عرض مشاركة واحدة
قديم 14-11-13, 10:14 PM   #14

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Rewitysmile25 تابع......

الفصل الحادي عشر الجزء 2

شرد عقل غالية بعيدا عن المطبخ وسافر إلى حلم لم يأت ولم يمر، وها هي في وحدتها الموحشة تنفض الوحل من بين جراحات لم تضمد ووجع لا ينتهي، جراح أحدثتها مخالب المجتمع المملوءة بالقبح والمغلفة بالقسوة، شعرت بالمرارة وهي تختبأ وراء عروقها التي تتصادم مع الزمن المجنون، ومن غير شعور ضغطت بالسكين على أصبعها، أحسته وكأنه بُِتر من مكانه. وقفت مرعوبة ترتجف ماسكة أصبعها والدم يسيل بغزارة. وقفت العمة مرعوبة، أمسكت يدها ووضعتها تحت الماء البارد وبعدما أسعفتها، رافقتها إلى غرفتها وقالت برجاء ملهوف:

ـ ارتاحي يا ابنتي سأحضر لك كوبا من عصير الليمون ليعوض ذلك الدم الذي فقدته.

بعد لحظات أقبلت الأم فوجدت غالية مستلقية على السرير.

_ كيف ستتعلمين الطبخ وأنت مستلقية على السرير؟

قالت سلمى: إن غالية جرحت أصبعها.

قالت الأم موجهة كلامها لغالية: مثلك لا يتعلم شيئا أبدا.

قالت كلامها وانصرفت بعصبية، أما غالية فانفجرت تبكي من تعامل أمها المليء بالجفاء. إن كانت غير قادرة على إعطاء الحب مثل أي أم في العالم فلماذا أنجبتنا.

_ قالت سلمى بخوف من تمردها:

_ لا تقولي هذا يا غالية طاعة الأم واجبة وحبنا لها واجب مهما كان سلوكها.

ـ اسمعي يا سلمى الحب مسألة فعل ورد فعل. كيف أحب من لا يراعي شعوري ولا يشعرني بحبه لي، كيف أطيع من لا يعرف من معاني الطاعة إلا الطاعة العمياء الخالية من التفاهم.

قالت سلمى بصوت مبتهل: إن الرسول أوصى بالوالدين وخصوصا الأم وأكد على ذلك ثلاث مرات.

ردت غالية بحسم: إن الرسول تكلم عن الأم الحنون التي تحب من غير مقابل وتسعى لمعرفة ما يدور في صدور أبنائها وترافقهم وتصادقهم وتحس بمشاكلهم وتسعى لحلها معهم. متى رأيت أمي تقوم بواحدة من هذه الصفات؟

قالت سلمى بصوت يملؤه الخوف: لا يا غالية هذا كلام إنسان عاق لا يعرف واجبه الذي أمره الله به.

ـ إنني أعرف واجبي جيدا لكن والدي هما اللذان لا يعرفان واجبهما، تجاهنا.

ـ لكن أمي لا تريد إلا أن نستقر مثل كل البنات ويكون عندنا بيت وعائلة وأولاد نفتخر بهم. انفجرت سلمى تبكي وأردفت

_ لا أريدك أن تكوني عاقة إنني أحبك كثيرا وأخاف عليك من جهنم.

ضمتها إلى صدرها وقالت: لا تخافي فأنا لم أفعل شيئا يغضب الله.



ثلاثة أيام مرت كانت الأم تتجنب أن تصطدم مع ابنتها في النقاشات المألوفة والتي لا تجلب إلا الهم والكرب، وفي صباح اليوم الرابع جلست كل العائلة حول مائدة الفطور سألتها:

_ كيف حال إصبعك الآن؟

أجابت:

_ إصبعي بخير.

قالت متنهدة:

_ إن سألتك زوجة السعداوي أو زوجة التهامي عن سبب جرح إصبعك إياك أن تقولي لهما عن خيبتك في المطبخ.

سألت غالية مستغربة: لماذا؟

قالت الأم وهي تحاول أن تبعد عنها آثار الغضب.

_ لا تسأليني لماذا.

رفعت غالية عينيها المحمرتين مثل جمرتين متقدتين وقالت:

_ لابد أن أعرف لماذا، قبل أن أجيب بشيء غير صحيح.

قالت الأم بصوت شبيه بالصراخ:

_ اسمعي يا بنت الكلام ولا تجادليني.

قالت غالية بهدوء مصطنع:

_ هل تريدينني أن أكذب أليس الكذب حراما أم الحرام فقط حرام وقت ما تريدونه أن يكون حراما والحلال حلال في الوقت الذي يناسبكم أن يكون حلالا.

تدخل الأب فجأة مقاطعا كلامها: يا لِّي يْكَصَّرْ عْمْرْكْ، سْكْتي عْنَّا.كٌومِي كِسِي غٌرْفْتْكْ.

أسرعت كالبرق إلى غرفتها وتركت أباها يزمجر ويسب ويلعن. لحقت بها سلمى، وجدتها تمشي إيابا وذهابا داخل الغرفة في ذلك الصباح المشرق الذي تحول إلى ضباب قاتم وهدوء ينم عن عاصفة هوجاء ستنفجر في أي لحظة.

اقتربت منها سلمى وقالت: اهدئي يا غالية فالغضب لن يفيدك في شيء.

ـ كيف أهدأ وأمي تحاول عرضي للزواج بأية طريقة.

ـ لا تقولي هذا! إنها أمنا أولا وأخيرا ولا تريد لنا إلا الخير.

ـ هل الخير بالنسبة لك أن نتزوج بهذه الطريقة؟ تعرضنا لمعارفها ومن تعجبه البضاعة يتقدم لطلبها.

ـ إنك تبالغين يا غالية إن ما تفعله أمي ليس خارجا عن نطاق التقاليد بل هو جزء من التقاليد.

ـ ماذا تعنين؟

ـ عندما تصل الفتاة إلى سن الزواج تحاول عائلتها أن تسهل عليها لقاء زوج مستقبلها بطريقة غير مباشرة، بتبادل الزيارات مع العائلات الذين عندهم أولاد لكي يحدث التعارف والزواج.

_ وطبعا إن أعجبوا بنا تقدموا لخطبتنا وإن لم نعجبهم عدلوا عنا، فتحول أمي تركيزها على عائلة أخرى. نحن لا نختار يا سلمى، هم الذين يختاروننا إن كنا أهلا للاختيار حسب ذوقهم. اسمعي يا سلمى، أريد أن أتصل بنبيل لابد أن يجد حلا ليخرجني من هذا السجن المظلم.

ـ لماذا تتحدثين هكذا يا غالية هل ترين البيت الذي ولدت فيه وترعرعت فيه بيتا مظلما؟

ـ نعم، مادام والداي يكبتان حريتي ويضغطان علي إلى درجة الاختناق.

ـ ما هذا الكلام يا غالية؟ إنك تتصرفين مثل صعلوك إزاء عشيرته.

ـ أهذا رأيك يا سلمى؟

ـ لا تسيئي فهمي يا غالية ولكن تصرفك هذا غريب وتضعين نفسك في مواجهة مع أهلك ومجتمعك. تريدين مغادرة عائلتك ومجتمعك وشعبك، وترفضين كل شيء حتى بلدك الذي ترعرعت فيه، إنك ترفضينهم رفضا مطلقا دون سبب معقول. هذا التصرف يا غالية ... هذا الرفض الأعمى في نظري تصرف صعلوكٍ أو متمرد إزاء أهله ومجتمعه.

ـ اسمعي يا سلمى إن المنطق والعقل يقول العائلة والقبيلة والدولة تكون مدينة لأفرادها ماداموا عناصر منتجة مجدة، لذا يَجب حقٌّ تصرف الفرد تصرفا غير مشروط فيما هو مِلْكٌٌ له، وحياتي هي ملكي أنا ولا أريد من أحد أن يسيرها على هواه.

ـ أحيانا تتكلمين بالألغاز، فأنا لا أستطيع فهمك ولا استيعابك في كل ما تقولين.

ـ إنني لا أعيش هنا بسلام وأخاف على سلامة روحي، هل في نظرك هذه الحياة التي نعيشها حياة سلام وطمأنينة ونحن نُعرض كل يوم كخراف للبيع لمن يرغب فينا من الرجال؟!

ـ ماذا تقصدين يا غالية؟ إنك أختي وصديقتي بل أنت روحي وأحبك أكثر من نفسي، هل تصارحيني وتفسري لي سبب ثورتك واندفاعك هذا الذي لا أستطيع أن أجد له أي مبرر؟

اقتربت منها نظرت في عينيها الدامعتين وقالت: لا يمكنك أن تفهميني ولا يمكنني أن أصارحك في كل الأمور فأحيانا الصراحة تقتل صاحبها.

فتحت سلمى عينيها مستغربة وقالت: إنك تخيفينني بألغازك هذه!!

ـ ألا تدركين يا سلمى كيف نعيش؟ إن التقاليد والعادات، إن كانت سلبية يجب أن تٌرفض وتٌحارب بشتى الوسائل، لكي نتحرر من العبودية والاستعباد ومن... وقفت ترشف حزنها خلسة ثم واصلت كلامها، ألا تدركين بأننا لا نملك التصرف في أنفسنا ولا حتى في أجسادنا؟

ـ ماذا تقصدين؟

ـ تعرفين ما أقصد ... لكنك تتجاهلين أنسيت ماذا فعلت أمنا بنا؟

ـ ماذا فعلت؟

ـ لقد أجرت لنا … لقد أجرت لنا..

بدأت تشهق بالبكاء وتضرب بقدميها على الأرض تبكي سنواتها الخاوية التي بعثرتها تكهنات المجتمع وقذفتها بظلمة ثملة حتى الوحل. تصرخ بأعلى صوتها وتلوح بيديها في الهواء: عليك اللعنة أيها المجتمع الفاسد برعونة التقاليد الممسوخة.

اقتربت منها سلمى ترجف وقالت بصوت يلبسه الخوف: ماذا بك يا غالية؟ لماذا تبكين؟ ماذا فعلت تكلمي ...

ـ أمي. ... أمي ... أجرت لنا عملية الختان في السودان.

ـ أنا لا أذكر ذلك كثيرا.

ـ كان عمرك أربع سنوات ونصف وعمري سبع سنوات. هربت عند الجيران واختبأت بسطح بيتهم لكنهم عثروا علي وأخذوني كما تؤخذ الدجاجة للذبح وجرني ابن خالتي في الحارة ورجلي تتمرغ في التراب أبكي وأطلب النجدة والأطفال مجتمعون في الحارة ينظرون إلي ويضحكون، مستمتعون ببكائي ونواحي. أمسكوني وأنا أصرخ بكل ما لدي من قوة وقطعوا جزءا من جسمي بشفرة غير معقمة أصبت بعدها بالتهاب عدة أسابيع حتى كدت أن أموت وأغمي عليّ، بعدها أخذوني إلى المستشفى. إنهم يريدون أن يعدّلوا

ما خلق الله، فيا ليتهم قطعوا لساني أيضا لكي لا أتكلم وبتروا قدمي لكي لا أمشي وقلعوا عينيّ لكي لا أرى. يا ليتهم قتلوني ليقولوا قتلناها لأنها لا تستحق العيش.

ـ غالية من فضلك لا تبكي إن الختان طهارة للفتاة ونظافة لها والأكثر من ذلك يحفظها من الوقوع في الرذيلة.

ـ عن أي خطأ تتحدثين...

بدأت سلمى تتلعثم خجلا، لم تستطع أن تقول ما أرادت قوله؟

ـ هل استحييت؟ لكي لا تمارس الجنس أليس كذلك وتفقد عذريتها.

ـ نعم، يا غالية لكي لا تشعر بالرغبة وتمارس ما حرمه الله وتفقد أعز شيء تملكه الفتاة.

_ من يفقدها ذلك الشيء الأعز في نظركم، أليس الرجل، فلماذا لا يخصونه هو أيضا حتى لا يمارس الجنس بطريقة غير شرعية؟

_ الختان عفة وطهارة للفتاة.

انتفضت غالية غاضبة: أوافقك الرأي، لكن لما أتزوج ويصبح الجنس بيني وبين زوجي حلالا فأين هي الرغبة لكي أمارسه؟ تكلمي يا سلمى هيا أجيبيني.

قفل الصمت غالية داخل ظلمة التقاليد المرتبكة والموروثة، تنظر إلى الأرض وعيناها تنزف دموعا محرقة لمجتمع تلبسه العلل.

ـ إنهم يريدون أن يحفظوا المجتمع من الفساد باستئصال بظر الفتاة، فلماذا لا يستأصلون عضو الرجل أو يخصونه؟ أجيبي، هل المرأة تمارس الجنس لوحدها؟ إن التقاليد والعادات سنت لخدمة الرجل واستعباد المرأة. ألم تسألي نفسك يوما لماذا لم تٌخْتَنْ منى والعنود؟ لماذا أنا وأنت فقط يطبق علينا هذا التقليد الأعمى؟ حتى التبول لا نستطيع فعله بسهولة والالتهاب رفيقنا دائما. لماذا كل المشاكل التي نتعرض إليها سببها هذا العضو، يا ليتني خلقت من دونه.

قالت سلمى: والدة منى والعنود رحمها الله مغربية، والمغاربة لا يختنون بناتهم.

ـ ها أنت تجيبين نفسك، أليس من الواجب أن يكن أيضا مختنات مثلنا حتى تلبسهن الطهارة والعفة؟ لقد جعلتنا أمنا نختلف عن كل البنات في المغرب. هذا البلد الذي ولدنا وترعرعنا فيه والآن تريد أن تزوجني بطريقتها وتصادر حريتي لكن هذا لن يحصل أبدا ولو وضع السيف على عنقي.

انفجرت سلمى تبكي قائلة وهي تجهش بصوت يتقطع في حنجرتها:

ـ أتظنين أنني لا أعاني مثلك؟ إن لدي نفس الشعور الذي بداخلك ونفس السخط والتمرد لكنه مكبوت في قلبي، لا أستطيع إخراجه. إنني أخاف من غضب والديّ علي.

كانت ترتجف وتبكي، تمنت غالية أن تضمها إلى قلبها وتبكي معها لكي تفرج عنها وعن نفسها، لكنها اكتفت بالبكاء في صمت مبدية ابتسامة مصطنعة على شفتها لكي تهدئ من روع أختها.

ـ اسمعي يا سلمى لقد شاهدت بعينيك كيف تزوجت منى والعنود. اختار لهن أبي العريسان وأجبرهما على القبول، تزوجتا لكي لا يسخط عليهما، وكل واحدة منهما أنجبت خمسة أطفال. ماتت كل طموحاتهما في المطبخ وغسل الأواني وتربية الأولاد. أنا لا أريد أن انتهي مثلهما.

توقفت سلمى عن البكاء وقالت: ماذا قررت أن تفعلي؟

ـ أريد أن أتصل بنبيل هو الذي سيساعدني.

ـ فماذا تنتظرين اتصلي به الآن.

ـ ليس الآن يا سلمى عندما نذهب لنتفقد النتيجة نمر بطريقنا إلى مركز البريد ونتصل به من هناك.

دخلت الأم من غير أن تطرق الباب وقالت: ماذا تفعلان؟ قوما بسرعة إن الضيوف سيأتون حالا، هيا اذهبا عند الكوافير لتصفف لكما شعركما تسريحة جميلة.

قالت غالية:

_ لماذا الكوافير هل ستزف أحدنا؟

قالت الأم:

_ إن كان سيزف أحد فهو أنت وسأفرح بك الفرحة الكبيرة التي تفرحها كل أم.

قالت كلامها ذاك وانصرفت. نظرت غالية إلى سلمى مشدوهة وصدغاها يهدران كالمطارق، كل ما في الغرفة يدور من حولها وكأنها زوبعة هوجاء تترنح. أحست بالبرد رغم حرارة الطقس، تشد على رأسها ودمعها يتأسى على حزنها، فزعة من تلك الليلة التي ستقف فيها على قبرها، صدى مدوّ بداخلها ينادي النجدة، تخفي وجهها تحت ضلوعها وتحت الحسرات، لقد عانيت طوال حياتي... عشت حزنا عميقا وأسى على فقداني عذريتي... لكنني لم أكن أعرف أن الأيام والشهور والسنين ستمر بهذه السرعة وأنه سيحين وقت زواجي. ماذا سأفعل؟ هل أهرب؟ لا... إنه عار. هل أرجع إلى ليبيا عند نبيل؟ لا. ذلك مستحيل. هل أستسلم؟ لا وألف لا. إن فعلت، سيٌكْتَشَفٌ بأنني لست عذراء وستكون نهايتي على يد أبي أو أحد إخوتي. لا ... لن أعطي لهم هذه الفرصة. لا بد أن أنجو بجلدي قبل أن أفضَحَ أمام الأهل وأمام القريب والبعيد.

نظرت إليها سلمى وقالت: لماذا صار وجهك شاحبا؟

قلت لها بعصبية: أحيانا تطرحين أسئلة غبية ألم تسمعي ماذا قالت أمي؟

ـ نعم لقد سمعتها، لقد أمرتنا أن نذهب إلى الكوافير.

ـ إنها قالت إن كان سَيزَفّ أحد فسوف يكون أنت.

ـ من؟ أنا؟

ـ لا، أنا أريد جواز سفري، يجب أن تحضري لي جواز سفري.

ـ إن أمي تحتفظ به.

ـ أحضريه لي بأي طريقة.

ـ إلى أين ستسافرين؟

ـ لا أعرف! المهم أريد جواز السفر الليلة.

قالت سلمى وهي تبكي:

_ هذا مستحيل يا غالية! ماذا سيقول الناس عنا؟ ابنة القاضي سلطان هربت من منزلها.

أقبلت الأم ثانية فوجدت سلمى تبكي فقالت بعصبية:

_ لماذا تبكين؟

قالت سلمى متلعثمة:

_ لا شيء يا أمي. فقط.. فقط…

ـ هيا قوما بسرعة واذهبا إلى الكوافير، إن الوقت يمر بسرعة.

قالت غالية: الضيوف دائما يأتون عندنا، فلماذا هذه المرة بالذات يجب أن نذهب إلى الكوافير؟

قالت الأم وعيناها متسعتان فرحا: لأن اليوم خطوبتك يا غالية من عماد ابن السعداوي والله كبرت وصرت عروساً.

غادرت الغرفة وهي ستطير من الفرح.

قالت غالية لسلمى: لن أسمح لهما أن يرغماني على الزواج حسب ذوقهم.

ـ هل تعتقدين أن عائلة السعداوي سيأتون لخطبتك؟

ـ ألم تسمعي ماذا قالت أمي؟

ـ لكن، كيف أنا لا أفهم شيئا، بهذه السرعة؟

ـ ألم تلاحظي عندما كنا ببيت السعداوي، كيف كانت السيدة عبلة طوال الوقت عيناها مركزة عليّ.

ـ بلى أذكر، وجاء اليوم لكي يتفقوا على تسليم البضاعة. هل ستتصلين بنبيل؟

ـ لا، لن أتصل بنبيل لا أعتقد أنني سأراه مرة ثانية.

ـ ماذا تريدين أن تفعلي؟ الضيوف سيأتون بين لحظة وأخرى ونحن لم نهيئ أنفسنا.

ـ إن أردت أن تذهبي إلى الكوافير فافعلي أما أنا فلن أذهب ولن أقابل الضيوف وليكن ما يكون.

ـ لكن هذا مستحيل، ستثيرين غضب أمي وأبي وستكون ليلتنا ليلة سوداء.

ـ لم أعد أخاف من العقاب ولا من السخط والتهديد. لقد سئمت كل شيء.

ـ بدأت في فلسفتك الثقيلة.

ـ أرفض أن يختار لي والداي من يريدان، أريد أن أختار من أحب بنفسي. إن واجبي تجاه والديّ أن أطيعهم فيما يرضي الله، وإرغامهم لي على الزواج بمن لا أحب يغضب الله.

ـ وما العمل الآن؟

ـ اذهبي إلى الكوافير أما أنا فلن أبرح الغرفة وليكن ما يكون.

ـ لن أتركك متوترة هكذا لن أتركك وحدك في هذا الموقف!

ـ ألا تخافين من غضب أمي؟

ـ لا يهمني ذلك.

عم هدوء مخبأ تحت بحر سيقفز فجأة على متن عاصفة وسلمى حزينة لا تعرف ما يجول بخاطر أختها ولا تريد أن تتركها لوحدها في الغرفة تقتنص أثر دموعها المبتل بعلة سرها. أخذت كتابا من خزانة الكتب، تختلس النظر إليها وفي نفس الوقت تقلب صفحات الكتاب بعصبية وبسرعة محدثة بذلك خشخشة تؤلم رأس غالية وتنزل على مسامعها كوخز الإبر. كانت مقرفصة وسط السرير في عزلتها المنفية وجسمها يرتعش في ذلك الصباح المشرق تنوح أجنحتها المتكسرة وتلعق سراب مطاردة كابوسها الذي يزحف ببطء وسط تلك العزائم المفتعلة. نهضت من مكانها خائرة القوى تمشي ببطء في الوحل وتتكئ على جدران القسوة نحو خزانتها. مدّت يدها على علبة الدواء، أقراص نوم وصفها طبيبها ضد الإحباط والإرهاق. أزاحت يدها بسرعة في هدوء لكي لا تلفت نظر سلمى التي كانت تسرق النظر إليها بين الفينة والأخرى. تنفث كريح غاضبة، " خسرت معركتي مع أهلي التي استباحت إنسانيتي وسحقت اعتباري". رجعت إلى سريريها في هدوء كمن يمشي وهو نائم. استلقت تحت لهاث مستتر، وغثيان مشروخ تحت غطاء ظلمة بائسة. هل أفعلها وأرتاح من هذا العالم المسكون بلعنة الشهوة والأنانية؟ هل أترك أهلي وخصوصا عمتي صفية وسلمى؟ تبعثرت تمنياتها في ليت وأحلامها بين أفعال المستقبل المفقودة وها هي تتلو صلواتها الصوفية علها تحلل ذاتها. "لن أعطي لهم الفرصة أن يزوجونني. لابد من الهرب. لكن، إلى أين؟ " عضت على لسانها من غير أن تشعر، أوقف طعم الدم في فمها ذلك التفكير الذي كان يفور كبركان عبر قرون قلقة من الزمن. قفزت من السرير مسرعة إلى الحمام فإذا بها تجد أمها تتوضأ لصلاة الظهر. قالت لها بصوت آمر:

_ ألم تذهبن إلى الكوافير؟ إن عائلة السعداوي ستأتي اليوم لخطبتك، لابد أن تلبسي أنت وأختك الفستانين اللذين اشتريتها لكما من "دبي" الصيف الماضي وبسرعة إنني لا أحب التلكؤ هيا بسرعة.

قالت كلامها وذهبت للصلاة. دخلت غالية إلى الحمام، غسلت فمها ودموعها المتشبثة بها تنهمر مقاسمة عويل الصمت في أنفاسها. نظرت إلى المرآة فأرعبها وجهها الشاحب وعينياها المنتفختان. تحاول أن تستجمع شتاتها المتناثر لتصير أكثر تناسقا لمقابلة الضيوف حتى لا تغضب والديها. تأملت وجهها الذي يعج بالأرق المفزع. فجأة خطر ببالها عمتها صفية، اعتصر قلبها. " إن رحلت عنها سأتركها في عتمة مبهمة يفتك بها ضغط الدم، لكن أفضل من أن تظن أنني فتاة غير طاهرة وشريفة ".خرجت من الحمام مهرولة إلى المطبخ . وجدتها منهمكة كعادتها في تحضير الأكل. حبيبتي عمتي، تنظر إليها ومفاصلها ترتعش أما العمة فكانت تحدثها وتركيزها على الأكل داخل الطنجرة:

ـ هذا الأكل لابد أن يكون لذيذا ألم تذهبن بعد إلى الكوافير؟

ـ سأذهب حالا يا عمتي.

ـ هيا بسرعة لكي لا تغضبي أمك إنك تعرفين كم هي عصبية.

ـ نعم عمتي، فقط جئت لأقبلك لأنني ذاهبة الآن.

همست في أذنيها أحبك يا عمتي، ثم انحنت فوقها تقبل جبهتها وعنقها ورأسها قبلات طويلة حارة خرساء.

_ فراقك سيسلبني الحنين إليك لكن سأحبك ولو عرفت أنني سأغادر بعد حين..

كانت هي تضحك وتقول:

_ هل أنت مسافرة؟ ستذهبين فقط إلى الكوافير.

_ نعم، عمتي سأذهب فقط عند الكوافير … وداعا يا أحلى عمة في العالم.

ضحكت ويدها لم تتوقف عن تحريك اللحم داخل الطنجرة. أسرعت غالية إلى غرفتها وصرخات الوداع تنهشها، وجدت سلمى تنتظرها ووجهها ملتف بالحزن، نظرت إليها وقالت:

ـ أين كنت يا غالية؟

ـ أين سأكون؟ بالحمام طبعا. ألن تصلي هيا اذهبي وتوضئي.

ـ معك حق يا غالية إن التفكير شغلني عن الصلاة.

نهضت متثاقلة وهي تمسح عن جبهتها ارتباكها ثم توجهت إلى الحمام. أسرعت غالية إلى قنينة الدواء فتحتها والخوف يبسط رداءه متراميا على جسدها المرتعش، وقعت العلبة من يديها وتناثرت الأقراص على الأرض. جلست على ركبتيها بسرعة تلتقطها واحدة تلو الأخرى وتبتلعها. رفعت يديها تطلب من الله أن يغفر جرمها، ترثي نفسها وسرها الذي إن انفجر سيعلن للحضور دويا عاليا. مازالت تستغفر ضعفها حتى وقعت أرضا ولم تشعر بعدها بشيء. توضأت سلمى وبينما هي عائدة إلى الغرفة حتى صرخت الأم بوجهها:

ـ ماذا تظنان نفسيكما؟ ألم يعد يعني لكما كلامي شيئا؟ لقد أمرتكما أن تذهبا إلى الكوافير، فماذا تنتظران؟ مسخوطتان!

اعتادت سلمى سماع السخط والتهديد والوعيد. ذهبت في صمت من غير أن تعيرها أي اهتمام إلى الغرفة فإذا بها تجد أختها ملقاة على الأرض. صرخت بأعلى صوتها فهرع كل من في البيت إلى الغرفة وعويل الرعب مغلف بالندم على خيبة الأسلوب المحموم تجاه غالية يضج داخل الغرفة المعطوبة وهي تحتضر علّة جسدها المحترق. صرخت سلمى في قفار صحراء تلك الجدران التي أصبحت موحشة، مظلمة بعدما ذابت شمعة روحها على الأرض جثة هامدة.

ـ أنت السبب في كل ما يجري لغالية يا أمي. غالية رحلت عنا إلى الأبد. يا إلهي! ما كنت أخشاه قد وقع.

اقترب الأب وجدائل الرعب من العار يختطفه في صمت، قال وهو ينظر إلى سلمى:

ـ ماذا حصل؟

ـ لا أعرف يا أبي دخلت فوجدتها ملقاة على الأرض.

كانت الأم تنوح وتندب بلسان ثقيل وكأنها مخمورة. أمسك الأب بيد ابنته يجس نبضها وجده ضعيفا. أسرع إلى سماعة التلفون واتصل بالإسعاف. تجمهر الجيران أطفالا ونساءاً، كلهم ينظرون بعيون الهمس والتحسس وبعض الجارات ينظرن من خلف شبابيك بيوتهن لإشباع نزوة فضولهن. نزل ممرضان من سيارة الإسعاف وصعدا إلى المنزل، قادتهما الخادمة إلى غرفة غالية وضعاها بسرعة على حمالة ثم خرجا من البيت مسرعين بها إلى سيارة الإسعاف، وانطلقا بأقصى سرعة إلى المستشفى. أسرع الوالدان وسلمى إلى المستشفى أما العمة فظلت في المنزل تبكي وهي تطل من شرفة المنزل. دخلت عليها الجارات وهن يغترفن الآهات والحسرات لمعرفة ما رسمه القدر وخطه على اللوحة الصماء. نطقت إحداهن:

_ ماذا جرى لغالية؟

أجابتها العمة بامتعاض

_ إن غالية حذرها الطبيب من أكل التوابل الحارة لكنها عنيدة، أكلت البيض مع الهريسة والزيتون فأصابها ألم حاد في معدتها مما أدى إلى فقدانها الوعي لكنها ستشْفى إن شاء الله.

نطقت النساء بصوت واحد: الله يشفيها، ثم خرجن واحدة تلو الأخرى وفوضى الثرثرة تلعثمهن. قرفصت العمة وسط الدار ويداها على خدها في تيه وحزن تلتقط روحها التي أوشكت أن تزهق. مكثت غالية بغرفة الإنعاش ثلاثة أيام في غيبوبة، تامة لم يسمح لأي أحد من العائلة بزيارتها. أما ضيافة عائلة السعداوي وعائلة التهامي فقد ألغيت إلى أجل غير مسمى. في اليوم الرابع استيقظت غالية من غيبوبتها فرأت سلمى بجانبها تمسك بيدها، أيقظت جمرتها الخامدة فبدأت تصرخ وتضرب بقدميها على السرير. دخلت الممرضات يحاولن تهدئتها وغالية كانت غالية كالناقة الشرسة تمارس عنفها إلى أن غابت عن الوعي مرة ثانية. تسللت سلمى خارج الغرفة فوجدت أمها تبكي وتقول موجهة الكلام للأب:

ـ ماذا جرى لابنتي غالية؟ كل شيء تتمناه نشتريه لها لا ينقصها شيء، فلماذا جلبت لنا هذا العار الشنيع؟

كان الأب يهدئ من روعها قائلا: أخفضي صوتك لا نريد الفضيحة أكثر مما نحن فيه. دعي الندب والندم حتى نرجع إلى البيت.

تقدم نحوهما الطبيب وقال: أرجوكما أن تتفضلا خارجا، أريد أن أتكلم معكما على انفراد.

قال الأب: ماذا هناك يا دكتور، هل ابنتي في خطر؟

ـ لقد تجاوزت مرحلة الخطر، لكنها تحتاج إلى راحة تامة في المستشفى.

قالت الأم وهي تبكي:

_ هذا يعني أنها ستمكث في المستشفى طويلا.

قال الدكتور:

_ هذا يرجع إلى سرعة تحسن حالتها.

قال الأب:

_ من ماذا تعاني ابنتي؟

قال الدكتور:

_ لا أخفي عليك سيدي، إن ابنتك تعاني من الإكتئاب.

قال الأب وهو يمط شفته السفلى في استغراب:

_ ولماذا؟

قال الدكتور:

_ هذا أمر تعرفونه أنتم، من الأفضل أن تذهبوا الآن فوجودكما لن يفيد شيئا لأنها نائمة الآن.

كانت تمشي فوق سطح البحر. أمواجه تزحف نحوها تطاردها، يبلل الماء نارها المشتعلة، تعصف الريح في وجهها المبتل، تحاول الأمواج ابتلاعها وهي تجري حتى اللهاث نحو أنوار أسطع من نور الشمس وأنصع من البياض وكلما اقتربت منها ترجلت تلك الأنوار نحو الأزل. رجعت العائلة إلى المنزل الحزين الذي يتعكز الشرود وتطرق على بابه تساؤلات صامتة تحت سقفه وبين جدرانه العاجزة عن استيعاب تمرد غالية. دخلت سلمى غرفتها ولحقت بها العمة صفية.

ـ ماذا حصل لغالية ولماذا لم تأت معكم؟

قالت سلمى وهي تحاول أن تطمئن عمتها:

_ إن غالية بخير، لكن لابد أن تمكث يومين في المستشفى حتى يقوم الطبيب بفحصها.

قالت العمة على عجل:

_ أي فحص؟

ـ فحص المعدة يا عمتي.

ـ يا ربي خذ بيدها واشفها.

مرت ثلاثة أيام وغالية في صراعها مع الموت والحياة، غريبة الروح تحترق في همومها وألمها كلما راح مفعول التخدير. منع الطبيب الأهل من زيارتها لمدة أسبوع بأكمله، فقررت العائلة أن تأخذ غالية عند فقيه لكي يحجب عليها عندما تغادر المستشفى، لأن مشكلتها حسب رأيهم ليست إحباطا ولا انهيارا عصبيا وإنما عين أصابتها، ولابد أن يرقيها ويكتب لها حجابا لكي تتحسن حالتها وتبعد عنها عين الحسد.

قالت الأم موجهة كلامها للأب سلطان وهي تبكي.

_ ألم تر كيف كانت تضرب برجليها، أعتقد أن جنيا لبسها.

أجابها الأب:

_ لا، مستحيل. أنا متأكد أن ما أصابها هو العين ... عين حسود ...

لم ترد سلمى أن تعقب على حوارهم، فهي لا تحتاج إلى المزيد من الألم والحزن، يكفيها أن شقيقتها في غيبوبة بالمستشفى بين صراع دوامة البقاء والرحيل. ذهبت إلى غرفتها تذرف دموع الحزن في صمت. وما من أحد يزيح همها ويذهب عنها الشجن.

استيقظت سلمى باكرا، واستأذنت أمها لتذهب إلى الجامعة. قالت لها الأم بعصبية:

ـ لماذا تريدين الذهاب إلى الجامعة هل نسيت أن أختك مريضة في المستشفى؟

أجابت سلمى بخوف:

_ أريد أن أعرف نتائج الامتحان.

أشاحت بوجهها عن غضب مصطنع وقالت.

_ كيف تسمحين لنفسك بهذا التفكير أليس في قلبك رحمة؟

قالت سلمى وكأنها شعرت بذنب: أنا أحب أختي أكثر مما أحب نفسي ولهذا أريد أن أذهب لأرى النتيجة. فنجاحها سيكون سببا في شفائها. ألا يهمك نجاحها؟

قالت الأم: لا يهمني نجاحكما بقدر ما يهمني سلامتكما واستقراركما في بيت أزواجكما ذلك هو النجاح الكبير.

قالت سلمى بغضب: ذلك هو السقوط الكبير.

اقتربت منها الأم باهتمام زائد وبدت كمن تتهيأ للانقضاض عليها، يفضح ذلك تفاصيل وجهها الغاضب:

ـ ماذا قلت؟

كانت سلمى تتراجع إلى الوراء خائفة من بطش أمها وقالت:

_ لم أقل شيئا.

رجعت سلمى إلى غرفتها وأغلقت الباب بقوة مما أثار غضب أمها، فدخلت عليها وبدأت تضربها وتلكمها وسلمى تبكي. سمعت العمة صراخ سلمى، فأسرعت إلى الغرفة لإنقاذها من اللكمات المتتالية التي تنزل عليها من غير رحمة. اقتربت العمة تحاول أن تمنع زوجة أخيها من الاستمرار في ضرب سلمى. غضبت الأم من تدخل العمة فدفعتها بكل قوة إلى أن وقعت على الأرض. استجمعت العمة جسمها المبعثر على الأرض وضحكت ضحكة حزينة خافتة تكتم غيظها الذي يئن تحت وطأة الظلم والجبروت. نظرت الأم إلى العمة التي مازالت مطروحة على الأرض وقالت لها وعيناها تقدحان شررا:

ـ دعيني أربي ابنتي.

قالت العمة: إن ابنتك مهذبة ومتربية.

قالت الأم وحالة هدوء ووجوم تلبسها، وبعد لحظة من الصمت الغاضب: عندما يكون لك أبناء ربيهم كما شئت.

حزنت العمة من كلام زوجة أخيها الذي جرحها حتى العمق، وذكرها أمومتها المفقودة عندما أجريت لها عملية نزع الرحم. نهضت من الأرض بتثاقل وخرجت من الغرفة في صمت تاركة الأم التي فقدت سيطرتها على نفسها لا تجيد إلا لغة الشتيمة فبدأت تضرب سلمى إلى أن غابت عن الوعي. وقفت مرعوبة لمنظر ابنتها التي أصبحت كورقة خريفية مطروحة على الأرض. انتابها الذعر فبدأت تصرخ وتلطم وجهها. سمع الأب الصراخ فخرج من مكتبه مسرعا نحو الصوت فوجد سلمى ملقاة على الأرض مغمى عليها. ماذا جرى؟ هل هي محاولة انتحار أخرى؟

ردت الأم:

_ لقد ضربتها وأغمي عليها.

ـ لا حول ولا قوة إلا بالله. أنت مجنونة قطعا.

نادى أخته صفية وطلب منها أن تحضر البصل. حمل ابنته ووضعها على السرير وشرع يقرب البصل من أنفها، حتى استيقظت من غيبوبتها. بدأت بدرية تبكي وتقول:

ـ أنا لم أعد أفهم شيئا، لقد أصبح العيش في هذا البيت مستحيلا.

قال الأب غاضبا مزمجرا في زوجته:

_ أنت التي تجعلين العيش مستحيلا بعصبيتك الزائدة. يكفي أن غالية في المستشفى.

لم تحتمل سلمى سماع ذلك الشجار فبدأت تبكي وأبوها يهدئ من روعها.

ـ اهدئي يا ابنتي وغدا اذهبي إلى الجامعة وبشرينا بنتائجك أنت وأختك.

قبلت سلمى يد أبيها شكراً على تعاطفه معها. ظلت منزوية لوحدتها تفكر في أختها غالية وفي نفسها المنهوكة من مؤامرات والديها اللامتناهية لزواج غالية. في صباح اليوم التالي، ذهبت مُبكرة إلى الجامعة، لم يكن هناك أحد سوى موظفي الإدارة. توجهت إلى حيث النتائج فوجدت اسمها واسم أختها في لائحة الناجحين. طار حزنها كما طارت كالبرق متوجهة إلى البريد لتتصل بنبيل. كانت الخطوط اللاسلكية بين ليبيا والمغرب سيئة، لم تفقد الأمل رغم المحاولات العديدة. ثلاث ساعات مرت وهي تحاول من غير كلل إلى أن سمعت صوت نبيل:

ـ ألو، من المتكلم؟

ـ أنا سلمى أخت غالية.

ـ أهلا بسلمى، كيف حال غالية؟

ـ غالية ليست بخير، إنها في المستشفى، مريضة جدا ولا أعتقد أن أحدا يستطيع مساعدتها إلا أنت.

ـ من ماذا تعاني؟

ـ لقد قال الدكتور إنها تعرضت لانهيار عصبي بسبب الاكتئاب.

ـ اطمئني يا سلمى، سأساعد أختك بقدر ما ... ألو.. ألو…

انقطع الخط، لكن سلمى كانت فرحة لأن نبيل وعدها بأن يساعد أختها. من البريد اتجهت إلى المستشفى، حاولت أن تتسلل إلى الغرفة، لكن إحدى الممرضات منعتها. اتجهت مسرعة إلى الاستعلامات، فرأت ممرضة منهمكة في الضحك والمزاح مع ممرض يغازلها. سألتها سلمى:

ـ من فضلك يا آنسة، أبحث عن موظفة جديدة بهذا الفرع اسمها سعيدة. أريد مقابلتها.

قالت الممرضة: من سعيدة؟ ليست عندنا ممرضة بهذا الفرع اسمها سعيدة.

ـ إنها ليست ممرضة، إنها تغسل بذلات الممرضين .

ـ إن المكان الذي تغسل فيه بدلات الممرضين بالقرب من المبنى الرئيسي.

ـ شكرا آنسة.

ذهبت سلمى إلى حيث تنظف بذلات التمريض فوجدت قضيبا طويلا معلقا عليه البذلات النظيفة والمكوية. ارتدت واحدة ثم رجعت إلى الفرع الذي توجد فيه أختها. تسللت ببطء إلى الغرفة، جلست على كرسي بجانب السرير، أمسكت بيد أختها، لقد نجحت بامتياز وأول من عرف بالخبر هو نبيل. اتصلت به هاتفيا وطلبت منه أن يساعدك فوعدني بأنه سيفعل. حركت غالية رأسها ثم فتحت عينيها بتثاقل، التفتت إلى سلمى وقالت:

ـ لقد حلمت بأنني نجحت بامتياز، وبأن أول من عرف النتيجة هو نبيل.

قالت سلمى: إنه ليس حلما. إنها الحقيقة. لقد اتصلت به اليوم وأخبرته بنجاحك وبمرضك فوعدني بأنه يساعدك.

قالت غالية بصوت مبحوح ومتعب:

_ متى سيزورنا؟

ردت سلمى:

_ لم يكمل معي الحديث، لأن الخطوط انقطعت.

كان وجه غالية شاحبا وعيناها ذابلتين ومرهقتين وجسدها تحت اللحاف يظهر نحيلا وكأنها لم تذق الطعام منذ شهور.

قالت سلمى مرتبكة:

_ من فضلك يا غالية لا تصرخي لقد تسللت إليك بلباس التمريض لأنهم منعوا عنّي زيارتك.

أغمضت غالية جفنيها المتعبتين ثم خلدت للنوم. أما سلمى فقد غادرت المستشفى وهي فرحة مطمئنة على أختها التي بدأت حالتها تتحسن. كانت العمة تهيء الغذاء صامتة حزينة، تفكر في ابنة أخيها غالية. دخلت عليها سلمى تبتسم:

ـ أهلا عمتي، كيف حالك؟

ـ كيف سيكون حالي وغالية في المستشفى.

أجابتها سلمى مبتسمة:

_ لقد قابلت غالية، إنها بخير جدا وتسلم عليك كثيرا.

قالت العمة بتلهف:

_ ومتى سترجع إلى البيت؟

- ذاك أمر يقرره الطبيب يا عمتي.

- وما هي حال النتائج هل نجحتما؟

ـ بطبيعة الحال، لقد نجحنا.

اجتمعت العائلة حول المائدة، جلست سلمى تأكل في صمت. لم ترغب أن تشارك والديها في الحديث ولا حتى أن تخبرهما بالنتائج. كان الأب مشغولا بالأكل، أما الأم فكانت تأكل بلا شهية والتوتر والعصبية يظهران جليا في حركاتها. أحضرت العمة صفية الفواكه ووضعتها على مائدة الطعام وقالت:

_ إن غالية بخير لقد تحسنت أوضاعها.

قال لها سلطان مستفهما:

_ من أخبرك ذلك؟

ـ ألم تخبركما سلمى؟ لقد زارتها اليوم.

نظر إلى سلمى بعينين ترتقبان شرح الموقف. قالت سلمى وهي تتلعثم: لقد زرتها يا أبي اليوم إنها بخير.

قال الأب:

_ ومن أذن لك بذلك ألم أقل لكم بأن تستأذنوني في أي شيء تريدون القيام به؟

أجابت سلمى مستغربة والخوف يسيطر عليها، ظننت ستفرح بالخبر.

_ نعم، إن تحسن غالية يفرحني لكن ذهابك عندها بدون إذني يقلقني ويغضبني. هذه آخر مرة تتجاهلين فيها أوامري.

ـ حاضر يا أبي، لن أغضبك مرة ثانية.

نظرت الأم إلى سلمى وقالت بتلهف: كيف حال غالية؟

ـ إنها بخير يا أمي.

قال الأب:

_ كيف دخلت عندها والزيارة ممنوعة؟

ـ إنني أعرف ممرضة كانت تدرس معي في الثانوية.

نظرت الأم إلى الأب وقالت:

_ لا بد أن نتصل بالدكتور لكي يعطينا الإذن بزيارة ابنتنا.

قال الأب:

_ إن شاء الله ثم نهض ساخطا غاضبا من غير أن يكمل أكله.

قالت الأم وهي تنظر إليه:

_ لماذا هذا الغضب من غير سبب.

ـ ألا تعرفين؟ هل ما فعلته غالية يرضيك؟

ـ ما حصل قد حصل ولا بد أن ننظر إلى المستقبل.

قال الأب:

_ إنها مجنونة لا محالة، إن ما قامت به هو كفر بالله وبرحمته. إنها نافرة من عدالة الله ورحمته. ما فعلته غالية أكبر فضيحة إن سمعها الناس ستبقى ألسنتهم تلوك سيرتنا.

كانت العمة صفية، تتحرك يمنة ويسرة، تتمنى لو تفعل شيئا لكي تهدئ من ذلك الجو المكهرب، تفتح فمها محاولة الكلام، ثم تغلقه مرة ثانية. العمة صفية تحترم أخاها سلطان كثيرا لأنه أكبر إخوتها وواجب عليها طاعته واحترامه كطاعتها لأبيها، لكنها لم تتحمل سماع الإهانات التي كانت توجّه لغالية التي مازالت طريحة الفراش في المستشفى. وهي التي ربتها منذ كانت رضيعة. انفجرت تبكي بصوت عال ومخنوق:

ـ كفى، إن الله يغفر. وأنت أبوها سامحها يا خويا الله يطول عمرك.

كان سلطان ينظر إلى أخته ويعض على شفتيه من شدة الغضب وقال:

ـ أنت السبب في كل ما تقوم به غالية. أنت التي أفسدتها بتربيتك فأصبحت عنيدة ومتهورة.

قالت العمة: إن غالية ليست عنيدة ولا متهورة، فتاة شريفة وطيبة وحنونة، اتركوها لحالها. أنتما تضغطان عليها وتحاولان إرغامها على ما لا تريد ... كفى!

لم تتدخل الأم، كانت راضية من كلام زوجها تجاه أخته.

قال سلطان:

_ كيف نضغط عليها؟

- تضغطان عليها في كل شيء.

أجاب بغضب:

_ اسمعي يا أختي هذه ابنتي وأنا أعرف مصلحتها جيدا إياك والتدخل في طريقتي معها.

قالت العمة: اتركها تكمل الدراسة مادامت تحبها لقد نجحت بامتياز رغم أنها لم تلتحق بالجامعة هذه السنة. فماذا تريد أكثر من هذا التفوق؟

قال سلطان:

_ لم أمنع بناتي يوما من طلب العلم وقد غرفن منه بما فيه الكفاية، لكن الزواج مصيرهن، بل مصير كل فتاة أن تكون لها أسرة وتستقر في بيت زوجها وهي حرة، بعدها إن أرادت أن تتابع الدراسة أو تعمل إن وافق زوجها طبعا. إن سترة الفتاة مهمة.

لم تعد العمة تتحمل قسوة أخيها وجبروته قالت متهكمة وهي ترتعش خائفة:

_ السترة! وهل هي عريانة لكي تحتاج السترة؟

قالت كلامها ذاك وهرولت إلى المطبخ لتتجنب انفجار أخيها وغضبه الذي لا تُحمد عاقبته!

العمة صفية امرأة بسيطة جدا، حنونة وكلامها عفوي، أحيانا يثير الضحك، لكن له معنى ومغزى رغم بساطته. لم يكن كلام العمة صفية عابرا أو عفويا مثل ما تتصوره العائلة ولكنه كان منبعثا من حرقة قلبها على ما تتعرض إليه بنات أخيها وهي التي ربتهن وقضت معظم الوقت معهن أكثر من أمهن التي ولدتهن.

بعد أسبوع قضته غالية تحت إشراف الطبيب والممرضات في المستشفى، رجعت إلى المنزل وإلى انزوائها كعادتها. لم تكن تكلم أحدا ماعدا أختها سلمى ولم تفرح بتفوقها فتلك الشهادة في نظرها لا قيمة لها مادام سينتهي بها المطاف إلى الزواج. هذه الكلمة التي تضرم نارا ورعبا في أحشائها. فيوم الزفاف بالنسبة لها يوم قرح وليلة الدخلة هي ليلة الفضيحة والموت. نصح الدكتور والدي غالية بأن يتجنبا أي شيء يمكن أن يحزنها أو يغضبها وإلا ستتعرض لانهيار عصبي يصعب منه الشفاء. تغير أسلوب الوالدين متجنبين الاصطدام معها بالكلام ورغم ذلك كانت لا تتكلم إلا نادرا، متشحة بالحزن متلفعة بالصمت. ندمت الأم على الأسلوب الذي كانت تنهجه مع ابنتها والذي كان سيؤدي إلى فقدان ابنتها، لكن كبرياءها وعصبيتها منعاها من التقرب منها أو ضمها إلى صدرها وكأن غشاوة عمت قلبها ولم يستطع أحد أن يوقظها من ذلك الغرور إلا العمة صفية التي انفجرت في وجهها غاضبة:

ـ هذا حرام! هذا شيء لا يرضى عنه الله. اتقي الله والعني الشيطان وخذي بيد ابنتك التي تحتاج لمسة منك وكلمة طيبة تنبعث من صميم قلبك. كرست العمة صفية كل حياتها لأخيها سلطان وعائلته بعد أن فشلت في حياتها الزوجية، أقسمت ألا تتزوج ثانية وأن تعيش مع أخيها بقية عمرها. لأول مرة تصرخ في وجه أخيها وفي وجه زوجته. إن لم تتركا غالية وشأنها، سأترك البيت إلى الأبد. فغر سلطان فاه مندهشا لردة فعل أخته المعروفة بالخجل وشدّة احترامها له، والآن تمردت عليه وعبرت عن رأيها بكل جرأة. رن جرس التلفون، أسرعت وحملته بعصبية رغم أنها ليست من عادتها أن تحمل سماعة الهاتف إلا أنها كانت تريد بذلك أن تظهر لهما استياءها وغضبها الذي وصل حدّاً لا يمكن إخفاؤه.

ـ من المتكلم؟

ـ الدكتور نبيل خلف ...

ـ من الدكتور خلف؟

قالت سلمى بسرعة: إنه الدكتور نبيل الذي ساعد غالية في ليبيا.

أسرع الأب وأخذ السماعة من يد أخته وقال: أهلا، أهلا دكتور نبيل.

ـ الحمد لله، إنني أتكلم معكم من الدار البيضاء، سأكون في فاس بعد أربع ساعات.

ـ يا أهلا ويا سهلا سننتظرك في المطار.

نظر سلطان إلى بدرية وقال: لابد أن أذهب إلى سوق المواشي وأشتري خروفا، يجب أن نكرم هذا الرجل بقدر ما أكرم ابنتنا واعتنى بها.

أسرعت الأم إلى غرفة ابنتها وجلست على حافة السرير الذي تستلقي عليه غالية وكأنها تحتضر.

ـ ابنتي غالية لقد جئت بخبر سيسعدك كثيرا.

أجابت غالية دون أن تلتفت إلى أمها: ليس هناك ما يسعدني في هذه الدنيا إلا متابعة الدراسة.

قالت بدرية وهي تبكي: ما دامت الدراسة هي الروح التي تتنفسين بها فلن نقف حائلا بينك وبينها أبدا. فهيا الآن، انهضي واستحمي لأن ضيفاً عزيزا عليكِ سيشرفنا بعد أربع ساعات.

نظرت غالية إلى أمها وقالت: هل ...

ـ نعم، الدكتور نبيل. إنه في مطار الدار البيضاء. اتصل بأبيك وأخبره أنه سيكون في مطار فاس بعد أربع ساعات. ضمت غالية أمها قبلتها وقفزت من السرير مهرولة وغيمة من الفرح تلحق بها إلى الحمام فرحة بأمل وعد جديد يدر رذاذا أكثر جمالا وبهاء.


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس