك يا رب.. ألف حمد وشكر "
وما يزال يكرر الحمد بينما يعلو صوت الخالة ندى وجنى وبنفس واحد يردّدان في بهجة لا تعادلها بهجة " اللهم صلّ على محمد وآل محمد "
***
بعد عامين..
كانت جنى تقف على قدميها تراجع في بضعة اوراق وجوارها تجلس زميلتها الحالمة صبا، بتنهيدة قالت صبا " انه رائع اليس كذلك؟" نظرت جنى إليها ثم حوّلت نظراتها الى حيث تشير صبا بعينيها فوجدت شاباً يوليهما ظهره وهو يتحدث لاحد الموظفين، متوسط الطول رشيق وبشعر أشقر غامق، هذا كل ما استطاعت جنى رؤيته، بدى انيقاً في بساطة بسرواله البني وقميصه الابيض، انحنت جنى لتهمس في اذن صبا بمشاكسة " إذا أخبرتُ خطيبك بنظراتك هذه لن يعجبه الامر " ضحكت صبا بنعومة وهي تقول بمزاح مشاغب " هو ايضا لا يقاوم النظر لفتاة جميلة ويقول (ما على العين من حرج) فلماذا لا افعل المثل؟!" ضحكت جنى وقد اعتادت مزاح صديقتها واسلوبها الصادم بالكلام، ولم يكن خطيبها بحال أفضل! لتقولها لها " انت وخطيبك مجنونان تليقان ببعض، ولا أدري أي ابناء ستنجبان! " ضحكت صبا مرة اخرى ثم قالت وهي تحرك حاجبيها " ولكنه وسيم جداً أليس كذلك؟" عقدت جنى حاجبيها لتتساءل بحيرة " من تقصدين؟ خطيبك؟" ردت صبا في احباط وهي تشير بعينيها مرة اخرى " لا.. بل ذاك الشاب الاشقر " عادت جنى لتنظر نحو الشاب وهذه المرة رأت جانب وجهه بعد ان تحرك في وقفته قليلا فقالت وهي تميل برأسها جانباً " حقيقة أنا عن نفسي أفضّل الشاب الاسمر " تأففت صبا وهي تقول بغيظ " هل تقصدين انه إذا أراد الزواج منك ستقولين (اسفة أفضل ان يكون زوجي اسمراً؟)" ضحكت جنى وهي تقول " بما أني لا اريد الزواج فالمحاورة من اساسها ليست مجدية " عبست صبا وهي تنظر بتمعن نحو جنى، لتتساءل باندفاع " لماذا ترفضين يا جنى؟! منذ عملي هنا وقد شهدتُ أكثر من شاب راغباً بالزواج منك، انا لا افهمك، انت شابة في الخامسة والعشرين، جميلة وحلوة المعشر وتتمتعين بحس الفكاهة، موظفة مجتهدة وناجحة بعملك، فلماذا لا تريدين الزواج؟! أخبريني " اسبلت جنى أهدابها وهي تقول بغموض " لاني ببساطة لا رغبة لي؛ فأنا سعيدة كما أنا "
فتحت صبا فمها لتقول المزيد عندما اوقفها صوت رجولي وهو يلقي التحية " صباح الخير " التفتت كلتاهما لتردا التحية " صباح الخير" قاومت جنى رغبتها بالضحك وهي تشعر بيد صبا تقرصها خفية من ساقها، نظرت جنى بأسلوب حيادي للشاب امامها والذي كان قبل قليل محور الاهتمام والنقاش لصاحبتها المجنونة، ثم قالت " بمَ اخدمك استاذ؟"
اعترفت جنى وهي تحدق في عينيه العسليتين ان الشاب وسيم حقّاً، ولم تبالغ صبا في وصفه، ثم شعرت خلفها بتحركات غير اعتيادية بين الموظفات بينما صبا تتطلع اليه بابتسامة عريضة لا يمكن ألّا وصفها بالهبل!
