عرض مشاركة واحدة
قديم 14-11-13, 09:29 PM   #3

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Elk

الفصل الأول

أشهد أنك عذراء


دارت ألسنة النساء في أفواههن مثل الرحى وهن يطلقن الزغاريد بنسق تصاعدي يسمع كالعويل، وعيونهن متوجهة صوب الباب البابلي المغلق على العروسين في مشهد خرافي ذي طابع غرائبي لطقس الزفاف والعرابات يترقبن اللحظة المصيرية للختم الذكوري في طقس اختبار شرف العروس عبر قطرات دم لإعلان الخط الفاصل ما بين العفة والدنس، وخيط رفيع يفصل بين الموت والحياة وعرابات الزفاف يطرقن الباب بقبضاتهن وكأنهن في حالة شبق لرؤية الدم المسفوح. أطبقت غالية كفيها على أذنيها لتحجب وقع أصواتهن المخيفة. أصوات تجتاح خلجات نفسها كالزلازل والبراكين الثائرة. العرابات يستعجلن العريس ليناولهن دليل الشرف والعفة ... راية الانتصار المختومة بقطرات دم على منديل أبيض لا يتجاوز طوله المتر الواحد. لم يتوقف الطرق على باب العروسين، وإن تأخر العريس في تلبية طلبهن الجماهيري، ليس هناك ما يمنع أن يكسرن الباب.... توارثت النسوة هذه العادة ضمن طقوس الزفاف جيلاً بعد جيل ومن المتعارف عليه أن تكون هنالك عرابة زفاف واحدة لتقوم بهذه المهمة. إلا أن توافد النساء وتجمهرهن بشكل انفعالي، يجعلهن كلهن عرابات لتلك المهمة المصيرية، ويشكلن فوجاً تعتريه فوضى الانفعال وهن ينتظرن ويتلذذن بلون الدم، فتجاهد كل واحدة منهن للانقضاض على منديل العفة والإمساك به وكأنهن يتبركن بلمسته لإكمال الطقس بكل أبجدياته بوضع المنديل المخضب بدم العفة فوق صينية ويرقصن ابتهاجا بهذا الانتصار، ثم يتجولن به علناً أمام مرأى الناس في تظاهرة تطوف الشوارع.

علت الزغاريد في زحمة السكون والعيون تتربص في انتظار وظنون. غالية في غرفتها تمشي ذهاباًُ وإياباً، تارة تعض شفتيها وتارة أخرى تقضم أظافرها القصيرة جداً، والعرق يتصبب من جبينها ويداها ترتجفان، تتمتم بكلمات غيَر مفهومة. تحدث نفسها متسائلةً متوسلةً وكأنها هي العروس. أسرعت إلى زاوية الغرفة وجلست ترتعد من الخوف، منكمشة، تحاول أن تهدئ من روعها من هول طقس الزفاف المجنون، فتجتاحها قشعريرة تحاول التغلب عليها طالبة الدفء بلف يديها حول صدرها. منظرها يثير الشفقة وكأن قافلة نسيتها في صحراء مقفرة، وتركتها وحيدة غريبة فريسة لوحوشها ووحشتها. وضعت غالية أذنيها على الجدار الذي يفصلها عن غرفة أختها، فسمعت صراخها، والعريس يحاول تهدئتها بعصبية للتغلب على مقاومتها. انتاب غالية الذعر ثم وقفت في مكانها وبدأت تصرخ وتقول لنفسها: " الليلة ليلة زفاف أختي وغدا ستكون ليلتي. فمن أين سآتي بالدم؟ كيف سأتدبر أمري؟ عندما غسلت أختي من أبي تلك البقعة الصغيرة من الدم التي كانت بلباسي الداخلي، هددتني ألا أخبر أحدا بذلك لأنه سر خطير، فدفنت سري في قبر منسي بقرار عقلي، وأقسمت ألا أبوح به لأحد كي لا ينتهي بي المطاف إلى عالم الأموات". ما زالت غالية تحدث نفسها حين سمعت صرخة وجع وألم، وفجأة توقف ذلك الضجيج والصراخ والطرق على الباب. وما هي إلا لحظات حتى انطلقت الزغاريد والغناء. أسرعت إلى باب غرفتها تراقب الأحداث من ثقبه، فرأت عريس أختها يمد قطعة ثوب بيضاء ملطخة بالدم لواحدة من تلك النسوة. كان العرق يتصبب من جبينه وكأنه كان يصارع ماردا أو كان يقاتل في ساحة معركة. شعرت غالية بسائل ساخن ينزل من بين فخذيها حتى أخمص قدميها، لكنها لم تبال، فقد تعودت على نزوله كلما انتابها الخوف. انتظرت حتى اختفت عرابات الزفاف من قرب غرفة أختها. تسللت إلى الحمام لتستحم بالماء البارد لعلها تصحو من صدمتها. تمسح على جلدها بالصابون. " لابد من الفرار من هذا العالم المتوحش. لا بد أن أهرب بجلدي قبل أن يقع الفأس في الرأس. لا بد من إيجاد طريقة أخرج فيها من هذه الصحراء المتوحشة، قبل أن ينقضوا علي ويذبحونني كخروف العيد، ويسلخوا جلدي لينهشوه بأنيابهم إلى الأبد. عليَّ أن أبدأ فورا في تدبير خطة للخروج من هذا السجن. "عندما تقفل كل الأبواب يفتح الله واحدة". إن الله سيفتح بابا لكي أخرج منه بسلام. إن الله يحبني ولو أنني فقدت بكارتي. " رفعت عينيها إلى سقف الحمام وكأنها تحاول رؤيته وتحدثه. ستساعدني يا ربي، أليس كذلك؟ إن ما يفعلونه في هذا السجن ظلم وأنت لا تحب الظلم. خذ بيدي، أرني الطريق الصحيح حتى أسلكه وأنجو من ظلمهم ...



* * *



وصلت غالية من تونس العاصمة إلى مطار كوبنهاجن. كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا. لم تكن تعرف أحدا في ذلك البلد، كما أنها لا تعرف إلى أين ستستمر في رحلتها متسائلة في نفسها:" لماذا النرويج؟ فأنا لا أعرف لغة هذا البلد ولم أسمع عنه في التاريخ الذي درسته في بلدي، ولا أعرف موقعه الجغرافي في الخريطة. آه! إلى متى سأظل هاربة من مجتمعي وإلى متى سأخفي فضيحتي التي كُتِبَتْ علي ولاحقتني طوال حياتي وطفولتي؟ إلى متى سأظل هاربة من أهلي وأبناء عمي؟ أخذت حقيبتها من مكتب الجمارك، واتجهت إلى مكتب الخطوط النرويجية لتشتري تذكرة إلى العاصمة النرويجية التي عرفت من مكتب السفر أنّ اسمها أوسلو .. ... لم تحصل على رحلة قريبة، لابد أن تنتظر حتى الساعة الثامنة ليلا. اشترت تذكرتها وحملت حقيبتها الثقيلة التي كانت تحتوي على كتب كثيرة وملابس قليلة. كانت تسمع أن النرويج تظلّ الشمس فيها ساطعة حتى منتصف الليل، فظنت أنه بلد لا يعرف البرد وإن كان بلد الثلج، فالشمس تكفي لإشاعة الدفء طيلة السنة. ما زالت تجر حقيبتها ببطء، تعتريها غصة تكاد تكتم أنفاسها. تلتفت يمينا ويسارا وكأنها تبحث عن شيء مجهول لا تعرف هويته. يعتريها الخوف من المستقبل الغامض، والرعب يكسر أغصان روحها العطشى. يذهلها منظر الموظفين والمسافرين، شديدي البياض كالدمى، شعرهم أشقر وعيونهم زرقاء، والكل يمشي بسرعة متجها إلى غايته. أذهلها ذلك الجو الغريب عن جوّ بلدها، وأرعبها انشغال كل واحد بأمره، ليس كوطنها حيث يمكن للمرء في المطار أن يجلس بالقرب من أي مسافر يتحدث إليه ويقتل الوحدة والانتظار الطويل. إتجهت غالية إلى المقهى لتستريح وتنتظر موعد سفرها فإذا هي ترى فتاة يبدو أنها عربية، تتصفح جريدة عربية. اتجهت نحوها تلهث من شدة التعب وبسرعة وبدون تردد سألتها: من فضلك يا أختي كم الساعة؟

لا تريد غالية معرفة الوقت بقدر ما كانت تبحث عن أحد يسلي وحدتها في منفاها الجديد، وينسيها ولو لفترة قصيرة مصيرها المجهول. ابتسمت الفتاة وأمسكت بيد غالية، تطلعت إلى الساعة وقالت لها: إن الساعة الآن العاشرة والنصف صباحا. شعرت غالية بالخجل واحمر وجهها، ابتسمت للفتاة وقالت: اسمي غالية، ما اسمك؟

- اسمي علية.

_ هل أنت مصرية ؟

_ نعم...وأنت ؟

_ أمي سودانية وأبي موريتاني.

_هل جئت لزيارة أحد من عائلتك في النرويج ؟

تنهدت غالية بعمق وقالت يا ليت كان لي أحد في ذلك البلد الغريب !!أو ليتني جئته سائحة ثم أعود إلى وطني ! أنا هاربة بسرّي ولا أعرف أين سيقودني.

_ سر! ماذا تقصدين؟

_ أنا لم أفعل شيئا! هم الذين فعلوا. كانوا الخصم والحكم في الوقت ذاته.

فتحت علية عيناها استغرابا: عمن تتحدثين؟ لم أفهم شيئا!.

يضنيها أن تضع يدها على تلك الجراح المستترة تحت الحسرات وتوقد تلك الجمرة الخامدة.

_ بدأت معاناتي منذ سن الطفولة. كنت حينها أبلغ من العمر سبع سنوات. سافرت مع عائلتي إلى إحدى بوادي المغرب حيث كان أبي يريد أن يشتري مزرعة من أحد أصدقائه الذي كان يشغل منصبا وزاريا في ذلك الحين حيث قادتنا سيارة أبي إلى منزل ضخم وجميل تحيط به مساحات كثيرة من أشجار الصنوبر والطيور الداجنة بمختلف أشكالها وألوانها، والأطفال في ذلك المكان يلعبون، وبين الزهور يمرحون ببراءتهم ينظرون لزرقة السماء ويحلمون بالنجوم. عندما رأونا اتجهوا نحونا مبتهجين فرحين بقدومنا. كان والدهم يقف أمام باب البيت بابتسامة عريضة مرسومة على وجهه. نزل أبي من السيارة وصافحه، ثم دخلا إلى صالون الاستقبال الذي كان أول غرفة بالبيت خاصة للرجال وبعيدة جدا عن المطبخ والغرف التي تجلس فيها النساء. لحقت به أمي ودخلت إلى وسط الدار. رحبت بها زوجتا صاحب المزرعة بحرارة واتجهن نحو صالون ثانٍ خاص بالنساء. أما أنا وإخوتي فتبعنا الأطفال إلى الإسطبل لنطعم الأحصنة ونلعب معها. أخي الأكبر سنا حمد، انطلق مع الأولاد يتسلّقون الأشجار بحثا عن أعشاش الطيور، وأختي الصغيرة سلمى كانت ترشق الإوز بالحجارة. أختي من أبي العنود كانت تثرثر مع إمرأة تحلب البقر وتضع الحليب في قناني كبيرة تجهزها كي يأخذها زوجها إلى السوق. أثار انتباهي منظر الناعورة التي تخرج الماء من البئر بطريقة تقليدية ومضحكة. جزرة مربوطة في خيط يتبعها حمار على أمل اللحاق بها وأكلها، لكن الجزرة تبتعد منه كلما يقترب منها، وهكذا تستمر العملية ساعات طويلة، والماء يخرج من البئر ويُصَبُّ في أنابيب تمر بين الزرع لسقيه، والحمار يدور بجد ونشاط حول البئر وبدون توقف لاحقا الجزرة على أمل الإمسا ك بها وأكلها. كنت أجلس على سور صغير جدا أنظر إلى تلك الناعورة التي تتحرك في الأفق مصدرة صوت خرير المياه الذي يملأ الأفق بأنغام مختلفة حسب الصعود والهبوط وهي تتدفق لتشكل إيقاعا خاصا يشبه الأحزان في جريانها ويوحي بالفرح أحيانا أخرى. أتأمل ذلك الحمار، أراقبه إن كان سينتبه لتلك الخدعة ويتوقف عن الدّوران حول البئر. ساعات مرت وما زال الحمار يحوم حول البئر بدون كلل. تعبت من الجلوس لفترة طويلة فوق السور. ذهبت إلى المرحاض، وعندما كنت أغتسل، رأيت بقعة دم أحمر قاتم في لباسي الداخلي. انتابني الذعر. لم أكن أعرف من أين جاء ذلك الدم! هل هي العادة الشهرية؟ وإن كانت كذلك فلم أكن أعرف آنذاك ما هي. تلك الأمور لم نناقشها قط مع أمي رغم أنها متعلمة ومهنتها التدريس. ااندفعت أجري خارج المرحاض كالحمام ينفر مذعورا ! أبحث عن أختي من أبي، التي كانت أكبر مني سنا. كنت أستطيع أن أشكو لها ما رأيت، أما أمي فكنت أخاف من عصبيتها وسرعة انفعالها؛ كما أن خجلي كان حاجزا يمنعني من البوح لها بما أصابني لأنني لا أعرف عاقبة ما سيجرى لي إن أخبرتها. كنت أجري متأبطة هلعي ولو أنني لم أكن أشعر بألم في جسمي. أصيح وأبكي خلف دهاليز الآتي منادية أختي. فإذا بإخوتي وكل الأطفال احتشدوا نحوي متسائلين ماذا جرى لي؟ سأل أحدهم: هل الكلب عنتو هو الذي يطاردك ؟، إنه لا يؤذي الأطفال ولا يعضهم. ونطق الثاني: إن عنتو يعض فقط اللصوص ويمسك بهم إن تسللوا إلى المزرعة. وقال الثالث: ربما خافت من الحارس حَمٌّو فشكله مرعب، إنه طويل القامة، ضخم الجثة، أشعت الشعر وأعور العينين، لكنه لطيف جدا ويحرس مزرعتنا من اللصوص. هيا بنا عنده لنلعب معه، إنه يعرف قصصا طريفة ومثيرة للضحك. ضحك الجميع وقالوا: هيا بنا بسرعة. إنطلق الأطفال كالريح واختفوا من حولي، أما أنا فلم أستطع أن أدخل إلى المنزل حيث أمي، فهي لا محالة منشغلة في الحديث مع زوجتَيْ صاحب المزرعة. ذهبت قرب المنزل الصغير الذي تسكن فيه الفلاحة التي تحلب الأبقار وجلست بالقرب من عتبة بيتها أنتظر قدومها فهي لاشك تعرف أين هي أختي من أبي. كان الجو حارا. انتظرت ساعة كالدهر كله. صراخ بداخلي يلتهب وثرثرتي الصامتة تزعج منظر سكون تلك المزرعة. مازلت في اضطرابي وحيرتي حين أقبلت أختي صارخة في وجهي:

_ ماذا بك منطوية على نفسك ترتعدين. لم لا تذهبين وتلعبين مع الأطفال؟

التفتت إليها الفلاحة وهي تضحك: أين نحن من البرد الآن! نحن في بداية فصل الربيع وفصل الشتاء مازال بعيدا جدا. نظرت إلى أختي والخوف يمزق قلبي: أريد التحدث إليك على انفراد.

أمسكت يدي وتوغلت بي بين أشجار الصنوبر وبصعوبة تمكنت من تجميع حروف كلماتي:

_ أختي لقد رأيت دما أحمر في سروالي ولا أعرف من أين جاء؟

ابتسمت ابتسامة خبيثة وقالت: أريني هذا الدم.



أطلعتها على بقعة الدم فنظرت إليها بإمعان ثم تطلعت إليّ من غير أن تتفوه بكلمة. كنت أرى في عينيها مئات الأسئلة وحب الاستطلاع، لكنها لم تقل شيئا. وقفت بسرعة والتفتت يمنة ويسرة لتتأكد إن كان هناك أحد من إخوتي أو أي شخص بالقرب منا، ثم قالت: لنذهب بسرعة إلى الحمام لكي أغسل بقعة الدم من سروالك ولا تقولي لأحد عن هذا السر الخطير. قلت لها وجسمي كله يرتعش: سر خطير! ماذا تقصدين؟ هل أنا مريضة؟ هل عندما يخرج الدم من الفتاة يعتبر عيبا وسرا خطيرا؟ هل.. هل ... توقف الكلام في حلقي و انفجرت أبكي وإذا بأختي تمسك بيدي بقوة وتجرّني إلى الحمام. غسلت سروالي وقالت بلهجة المعلم: إن أخبرت أمك ستضربك لأن الدم عندما يخرج من البنت يعتبر عيبا كبيرا، إحفظي هذا السر بيني وبينك كأن شيئا لم يكن. ذهبنا إلى المنزل ودخلنا إلى حيث أمي والنساء مجتمعات منهمكات في الحديث عن مشاكل صديقاتهن؛ من طلاق وضرب وعن معاملات أزواج بعضهن لهن. نظرت أمي إلينا وقالت:

_ أين كنتما؟

أجابت أختي من أبي: كنا مع الفلاحة التي تحلب الأبقار.

أردفت إحدى زوجتي صاحب المزرعة: لقد حان وقت الغداء.

قالت أختي وهي تنظر إلي بعينين قاسيتين سوف أنادي الأطفال وكأنها تريد أن تقول لي، إياك والبوح بالسر الخطير. جلست مرتبكة على عُري اللحظة الصامتة، خائفة من شيء حصل لي لا أعرف ما هو. أسترق النظر إلى أمي، مسرورة فرحة بوجودها في المزرعة لأنها تحب هواء البادية وتعشق الطبيعة. كانت منشغلة هائمة بالحديث عن المزرعة مع الزوجة الأولى أما الزوجة الثانية فقد ذهبت إلى المطبخ لتشرف على توزيع الطعام. جاءت أختي بعدما أحضرت الأطفال. جلس كل بجانب الآخر مشكلين حلقة حول تلك المائدة المستديرة التي كانت مليئة بمختلف أنواع الطعام القروي من تاجين مخضر باللحم والزيتون وسلطة الطماطم بالبصل، تلته الفواكه من بطيخ وعنب. أكل الجميع بشهية أما أنا فكان يعتصرني صراخ تلك البقعة الحمراء من الدم التي كانت تلوّن لباسي الداخلي. تلك الخرافة التي انطبعت في ذاكرتي، تعجن جسدي خاصة وأن أختي نبهتني أن لا أبوح لأحد به حتى ولو كانت أمي. قالت إحدى الزوجتين: غالية لم تأكل شيئا ربما لم يعجبها الأكل. قالت أمي: إن ابنتي نحيلة جدا وهذا يشغل بالي كثيرا. لم تسألني ماذا بي ولماذا أنا صامتة على غير عادتي؟ تَعَوَّدْتُ على انشغالها عني، فنصف يومها تقضيه في المدرسة والنصف الثاني تزور فيه صديقاتها أو جيرانها أو هن يزرنها. عمتي التي تزوجت شهرا واحدا، غاب زوجها عنها ولم يرجع أبدا، هي التي تقوم بأشغال البيت وبرعايتي أنا وإخوتي منذ كنا صغارا. بعد أن انتهينا من وجبة الغذاء أمرنا أبي باالإستعداد للرحيل. مرت أيام وشهور ونسيت ذلك السر الخطير. انشغلت في المدرسة فأصبحت في الصف الخامس الابتدائي. كان عمري آنذاك عشر سنوات. درسنا عن العادة الشهرية وفهمناها نظريا، لكن حتى ذلك الوقت لم نعرف عنها شيئا في أجسادنا. فلم تكن هناك فتاة منا وصلت سن البلوغ. حتى وإن كان ذلك فمن المستحيل أن تروي لنا تجربتها.



سكتت غالية هنيهة، احتبس الكلام في حلقها. أمسكت علية يدها وقالت:

- هوني عليك.

ابتسمت غالية ابتسامة حزينة يحصدها الخوف وقالت: لم أنس ذلك اليوم في المدرسة أبدا في حياتي وحتى الآن مازلت أتذكر ذلك المشهد. كان مدرس اللغة العربية يشرح لنا درسا في التربية الإسلامية. فجأة أجهشت تلميذة بالبكاء. كانت تكبرنا سنا وتجلس دائما في المقعد الأخير. اندهش كل من في الصف وعلامات الاستفهام تدور في رؤوسنا حيث لا نعرف سبب بكائها واحمرار وجهها. وقف الأستاذ من مكانه وسألها: ما بك يا ابنتي؟ لم تستطع أن تجيبه. طأطأت رأسها وبدأت تجهش بصوت خافت. اقترب منها وقال: هل أنت مريضة؟ لم تجب. كانت الفتاة تنظر إلينا تارة، وإلى الأستاذ الذي اقترب منها ومزيج من الفضول والشعور بالشفقة يخامره، أما هي فكانت ترتجف باكية و قطرات من العرق تلمع فوق جبينها الشاحب كما الندى على وريقة عضها الخريف. لاحظ الأستاذ ارتباكها، فاحتار من تصرفها غير الطبيعي فقال لها بنبرة جدية: قفي، أريد التحدث إليك. ازدادت الفتاة اضطرابا وخجلا وأبت أن تقف وكأنها جالسة على شيء خطير جدا يستوجب عدم إظهاره، لأنه " سر خطير" مثلما قالت أختي. بعدها فهم الأستاذ أن الفتاة مرتبكة من بقع دم الدورة الشهرية في فستانها الذي كان لونه أبيض. اقترب منها بهدوء مبتسما ابتسامة الأب الحنون اتجاه طفلته وقال: لا تخافي يا ابنتي هذا شيء طبيعي بالنسبة للفتاة. إن ما حدث لك اليوم هو تغير مهم في حياتك. لقد أصبحت فتاة ناضجة ومكتملة فلا داعي للخجل والخوف. أعرفك فتاة ذكية وواعية، فقومي الآن واذهبي إلى المرحاض واغتسلي. نهضت التلميذة وذهبت مسرعة إلى المرحاض، أما نحن فكنا ننظر إلى تلك البقع الكبيرة من الدم على فستانها في دهشة بالغة. رجع الأستاذ إلى منضدته، توقف عن شرح السيرة النبوية وشرع في إعطائنا درسا عن الدورة الشهرية وبعد ساعة تقريبا جاءت المسكينة إلى الصف تتعثر في فستانها المبلل بالماء وببقع الدم التي لا تزال ظاهرة.

أرسل الأستاذ رسالة مع إحدى التلميذات إلى المديرة شارحا فيها وضع الفتاة. وبعد نصف ساعة شرفت حضرتها بلباسها الفخم تتبختر في مشيتها كالطاووس. وقفنا مرعوبات لتخصصها في ضربنا على ظهر أيدينا بمسطرة من حديد إن خالفت واحدة منّا قانون المدرسة. نادى الأستاذ التلميذة التي وقفت ترتعد من الخوف أمام المديرة التي كانت تحذّق فيها باشمئزاز، وبعد ثوانٍ قليلة قالت لها:

_ ما اسمك؟

أجابت التلميذة بخوف واحترام شديدين: اسمي المراني خديجة.

تطلعت إليها بتقزز وقالت: اتبعيني إلى المكتب. وقبل أن يغادرا أخذ أستاذنا سترته ووضعها على كتف التلميذة.

_ تلك الحادثة أيقظت في نفسي ذلك "السر الخطير" الذي أُمِرْتُ أن أدفنَهُ وأنساه إلى الأبد، وبدأت أتساءل عن سر تلك البقعة الحمراء التي كانت في لباسي الداخلي، هل هي دم الدورة الشهرية؟ هل أنا أختلف عن باقي البنات وإن كانت الدورة الشهرية، فلماذا لم تأت كل شهر بعد تلك الحادثة؟ ولماذا لم يكن ذلك الدم كثيرا مثل دم الحيض؟ أسئلة تقع على رأسي كوقع الفأس لتخلق في نفسي رعبا من ذلك الشيء الغريب. ولكن بعد أيام قليلة نسيت حادثة الحيض عند تلك الفتاة، ونسيت بقعة الدم التي كانت ذات يوم في لباسي الداخلي. بدأت الدراسة في ثانوية مختلطة حيث كنت أجد صعوبة كبيرة في المشاركة داخل الفصل، وأتصبب عرقاً عندما أريد أن أجيب على سؤال يطرحه الأستاذ. وكم من مرة استعصى على التلاميذ الإجابة الصحيحة التي كنت أعرفها لكنني كنت ألوذ بالصمت خجلا.



ذات يوم، اغتُصِبَتْ إحدى التلميذات بالقرب من المدرسة، وفي صباح اليوم التالي انتشرت الأقاويل والشائعات انتشار النار في الهشيم بين التلميذات .....

توقفت غالية عن الكلام، تحوّل لون وجها إلى زرقة أشبه بالسواد والعرق يغطي سحنة وجهها.
_ آخ! معدتي تؤلمني.
_ سأطلب لك حليبا ليخفف ألمك.
أخذت غالية حبة دواء مسكّن مع الحليب، وبعد برهة أحست بتحسن فنظرت إلى علية وقالت:
_ نسيت أن أسألك، هل أتيت لزيارة أحد في النرويج ؟
ابتسمت علية وقالت: لا أنا مثلك جئت هاربة من مجتمع يعيش في التخلف والظلام، أبحث عن بديل يناسبني. لكن لن أروي لك قصتي حتى تنهي قصتك. ربما تكون قصتك مثيرة، لكنها ليست غريبة، فقد سمعت المئات مثلها أثناء عملي.
قالت غالية: ما هي مهنتك؟



_ مدرسة العلوم الطبيعية بإحدى المدارس الثانوية في مدينة الإسكندرية.
أطلقت غالية آهة مسموعة وهي تسرح ببصرها إلى الأفق البعيد، بلعت ريقها متنهدة، تعبت من الكلام الذي كان لا يجلب لها سوى الحزن وذكريات مثقلة بآهات خرساء، متلفعة بسواد دامس ووثاق السر الخطير يكبلها، السر الذي لا تستطيع أن تنساه أو تمحوه من ذاكرتها رغم كل محاولاتها التي سرعان ما تذهب أدراج الرياح. ابتسمت تعبيرا عما يجيش في خاطرها من راحة البال وارتياحها إلى علية.
_ ماذا كنت أقول؟ لقد اختلطت عليّ الأمور.
ربتت علية بحنان على كتفها وقالت: كنت تتكلمين عن الفتاة التي اغتصبت بالثانوية.
_ نعم، نعم. بعيد اغتصابها شاع نبأ في المدرسة تناقلته أفواه التلميذات هنا وهناك ولاكته كلّ واحدة منهن أينما حلّت، وصبته أينما وجدت أذناً صاغية، مفاده مجيئ طاقم طبي لفحص التلميذات للتأكد من عذريتهن. زادت الشائعة في حدتها بالوعيد والتهديد والويل كل الويل للتي فقدتها إذ سيستدعى ولي أمرها وستعاقب أشد العقاب. عندما سمعت هذا النبأ اختلطت أحشائي ببعضها وانخلع قلبي من مكانه وامتلأت يداي عرقا وكأنني أطلقتهما في نهر دافئ. في تلك الفترة تغيرت حياتي واعتقدت أن تلك البقعة الحمراء التي كانت بلباسي الداخلي هي دم البكارة. فكانت أيام طفولتي سوداء قاتمة وحياتي تعيسة حزينة، وأصبحت منطوية على نفسي لا أرغب في الاختلاط بالتلميذات لأنهن يمتلكن شيئا ثمينا وأنا أفتقده، حتى خيل لي أنني أسكن في قبضة الكآبة. كم من مرة تمنيت الموت. لم أشعر يوما بطعم الحياة. حرمت من اللعب مع من هن في سني وكنت أقضي كل الوقت حبيسة المنزل وفي غرفتي، كنت أكتب أسطرا قليلة أتمرد فيها على وجودي في هذه الحياة. قلبي سينفجر، ولا بد من الترويح عنه بالكتابة وتفريغ تلك الشحنات الملتهبة على ورقة خرساء. لكن كتابتي لا تخلد في الأوراق لأنني أمزقها فيظلّ "السر الخطير" ينهش قلبي يوما بعد يوم لأن المجتمع يفسر الشريفة الطاهرة من خلال غشاء البكارة وأنا فقدته في سن السابعة. أجهشت غالية بالبكاء. إلى متى سأظل هاربة؟ لابد أن يأتي يوم يشدني فيه الحنين إلى الوطن. وإن عدت كيف سأكوّن أسرة وأنا غير مؤهلة للزواج. ينقصني شيء ثمين يجب أن أقدمه لزوجي ليلة زفافي، لكي أثبت عفتي وطهارتي وأصطف في طابور الطاهرات العفيفات. هل تعرفين أنه إذا فقدت البنت عذريتها لأي سبب حتى وإن كان اغتصابا تصبح فتاة بلا شرف، وأن شرف الأسرة وعرضها قد أصبحا ضائعين وعلى رجال الأسرة إخوة كانوا أو أبناء عمومة أن يستردوا شرفهم الضائع إما بقتل الفتاة كما يحدث في البوادي عندنا وحتى في بعض المدن إن كانت العائلة متمسّكة بالتقاليد مثل عائلتي، فذلك الذي سيقتلني في ليلة زفافي سيكون من أهلي وسيعتبر الرجل الشهم الشجاع والمتطوع للتضحية بنفسه من أجل إنقاذ شرف الأسرة، وتعيش عائلته في العار طوال حياتها. كم تمنيت أن أكون ذكرا، لأن الذكور لهم امتيازات في المجتمع أكثر من الإناث. إخوتي يمكنهم أن يتأخروا خارج البيت حتى منتصف الليل ولا أحد من والديّ يلومهم على تأخرهم لأنهم ذكور ويمكنهم أن يتعرفوا على السائحات الأوروبيات ويأتون بهن إلى البيت، فتقوم عائلتي بإحسان ضيافتهن. وإن أحب أحد إخوتي واحدة منهن وأراد الزواج منها فلن يعترضوا لأن ذلك يعتبر من حقّهم شرعا. أما أنا كفتاة فهيهات أن أختار زوجي بنفسي حتى ولو كان عربيا ومن عرقي، أما إن كان أجنبيا فذلك عار لا يغتفر وفضيحة أمام الناس. وإن تأخرت ساعة واحدة عن موعد عودتي للبيت، تقوم القيامة بالتهديد والوعيد، هذا إن نجوت من الضرب. ذات مرة كنت في المكتبة العامة أطالع كتابا، ولم أفطن لمرور الوقت، فقفزت من مكاني كمن لدغته حية. جمعت حوائجي بسرعة البرق وملامح أبي تقف أمامي فأطلقت ساقيّ للريح من غير توقف. لم أستطع انتظار الحافلة لأستقلها لأنها تتأخر وليس لها وقت محدد. أطلقت ساقي للريح متوجهة إلى المنزل وصوت أبي المدوّي بالوعد والوعيد يضج في أذني. جريت في زحمة الشارع الطويل وحدي ولهاثي يطفو فوق رصيف الخوف، يجرجر حزنه من الرعب إلى أن وقفت أمام باب البيت. وجدت أبي ينتظرني مكشرا عن أنيابه، يتأجج غضبا، أما أنا فلم يبق في أعماقي الخاوية غير ساقين مرتجفتين ودمعي يتأسى على صمت كلماتي وكل حوارات الدفاع التي توارت هي أيضا في خوف، لولا عمتي الرحيمة التي أنقذتني منه لانهال علي بالسوط. أما إخوتي فتغدق عليهم النقود لشراء السجائر وارتياد المقاهي ولا حرج من رجوعهم للبيت متأخرين. وإن كنت بحاجة لبعض النقود لشراء كتاب قد يكون مهما بالنسبة لمقرري الدراسي، أظل أمهد بمقدمات وأترجى أمي ونادرا ما كنت أحصل على النقود. فأنا بالنسبة لوالديّ لا أحتاج الحصول على شهادة عالية، فمنزل زوجي مآلي وتربية الأولاد مستقبلي، وتعليم الطبخ مهمتي لكي أطعم زوجي الذي هو في نظرهم كلّ حياتي وسعادتي. وعندما أنتهي من الدراسة الجامعية لا بد أن أتزوج حسب العرف والتقاليد لإرضاء العائلة. فمن هو هذا الزوج الذي سيقبلني زوجة بدون غشاء البكارة؟ طوال حياتي في المدرسة والجامعة، كنت انعزالية منطوية على نفسي، أخشى مغيب الشمس فمع اقتراب الظلام تزداد كآبتي. أخاف أن أبكي فيفتضح سري. غابت الابتسامة عن وجهي وحلت الدموع محلها. ضحكي أمسى قليلا وصمتي أكبر من كلماتي. أمكث في غرفتي أكثر مما أختلط بعائلتي. كانوا يلقبونني بحي ابن يقظان، الإنسان المتوحش الذي لا يستطيع التأقلم مع الناس ولا يعرف إلا العزلة والنفور. إنهم لا يعرفون أن العزلة راحتي والاحتكاك بهم لا يجلب لي إلا الانفعال والعصبية وينتهي بي النقاش معهم إلى الشجار. تستفزني آراؤهم وأفكارهم، فإن عقبت عليها أزعجتهم وعكرت صفو جلستهم العائلية. عندما تحضر الخادمة الشاي وتجتمع العائلة لقضاء ساعات السمر تتساءل عمتي "أين هي غالية؟" فتجيب أمي: "اتركوا حي ابن يقظان لحاله فنحن لا نريد أن يعكر لنا مزاجنا." لم تسأل أمي يوماً نفسها ما الذي يشغل بال ابنتها ولماذا هي حزينة، منطوية على نفسها وتبكي بلا سبب؟ فهي كانت دائما مشغولة بتصحيح الكراسات المدرسية أو مطالعة مجلة والحديث عبر الهاتف ساعات طويلة مع إحدى صديقاتها، أو زيارتهن.
_ لكن، كيف استطعت الهرب من المغرب والمجيء إلى هنا ومن أين حصلت على النقود؟
_ أنا لم أهرب من عائلتي، فقبل أن آتي إلى هذه الدولة، نجحت بامتياز وحصلت على منحة للدراسة في الولايات المتحدة.
_ رائع جدا! لكن كيف وافق والدك المتعصب حسب وصفك له على سفرك للدراسة ؟ وفي الولايات المتحدة !!!.
_ لم يوافق بادئ الأمر. غضب وزمجر. قال له أحد أصدقائه: لو كانت ابنتي التي نجحت في هذا الامتحان لاعتبرت نجاحها شرفا عظيما لي ولم أتردد في إرسالها لتدرس في أمريكا، إنها فرصة لا تعوض. وافق ودرست هناك سنة واحدة وعندما رجعت إلى المغرب أبى أن يسمح لي بالرجوع بحجة أن تلك البلاد بلاد الخبث وغياب القيم والأخلاق. نار أحرقت قلبي، وأجهشت في البكاء، وتماسكت قليلا وقلت له: المستقيم مستقيم سواء كان في المغرب أو في أمريكا . لم يعجبه كلامي. اعتبره تحدياً فهو القاضي والإمام، وهو الدكتور في الشريعة والقانون، وهو الذي سبقنا إلى الحياة وسيد العارفين ونحن علينا أن نطيع ونسمع من غير نقاش، لأن طاعة الوالدين طاعة لله وبرّ وتقوى حتى وإن كانت طاعة عمياء أو كان فيها ما يتعارض مع مستقبلنا؛ كقبول الزواج من رجل يختاره هو وليس أنا.
_ و ماذا حدث بعد ذلك ؟
_ ثارت ثائرته واشتد غيظه ولكنه تمالك أعصابه وبدلا من أن يسترسل بصوت عال، بدأ يتكلم بصوت هادىء: " يا ابنتي، إن طاعة الوالدين واجب على الأبناء، وإن أردت النجاح والفلاح في حياتك في الدنيا والآخرة، عليك أن تنسي أمريكا وتدرسي هنا في الجامعة، اطلبي أي شيء أنا جاهز لفعله. هل تريدين أن نشتري لك سيارة؟
_ أريدك أن ترضى عني وتسمح لي بالسفر لمتابعة دراستي.
هذه المرة لم يستطع أن يتمالك أعصابه. انفجر بصوت عال كلهيب القيظ. أحسست بعدها برعشة تسري في أوصالي وقلبي يدق بسرعة ويديّ تتصببان عرقا. أما هو فكان يلوح بيديه، يضغط على شفتيه، يقترب مني، صارخا في وجهي "أنت... من أنت حتى تتمردي على أوامري؟ لقد فضلتك عن باقي إخوتك". كنت أتراجع بخطوات وئيدة إلى الوراء، أخبّئ وجهي تحت ضلوعي خوفا من قبضة قد تنزل على رأسي كالصاعقة. أحسست بماء دافئ يبلل لباسي الداخلي، أنظر إليه وأتراجع بخطواتي المكبلة، مستجدية عطفه الأبوي:
_ " يا أبي سأفعل ما تريده في الحال. فأنا أعتذر كثيرا إن بدر مني شيء لا يرضيك. معك الحق، إن طاعة الوالدين واجبة. قلت كلامي وأنا أتوكّأ على خوفي الهزيل، وألم يخنق صوتي، مؤدّية دور الزاهد بتفوّق فاشل حملته بين ضلوعي بتذمر واستياء حيث كنت أشعر بالذل وأنني أنافقه، لأن إحساسي كان الخوف وليس الطاعة. تنفس أبي الصّعداء وابتسم قائلا: هكذا أحبك مطيعة مثل الولد الصالح ابن فلان! هل تذكرين قصته؟ رويتها لكم مرارا وتكرارا. تظاهرت بأنني لا أعرف ماذا يريد أن يقول. فسألته ماذا تقصد يا أبي؟ رفع رأسه وذهب ببصره مسافات بعيدة يلملم أفكاره:" اسمعي يا ابنتي: في زمن بعيد، كان هناك ولي صالح له ابن مطيع جدا. ذات مرة كان أبوه منشغلا في الكلام مع بعض الرجال، فأمره أن يوقد النار في الفرن، وعندما انتهى الابن من إيقاد النار، اتجه مسرعا ليخبر أباه الذي كان منشغلا في الحديث مع أولئك الرجال، انزعج الأب من إلحاح ابنه في الحديث وقال له أدخل في الفرن. اتجه الولد الصالح إلى الفرن الذي كان يلتهب نارا فدخله طاعة لأبيه. وعندما تذكر الأب ماذا قال لابنه صرخ: ويحي ماذا فعلت؟ لقد قتلت ابني. حتما قد دخل الفرن لأنه ولد بار ومطيع. أسرع الأب إلى الفرن وفتح بابه فإذا به يرى ابنه وسط لهيب النار سالما والعرق يتصبب منه. لم تلسعه النار ولم تحرقه لأنه كان بارا ومطيعا. ورغم أنني كنت أخشى مجادلة أبي وأخشى صوته المرتفع وعصبيته التي تجمّد أنفاسي وتكبح صبري المستكين، لم يجد من تلك البراكين الخامدة التي كانت تترجرج في جوفي وتهتز معلنة الانفجار. وما أن انتهى من سرد قصّته التي حفظتها عن ظهر قلب، أحسست بنفور ولم يعد صمتي يحسن الإنصات، انفجرت ولأول مرة في حياتي، قائلة له بصوت عالٍ أقرب إلى الصراخ والاحتجاج: يا أبي أنا أيضا أطيعك ونحن كذلك عندنا فرن كبير في المطبخ. إن أردتني الآن أن أوقده وأدخله سأفعل في الحال لكن، تأكد أنني لست ذلك الطفل الصالح الذي نجا بمعجزة من الله. فزمن المعجزات قد انتهى، وهذا الفرن سوف ينهي حياتي ويضع حدّا لها وهذا ما أتمناه. غادرني الخوف دون ضجة أو عويل ولامست حدّ الجنون. هرعت إلى المطبخ، أمسكت علبة الكبريت ويدي ترتجف، أحاول إشعال الفرن كي أدخل فيه، لحقت بي عمتي تبكي وانتزعت منّي الكبريت. أما أبي فقد دخل إلى مكتبه يزمجر ويرعد بصوت عالٍ. حاولت أمي أن تهدئ من روعه، هي أيضا كانت غاضبة ناقمة على تمردي. أما أخواتي فاتخذن الصمت ملاذا وكن فقط ينظرن إليّ مندهشات لانقلابي على أبي الذي يعتبر الحاكم الذي لا تردّ له كلمة.

ثلاثة أيام وأنا مضربة عن الطعام والشراب، أعزف لحن انزوائي في غرفتي لا أكلم أحدا. قيثارتي لحن صمت وغربة تردّد في انكسار كلمات جبار مستحمّة بعبارات التهديد التي نزفت همسي، أندب سري الذي أفرخ عارا يلازمني كالظل نحو رتابة غير مألوفة وأنا أستجمع حزني ووحدتي المنتشرين والمبعثرين في الغرفة. كم من مرة طرقت عمّتي الطيبة باب غرفتي دون جدوى. لم أكن أَرُدّ عليها. كنت أسمع بكاءها وهي تقول لي: يا ابنتي إنك تؤذين نفسك. افتحي لي الباب، جئت لك بالطعام. إنه قلب الدجاج وكبده الذي تحبينه. كانت المسكينة تظل واقفة وراء الباب ساعات طويلة وعندما تمل من الوقوف تذهب إلى المطبخ، ذلك المكان الذي تقضي فيه أغلب أوقاتها لأن منزلنا كان لا يخلو من الضيوف طيلة أيام السنة. في اليوم الرابع جاءت أمي ووقفت أمام الباب وقالت:
_ غالية إفتحي الباب. تصرفك هذا حرام. إن لم تخرجي وتطلبي من أبيك السماح، سيسخط عليك والسخط يؤدي بصاحبه إلى النار.
خوفي من النار جعلني أخرج من غرفتي معلنة هزيمتي، أتعثر صوب مكتب أبي وأسمال روحي ممزقة، ثملة بكلّ أنواع الخنوع. وجدته يطالع كتابا، اقتربت منه في هدوء أقرب إلى الخوف، قبلت يده في صمت منكسر، أما هو فكان يسترق النظر إلي بطرف عينه من وراء كتابه وابتسامة رضا ملثمة بقناع من هدوء مفتعل تعلو وجهه. انسحبت من وراء مكتبه مسرعة الخطى إلى غرفتي رافعة عن نفسي حصار الإضراب عن الطعام، نافضة غبار النفور والاستنفار، معلنة الهدوء والرضاء المفتعلين فأصبحت أجلس معهم حول المائدة كالأطرش والأبكم حاملة في داخلي أحزاني وانكساري، مهزومة كفراشة غدر بها غسق الدجى أو هوت في لهيب النار. كنت أجلس الساعات الطويلة مع عمتي والخادمة في المطبخ، أخوض معهن حوارات عبثية لألهي نفسي من مطاردة الساعات الطويلة التي تزحف ببطء على جسدي وتجثم على روحي غارزة فيها مخالب الخوف والقلق من غربة في داخلي وغربة تحيط بي. كان شغلي الشاغل هو الدراسة فقط، حتى اللعب مع أترابي حرّمته على نفسي لأنني كنت أشعر باختلافي عنهن، هن يملكن شيئا ثمينا، بينما أنا لا أملك سوى ذلك السر الخطير. أدمنت القراءة لأنني أرى فيها ملاذي وهروبي. انزعج أبي من تصرفي، حيث رأى ما لم يعتده مني فأرسل أمي التي أقبلت مهرولة إليّ وقالت: " أخبرني أبوك بأنه موافق على مواصلة دراستك في أمريكا لكن ليس هذه السنة لأنه لا يملك المبلغ الكافي حاليا. السنة المقبلة إن شاء الله ستسافرين. قلت لها: سأجلس في البيت حتى السنة القادمة. فردت علي بحدة:" ستذهبين إلى الجامعة هذه السنة". عصفت نار في داخلي ولمعت فكرة الهروب في مخيلتي فصرخت:" لن أرجع إلى الجامعة ولا أريد شيئا على الإطلاق". أجابت بهدوء:
_ ماذا تريدين؟ الجلوس في البيت؟ حسنا. لكن، البنت التي تفضل البقاء في البيت لا ترفض عريسا إذا تقدم لها.
قالت كلامها وتركتني وسط الخوف أجرجر روحي المتسوّلة التي أحست باقتراب ساعة إزاحة الستار لرفع الطبق عن المستور وكشف ذلك السر الخطير. تركتني في قهري منهزمة تحت وطأة وجعي الممتدّ من سمائي المحترقة. قلبي كئيب يدق بلا حلم وفكري يلهث من مطاردة العواصف، يئن من جمرة الظلم التي تحرقه. تمنيت الانتحار لكنه من المعاصي، كما ستكثر الشائعات عليّ والتشدق باتهامات باطلة. مرضت كثيرا و صاحبني الشعور بالغثيان وبوجع في معدتي، وفي الليل تصطك أسناني وأرى كوابيس في منامي. كابوس واحد يتكرر كل ليلة. أرى ريحا هاربة من الصحراء، حاملة معها صراخا يئن من جرح قديم وأنا أجري فوق رمال تلتهمني وأحيانا تجرني بعيدا عن مسار الريح، تهوي بي بين الجبال والتلال لتقذفني أمام عشرات من الرجال على مقدمتهم أبي حاملا خنجرا يتراقص في كفه على إيقاع طبول صاخبة وزغاريد ثكلى بفجيعة ليلة ليست ككل الليالي وأنا أجري وأتعثر في فستان العرس الأبيض، أصرخ وأبكي وأبي يلاحقني محاولا قتلي، أقع على الأرض ووجع بداخلي يتوسل تلك الوجوه الممسوخة بقهقهات الجهل وحب الدم. يتقدم أبي من بينهم ويغرز خنجره في صدري. فأستيقظ من ذلك الكابوس فزعة وألم ينخر في مفاصلي ودموعي ترتعش على خدي.

يتبع


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس