عرض مشاركة واحدة
قديم 14-11-13, 10:09 PM   #11

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Elk


الفصل التاسع



صدمة مفاجئة



أصبح البحث عن عمل جديد شغلي الشاغل، في المساء أخرج مع نبيل وسوزان وبناتها للتنزه في مركز المدينة أو في القرية السياحية. عملت سوزان فترة في المركز الدبلوماسي لكنها استقالت بسبب زوجها الذي كانت له علاقة مع السكرتيرة الحبشية فلورانس. لم تحتمل خيانته المكشوفة ولم تستطع طلب الطلاق منه بسبب بناتها. تظل منزوية على صيحات قلبها المليء بالندوب في بحر الكراهية، يحرقها حزن مجنون، عميق كجهنم، ويكويها إحباط شاحب كالموت. تتحسر على سعادتها الضائعة وهي تخرج من خسارة لتقع في أخرى داخل نار وحدتها وعدم الرغبة في العمل خارج البيت رغم العرض المغري من هيئة الأمم المتحدة في طرابلس. تواجدي في المركز كان بالنسبة لها كغيمة من نور. نقضي ساعات خلف ذيل الشمس في حديقتها، كلانا تستعيد أنوثتها المسلوبة التي لا تنتهي و تروي قصيدتها التي لم يكتبها شاعر أو خطها كاتب. أحيانا ضحكنا كالبكاء وأحيانا أخرى يجلجل سأمنا صليل اللا أمل. ذات يوم خرجت وحدي أبحث عن عمل وعندما رجعت إلى المنزل منهوكة القوى،وجدت نبيل مذعورا يترقب مجيئي أمام باب الفيلا. لم أره قط على ذلك النحو، هرولت نحوه مذعورة:

_ ما بك يا دكتور؟

ـ اليوم، سنذهب إلى المطار يجب أن تغادري طرابلس بل ليبيا كلها.

لم أصدق ما سمعت منه وكأنني في حلم.

- لا أريد الرجوع إلى المغرب، هل فهمت؟ يستحيل أن أرجع إلى المغرب...

ـ هذا أمر ليس بيدك ولا بيدي لقد جاء أربعة من الرجال يبحثون عنك.

ـ يبحثون عني أنا... لماذا؟

ـ جاءوا هذا الصباح إلى المركز منعتهم من الدخول، فأخبروني بأنهم من اللجان الثورية.

ـ من أنا حتى تبحث عني اللجان الثورية؟

ـ لا تخافي يا غالية شكلهم لا يدل على ذلك، إنهم فقط عصابة المدير الذي كنت تعملين في شركته.

ـ المدير ... لماذا ... وكيف عرفت ذلك...

ـ أعطوني رسالة يقولون فيها بأنك مادمت في البلد لن تفلتي من قبضتهم حتى يرجعوك للمدير. هذا اللعين الذي لم ينس إهانتك له، لا بد أن نذهب الآن إلى المطار ونرى إن كانت هناك رحلة إلى المغرب.

ـ إن رجعت إلى المغرب معناه سجن أبدي وقمع شديد لحريتي.

ـ غالية، ألا تعرفين مدى خطورة تواجدك هنا، إنه السجن الحقيقي والقمع الوحشي، إنهم يغتصبون البنات ويقتلونهن ثم يرمونهن في مكان مقفر كما ترمى القمامة. هيا اجمعي ملابسك بسرعة.

ذهبت إلى نفسي في غرفتي، وجدتها تصطدم بخنجر الموت وروحي تسيل وأنا مذهولة في رعب أجمع كتبي وملابسي المحكوم عليها بالمنفى، كالسكران لا أعرف ماذا يجري.

لحق بي نبيل. هل أنت جاهزة؟

ـ نعم، أنا جاهزة.

ـ هيا بنا؟

ـ وسوزان؟ أريد أن أودعها هي وبناتها.

ـ إن سوزان غير موجودة في البيت، هيا بسرعة.

خرجنا متجهين إلى السيارة كاللصوص ثم انطلقنا بسرعة جنونية إلى المطار.

ـ لماذا تقود سيارتك بسرعة؟ أنا لست إلا فتاة عادية لا دخل لي في السياسة.

كنت أرتجف خوفا من الرجوع إلى صحراء الحرمان ومن يغثني من تصوب الرماح التي ستخترق روحي وجسدي الذي يحمل علة سره وما من جدار يقيني وأنا أئن بلسان جريح داخل خيمة التقاليد. سَيٌحْكَمٌ علي بالزواج القسري بعد أن كنت حرة مستقلة بعيدا عن هواجس السر الخطير وما سيسببه لي من هلاك. صدمة مفاجئة لم أكن أظن يوما أنها ستحصل لي وتقودني بوحشية إلى ساحة الموت. هوت صيحتي وأنا أحاول إمساكها في دهاليز التاريخ ورواية المظلومين. هل أهرب وأترك نبيل؟ لكن إلى أين سأذهب؟ نبيل حتما سيخبر أهلي بهروبي فأكون من الضالين والمغضوب عليهم إلى يوم القيامة. وصلنا إلى المطار وجد نبيل صعوبة في إيجاد مكان لإيقاف سيارته، بدأ يسب ويلعن، أوقف السيارة أمام باب المطار من غير أن يراعي اعتبارا لإشارة المنع. حمل حقيبة ملابسي وأسرعنا إلى مكتب الخطوط الجوية المغربية. سأل أحد الموظفين بالمكتب.

ـ من فضلك يا أخ، هل من تذكرة إلى فاس؟

ـ ليس هناك خط مباشر إلى فاس. هناك خط من طرابلس إلى الدار البيضاء ثم إلى فاس.

ـ لا بأس، أريد تذكرة واحدة.

ـ متى تريد السفر؟

ـ لست أنا الذي سيسافر... هذه الفتاة.

ـ اليوم مستحيل. مقاعد الطائرة محجوزة كلها، يمكنك أن تأتي غدا ربما يتخلف مسافر فتأخذ مكانه.

ـ هل هناك مكان في الدرجة الأولى؟

ـ لا، يا سيدي. كل المقاعد محجوزة.

ـ من فضلك ساعدنا هذه الفتاة لا بد أن تسافر اليوم عندها موعد ضروري مع طبيبها الخاص في المغرب.

ـ ليس لديك حل إلا أن تقطع لها تذكرة إلى تونس، من الخطوط التونسية رحلة واحدة من طرابلس إلى تونس العاصمة، ومن تونس إلى باريس ثمّ إلى الدار البيضاء هذا الحل الوحيد.

التفت إلي وقال:

_ هيا بنا إلى الخطوط التونسية.

كان يهرول وأنا وراءه أجرجر ضياعي، تائهة في حلم مزعج في النهار. دخلنا إلى الخطوط التونسية وتمكن من شراء التذكرة. موعد انطلاق الرحلة بعد أربع ساعات. اتجهنا إلى مكان تسليم الحقائب. كان نبيل خائفا يلتفت يمنة ويسرة كالهارب من العدالة. هذه المرة شعرت بالرعب وتأكدت من خطورة الأمر مع أنني لا أعرف من الذي يلاحقني. التفت إلى حقيبتي: يا إلهي! اختفت الحقيبة.

ـ انسي الحقيبة الآن سننتظر ختم جوازك ولنذهب إلى قاعة الانتظار، سأشتري لك ملابس وأرسلها لك بالبريد.

- لا أريد أن تشتري لي ملابس أريد فقط حقيبتي.

أمسك يدي من غير أن يقول شيئا ختم جواز سفري ثم أسرع بي إلى قاعة الانتظار. لأول مرة أرى نبيل شاحبا والخوف لا يبرح عينيه.

ـ حافظي على حقيبة نقودك وعلى الجواز أهم شيء جواز سفرك إياك أن تضيعيه.

كنت ضائعة تائهة لا أعرف ما يجري حولي، أمسكت على يده بقوة ولأول مرة أحسست أنني لا أريد أن أبتعد عنه، انفجرت أبكي غير مبالية بالمسافرين الذين كانوا يجلسون في القاعة، يا إلهي، هذه المرة لن يسمح لي أبي بالسفر مرة ثانية. أريد أن أبقى بجانبك، وجدت فيك الأخ الرحيم والصديق الوفي. بجانبك أشعر بالراحة والسعادة، بجانبك أشعر.. بٌحَّ صوتي وسط زحمة المسافرين.

ـ كفى بكاء أنا معك وسأظل بجانبك حتى تصلي إلى هدفك. سأظل على اتصال بك وبعد ستة أشهر سأقضي إجازتي عندكم في المغرب وهناك سأعمل كل جهدي لكي تسافري إلى أمريكا.

توقفت عن البكاء، ومسحت دموعي، التفتّ إليه في اندهاش واستغراب، لكن.. لكن... لماذا تساعدني؟

ـ لأنك فتاة مختلفة عن الكثيرات اللواتي صادفتهن خلال حياتي سواء في عملي أو خارجه. إنك تختلفين عنهن في كل شيء لذلك أحببت صداقتك وأتمنى استمرار علاقتي بك. تعرفين يا غالية، لي ابن يصغرك ثلاث سنوات، هو الآن يدرس في ألمانيا. تمنيته أن يكون مجتهدا مثلك وأن يكون بذكائك وسلوكك. أمسك يدي وقبّلها، أنت في مرتبة ابني بكر، اطمئني لن أتخلى عنك.

حان وقت الرحيل، أخرج نظارة سوداء من جيب قميصه ووضعها على عينيه، ظل واقفا ينظر إليّ حتى اختفيت عن بصره وأنا أترجّل طوفان ذاكرتي الموبوءة داخل الطائرة الكئيبة. أخذت مكاني وفي يدي حقيبة الصبا تقع فجأة على متن العاصفة والطائرة وحيدة في صحراء ذلك الفضاء، متشحة بالحزن تهمس في أذن السماء المضطربة وتمسح على جبينها غضب البحر داخل قرقعة الصمت، متجمّدة الأنفاس خوفا من صاعقة قد تقبل إليها من السماء مليئة بالنار والموت إلى أن حطت بمطار تونس العاصمة. دخلت إلى قاعة الانتظار مع المسافرين الذين سيكملون الرحلة إلى باريس. الانتظار يقتلني ويحييني وأنا أمسك قلبي بيدين دامعتين، مستسلمة لعاصفة البحر، أطفو فوق الأمواج خائرة وهي تقودني من غير رحمة إلى الأعماق وإلى المجهول. الرحلة من تونس العاصمة إلى باريس طويلة، نظرت إلى البحر من نافدة الطائرة، الشمس غابت ولَوَّنَ الظلام كل السماء وغطى وجه البحر بخماره الأسود وأنا مازلت أتخبط وسط تلك المياه الباردة، أضغط على قلبي بقوة فيخفق دموعا تحرق عيني، اختنقت أنفاسي وانسدت جيوب أنفي وبدأت أسعل وأدق على صدري كالذي أصابه الصرع، سمعت صوتا يقول لي: ما بك يا آنسة؟ هل أنت مريضة؟

ـ إن حرارتها مرتفعة.

أحسست بيد عريضة تمسح العرق عن جبيني.

ـ تفضل خذ هذه القطعة من القماش بها قطع من الثلج علها تنزل حرارتها.

وَضَعَتْ اليد العريضة الثلج على جبهتي، أسمع صوت المضيفة التي كانت تأتي من حين إلى آخر وتسأل ذلك الرجل عن حالي. فتحت عيني رأيت شابا في الثلاثينات ينظر إلي مبتسما: حمدا لله على سلامتك.

ـ أين حقيبتي؟ بها جواز سفري، أريد حقيبتي.

أجاب الشاب مبتسما: لا تخافي، حقيبتك في أمان. كيف تحسين الآن؟

ـ أنا بخير، أنا لست مريضة أريد أن أرجع إلى مقعدي.

حاولت أن أنهض من مكاني فأحسست بدوار في رأسي وبصوت كصوت البحر يخرج من أذني محدثا آلاما في رأسي، لم أعد أرى شيئا وكأنني فقدت بصري. أعلن ربان الطائرة أنه حان وقت الهبوط وعلى الركاب أن يربطوا الأحزمة. قدمت إليّ المضيفة وجلست بجانبي ولم تفارقني حتى توقفت الطائرة. صعد رجلان من الإسعاف إلى الطائرة، سمعته يقول لزميله باللغة الفرنسية ضغطها مرتفع جدا، لابد من نقلها بسرعة إلى المستشفى. قال آخر: أين جواز سفر المريضة؟

ـ تفضل سيدي هذه أيضا تذكرة سفرها.

ـ ليست لديها إقامة في البلد والمفروض أن يأتي الطبيب لفحصها بالمطار.

أسمع صوتا يقول: إنها متوجهة إلى المغرب.

يسأل صوت آخر: ألا يمكنكما أن تسعفاها هنا في المطار؟

أجاب رجلان بصوت واحد: لا بد من نقلها إلى المستشفى بسرعة. إن الضغط مرتفع ودقات قلبها غير منتظمة.

ـ آنسة، ما اسمك؟

قلت بلسان متثاقل: إسـ م ي غ اليـ ة.

أمسك الطبيب بيدي وأدخل حقنة في عضدي، بعدها لم أشعر بشيء. تسلل إلي نفس الكابوس الذي كان يتردد عليّ من حين إلى آخر. أجري وأبي يلاحقني بسكين وإخوتي يتبعونه ويصرخون: اقْتٌلْ خائنَةٌ العِرْضْ، أٌقْتٌلْ خائنَةٌ الشَّرَفْ وأنا أجري وألهث وقدماي تتعثران في فستان أبيض. تصاعدت حرارة جسمي والعرق يتصبب بغزارة، أهذي بكلام غير مفهوم. اقتربت ممرضة مني وقالت بلهجة مغربية: لا تخافي أنت تحت الرعاية في المستشفى. ناولتني حقنة في عضدي، اختفى الكابوس واختفيت من الوجود كله ولم أعد أعرف في أي منطقة في الكون أسبح إلى أن فتحت عينيّ المرتعشتين من أشباح حلم اليقظة وعقلي مازال يتمايل كالسكران بين خيالات الأحلام. سمعت صوتا باللهجة المغربية موجها إليّ: كيف حالك آنسة؟

ـ هل أنا في المغرب؟

ـ لا، أنت في المستشفى في باريس. لقد جئت هنا منذ يومين؟

ـ ماذا تقولين؟ يا إلهي، يجب أن أخبر نبيل بما جرى لي كي يطمئن أهلي.

ـ أعطيني رقم الهاتف لكي أتصل به.

حملت سماعة التليفون وطلبت الرقم، نظرت الممرضة إلي وهي تبتسم:

ـ الجرس يرن.. ألو، مساء الخير سيدي هل يمكنني أن أتكلم مع الدكتور نبيل؟

ـ … أنا؟ اسمي نجية، ممرضة في مستشفى بباريس. ناولتني السماعة، ألو نبيل أنا غالية. أنا بخير جدا، لا تقلق لأمري. ارتفع ضغط دمي في الطائرة وأحضروني إلى المستشفى ... هل أخبرت أهلي عن مغادرتي لليبيا ... لا، لم أفعل ... الحمد لله... كنت قلقة جدا.... متى ستغادرين باريس؟..... لا أعرف سأطلب الدكتور حالا عله يسمح لي بمغادرة المستشفى اليوم ... أريد التحدث إلى الممرضة... تفضلي آنسة يريد أن يتكلم معك... ألو. … حاضر. ….. حاضر. لا تقلق سيدي، غالية لن تخسر تذكرة رجوعها إلى المغرب. كل شيء ترتبه السلطات الجمركية على أحسن وجه… حاضر. غادرت الممرضة الغرفة وتركتني وحيدة أفكر في الحوار الذي جرى بيني وبين نبيل. صوته مازال يرن في أذني وكأنني لم أغادر ليبيا وأن كل ما حدث منذ أخبرني بملاحقة تلك العصابة لي. حتى تلك اللحظة عبارة عن حلم و وهم. جلت ببصري داخل الغرفة، بجانب السرير خزانة صغيرة عليها جهاز الهاتف، باقة من الورد في مزهرية وأمامي تلفاز صغير معلق بالجدران. أنا فعلا لست في حلم. دخل الدكتور والممرضة المغربية.

ـ كيف حالك الآن؟

ـ أريد مغادرة المستشفى.

جس نبضي وقال: لقد أصبح الضغط عاديا.

نظر إلى الممرضة المغربية وتبادلا حوارا بالعينين. التفت إلي مرة أخرى وقال: تريدين مغادرة المستشفى إلى أين؟

قلت بعصبية: أريد أن أغادر المستشفى وباريس وفرنسا كلها هل لديك مانع؟

ـ سنتصل بالمطار ونرى متى توجد رحلة إلى المغرب. ابتسم وربت بيده على كتفي ثم غادرا الغرفة.

هل يظنني أريد الخروج من المستشفى والإقامة في بلده بطريقة غير مشروعة؟ هل الممرضة المغربية.. لا، لا أظن ذلك. لكن، لماذا كانا ينظران إلى بعضيهما عندما قلت أريد مغادرة المستشفى؟ تبا لهم جميعا وتبا لهذه الدنيا وللعصابة ونبيل الذي استغنى عني وأرسلني كبريد مستعجل في الطائرة. ما زلت أسب وألعن حتى أغمضت عيني وخلدت لنوم غير مريح، إلى أن أيقظتني لمسة الممرضة.

ـ آنسة غالية، هناك رحلة إلى المغرب الليلة، سيصحبك الشرطي إلى المطار.

ـ ماذا قلت؟ شرطي؟

ـ نعم، لقد رافقك منذ خروجك من المطار ومازال هنا إلى أن يرافقك.

_ يا لغرابة الدنيا، في طرابلس ألاحق من عصابة إجرام وفي فرنسا يرافقني شرطي إلى المستشفى. متى سأغادر المستشفى؟

ـ الآن إن أردت فموعد الرحلة بعد ثلاث ساعات. سأذهب لإحضار الطبيب.إنه يريد مقابلتك قبل أن تغادري.

أسرعت إلى الحمام. اغتسلت ولبست ملابسي. نظرت إلى المرآة، وجهي كان شاحبا وجسمي يرتعد من الجوع. لم أكل شيئا منذ فطوري مع نبيل. سمعت طرق الباب.

ـ آنسة غالية، هذه ورقة مني إلى طبيبك الخاص تشرح حالتك.

ـ ماذا بي؟

ـ لا تقلقي الأمر ليس خطيرا كما تظنين.

ـ إن كان الأمر ليس خطيرا، فما هو إذا؟

ـ إنه كثرة التفكير وإرهاق الأعصاب.

ربت على كتفي وقال: سفر سعيد.

اتجهت إلى باب الغرفة مودعة الممرضة المغربية التي كانت تغير غطاء السرير. كان الشرطي جالسا على أريكة يشرب القهوة، بمجرد أن لمحني وقف مبتسما، حمدا لله على سلامتك. هل أنت جاهزة؟. أمسك حقيبة كتبي، ثم انطلق يمشي بخطوات سريعة وأنا أتعثر وراءه إلى أن خرجنا من المستشفى. كانت سيارة أجرة واقفة أمام الباب. تقدم الشرطي وفتح باب السيارة الخلفي وجلس بجانبي ثم طلب من السائق أن يتوجه إلى المطار. انطلق بنا السائق داخل شارع الشانزاليزيه المكتظ بالسيارات. الطقس بارد والسماء مكسوة بالضباب، كل شيء يختلف عما تركته في ليبيا. توقفت سيارة الأجرة أمام باب المطار. دخلنا مسرعين إلى الداخل،كان المطار يعج بالمسافرين من كل بقاع الأرض. كنت أحس بالجوع، أخرجت خمس دولارات من حقيبتي وطلبت من الشرطي أن يحضر لي ساندويتشا. جحظ عينيه مستغربا ثم ضحك وقال: هل لهذه الدرجة الأطباء بخلاء؟ هيا ادخلي

إلى هذا المكتب سأحضر شيئا تأكلينه. شعرت بألم في معدتي وبدوار في رأسي، استلقيت على الأريكة، أنظر إلى السقف أراه وكأنه سيسقط على رأسي، أغمضت عيني ووضعت حقيبة كتبي على بطني علها تنسيني الجوع وتخفف من الألم، أتقلب على الأريكة يمنة ويسرة وأعض على شفتيّ إلى أن دخل الشرطي.

ـ ماذا بك آنسة؟

ـ هل أحضرت شيئا آكله؟

ـ تفضلي ساندويشا من الجبنة والسلطة وكأسا من الحليب.

أمسكت منه الساندويش وشرعت في أكل جزء منه بسرعة حتى اختفى الألم. وضعت نصف الساندويش على المائدة وغمغمت: الحمد لله ذهب الألم.

دخلت شرطية. تفضلي جواز سفرك والتذكرة.

التفتت إلى زميلها وقالت: رافقها إلى قاعة انتظار الرحلة رقم 114.قالت ذلك وغادرت. أما الشرطي فجلس وراء المكتب وقال: يمكنك أن تكملي أكلك.

ـ لم أعد أشعر بالجوع.

ـ إذا هيا بنا.

تبعته إلى أن وصلنا القاعة التي يوجد بها المسافرون المتوجهون إلى المغرب. مد إليّ حقيبة كتبي وانصرف.

حان وقت السفر توجه المسافرون إلى داخل الطائرة وخطواتي من ورائهم مثقلة بلا شيء، أداري أنفاسي المتجمدة، التفت إلى المسافر الذي يجلس في مكاني المفضل طلبت منه أن يغير معي المقعد، تردد أول الأمر، لاحظ عيني دامعتين فوافق على طلبي. عويل الصمت يخنقني وأنا أنظر إلى ساعتي التي لبست لحظتي القلقة، سمعت صوت الذي يجلس بجانبي: هل الأخت مغربية؟ التفت إليه وقلت بامتعاض: نعم، أنا من المغرب. خاطبني باللهجة المغربية: سميتي عبدو من الجديدة.شو سميت الأخت؟ لم تكن لي الرغبة في تبادل الحديث معه ورغم ذلك أجبته ممتعضة: اسمي غالية، ثم أدرت وجهي مرة ثانية إلى النافذة. أسمعه مرة ثانية يقول لي، رأيت البوليس معك في الْمَطار.... هل أرغمتك الشرطة على مغادرة البلد...؟ بعد سؤاله الفضولي لم أعد أتحمل انتظار أسئلة أخرى مثلها. التفتت إليه وقلت بصوت أقرب إلى الصراخ: هل تعتقد أن تغييرك معي للمقعد يمنحك الفرصة لإزعاجي. يمكنك أن ترجع إلى مكانك بشرط ألا أسمع صوتك مرة أخرى. قطب وجهه وأظهر ابتسامة خبيثة ثم قال: واه! واه! راكِ واعْرَة بْزَّافْ. صافي صافي الله يْعَاوْنِّي وْيْعاوْنْكْ. كان الوقت مساء والسماء تخلع ببطء وغنج فستانها الأزرق مستعدة لرداء قميص نومها الأسود المرصع بنجوم متـلألئة. كان منظر باريس في المساء رومانسيا، حالما بأضواء شوارعها ومعالمها السياحية. أثار انتباهي منظر برج إيفل، حملني بسحر شكله وجمال رونقه لحظة من الزمن إلى أن ابتعد عن نظري واختفى. شعرت بلمسة على كتفي، من فضلك آنسة، هل يمكنك أن تطلبي من المضيفة أن تعطيك الويسكي. جحظت عينيّ مستغربة وقلت له أنا لا أشرب الخمر. ابتسم وقال أعرف بأنك لا تشربين الخمر، الويسكي أريده لنفسي. سألته لماذا لم تطلب ذلك بنفسك. هذه المرة ضحك مبرزا أسنانا بنية ومتآكلة، لأنني شربت أكثر من المسموح به. قلت بامتعاض ما دمت شربت أكثر من المسموح به، لماذا تسمح لنفسك المزيد؟ قطّب على جبينه وقال باستعلاء، إنها لا تدفع ثمنه من جيبها وْزايْدونْ أنا دْفْعْتْ فْلوسي باشْ رْكْبْ فْطّْيَّارَ أٌ آكٌلْ وْ نْشْرْبْ كِمَّا بْغيتْ. ما هذه المصيبة التي تجلس بجانبي؟ لم يكن ينقصني همّ وإزعاج سواه. قلت له بهدوء مصطنع هل لك أن تعتبر أن المقعد الذي أجلس فيه فارغا وأنني لست موجودة. انفجر في وجهي وكأنه يريد بذلك أن ينقض عليّ، بْغيت غيرْ نْعْرْفْ آشْ كَيْكولِّكْ راسْكْ؟. شعور غامض استولى عليّ، وجه مكفهرّ وبصر ملتهب ، لا أدري لماذا شعرت بهاجس مفاجئ بالعطف عليه، سكن كلّ شيء بداخلي واستسلمت للهدوء. أقبل المضيف، ما الأمر؟ ولكي أداري خجلي، طلبت منه أن أغير مكاني. ابتسم قائلا، المقاعد الخلفية كلها فارغة. أمسكت صينية الطعام، وناولتها له، ألا تريدين أن تتعشي؟ لا، شكرا. لقد فقدت شهيتي. جلست على أحد المقاعد الخلفية ألملم شرود مستقبلي القريب في المغرب.


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس