الموضوع: * حنين غصن *
عرض مشاركة واحدة
قديم 28-10-12, 10:03 PM   #5

وجع الكلمات

قلمٌ اِفتقدناه وفارقنا لبارئه _ نجم روايتي وكاتبة سابقة بالمنتدى

 
الصورة الرمزية وجع الكلمات

? العضوٌ??? » 169342
?  التسِجيلٌ » Apr 2011
? مشَارَ?اتْي » 8,446
?  نُقآطِيْ » وجع الكلمات has a reputation beyond reputeوجع الكلمات has a reputation beyond reputeوجع الكلمات has a reputation beyond reputeوجع الكلمات has a reputation beyond reputeوجع الكلمات has a reputation beyond reputeوجع الكلمات has a reputation beyond reputeوجع الكلمات has a reputation beyond reputeوجع الكلمات has a reputation beyond reputeوجع الكلمات has a reputation beyond reputeوجع الكلمات has a reputation beyond reputeوجع الكلمات has a reputation beyond repute
Bravo

لأُسند رأسي بقمة كرسي المتحرك متطلعا لسماء شبه المسودة تتخلّلها بعض الخيوط الخجلة من بقايا الشمس الراحلة .. مبتلعا شهقاتي...عاصرا جفنيّ ليدفعا بفوج جديد من العبرات من على مقلتيّ...
أحسست بدفء يغلف يدي اليسرى الراقدة على فخذي .. لحقه صوت يعزف على وتر المواساة لم يطأ أرض مسمعي قبلا:
" لا عليك .. لازل لديك العمة رولا "
لأشعُر بعد برهة من عمر اليوم بيدي تُعتَصرُ تحت قبضة من حديد.. في حين أن ذلك الصوت نفسه بات متشبعاً بوقود البغيضة:
" ليس مثلي والديّ حيان لكن وكأنّهما ميتان .. لأصير وحيدة بلا سند "
نزلت ببصري إلى درجة جلستها الأرضية ..فعكست شبكتي عينيّ عُريها من أي قيود فرضتاها على نفسها .... ليصبح داخلها مكشوفا لي .. وهي تكمل حديثها المتخبط بين البكاء وبين الغضب العارم:
" أمي اليوم زارتنا .. ( لتطلق ضحكة ملئها السخرية وهي تكمل قائلة) على أساس أنها جاءت لكي تُهنأنِ بعيد ميلادي ..وياليتها لم تفعل .. فلم تكلف نفسها النزول من سيارتها الفخمة .. و حتى أنّها لم تتعب نفسها بتقديم الهدية لي يدا بيد .. فقد كلفت السائق بذلك.. وتحججت بأنّها يجب أن تلحق بطائرة لأن لديها موعدا مع مدرسة خاصة في بلد أجنبية لكي تسجل من تسميهم أخوتي والذين لم أراهم في حياتي ولا أعرف حتى أسمائهم .. أما أبي ... فمنذ عاد من العمل وهو في غرفته غارقٌ في نوم عميق وكالعادة لم يكلف نفسه تذكر تاريخ عيد ميلادي "
ارتعشت مقلتيها وهي تقذفني بجملتها الأخيرة التي أدمت قلبي:
" أأنت راغبُ بأن أُبادل والديك بوالدي.. فأنا مستعدة لفعل ذلك .. فأن يكون والديّ ميتان وأنا أحملُ لهما ذكرى جميلة أفضل من أن يكونان حيان وكل ذكرياتي معهما نكد في نكد "
لتحتدّ زوايا عينيها بعد ما نفثت ما في صدرها من هواء حبيس مخلِّفتان ظلاما دامسا بمقلتيها ..
رغبت وبشدة بأن أضمد على جرحِها المكشوف لمجهر عينيّ بقولي:
" غصون أنا أنا .."
لتبتر جملتي بزمجرتها المتبوعة بوقوفها كالسهم من على الأرضية وقد تجعد وجهها بتعابير الضيق:
" أنا اسمي غصن وليس غصون .. غصن الذي يخشاه جميع الفتية بالحي"
لتهرول مبتعدة عني وهي تمسح خيوط دمعها الملاحقة لها .. وأنا أتخبطُ في معمعة صدمتي لانقلاب حالها في جزء من الثانية وإذا بها فجأة تلتف إليّ من على بُعد بضع خطوات.. فتزأر بي قائلة وإصبعها المتوعد يُترجِم كلماتِها بلغة الإشارة:
" أيانِ وإياك بأن تُخبر أحدا بأنني بكيتُ.. وإلا سوف أقتلك "
لتولينِ ظهرا دون أن تبرح مكانها.. مما جعل حاجبيّ يلتصقان بغرتي المتناثرة بعبث طائش على جبين الواسع المنثور عليه رمال الصحراء ..ومن ثم تعاود الدوران إلى حيث أقبعُ منكسة الرأس ليمشي صوتها على استحياء ليهمس بأذني قائلا:
" غدا سوف أكون في حديقة القرية... انتظِرُك هنالك.. فلا تتأخر "
لتتبخر من أمامي وكأنها شبح مع زوال آخر خيط من شمس النهار عن صفحة السماء التي تكحلت بالسواد ..
ترُددٌ كان يعتمرُ بداخلي وأنا أدفعُ بكرسيَّ مقتربا من حيث كانت تقفُ مع ذلك الفتى المكتنزِ بالقرب من شجرة الصنوبر الواقفة بكل إيباء من خلفهم .. ترفض بأن تُزحزحها ريح الشمال عن عرشها الأخضر والذي دام لعقود..توقفتُ وقد قيدتني عينيها القادرتان بأن يغرقاني بهما بنظرة واحدة منهما ...
لتلتهم هي المسافة الفاصلة بيننا ... وتدفع بكرسيَّ المتحرك قائلتا من خلف أسنانها الملتصقة ببعض:
" لماذا تأخرت يا أيه الكسول؟ .. أترى نفسك أعلى شئنا منّا ؟"
لأرُد بكل بلاهة مدافعا عن نفسي بشراسة :
" لا أقسم بالله ..ف .قط فقط .."
ليصير لساني هُلاماً وقد اشتعلت وجنتيّ بحمرة الخجل وأنا أُكملُ كلامي بشيء من التذبذب المتمنع:
" لقد كُنت متردِداً في القدوم "
لتتوقف عن دفعيّ وتقفز أمامي مثل الضبع وقد كشرت عن أنيابها:
" ولما ترددت سيادتُك ؟!!"
ليُنجدنِ مرة أخرى صوتٌ ينبثق من ورائِها من الحصار الذي فرضته عليّ هذه المخلوقة أشاعرِ دوما بقربها بأنّي عاجزٌ ولا توجد في يديّ حيلةٌ لكي أضع لها حدا رادعا :
" أسوف تأتيان؟ أم أنكِ خسرت الرهان يا غصن ؟!!"
لتتعالى قهقهاته .. الجاعلة من دِمائها الملغيةُ تتجمع في وجهها المرمري .. لينقبض قلبي وهو يتوقع الأسوأ يلوح بالأفق.. لتقول لي متوعدة ونصلُ سبابتها يُشهر في وجهي كالعادة:
" إياك أن تخذلنِ أمام ذلك الأحمق أبو نظارات سميكة "
فتثب كالغزال إلى خلفي وتدفعني كصاروخ إلى حيث يقف ذلك الأبله الضاحك ...
فتطلق عليه نظرة حاقدة وهي تقول وأنفها يناطح السماء :
" الآن سوف ترى بأن نبيل سوف يتغلبُ عليك بالطول "
لأتذبذب بعد ذلك في دهاليز الحيرة من الطلاسم النابسة بها تلك الفتاة غريبة الأطوار..لأخص نفسي بسؤالي الذي جنّن عقلي:
((عمّا تتحدث عنه هذه المجنون !!))
أمام أنظاري وجهت أوامرها لذلك الذي توحي تعابير وجهه البلهاء على صغر عمر عقله الذي يناقض سنه:
" هيا ساعدني لكي ندعه يستند على جذع الشجرة .. وبهذه الطريقة سوف نقيس طولهُ.. هل أحضرت الحبل كما أمرتك؟ "
ليرد عليها من فوره :
" نعم ها هو "
ليرفع يده المحملة بحبل أحاط بكفه الغليظة ..
لتقول:
" هيا إذا لنبدأ المهمة "
ليقول باستهزاء يغلف كلماته وهو ينفخ صدره كالطاؤوس:
" لن يتغلب عليّ.. فأنا أطول فتى في هذا الحي والجميعُ يقول هذا الشيء "
لتُحدجه بتلك النظرة التي تجعل الدماء تجف بالعروق ومن ثم قالت:
" كفاك ثرثرة وساعدني "
فتقتادني إلى حيث الجذع الطاعن بالسن مُتجاهِلةٌ تساؤلاتي المستفسرة عن مصيري المرمي بين يديها بدون طوعي ..فتُعطي أوامرها كالسادة على ذلك الفتى الذي مثل الشاه تحت يديها:
" هيا ساعدني لكي نجعلهُ يقف "
لتُجلجِل كلمة ((يقف)) في أرض عقلي .. فتتفجر من بين شفتيّ ووجهي منتقعٌ بالذهول:
" يقف!!!"
فيسحبني من على الكرسي وكأنني ريشة بين يديه .. فيُلصقني على الجذع المجعد ... لتُلقي المزيد من أوامرها عليه .. معطيتا إياي الأذن الصماء:
" أنا سوف أمسك به.. أما أنت فخذ الحبل ودر به حول الشجرة يا أبو أربع عيون "
ليمتثل لأمرها ويُشرع بالدوران حول الجذع ..في حين أنّها التصقت بي بجسدها الضئيل البنية.. لدرجة احتشدت أنفاسي في رئتيّ خوفا من أن تنفلت فلا تعود لزيارتهما.. ليلدغ عينيّ بريق بشرتها المرمرية التي تكشفت بعد انزلاق قميصها القطني الفضفاض باهت اللون من على كتفها.. ليهرول قلبي الصغير وراء ضلوعي متمنعا عن ضخ الدماء الدافئة في بدني الذي تنمل بالكامل ليطال رأسي الذي أكاد أقسمُ بأنه قد وقفت كل خصلات شعره البني .. لِتنّسف بباقي خلايا دماغي الواعي بأنفاسها المدغدغة لعنقي الذي كان رأسها الصغير يقف بجواره جنبا إلى جنب.. فأغدو كالتمثال فما عاد عقلي يعمل كسابق عهده ..
يا ربااااااااااااااااااااااا اه شعور ساعتها زارني لن أنساه لآخر عُمري ... شعور عقلي غير الناضج لم يفهمه حينها ... لكن الآن للأسف عرف هويته .. وياليتنِ لم أهتدي إلى طريق معرفته .. وضلِّتُ على جهلي .. لكان أرحم لي من هذا الوجع الذي لا يتحمله بدني المعطوب ..
هذا البدن الذي تراقص فرحا حين وعي على نفسه وهو يقف بعيدا عن حبس سجانه المتمثل بالكرسي المتحرك بعد أن قيدتني تلك المجنونة بجذع الشجرة فارع الطول ..
لتقف قبالةِ ..فأُطلق سارح أنفاسي المحبوسة في زنزانة صدري .. فتكشف هي عن ابتسامة نصر موجهةُ كلامها لخادمها عديمُ التدبير:
" هيا قف بجواره "
أخذ يقترب مني وصدره يسبقه ... قائلا من طرف أنفه:
" سوف أتغلب عليه بالطول صدقنِ .. وحينها سوف تشتري ليَّ البوظة لمدة أسبوع كامل "
لتمد لهُ لسانها وهي تقول:
" سوف أفوز.. و سوف ترى ذلك بنفسك "
وقف بجواري بشكل متوازي... لتقفز هي كالأرنب .. وتصيح قائلة:
" لقد فزت فزت هي هي هي "
وأخذت ترقص كالبطة .. وأنا لازلت أعيشُ وطأت قربها مني فحبات العرق مستمرة بنزول مدرارا من على جبيني ..
ليضرب الخاسر الأرض شحيحة الأعشاب بساقه معبرا عن غضبه .. هادرا بقوله:
" سحقا سحقا .. "
فيشوينّي بلهيب مقلتيه وهو يبُث غضبه من مدفع فاهِ:
" من أين خرجت أنت لي؟ "
الحيرة ... الفرحة ...و الخوف ... هطلت علي رأسي جمعاء دفعة واحد من سماء أغسطس القاحلة ..
غرستُ أظافري ما بين خصلات شعري غير المتجاوزة في طولها رأس سبابتي ..وأنا أعتصر قسمات وجهي أُناشدها الخلاص من هجوم الذكريات الخانقة لروحي ..زجرا عقلي لكي يكبح فرامله حتى لا يتمادى في التغلغل في عالم الذكريات.. التي هي دوما طرفا فيها ..
أسدلتُ ستار جفنيّ لعلّهما يُنهيانِ هذه المسرحية الدموية .. إلا أنّ كلمة الذكريات كانت لها الغلبة .. فعادت تفرض نفسها ضيفا ثقيل الدم في حيز ذهني ...
لتكون الذكرى تابعةٌ ليوم الوداع .. ومن بطولة كلن من نبيل وغصن ابنّي 18 ربيعا ..
بدأت المسرحية بمشهد اتكاءِ جذعِها بإطار باب غرفتي.. ضاربة بحنق الأرضية السيراميكية الخاوية من أي ستر برأس حذائِها الرياضي الملطخ ببقع من الوحل الغارقة به أرضية الحي بعد ساعات طوال من انهمار مطر مارس المحمل برياح مجمدة للأطراف ... مكتفةٌ ذارعيها أمام صدرها ..وخزتٌ إياي بنظرتها الحادة التي تتميز بها قائلةٌ:
" لا أجد سببا مقنعا لسفرك لدراسة في الخارج .. فالدراسة بالخارج مكلفةٌ "
أخذتُ ما طلته يديّ من حجر دُرج مكتبي الصغير المجاور لسريري والمكتظ بكتب من كل الأصناف والأحجام .. وأخلدته لنوم في بطن حقيبة سفري المنبطحة أمام ساقيّ المعلقان من على السرير ...لأرُد عليها وابتسامة مرحة تقبل شفتيّ:
" أنسيتِ بأنني حصلت على منحة دراسية بسبب نسبتي العالي بالثانوية العامة .. لهذا لا تخافي على المصاريف لأنني لن أدفع قرشا واحداً .. وفوق كل ذك .. سوف يصيرُ لي دخلاً شهرياً.. وما عليّ إلا الدراسة فقط "
لحسن حظي الذي بدأت أشك بتواجُده بالدنيا ..لحظتها كانت سحنتها مكشوفةٌ لنظري بسبب تسريحة ذيل الحصان الساحبة لجل شعرها لما وراء رأسها .. لتسنح لي الفرص لأتمتّع بتقلب حالت الطقس في تعابير وجهها الذي تلبد بالسحاب بسبب البخار الناتج من غلي الدماء بعروقها .. ولتعاسة حظي الذي دوما ما أصدفة في دربي لم أتمكن من التقاط لغة جسدها المتصلبة بفعل الغضب البركاني المعتمر بداخلها.. فكما جرت عادتها.. كانت مغرقةٌ جسدها الناعم في قميص قطني ذو أكمام طويلة تحده أزرار من الياقة ومن رؤوس الأكف.. بخطوط مقلمة تمتد من أعالي أكتافها لأسفل فخذها المتدرع بهذا القميص المصمم خصيصا للجنس الخشن.. ليكمل البنطلون المخملي مهمة قتل أنوثتها المتلهفة لإطلاق صرخاتها لناس قاطبة ...
لتزفر كالثور وهي تقول من وراء أسنانها المحتكة ببعض :
" وعمتي رولا من سوف يكون معها ؟!!.. أتُرِيدها بأن تعيش وحيدةٌ بلا أنيس وقد تقدم بها السن وهي الآن بأمس الحاجةُ لمن يرعاها ؟"
أكملتُ مهمة تغذية بطن حقبتي الخاوية بالأغراض وأنا أجيبها وفي داخلي ضحكةٌ حرمتها من أن ترى نور العلن خوفا من ردة فعلها التي من المؤكد بأنها سوف تحرق الأخضر واليابس أمامها :
" عمتي أنت سوف تتكفلين بها ... أم أنكِ نسيتِ جلساتِكُما الأنثويةٌ المطولة التي يمنع فيها تواجد الرجل في غرفتها ؟"
هنا كما يبدو بأنني ضغطت على زر الانفجار .. حيث هاجت وهي تضرب بقسوة بساقها على خد الأرضية وشياطين الدنيا تتقافز أمام عينيها..مكورةٌ قبضتي يديها وكأنّها في حلبة ملاكمة:
" سافِر إذا ولا تعد أبداً.. فنحن لن نموت إذا سافرت "
لترحل كُلّما شعرت بهشاشة صوتها واقتراب ساعة هطول عبراتها.. فأتبسم ضاحِكا .. فقد أصبحتُ أعرفها أكثر مما أعرف نفسي ...
تبعتها إلى ملاذها الذي تلتجئُ إليه كلما أحست برغبتها بالاختلاء بنفسها ولعق جراحها ...والذي كان تحت شجرة الصنوبر ذاتها .. فبفروعها الطويلة كانت تربتُ بظلها على ظهرها .. وبحشرجتها كانت تمدها بالمواساة والمتسببة بها تغزل نسمات الهواء العليلة التابعة ليوم مطير بحسنها الذي رغم مرور عجلة الزمن إلا أنّها لا تزال تحتفظ بنضارتِها وكأنّها ابنة البارحة..
رغم صعوبة الدرب بسبب الطين الملغم به الطريق المؤدي إلى الحديقة إلا أنّ ابتسامتي لم تهجرنِي وأنا أتلذذ بالشعور نفسه مُبهم المعالم وهو يدغدغ قلبي ..
كانت تجلس حيث توقعتُ ... لأوقف كرسيّ معطيا ظهري لجذع الشجرة الشاهدة لأغلب مقابلاتنا ..لتكون الحجاب الفاصل فيما بيننا.. فأقول والضحكةُ تحتشِد بجوفي:
" أسمعتِ باختراع عبقري يدعى الهاتف النقال والذي صادف بأنّه متواجد في جيبكِ الآن والذي قلما تردين على المتصلين به لأنّكِ دوما تنسينه على الوضعية الصامتة حين تخلدين لنوم الوقت المقدس بنسبة لكِ والآخذ لأكبر حيز من وقت يومكِ يا كسولة.. هذا الاختراع المدهش من مّيزاته بأنّكِ يُمكِنُكِ بأن تتصلي بأي شخص في العالم حتى لو كان بالقطب الجنوبي وفي أي وقت ... لهذا لن تفتقدينِ لأنّني سوف أُكلِّمُكِ عبرة ليل نهار حتى تُتحفينِ بأحداث يومكِ الآتي كلها إثارةٌ وتشويق"
لأعض شفتي السفلى وابتسامة ضحوكة تنتابُني ... وأنا أترقبُ ردها الحامي كما عهدتُها ...ولم يدم انتظاري طويلا .. حيث جاءني من وراء الشجرة محملاً بنبرةٌ من الغضب المفتعل:
" يبدو بأنّك أنت نسيت بأنّ هذا الاختراع الذي تتغزلُ بميزاته يكلِّف الملايين؟ "
تمددت ابتسامتي وأنا أُرسلُ ردي المناوش لها من حنجرتي المزدحمةُ بالقهقهات:
" لا تخافي يا آيته البخيلة.. ما عليكِ إلا آخر كل شهر بأن تُرسِلِ لي الفاتورة وأنا سوف أسدِدُها.. فلقد صرتُ من أصاحب الأرصدة في البنوك "
هنا لم أتمالك نفسي .. فأفلتُ قهقهات من لجامهما ....
لتصير واقفة أمام ناظري وقد صار وجهها كالطماطم لتهدر في وجهي وقبضتيّ يديها متأهبتان للقذف:
" لماذا تضحكُ يا أيه الأحمق ؟!!"
لأدُس جوابي بشق الأنفس بين قهقهات المتعالية الوتيرة:
" لأنّني كُنت أعرفُ بأنّ وجهكِ سوف يُصبح مثل الطماطم بعد كلامي الأخير "
صدى ضحكاتي في ذلك اليوم يتردد في دهاليز ذكرياتي فيمزقنُّي أربا إربا ..لأنه تبخر وصار رمادا ..
لأفرز عصارة العبرات من جديد.. فما عاد بي حيلٌ للمزيد من سكاكين الماضي الحادة وهي تخترق روحي لتطال قلبي النازف ...
لهذا جعلتُ كفيّ ينزلقان من بين خصلات شعري لتٌنّقبانِ وجهي..آملاً بأنّ توقفا سيول الذكريات من زيارة قوقعتي التي ألوذ بالفرار إليها هربا من بطشها الموجع ...لتنساب من بين أناملي خيوط شمس الماضي الغابر والذي لم يكن عمره إلا أسبوعاً واحداً .. وهي لحظة عودتي من بلاد الغربة بعد أن تحصلت على شهادتي الجامعية في الهندسة المعمارية..حلم حياتي بعد غياب طال لسنوات طِوال.. كانت بمثابة دهوراً بنسبة لي أنا الذي لم أطأ أرض الوطن مُنذ يومِ رحيلي عنه ..
كانت فرحتي بالعودة لأحضان الوطن واستقبالِ من قبل وجه عمتي البشوش وسائد الحارس الأمين لحصنِّها ناقصاً حيث عينيّ ظلتا تنقبان عنها .. لكن عبثا .. لأسأل بعد أن يئستُ من رؤيتها في أي بقة من أرض المطار:
" أين هي غصن ؟!!"
لتتكسر الابتسامة من على محيا عمتي.. وتزداد أخاديد الأعوام عليهِ .. ويتهرب سائد عن النظر إليّ وكأنّه مجرمٌ خجلٌ من فعله المُشين..
ليضوي نور الفرحة من لمبة سحنتيّ وأنا أكرر سؤالي والخوف يتسلل إلى قلبي:
" أين هي غصن؟!! أجيبوني ..أأصابها مكروه؟!! فلها أيام لم ترُد على اتصالاتي!!!! "
لم يُجبنّي إلا صمتُهما ... لأقع فريسةُ الفزع ولم أُصدق متى أصل لمنزل عمتي حتى أهجمَ على الهاتف الأرضي فأضغط بأصابعي الراجفة على الأزرار .. ليرن الخط من الطرف الآخر حتى الموت .. فأُحدج بعمتي وسائد الحامل بين يديه حقائبُ سفري... والذي لم يتجاوز عتبت الباب بعد والمتقدمة عنه عمتي بخطوتين.. ومن ثم أقول بصوت آمر لا يقبل أي تأخر في الظفر بما يطالب به:
" فورا أريد بأن أعرف .. أين غصن ؟.. ولماذا لا تردُ على اتصالاتي؟"
نكس سائد رأسه .. وغرُقت عيني عمتي بالدمع.. ليجعلا قلبي يقع على الأرض.. فتنطق أخيرا عمتي بصوت مشروخ بالبكاء:
" انسها يا بني .. فهي لن تكون من نصيبك "
تجمد عقلي عن العمل وكذلك تضاريس وجهي ...وإحساس داخلي بأنني أهوي في هاوية لا قرار لها تلبسنِ ساعتها ..
المطر يخترق ظلام الليل الدامس فيمتزج بحنظل مقلتي ّ الخادش لخديّ ...وهدير الريح العاصفة يشرخ طبلتي أذنيّ صاما مسمعي عن نحِبي الثكل ... وأنا أرى أمامي الناس تلوذ بالفرار من غضب الطبيعة دون أن أتحرك قيد أنملة عن صومعتي المتظللة بشجرة الصنوبر التي لم تجد لي دواءً يُخَفِفُ من مصابي الجلل ..فكتفت بصمت الحزين وفروعها تذرف دموعها الورقية ...فتشكل خيوطا متقطعةٌ.. تتناثر بعشوائية لتلقى مثواها الأخير على الحشائش القِصار المغصوباتِ على إتباعِ وجهة الرياح الغاضبة ...
ليتملص صوتها المرفرف على أجنحة الهمس من خلف حاجز جذع الشجرة فيحُط على مسمعيّ:
" ما الذي تريد بأن تقوله ؟ هيا قله بسرعة فليس لدي وقتٌ كافي "
على وهبط صدري بأقل من جزء من الثانية .. وأنا أخيرا أُبِل ظمئ قلبي المشتاق لها بسماع صوتها ..فأحرك عجلتي كرسي لكي أُقابِلها.. فأُشبع جوعي لمرآها الذي دام لسنوات عِجاف ..إلا أنَ صوتها الرادع منعنِ :
" لا تتحرك من مكانك .. تكلم ها أنا ذا موجودة ... وقد نفذت طلبك الذي برسالة النصية .."
تقوس حاجبي للأعلى وأنا ألتمس منها بسؤالي تفسيرا لفعلها الماضي:
" لماذا لا تُريدنّي أن أراكِ ؟!!"
لتقول بصوت مبحوح بعد صمت طال عُمره لمقدار برهة:
" لأنني أنا الآن شبه متزوجة .. وزوجي لا يُحب بأن أكون متواجدة في مكان لوحدِ مع رجل غريب "
صفعتني كلمة (غريب) وجعلت عينيّ تقفزان من مِحجرِهما .. وأنا أقول بصوت صدأ:
" غريب!!! .. أنا يا غصن صرتُ شخصا غريباً بنسبة لكِ؟!!! "
لتصرخ بي فتتفشى رعشة بعامودي الفقري:


وجع الكلمات غير متواجد حالياً  
التوقيع
قلمٌ اِفتقدناه وفارقنا لبارئه
ادعوا لها بالرحمة
رد مع اقتباس