"انها جميلة من قريب كما هي من بعيد"
هذا ما خطر في بال بسام وهو يتطلع لوجهها الاسمر، لقد اجتذبت نظره منذ يومين عندما حضر - مجبراً- مع اخته ووالدته ليُرياه احدى الموظفات على امل ان تنهي عزوبيته! لكن ما ان رأى هذه السمراء حتى تعلقت نظراته بها، كانت تتحرك برشاقة هنا وهناك بتعابيرها الجدّية مع العملاء وابتسامتها الدافئة المرحة مع زميلاتها.
كتم ابتسامته وهو يتذكر خيبة امل امه واخته عندما صرح لهما ان الفتاة التي احضراه من اجلها لم تعجبه، كان قد قرر مسبّقاً انه سيقول هذا لهما، فهو لا يحب هذه الطريقة التقليدية في الزواج، لقد بلغ الثلاثين قبل ايام، ولأنه آخر العنقود في العائلة فيعلم جيداً أن إخوته وأخواته يتطلعون لتزويجه في أقرب وقت، والمحرّض الاساسي لذلك هي امه، التي باتت تحاصره من كل جانب كي يتزوج، تارة بإلحاحها عليه وتارة بدفع أخواته لإيجاد عروس له، هذا عدا محاولات إخوته المكشوفة لإظهار سعادتهم الزوجية.
هو مدرك لوحدة أمه وتعلقها الشديد به، فبعد وفاة أبيه وزواج إخوته وأخواته وانفصالهم عنها، خلا عليها الدار فوجّهت كل عاطفتها نحوه، وها هي تطالبه بالزواج تريده أن ينجب الكثير من الأبناء والبنات كي يملؤوا عليها البيت.
عاد لينظر إلى وجه هذه السمراء التي شغلت باله منذ أول نظرة، تبدو متحفظة متباعدة، عكس صديقتها المتهورة رغم وجود خاتم الخطبة في يدها!
قال بسام بأسلوب عمليّ " أردت التكلم معك لو سمحتِ؟" عقدت جنى حاجبيها وهي تقول بلهجة مستفسرة " تتكلم معي؟! عن اي شيء؟" امال رأسه جانبا بحركة محببة وهو يقول بثقة " عن طلب زواج انسة جنى " شهقة ناعمة انطلقت من شفتيها بينما صديقتها تبدو في قمة التحفز والاثارة! أشفق عليها بسام وهي تحاول السيطرة على ارتباكها ثم قالت " عفوا لم أفهم! ما علاقتي انا بالأمر؟" كتم ضحكته وهو يرى صديقتها تستدير نحوها لتنظر إليها بغيظ، قال بابتسامة ساحرة " علاقتك بالأمر؛ أني اتمنى أن تكوني العروس "
كان بسام مستمتعاً وهو يرى احمرارها من الخجل والمفاجأة! لقد كانت بالفعل كما وصفها زميلها؛ لا تفكر إلّا بالعمل!
تُرا ما الذي يجعل فتاة مثلها لا تفكر بالزواج؟! إنها جذابة، جعلته خلال ثوانٍ يقرر أنه يريدها عروسه، زميلها أخبره أيضاً أنها رفضت سابقاً عدة شبّان أرادوا الارتباط بها، او حتى التقرب منها.
صوت نحنحتها نبّهه ثم سمعها تقول بتماسك " استاذ.. " أكمل لها " بسام.. بسام النعيمي " ردت بهدوء وهي تتجنب لفظ اسمه " اعتذر منك، لكن ليس لي رغبة خاصة بالزواج الان " كان شبه متأكد من ردها ولذلك لم يتفاجأ ولم يحبط حتى! كل ما فعله أنه نظر إليها مطوّلاً فغزا الاحمرار خديها وهي تبعد نظراتها عنه، فابتسم وهو يقول بنبرة إصرار " آنسة جنى، اريدك ان تفكري لبضعة ايام، خذي رأي اهلك أيضاً، لا اريد ان تتعجّلي في الرد " لاحظ ارتباكها وهي تقول " لكن استاذ.." قاطعها بمزيد من الإصرار " لكن.. انا سأنتظر، بل أستطيع انتظارك الى الأبد إذا اقتضى الامر " وهكذا تركها بفم مفتوح هي وصديقتها المتهورة واستدار وهو يودعها بالقول " الى اللقاء آنسة جنى، اتمنى المرة القادمة أن ننادي بعضنا بدون ألقاب "
***
بعد أسبوع.. عصراً
قالت ندى عبر الهاتف " هالة يا ابنتي.. كلميها مرة ثانية، أنا احاول جهدي معها منذ يومين وكذلك اختها ياسمين، علينا ان نتكاتف جميعاً لإقناعها ببسّام، الشاب ممتاز ومتمسك بها، لا اعرف الى متى سيستمر إضرابها عن الزواج؟! " سألت هالة ببعض الحرج " لكن خالتي ماذا عن عمي محمد؟ أقصد هل سيوافق؟ وماذا عن باقي العائلة؟ ربما جنى تبدي كل هذا الرفض لأنها لا تريد التسبب بالمشاكل " ردت ندى بتردد " أنتِ لستِ بغريبة يا هالة، وتعرفين كل الظروف، الامور تغيرت بعض الشيء، خاصة أن كل أبناء العمومة قد تزوجوا بالفعل وآخرهم باسل الذي عُقد قرانه قبل شهر، كما إني جسست نبض عمك محمد عندما حدثته قبل فترة عن ابن صديقة لي أعجبته جنى وأرادها زوجة له، ولكنها رفضت، وفي وقتها لم يبدِ ردة فعل سلبية واكتفى بالقول (إنها قسمة ونصيب) " صمتت هالة بينما تضيف ندى بأمل " هذه المرة العريس يعجبها ويلقى عند جنى قبولاً وميلاً واضحاً، لكنها كمن يخشى حتى التفكير بالموضوع " عندها قالت هالة بتعاطف " ربما تخشى عودة المشاكل خالتي، هي مستقرة بحياتها في العمل واظنها لا تريد زعزعة سلامها " تمتمت ندى بتوتر " عليّ أن أخبرك يا ابنتي أني قلقة أنا الأخرى، ولا أدري أيهما يقلقني أكثر؛ وضع ابنتي أم عودة المشاكل! " قالت هالة تخفف عنها " لا تقلقي خالتي، بإذن الله خير، سأحاول اليوم زيارتكم والتكلم معها "
***
قرابة المغرب..
تذمرت جنى قائلة " هالة.. توقفي! انا اقضي النهار في الصبر على طلبات العملاء في المصرف، ليس لدي طاقة لأصبر على إلحاحك الآن " عبست هالة في وجهها وقالت " لا تتهربي! واجهي الأمر ودعينا نتكلم بجدية حول زواجك " تنهدت جنى بضيق وردت وهي تحاول المزاح " ليس لي مزاج لأي (جدية) هذا المساء، ربما في الأسبوع المقبل " هتفت بها هالة " هل هذا وقت المزاح بالله عليك؟!" لتسأل جنى بعبوس في محاولة جديدة للتهرب " لماذا لم تحضري ابنك معك؟ ألا… " قاطعتها هالة بحزم " جنى.. كفى! نحتاج أن نتكلم، والدتك يقتلها القلق والحزن عليك، تريد ان تطمأن لمستقبلك "
صمتت جنى للحظات طويلة وهي تنظر لصديقة عمرها ثم قالت بهدوء " وهل أنا المسؤولة عن قلقها وحزنها؟! أ ترمين بالذنب عليّ؟! أ ليست عائلة الشرقي من حكمت حكمها؟! " قالت هالة بتفهم " مؤكد لا أحد يلومك على ما حصل في الماضي، لكني أشعر أنك في داخلك بتِّ ترفضين فكرة الزواج " صمتت جنى للحظات قبل أن تعترف " رغماً عني اشعر بأني لا أريد، كلما تحدث معي أحدهم في موضوع الخطبة ينقبض صدري واشعر بضيق تنفس! "
قالت هالة بتأنٍ " إنه شعور طبيعي يا جنى، بعد كل المشاكل التي حصلت لك في السابق، لكن الظروف تغيرت اليوم، أنت أيضاً تغيرتِ"
فردت جنى " بالضبط.. تغيرت! لم أحصل على حريتي فقط يا هالة، وإنما استقراري النفسي أيضاً، لذلك لا احتمل أن يهددني شيء من جديد " عندها قالت هالة " لكنك أراكِ متأثرة ببسّام، وهذا لا يحصل معك بسهولة "
توردت جنى وهي تتذكر بسام صباح اليوم، لقد بات تواجده اليومي مثار مشاكسات الموظفات في المصرف وهن يمازحها حول سبب حضوره الحقيقي، والأكثر أن جنى نفسها باتت تترقب حضوره! وهذا يقلقها.. يقلقها كثيرا فتقاومه.
شعرت بيد هالة فوق يدها وهي تقول لها بنبرة مقنعة " دعينا نفاتح العم محمد فقط ونرى ردة فعله، ما رأيك؟ لن نخسر شيئاً، على الأقل نجرب " حاولت جنى الرفض بالقول " لكن ما الفائدة؟! حتى لو وافق أبي فعمي مجيد لن يفعل " تبسمت هالة وهي تغمزها بالقول " إذن فأنتِ موافقة " ضحكت جنى بتوتر بينما خداها يتوردان ثم أطرقت بنظراتها وهي تقول بخفوت " لن أخفي عنكِ أنت بالذات أني معجبة به، مضى زمن طويل لم أشعر أني فتاة محبوبة ببساطة " فشجعتها هالة بالقول " وشجاعة أيضاً، لذلك لا تتركي حقك يا جنى، كما أخذت الحق بقول (لا) لمن لا تريدينه زوجاً، فلك الحق بقول (نعم) أيضاً، ما دام أبوك راضياً " اكتفت جنى بهز رأسها بينما تشعر هالة ببعض الارتياح.. فقط البعض!
***
آخر الليل..
سألت ندى بقلق وهي تتطلع لمحمد " ما رأيك يا محمد؟! هل ستوافق أن يتقدم الشاب لخطبتها؟"
أسبل محمد اهدابه وبدى عليه التفكير العميق، انتظرت ندى بقلب متوجس قرار زوجها الاخير، كانت تخشى رفضه، لكنها لن تكف عن محاولة إقناعه، يجب ان تعرف بمَ يفكر، لا يمكن ان تصدق انه راضٍ بحال جنى واكتفائها بعملها.
قال محمد أخيراً بصوت غامض" علي ان ارى الشاب أولاً " ابتلعت ندى ريقها ثم مدت يدها لتضعها فوق كتفه وقالت " بغض النظر عن رؤيتك للشاب، هل انت توافق على المبدأ؟" قال عندها بهدوء غريب " وهل تتصورين أني لم اتوقع هذا يوماً؟! أو أني لم أحسب حسابه؟ " ارتفع حاجبا ندى وهي تقول " تحسب حسابه؟! هل هذه خطتك بعيدة المدى عندما جعلتها تعمل؟! " ابتسم وهو يرد قائلا " هل تستغربين هذا مني؟!" ضيّقت ندى عينيها في تركيز وهي تنظر لزوجها ثم قالت باستسلام " لا اعرف، انت غامض احياناً وانا اتجنب التكلم معك في هذا الموضوع بالذات، اشعر أنك.. لا اعرف كيف أصف الامر، أفكر ربما لن تتقبله مني وتظن أني اريد تزويجها من خارج العائلة بشكل مقصود " نظر محمد لندى بدهشة وهو يقول " منذ متى وأنت تشعرين هكذا؟! كان يجب أن تكوني أكثر صراحة معي " ردت بتعب حقيقي " لم أكن أريد تحميلك مزيداً من الضغوط، يكفي ضغط مجيد عليك " ابتسم وهو يميل برأسه ليطبع قبلة على خدها الناعم وهو يقول " كم انت مرهفة الاحساس! ربما السبب مني ايضاً لاني لا أخبرك بكل ما أفكر فيه " ردت له ابتسامته بينما سمعته يضيف ببعض الشرود والتفكير " ربما سيثير استغرابك أني - في قرارة نفسي - كنت متأكدا ان جنى ستتزوج من خارج العائلة " تمتمت ندى بدهشة " حقا؟!" هزّ رأسه وهو يقول مؤكداً " نعم.. هو احساس كان ينتابني نحوها دائماً بأنها ستفتح طريقا آخر لم يسلكه أحد قبلها في عائلتنا " فتساءلت ندى " ولكنك سلكته عندما تزوجتني! " رد محمد بموضوعية " الوضع مختلف، الرجل غير المرأة يا ندى، مع ذلك عليّ الاعتراف ان جيناتي انتقلت لابنتي العنيدة هذه! " تنهدت ندى قائلة " حسنا، هل أخبرها بأن تعطي بسام رقم هاتف البيت كي يتصل بك؟" رد محمد " أجل، في الساعة السادسة مساء الغد بإذن الله " ثم ضحك فجأة فسألت ندى باستغراب وهي تعقد حاجبيها " لماذا تضحك؟" قال محمد بابتسامة مشاكسة " كنت اتمنى ان أكلمها بنفسي كي أرى احمرار وجهها، ولكني أخشى تراجعها إذا شعرت بالذنب نحوي " ردت ندى بحنان وقلق " انت تعرف بم تفكر جنى أليس كذلك؟" تنهد محمد وهو يقول " نعم اعرف، جنى تخاف عليّ من المواجهة؛ ولكن لا يهم، سعادتها هي الاهم عندي، دوماً سعادتهم جميعاً هي الاهم".
***
صباح اليوم التالي، المصرف
بخدين محمرين تتجنب النظر لعينيه مباشرة وهي تمد يدها بالورقة قائلة " هذا رقم هاتف البيت كي تتصل بأبي اليوم في الساعة السادسة مساء " ابتسم وهو يقول بصوت مبحوح " جنى.. انظري اليّ " لكنها لم تستطع فعاد ليقول بتوسل " ارجوكِ "
كان موقفاً محرجاً وغريباً للغاية، لقد نسيت هذه المشاعر الحلوة! حاولت أن تكون عملية وهي ترفع عينيها إليه فابتسم لها ليبدو شديد الوسامة وهو يهمس لها " كم أحب الجمال الأسمر " ينبض قلبها بقوة ثم تتم بغباء " شكراً " تتسع ابتسامته وكأنها قالت فكاهة ما، ثم قال بنبرة رجاء " ألا يمكننا الذهاب إلى أي مكان كي نتكلم بحرية؟ مقهى قريب مثلاً؟ " أبعدت خصلة من شعرها خلف أذنها بارتباك ثم قالت رافضة " آسفة لا أستطيع، ابي لا يوافق على هذه الامور، حتى لو كنتَ خطيبي" أرادت الانسحاب فأوقفها بالقول " هل والدك موافق؟ " هزّت كتفيها وهي ترد بتلعثم " لا اعلم، هو طلب ان يتحدث معك أولاً، عن إذنك لأعود إلى عملي " مرة أخرى أرادت ان تخطو مبتعدة فمنعها بالتساؤل اللحوح الخافت " اذن انتِ موافقة أليس كذلك؟ فلم يكن سيرغب في مكالمتي لولا موافقتك "
تنهدت وهي في قمة الاحراج ثم قالت بعينين غير ثابتتين " ارجوك، الجميع ينظر إلينا، حتى المدير أكاد اراه من خلف ستارة غرفته يتجسس على وقفتنا بابتسامة عريضة! " ضحك بسّام بخفة قبل ان يقول " عليك ان تري ابتسامة صديقتك خلفك، إنها من الأذن للأذن! وكأنها هي من تتزوج! " عبست جنى ونظرت اليه بعتب قائلة " لا تكن قاسياً، إنها سعيدة من أجلي " أطلق نفسا حارا وهو يقول " حقاً؟! وهل انتِ سعيدة؟ على الاقل سعيدة من أجلي! " ارتبكت أكثر وهي تمتم ببلاهة " انا.. انا.. " سأل بإلحاح " انتِ ماذا؟! " كسا ملامحها الارتباك وهي تقول " انا يجب ان اذهب حقاً " همس وهو يمد يده ليصافحها " حسنا لن احرجك أكثر " ترددت للحظات قبل ان تمد يدها وما ان استكانت في يده حتى قال وهو يلامس ظاهر كفها بإبهامه " يدك ناعمة، نحيلة ودافئة " اخذت جنى تتلفت وهي تقول " اترك يدي لو سمحت " رد بعبوس فكاهي " والله لا أردها أبداً! أنتِ اعطيتها لي ولا يرد الكريم إلّا البخيل! "
رغما عنها ضحكت، تعترف له بحس الفكاهة، جاء صوته عذباً وهو يضيف بخفوت " ضحكتك جمالها لا يقاوم، فيها بهجة غير طبيعية " ابتلعت ريقها وهي تحاول سحب يدها قائلة " بسام ارجوك.. يكفي، انت تحرجني للغاية " ترك يدها تنساب من يده ثم قال وعيناه تبرقان " ما دمتِ قلت اسمي أخيراً فسأتركك تهربين " تحركت خطوة للخلف بينما بسام يمعن فيها النظر قائلا " لكن حاذري يا دافئة، فالمرة القادمة لن أفلتك "
***
بعد أسبوع…
جحظت عينا مجيد من شدة الغضب وهو يهتف في أخيه الأصغر" هل جننت يا محمد؟! تريد تزويج جنى برجل غريب! " رد محمد بهدوئه المعتاد " أليس من حقها ان تتزوج؟" هدر مجيد قائلاً بعنف " حق الزواج مكفول لها باختيار أحد أولاد عمومتها " قال محمد بموضوعية " ولكن كل اولاد عمومتها مرتبطين الان " زمّ مجيد شفتيه بحنق ثم قال " لأنها ماطلت وتدلّلت، كل بنات عمومتها؛ بمن فيهن اختها ياسمين، يحملن أطفالهن على أكتافهن، هي من ارادت ان تكون في هذا الوضع وانت شجعتها، هل تذكر يا محمد ما قلته لنا قبل سنوات؟ قلت لا غريب ولا بعيد، معزّزة مكرمة في بيت والدها! " نظر محمد لأخيه الأكبر بتركيز ثم قال " الظروف وقتها كانت مختلفة " شدّ مجيد على فكيه ثم قال بغموض " بمعنى أنك تريدها ان تتزوج الان؟" ضيّق محمد عينيه وهو يستغرب ردة فعل مجيد ثم قال ببعض التوجس " مؤكد، فانا لن ابقَ معها طوال العمر كما لن اعوضها عن الشعور بلذة تكوين بيتها الخاص وعائلتها الخاصة " رفع مجيد رأسه وهو يقول بثقة " حسنا انا سأحلُّها لك " عقد محمد حاجبيه وهو يتساءل " ماذا تقصد؟" وقف مجيد على قدميه وقال وهو ينظر لأخويه محمد وحميد " ابقيا هنا سأعود إليكم "
ثم خرج من غرفة جلوس العائلة بينما تلاحقه نظرات عدم اطمئنان من محمد، اما حميد فقد قال " لن يكون الامر سهلا يا أخي " التفت محمد لحميد وقال يطلب دعمه " هل ستكون معي يا حميد؟ انا احتاجك عضيداً لي، لا أريد أن تتفرق الاسرة بسبب تعنت مجيد " رد حميد وهو يحرك خرز مسبحته " يفعل الله ما فيه الخير "
***
خلال ساعة كان جميع رجال الاسرة مجتمعين، ليبدأ مجيد في الكلام بنبرة صوت هادئة على غير طبيعته " الجميع هنا، بمن فيهم سليمان " ثم غمز لسليمان مضيفاً بغموض " رغم انه لن ينفع بما اريد! "
عبس محمد وهو ينظر بتوجس متزايد نحو مجيد، ولكنه لم ينطق بحرف، ثم تحولت نظراته نحو أخيه حميد الذي هزّ رأسه كناية عن انه لا يعرف شيئا عما يدور في بال مجيد.
تطلع مجيد إلى اولاده؛ كامل وحامد وعماد، ثم انتقل بنظراته إلى أولاد أخيه حميد؛ ابتداء من سليمان ثم حاتم وباسل، أخيراً قال بصوت حازم " اسمعوني جميعاً، كلنا يهمُّنا عائلتنا ونظامها وتقاليدها، ومن اهم أسسنا هي ألّا تتزوج بناتنا من غريب، ابن العم اولى، هذه حقيقة لا شك فيها، أخذناها من أصولنا التي انحدرنا منها " لم يتفاءل محمد خيراً بالخطبة القصيرة التي ألقاها مجيد للتو فسأل بريبة " الى ماذا ترمي يا مجيد؟!"
لم يرد مجيد عليه لكنه قال موجها كلامه للجمع المترقب" كلكم تعرفون ان جنى لم تتزوج بعد " صمت حذر ووجوم علا الوجوه، صدر صوت من حركة مرتبكة لعماد بينما سليمان يتطلع إلى عمه محمد بقلق، اضاف مجيد وهو يتطلع للوجوه " اليوم تقدّم لخطبتها شاب ما.. شاب غريب، رآها في المصرف الذي تعمل فيه ووجد ان من حقه ان يتقدم للزواج منها! فما رأيكم؟" همس حاد أطلقه عماد رغماً عنه وهو يقول " هذا مستحيل! "
اتسعت عينا محمد في غضب وهو يقول بحدة " ماذا يحدث مجيد؟ هل أصبحنا نناقش امورنا بهذه الطريقة الغريبة؟! لا افهم ما معنى كلامك ولماذا استدعيتهم من الأصل؟!" لكن مجيد نظر اليه بهدوء مصطنع ومستفز ثم قال" استدعيتهم لان جنى ابنة عمهم، دمهم ولحمهم، هي تريد الزواج الان وهذا من حقها، ولذلك فعلى أحد ابناء عمومتها تحقيق رغبتها تلك، هذا واجبهم تجاه ابنة عمهم " هبّ عماد على قدميه ليقول هادرا بتهور" انا مستعد للزواج بها " عمّ التوتر والجميع يحدق في عماد الذي أخذ صدره يعلو ويهبط بوضوح، قال حميد بتروٍ " وماذا عن زوجتك وطفليّك يا ابن اخي؟" تضايق مجيد مما قاله حميد وأوشك ان يعنّفه عندما رد عماد بحدة " لا يهم، لستُ اول من يتزوج اثنتين، وانا اريد جنى منذ سنوات وما أزال! "
راقب سليمان بقلق عميق كيف تقبّضت يدا عمه محمد محاولاً السيطرة على غضبه المستعر، لحظات طويلة مرّت قبل ان يقول محمد أخيراً " ولكنها رفضتك وهي ما تزال على نفس موقفها " ثم رفع رأسه نحو عماد وأضاف بصرامة " وحتى لو وافقت هي؛ فمن قال لك أني أرضى لابنتي ان تكون زوجة ثانية؟! " انكمش عماد وقلبه يتفتت ثم تفاجأ الجمع بصوت باسل وهو يقول " انا مستعد للزواج بها، مستعد ان افسخ خطبتي واتزوجها " هبّ محمد واقفاً وصوته يتكسر على أعتاب فمه من شدة غضبه وهو يقول " أصبح الامر.. مريعاً بشعاً حقاً! هل نحن في سوق النخاسة؟!" هدر مجيد وقد أفلت زمام سيطرته الظاهرية على أعصابه " احفظ لسانك يا محمد، على الاقل احتراما لأبيك، ام إنك نسيت كيف كان يجمعنا لنزوج ابناءنا ببعض؟! " لكن محمد كان يشتعل بغضب ما بعده غضب وقال بشيء من القسوة والشراسة " هذا الامر مختلف تماما، ابي لم يكن سيفعل هذا يا مجيد، كان عادلاً وهو يسأل كل واحد منهم عن رغبته ولم يجبر أحدنا على شيء، كان يريد سعادتنا جميعاً لا ان يتعسنا بأفكار متعنتة " ثم التفت محمد نحو حميد وهدر بعنف" قل شيئاً يا حميد، هل هكذا نعامل بناتنا؟!" رفع حميد وجهاً علته الرزانة وهو يقول " انا اؤيد محمد " هتف مجيد قائلاً " ماذا؟!" فرد حميد بوجه عابس حازم " نعم.. الامر أصبح سخيفا جدا يا أخي، الى متى نظل ندور في نفس الساقية؟! جنى لا تريد الزواج من أحد ابناء عمومتها، هذا واقع وعلينا تقبله، هي لا ترتكب معصية " هدر مجيد بلهجة جنونية " بل انها تتسبب في خراب! لو كنّا اخترنا البقاء في مسقط رأسنا؛ لكنتُ فرضتُ عليها (حق النهوة) ومنعتها الزواج بأي رجل غريب، وهذا حق مكفول للعم وابن العم، ومن يرفضه يطرد من العشيرة " أوشك محمد أن يرد لكن حميد سبقه ليقول بنبرة تهدئة " (حق النهوة) تركناه خلفنا للأعراف العشائرية يا مجيد، أبونا أتى بنا كعائلة إلى العاصمة، لأنه أرادنا أن نخرج للمدنية أكثر " لكن مجيد على تعنته وهو يرد بنفس العنف " أ تنكر أنه أراد استمرار زواج ابناء وبنات العمومة؟ أ تتجرأ وتنكر هذا؟! " عندها قال حميد " نعم.. أراد.. لكن بالرضا يا أخي.. وببساطة جنى لم يكن لها نصيب مع أحد اولاد عمومتها، لم يحصل أي توافق أو قبول، والان جاءها شاب صالح وهي تميل للموافقة عليه، اذن.. انتهى الامر، شرعنا ودين نبينا لا يرضى بأن نعلّق مصير البنت هكذا " التفت مجيد نحو محمد وقال بأنفاس هادرة " هل هذا قرارك النهائي؟ " رفع محمد رأسه بعنفوان وقال بقرار لا رجعة فيه " نعم " اشتعلت عينا مجيد وقال بصوت عكس ما يتأجّج في صدره " اذن ليكن في علمك وعلم الجميع، لن ارضَ لجنى زوجاً إلّا عماد او باسل، عليها ان تختار بينهما إذا ارادت مصلحة العائلة واستمرار تلاحمها، أما إذا عاندت وارتبطت بهذا الشاب؛ فانا لن أحضر زواجها ولن ادخل بيتها ما حييت! "
***


انتهى الفصل الخامس عشر (تحديث 2022)



التعديل الأخير تم بواسطة كاردينيا الغوازي ; 26-08-22 الساعة 09:05 PM
كاردينيا الغوازي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس