عرض مشاركة واحدة
قديم 14-11-13, 10:16 PM   #15

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Elk

الفصل الثاني عشر - الجزء 1



طريق إلى المجهول



الحزن الذي كان يرتدي المنزل انقلب إلى حلة من الفرح، كل شيء أعدّ بعناية فائقة والخادمات الأربعة وقفن أمام الباب واحدة تحمل الحليب والتمر وأخرى تحمل الورود والثالثة العطر والبخور، وسلطان يرتجل أبياتا شعرية مرحبا بضيفه الغالي. كل من في البيت يعيش في تلك اللحظة نشوة فرح كانت غائبة يوما في بيت سلطان. ها قد وصل نبيل محلقا من غياهب المجهول حاملا تحت أجنحته آمالا علها تسكت أنين جراح صديقته الغالية التي كانت آخر من دخل الصالون لاستقباله. تمنت أن تضمه إلى صدرها وتقول له لا تتركني هنا غريبة أحزم خطواتي إلى الرحيل. إنهم يريدون التخلص مني بالزواج ولا أعرف أين سيسري المصير. رائحة الهال تعبق من الإبريق المغشي بالشاي، ودخان الصندل يتراقص حول الستائر المسدولة بابتهال، ونبيل يلملم اندهاشه في تلك الأصوات المبتهجة والكرم المندلق حوله.

في اليوم الثاني استدعى سلطان زملاءه للعشاء وللتعرف على ضيفه العزيز، وابتداء من اليوم الثالث تلاحقت العزائم احتفاء وإكراما لنبيل وتعبيرا عن فرحة العائلة وأصدقائها بقدومه. تمنت غالية أن تنفرد به وتفضي له همومها والحصار الذي فرض عليها، لكن نبيل كان يقضي معظم الوقت مع أبيها إما في مكتبته أو في صالون الضيوف. تمرّ الأيام خلسة ولم يبق منها إلا حفنة لكي يرجع إلى ليبيا. بدأ الخوف يزحف من جديد نحوها وهي التي لا تقوى على الحركة فأغلال التقاليد تحوط بها من كل جهة. انتابتها رعشة جرجرت أنفاسها المنقبضة، وبدأت تحيا من جديد قوقعة تطل على الخراب. تمشي في غرفتها بعصبية وتشد على يديها بقوة والخوف يلتف حولها يشبه الجحيم. تحتضن وحدتها المرتمية تحت نزيف الألم حتى دخلت عليها سلمى وهي تلهث، أغلقت الباب وراءها وقالت:

ـ لا أعرف ماذا أقول لك وهل الخبر الذي أحمله إليك سيكون سارا أو محزنا.

اقتربت غالية منها بسرعة البرق وحزن غريب الشكل يتآكلها، منهوكة القوى كأنها خارجة للتو من معركة خاسرة وحزن عميق يثقل عينيها وقالت:

_ هات ما عندك بسرعة فأنا لم أعد أتحمل المزاح.

نظرت سلمى إلى غالية والفرح يشعّ من عينيها:

_ أعتقد أنك ستفرحين كثيرا يا غالية.

ـ كفاك مراوغة وهات ما عندك؟

تمتمت سلمى بشفتين مبتسمتين مرتعشتين وقالت:

_ لقد سمعت حوارا بين نبيل وأبي. إن نبيل …

ـ ما به نبيل هل قرر أن يرجع إلى ليبيا من غير أن يجد حلا لمشكلتي، مثلما وعدني؟

ـ سمعته يطلب يدك من أبي.

تسمّرت غالية في مكانها، فاغرة فاها، شاخصة العينين وكأنها فوجئت بتنين يريد افتراسها.

ـ ماذا قلت يا سلمى؟

ـ هذا ما سمعته يا غالية.

بدأت غالية تحرك رأسها وتتراجع بخطوات إلى الوراء، لا أصدق ما أسمعه كيف يجرؤ أن يطلبني للزواج وهو يعرف أنني لا أحبه؟ وكيف يطلب يدي من أبي من غير أن يسمع موافقتي شخصيا؟

ـ هل يمكنك أن تهدئي؟ العصبية لن تجديك نفعا أنت تعرفين نبيل أكثر منا جميعا، إنه لن يقبل زواجك منه غصبا.

ـ كيف له أن يفكر بالزواج وهو متزوج وله خمسة أولاد أكبرهم يصغرني بسنتين فقط؟ كنت معه طوال الوقت في طرابلس، وفي بيته تحت ذات السقف لم يقل لي يوما أنه يريد أن يتزوجني. صحيح أنه اهتم بي اهتماما لم أر مثله قط. كان في قمة الطيبة وكريما معي، لكنه ... نظرت إلى أختها وقالت: ما سر الخطاب والعرسان الذين تراكموا علي خلال هذا الشهر؟

مازالت غالية وسلمى تتحدثان حتى دخلت عليهما الأم وقالت:

ـ سنسافر غدا إلى مدينة السعيدية وسنقضي هناك أسبوعا مع الدكتور نبيل، نريده أن يستمتع بعطلته في المغرب. بالمناسبة لقد أرسلت الخادمة لتنظيف البيت وترتيبه وشراء ما سنحتاجه هناك. ابتسمت لهما وغادرت الغرفة.

قالت غالية لسلمى بغيظ:

_ إنها تظن أنني لن أرفضه لكثرة ما تحدث عن كرمه ومعاملته لي. الآن لن يجد سببا مبررا لرفضي له. إنه دكتور ومترجم فوري في مركز دبلوماسي وميسور جدا فماذا أريد أكثر من ذلك.

قالت سلمى: هذا إن رفضته!

ـ وهل تعتقدين أنني سأقبل الزواج منه؟

ـ ماذا تريدين أحيانا لا أفهمك. نبيل لن يكون حجر عثرة في طريق متابعة دراستك.

طرق الأب الغرفة ودخل، كان الفرح يشِعُّ من عينيه.

ـ مساء الخير يا بناتي.

وقفت سلمى وغالية ورجلاهما متسمرتان في الأرض وكأنهما رأيا ماردا. نطقتا بصوت واحد: مساء الخير يا أبي.

ـ غالية، أريد التحدث إليك.

قالت سلمى متلعثمة:

_ سأذهب لأرى عمتي إن كانت تحتاج إلى مساعدة.

غادرت الغرفة وتركت غالية تنظر إليها والخوف يتملكها تمنت ألا تتركها.

اقترب منها بخطوات بطيئة ممسكا بذيول الغضب جلس على حافة السرير، صمت قليلا أما هي فكانت تتابع حركاته في صمت. نظر إليها بعينين جامدتين وقال:

_ يا ابنتي لم تسمح لي الفرصة أن أتحدث إليك منذ خروجك من المستشفى، وذلك لانشغالنا بضيفك وضيفنا. لكن الآن جئت لموضوعين اثنين، أولا مع أنّ ما فعلتِه في حقك وفي حقنا كان أمرا يستحيل غفرانه. كنت ستمسحين الأرض بشرفنا وكان الناس سيتقولون وينشرون أكاذيب وادعاءات تمس شرفك وعفتك لذلك فضلت الموت على العار. لم أستوعب تهورك الشنيع حتى الآن. ماذا ينقصك؟ نحن لم نقصر معك ولا مع باقي إخوتك في شيء. كانت ترجف عندما سمعت كلمة الشرف والعار والعفة هامت ومضت في ضباب، ضائعة وسط سرها. " الفتاة تنتحر لكي لا تتعرض للخزي والعار، هاهو ذا أبي يقولها بعظمة لسانه"، أفكارها تحوم حول دوامة من المفردات، العرض والشرف والشريفة والعفة والعفيفة والزواج والخطوبة والعذرية والدخلة والعار والانتحار. اهتزت مفاصلها وكأن جنّيا لبسها. أسنانها تصطك خوفا من الزواج، فما إن تنساه حتى يزحف نحوها من جديد. نبيل الذي تعتبره مخلّصا لها من المأزق الذي هي فيه ويسهّل عليها طريقها إلى الحرية التي تبحث عنها طلب يدها من أبيها. قالت بلسان يتلعثم رعبا:

_ سامحني يا أبي، إنه خطأ فادح، لن أعاوده مرة ثانية.

نظر إليها بعصبية وقال بصوت شبيه بالصراخ:

_ أنت تأخذين الأمور بكل بساطة، لكن لا تعرفين مدى تأثيرها على سمعة العائلة وشرفها.

كانت صامتة ورأسها مطأطئ خوفا ورجلاها مشدودتان ببعضيهما ويداها تشابكتا على ركبتيها وآهات تزمجر بداخلها: شرف! شرف! ما هو الشرف؟ وماذا تعرفون عن الشرف؟ وإن كنتم تعرفونه، يا ليتكم تحسنون التعامل مع هذه الكلمة ومعناها العظيم. لو فعلتم ما تعذبت غالية وشرّدها سرّها الخطير. آه يا أبي ليتك تفهم ... ليتك تخترق عظام صدري وجمجمة رأسي لترى كم غاليتك يعذبها فهمك للشرف وتعاملك مع هذه الكلمة ...آه ...

قال الأب: هل تعرفين إن داستك سيارة ومتّ لكان أهون علي من موتك انتحارا؟ موتي عندك دعسا بسيارة أفضل من موتي انتحارا لكي لا أجلب لك العار. قبح الله هذا الشرف الذي تسعى إليه حفاظا على سمعتك. فماذا عني أنا؟ ماذا اقترفت من ذنب إن كنت سأخزى أو أهان أو أقْتَل بذنب لم أرتكبه. ماذا عني أنا التي لم أٌلْمَس في حياتي ومع ذلك عرفت العذاب وذقت المر منذ وقوع ذلك السر الخطير على جسمي وروحي؟ بقعة دم حمراء في لباسي الداخلي، لم أكن أنا سببها، نزلت من جسمي من غير إرادتي وحولتني إلى شؤم ملموس طوال حياتي وجعلتني في نظركم غولا ومسكونة بالجن. أطلقتم علي كل هذه الصفات، تنعتون بها حزني وانطوائي وغضبي من غير أن تسألوني يوما عن سبب ذلك. وكيف لي أن أبوح لأحد منكم بذلك السر. إن العنود نصحتني بل هددتني بأن لا أبوح بذلك ولو لأمي.اسمعي يا غالية، أنت تعرفين معزتك ومكانتك عندي. لقد أسميتك غالية وأقول دائما إنك أميرتي لكن هذا لا يعني أنني سأسمح لك بأن تدمري سمعة العائلة. كل شيء في كفة وسمعة العائلة وشرفها في كفة ثانية. إنني لم أمد قط يديّ عليك فلا تدفعيني لذلك. ارتعشت غالية وتبلل سروالها، أغمضت عيناها حتى لا تنزل دموعها وزفير يخرج من أسفل أحشائها. هذا ما بقي لك يا أبي أن تفعله تجاهي. تضربني. فولله أن الانتحار أهون عليّ ألف مرة من أن تمدَّ يدك علي وتضربني ظلما. اسمعي يا ابنتي سأغفر لك تلك الفعلة الشنيعة بشرط أن تقبلي الدكتور نبيل زوجا لك. فاجأها ذلك الألم الغامض الذي داهمها وانتقل من منطقة ما في الجسد وتسرب إلى باقي الأوصال:

_ لماذا أقبله زوجا لي؟ هل طلبني للزواج؟

ـ أجل، طلبك للزواج.

شعرت بدوار وكأن غشاء من ضباب ينزل على عينيها قالت: لكنه متزوج وله خمسة أولاد.

قال بلهجة آمرة: وإن كان، فالرجل يحق له الزواج مثنى وثلاث ورباع.

عاصفة أثارت غضبها وسرقت هدوءها المصطنع، تنهّدت بحسرة حيث لا هروب من الموت الذي يطوّقها بأساوره ويضعها في زنزانته المظلمة: آه يا أبي كم تظلمون آية الله وكم تستشهدون بها لإرضاء أهوائكم ظنّا منكم أنكم تتقيدون بما تحتوي هذه الآيات العظيمة من معان.

قالت: إن الرجل يحق له أن يتزوج امرأة ثانية إن كانت زوجته لا تلد أو مريضة مرضا يصعب شفاؤه، وزوجها لا يحق له الزواج إلا بعد إذن منها. وأنت يا أبي تعرف ذلك ...

وقف من مكانه وعباءته تطايرت في فضاء الغرفة وقال مقاطعا:

_ كفى! كفّي عن الكلام. لقد أعطيتك الحرية أكثر من اللازم، فأسأت استعمالها إن نبيل يريد الزواج منك وأنت سبق لك أن تعرفت إليه وشكرته لنا إلى درجة أننا أحببناه لما أسداه لك من معروف. زيادة على ذلك أحواله المادية جيدة ومستعد لشراء شقة لك في واشنطن أو نيويورك ويغطي كل نفقات الدراسة. أليس هذا ما تريدين؟ فهو لن يقف حائلا بينك وبين دراستك.

خفضت رأسها، إنه فعلا يريد أن يتزوجني، قدم طعما لأبي لا يمكن أن يرفضه لكنه لا يعرف أنني أرفض الزواج منه، ولن يحلم بتحقيق رغبته على حسابي. مسكين يريد أن يشتريني بتأشيرة إلى أمريكا. إنه لا يعرف أن تأشيرتي هي حريتي وتحرير رقبتي.

ـ ماذا قلت يا غالية؟

ـ أمهلني أسبوعا وسأرد عليك.

ـ أي أسبوع إنه سيرجع إلى ليبيا بعد أيام ونريد أن نحسم هذا الموضوع وننهي مراسم الزواج.

ـ مراسم الزواج؟ هل هناك زواج يتم في أسبوع؟

ـ نعم زواجك أنت.

ـ ماذا تريدني أن أقول؟

ـ لا تقولي شيئا، السكوت علامة الرضا سأتركك الآن لأن الضيف وحده في الصالون.

تركها متسمرة في مكانها كتمثال صخري وينبوع من الدموع ينفجر منه مهددا بالفيضان، شاردة في حفل زفافها وبجانبها نبيل الذي أمسك يدها بقوة وأدخلها إلى غرفة باردة كالموت والنساء يرقصن ويغنين وبعضهن يطرقن الباب وينادين بصوت عال " بسرعة يا عريس! كان العرق يتصبب من جبينها. دخلت عليها سلمى بعدما تأكدت من مغادرة أبيها الغرفة. وجدتها هادئة هدوءا غريبا. أهي خالية البال إلى هذا الحد أو أن الوعيد والتهديد صقلها وروضها. رفعت غالية عينيها تنظر إلى أختها وقالت:

_ لقد وقعت في فخ كبير يا سلمى. أحس وكأن الدنيا تدور بي وأشعر برغبة في الاستفراغ.

ـ يجب أن تستخدمي عقلك بهدوء وروية. ألم تخبريني أن نبيل رجل طيب جدا ويحب مساعدتك؟

ـ بلى، لكن الآن لم أعد أفهم ماذا يجري وما هي نواياه لم أعد أثق بأحد يا سلمى.

ـ لماذا كل هذه الهواجس والأفكار المتشائمة؟

ـ أحاول أن أسترجع أفكاري وأتذكر الفترة التي كنت فيها في بيته. كان يجزل علي بالهدايا ويفعل المستحيل لإسعادي حتى أنه كان يضطر أحيانا لاستدعاء عائلة سوزان للنزهة معنا لأنه يعرف أنني أكره أن أنفرد به.

ـ لكن، لماذا كنت تقبلين هداياه؟

_ لم أقبلها يا سلمى. لكنه كان يشتري الأشياء ويلحّ علي ّ كي آخذها.

ـ هذا أكبر غلط يا غالية.

ـ أعرف ذلك لكنني كنت أخاف أن يتخلى عني في تلك الفترة التي كنت فيها في أمس الحاجة إلى صديق أعتمد عليه. إنك لا تعرفين كم عانيت في تلك البلاد. لم أجد الراحة والهدوء والاستقرار لا مع عائلة ابن الإيمان ولا مع العائلة المغربية. فقط مع نبيل وجدت راحة االبال.

ـ الآن دعينا من الحديث عن الماضي ولنتحدث عن المستقبل.

ـ أي مستقبل ... أن أقبله زوجا!

ـ ولم لا فهو سيعطيك كل شيء ويوفر لك أي شيء. ويحقق لك آمالك كلها.

ـ لا أريد أن أتزوج هل تفهمين؟

ـ أنا لا أفهمك ولا أستطيع أن أفهمك. أنت غامضة والتفاهم معك مستحيل. يا ليته طلبني للزواج بدلا منك.

ـ أتسخرين يا سلمى؟

ـ لماذا أسخر كل فتاة تتمنى أن تتزوج رجلا له مكانة في المجتمع ومستوى ثقافي محترم وأحوال مادية جيّدة. ونبيل تتوفر لديه كل تلك الصفات.

ـ أهكذا الزواج في نظرك وأين هو الحب والتفاهم !؟

ـ إنه الاستقرار يا غالية سيمنحك الحب كله.

ـ أنت تريدين الزواج من شهادة جامعية ومال في البنك وليس من الشخص نفسه.

ـ كفاك فلسفة! لا أستطيع أن أجاريك في أفكارك الخيالية والبعيدة عن الواقع.

ـ إنها الحقيقة لكن لا أحد يحب أن يسمعها لأنها تجرحكم وتعري سلوككم.

ـ ألم يحسم أبي الأمر معك. لقد كنت صامتة عندما قال لك نبيل يطلبك للزواج وصمتك معناه علامة الرضا.

ـ أي صمت هذا الذي تعتبرونه علامة الرضا؟ إن الصمت هو علامة الخوف وعدم القبول. من أدراك أن ذلك الرضا مفروض للمرء كالموت لا يستطيع منه هربا، رضى بالقهر وليس بالاختيار.

_ هل هذا هو جزاء المعروف لصديقك الوفي؟

_ الصداقة عندي أغلى من مال الدنيا وأنا مستعدة للتضحية بالغالي والنفيس من أجلها. نبيل صديق عزيز إن حافظ على صداقتي له.

ـ أرني هذه التضحية والوفاء إذا.

سكتت لثوان وهي تفكر بعمق ثم قالت متلعثمة:

_ يمكنني أن أضحي بعين أو بكلية لأجله ولكن لن أتزوج به.

ـ فال الله ولا فالك.

ـ لا أريد الحديث عن هذا الموضوع. الزواج مسألة مرفوضة عندي. أنا أختار وأوافق على من يتقدم لي أو أرفضه.

ـ هكذا بكل بساطة.

ـ نعم، هكذا بكل بساطة أنا حرة في نفسي وجسدي لن أسمح لأحد ببيعه أو تأجيره. جسدي ليس سلعة.

ـ لا، أنت لست حرة في نفسك ووالداك لهما سلطة عليك وسيظلان إلى أن تنتقلي إلى بيت زوجك وسلطة زوجك.

أتريدين أن تسيري عكس التيار كل البنات يتزوجن حسب اختيار العائلة.

ـ لا أريد الزواج بهذا المفهوم. ألا يوجد أحدا يفهمني؟

جلست غالية على السرير تبكي نادبة حظها، ترثي نفسها وغياب حقيقة إثمها المزعوم في صمت. ليته لم يأت إلى المغرب. ليتني لم ألتق به. ليتني لم أرجع من أمريكا إلى المغرب.

طرقت الخادمة الباب وقالت: إن العائلة تنتظركما في السيارة.

طوال الطريق كان الأب يروي الشعر لنبيل وأحيانا ينتقل إلى النقاش في السياسة والعمة صفية تنظر في صمت إلى الطبيعة من خلال نافدة السيارة والأم تتابع الحديث الذي يجري بين زوجها ونبيل، أما غالية فلم تكن لها رغبة في الحديث مع أحد، ظلت صامتة إلى أن توقفت السيارة أمام المنزل. أكوام من الزهور تتمايل مع النسيم مرحبة بالضيف وضوء الشمس مترع بالبهجة. توجه الجميع إلى الصالون، أما غالية فهرولت إلى غرفتها والخوف يغزو داخلها، يبلعها. لن أنحني لرغباتهم، لن أرضى الهوان، غريبة بين أهلي لا أحد يفهمني، وحدتي وقلبي جريح يبكي وليس هناك من يسمعه. مازالت تناجي وحدتها الحبيسة بين جدران غرفتها الأربعة حتى دخلت عليها عمتها مبتسمة:

ـ اليوم سنتعشى كلنا حول مائدة واحدة مع الدكتور نبيل احتفالا بخطبتكما.

ـ حتى أنت يا عمتي.

ـ ألست فرحانة يا غالية؟

ـ هل هناك شيء يستدعي الفرح؟

ـ ماذا تريدين؟ رفضت عادل ابن الشنقيطي ورفضت عماد ابن المستشار السعداوي وترفضين أيضا الدكتور نبيل.

انفجرت غالية تبكي، ضمتها العمة إلى صدرها وقالت:

_ حياتك أغلى عندي من كل شيء حتى ولو بقيت بلا زواج.

ـ ساعديني من فضلك يا عمتي ماذا أفعل؟

ـ ليس عندك أي حل سوى مصارحة الدكتور نبيل. لكن إلى متى ستظلين رافضة كل من يتقدم إليك؟

دخلت الأم بزيها السوداني ورائحة الصندل تنبعث من ثوبها والفرح على وجهها، متجاهلة حزن غالية وتجهم العمة صفية وقالت:

_ هيا بسرعة فنحن ننتظركما للعشاء.

صوت الطرب السوداني ينبعث من الصالون وحوار الأب سلطان وضيفه يتطاير في تناسق مع صوت الموسيقى وعبادي يدندن ويصب الشاي وسلمى تبتسم في فرح. دخلت غالية والعمة صفية وبدرية إلى الصالون. جلست غالية بالقرب من أختها غير مبالية بالحديث الذي يجري حولها جامدة وكأنها صخر لا نبض فيه ولا خلجات، متلفعة بالصمت تبحر في زورق أسلوب أهلها الأناني والمفتعل، أفكارها تتقاطع مع مسارات ثرثرتهم، تمنت أن تغلق باب سرها الذي تدخل منه الرغبة الجامحة للهروب أو الانتحار. أما نبيل فكان ينظر إليها بإعجاب وحب ويخبر والديها كيف تعرف عليها في طرابلس ويمدح سلوكها المتميز وأخلاقها الحميدة والأب يصغي إليه باستمتاع ، شردت محاولة فك لغز الحيرة وهي بينهم كالأصم مرتدية ذاتها القلقة في ضجر إلى أن انتهت السهرة العائلية وذهب الكل إلى مضجعه.

في صباح اليوم التالي، كان الطقس جميلا وأشعة الشمس الصباحية تتراقص بغنج في كل ركن من أركان المنزل، انتهزت غالية الفرصة لتخرج إلى الشاطئ، ساورتها الرغبة للسباحة فما أن لمست قدماها الماء حتى حملتها أجنحة الأمواج إلى قاع البحر، أحست بالرغبة في إغلاق نفق الحزن إلى الأبد وأن تنام بين سهول ذلك البحر بعيدة عن صخب كابوس سرها. اجتمع كل من في البيت حول مائدة الفطور، انتبهت الأم غياب غالية، شعرت بقشعريرة وتغير لون وجهها، وقفت بسرعة كالملسوع خائفة: أين غالية؟

أجاب الأب:

_ حتما على الشاطئ.

التفتت الأم إلى سلمى وقالت:

_ لماذا لم ترافقيها؟

قالت سلمى:

_ استيقظت فلم أجدها.

إجابة سلمى زادت من توترها، وقف عبادي مبتسما وقال موجها كلامه لأمه:

_ سأذهب إلى الشاطئ وأحضر غالية.

انطلق عبادي كالبرق إلى البحر ولحق بأخته التي كانت تتعلق بحبال متدلية من السماء، قطعها صوته مناديا:

_ غالية هيا الكل ينتظرك للفطور.

رجعت غالية إلى البيت في بكاء صامت، استقبلتها الأم أمام الباب متلهفة ترتعش من الخوف، قالت بعد أن تنفست الصعداء: أين كنت كلنا ننتظرك هيا ادخلي بسرعة.

اقتربت غالية من أمها وقالت:

_ ما رأيك أن أتكلم مع نبيل على انفراد؟

قالت الأم:

_ لا بأس فإنه أصبح خطيبك.

ـ هل يمكن أن أذهب معه إلى المقهى فهي لا تبعد عن المنزل؟

ـ لكن شرط أن يرافقك أخوك عبادي.

ـ ألا يمكن أن تذهب معي سلمى؟

ـ أخوك الذي يجب أن يرافقك.

تناول الجميع الفطور في هدوء مفتعل، حرقة بداخلها أبت الانطفاء، تتحدث مع نفسها كمن فقد عقله. " هل أحتاج إلى حارس يخرج معي لمراقبتي؟ ألم أكن أسكن معه في منزله وكانوا يعرفون ذلك؟ لم يكن معي رقيب ولا حارس. لماذا الآن يفرض عليّ، ما هذا التناقض؟ في ليبيا معه في منزله. وحدي ... لا مانع. وهنا معه في المقهى على بعد أمتار ممنوع بدون حراسة ... آه ... كان عبادي متوترا لأسلوب أخته الغامض، خائفا أن تقدم على تصرف أخرق كالذي فعلته سابقا. استحسن رغبة غالية للتحدث إلى خطيبها، فطلب من أبيه أن يأذن له بالخروج مع نبيل وغالية إلى المدينة. خرج الثلاثة مترجلين إلى المدينة. طوال الطريق كان عبادي يتحدث إلى نبيل عن مدينة السعيدية وعن أصدقائه الذين يحبون السباحة مثله ومغامراته معهم في قاع البحر، وكيف يصارع الأمواج حتى ولو كان البحر هائجا ونبيل يستمع إليه، أحيانا يضحك عاليا وبين الفينة والأخرى يسترق النظر إلى غالية وهي تمشي في صمت ورأسها مليء بالعواصف. توقف عبادي أمام مقهى رولكس، التفت إلى نبيل وهو يبتسم:

_ في هذه المقهى أجلس مع أصدقائي وندرس كيف نسبح مسافات أطول في البحر المتوسط. ما رأيك أن نجلس هنا؟

قال نبيل وهو ينظر إلى غالية:

_ ليس عندي مانع.

المقهى في ذلك الصباح يعج كباقي المقاهي بالزبائن، طلب عبادي عصير الليمون، ثم استأذنهم في الانصراف كي يتحدثا على انفراد. فتحت غالية فمها متعجبة من تصرف أخيها المتحضر الذي لم تألفه منه. تابعت خطواته بابتسامة حتى غادر المقهى ثم التفتت إلى نبيل ومن غير مقدمات قالت: كيف سولت لك نفسك أن ... قاطعها بسرعة قبل أن تكمل حديثها وقال:

_ رأيت مناما الليلة التي اتصلت بي أختك سلمى. كنت مسجونة في غرفة صغيرة. بالقرب منك يقف سجان طويل القامة، عريض المنكبين وأنت تبكين وتصرخين. نبيل! نبيل! كنت مكبلة بسلاسل من حديد. سمعت نداءك وجئت محلقا في السماء على شكل طائر كبير. أمسكتك بمخالبي ثم طرت بك عاليا في الفضاء. كان السجان يحاول الإمساك بك لكنه لم ينجح ... تأكدت بعدها أنك فعلا في ورطة وتحتاجين مساعدتي والأغرب من ذلك شردت أفكر في الحلم، فإذا بي أسمع جرس الهاتف. كانت أختك سلمى. أخبرتني بأنك نجحت بامتياز لكنك راقدة في المستشفى. كان صوتها حزينا، انقطعت المكالمة ولم أستطع بعدها أن أعرف منها التفاصيل وبعد أسبوع وصلتني منها رسالة مطولة تشرح لي فيها وضعك منذ وصولك إلى المغرب حتى محاولتك الانتحار. كنت أعتقد أنني أستطيع الجلوس معك والتحدث إليك لإيجاد حل لمشكلتك بالتعاون مع والديك، لكن أهلك متزمتون جدا إلى درجة غير معقولة. وجدت نفسي عاجزا عن مفاتحة أبيك في موضوع دراستك في الخارج لأن كل أنواع الدراسة موجودة في المغرب وليس هناك أي عذر قد أعطيه له لكي يسمح لك بالسفر.

ارتعشت غالية كريشة في مهب رياح عاتية وقالت:

_ لذلك فكرت أن الحل في طلب الزواج مني!!

ـ والدك عنيد ومتشدد لا يحب الجدال في شيء لا يروقه، فلم يكن هناك حل إلا أن أطلب يدك منه ذلك هو الحل الوحيد والأخير الذي يمكنك من أن تسافري من دون غضب أهلك عليك.

ـ الحل الوحيد! هل تريدني أن أتزوج بك لأجل أن أشتري حريتي من أهلي ثم أقع في سجنك وهل يختلف وضعي عندئذ من سجن إلى سجن. كيف تفكر بهذا الأسلوب؟!

ـ هل عندك حل آخر؟

ـ وماذا عن زوجتك وأولادك وأنت تعرف أنني ضد تعدد الزوجات.

- سأشتري لك شقة في أمريكا بعيدة عن زوجتي وعن السودان.

- لقد أسأت فهمي. المشكلة ليست في الموقع الجغرافي. لا أريد أن يشاركني فيك أحد ولا أريد أن أشارك أحدا فيك كما أنني لا أريد أن أبني حياتي على أنقاض حياة الآخرين. لكن، لماذا تريد أن تساعدني؟ هل سافرت من أقصى شمال شرق المغرب الكبير إلى أقصى شمال غربه لمساعدتي حقا بدون مقابل.

ـ ماذا تقصدين يا غالية؟ إنني أحبك وأحبّ كل شيء فيك.

ـ لكن، أنا لا أفكر في الزواج وإن فكرت فيه، لن أقبله بهذه الطريقة.

ـ أية طريقة؟

ـ لن أتزوج بك طمعا في مساعدتك.

ـ ماذا يهمك في ذلك؟ لن تسكني حيث يسكنون ولن يصلك أحد منهم. هم يعيشون في السودان وأنت ستعيشين في نيويورك وهناك تتابعين دراستك. ماذا تريدين أكثر من هذا؟

ـ أي فتاة بوضعي قد تحلم بهذه الفرصة لكن لست أنا التي ستدخل على زوجة ضحت مع زوجها وأنجبت له أطفالا وعاشت معه الحلو والمر من الحياة. أشكرك من أعماق قلبي لكنني أرفض هذا العرض لأنني أعتبره صفقة مناقضة لضميري ولأخلاقي. صحيح كنت أعلق آمالا كبيرة عليك وكنت أعتقد أنك تستطيع مساعدتي وتستطيع أن تنقذني من الجحيم الذي أعيش فيه. لكن ما حصل لن يغير رأيي فيك ولن يؤثر في المحبة التي أكنها لك في قلبي. فأنت ساعدتني في بلاد الغربة وجئت طائرا إلى المغرب كي تساعدني بطريقتك لكنني أنا حرة في رفضها.

كان نبيل ينظر إليها بعينين دامعتين وقال: فما العمل إذا؟

ـ العمل ليس بيدك ولا بيدي. سأترك أمري لله. وأطلب منه أن يسامحني إن قمت بذنب لست سببه.

ـ ماذا تقصدين؟

اغرورقت عيناها بالدموع وارتعدت فرائصها، نظرت إليه بعينين حزينتين يائستين وقالت:

_ لم يعد يهمني شيئ.

انتابه ذعر شديد فتجمد في مكانه دون حراك. مسحت دموعها ونظرت إليه بعينين يملؤهما اليأس وقالت:

ـ أنا لست متشائمة ولكن سئمت ممن لا يفهمني. انس الموضوع وحاول أن تستمتع في الأسبوع الأخير الذي تبقى من عطلتك، إن عبادي لن يبخل عليك أبدا، سيأخذك إلى كل ركن جميل في المدينة.

ـ دعيني أساعدك أرجوك.

ـ كيف ستساعدني.

ـ أنا لن أفعل شيئا أنت لا ترضينه وسأظل صديقا وأخا لك إلى الأبد. عندما تنتهي مراسم الخطوبة سآخذك معي إلى ليبيا ومن هناك نجد حلا لمتابعة دراستك في أمريكا.

ـ لا أعرف ماذا سأقول لك و لا كيف أرد لك هذا الجميل. إلا أنني لا أفكر في الزواج وإن كنت أفكر فيه وكنت أنت رجلا غير متزوج وكنت أنا … لما ترددت في القبول بك شريكا لحياتي.

ـ هل هذا لغز يا غالية؟ إن كنت ماذا؟

ـ سيأتي يوم وسأفتح لك قلبي المكبل بسلاسل من حديد لكي لا يٌحِبَّ أو يحبّ ولا يفكر في الزواج إلى الأبد.

ـ لماذا تحرمين نفسك من متعة حللها الله في شريعته و ... و ...؟ في تلك اللحظة أقبل عبادي بصخبه وضجيجه:

_ تأخرت عليكما أليس كذلك؟ ما رأيك يا دكتور أن نذهب إلى مركز المدينة؟

قال نبيل مبتسما:

_ ليس عندي مانع لكن الأهل ينتظروننا للغداء.

ابتسمت الحياة مرة أخرى لغالية، دخلت مع أخيها ونبيل إلى البيت فرحة مسرورة. هرولت إلى المطبخ، وجدت عمتها منهكة كالعادة في تهيئة الطعام:

ـ عمتي، هل تريدين مساعدة؟

قالت العمة مستغربة:

_ متى كنت تساعدين عمتك يا شقية فأنت لا تحسنين الطبخ ولا شؤون البيت.

ـ أريد أن أتعلم يا عمتي، أعيب أن يتعلم الإنسان؟

ـ لا، ليس عيبا. هذا شيء جميل لكن كل شيء جاهز. لكن إن أردت مساعدتي فهناك الطناجر والكؤوس يمكنك أن تغسليها.

ـ قالت الخادمة: لقد نظفت كل ما في المطبخ يا سيدتي.

قالت العمة:

_ يمكن أن تهيئ غالية الشاي.

أجابت الخادمة:

_ قد هيأته كذلك.

دخلت الأم إلى المطبخ وقالت مخاطبة العمة: ما هذا الحماس الذي نزل فجأة على غالية؟

قالت العمة: إنها تريد أن تتعلم الطبخ.

قالت الأم: لا أظن أنها دخلَت المطبخ لأجل أن تعلميها ولكنها تحمل خبرا تريد أن تعلمك به بحجة المساعدة.

قالت كلامها ذاك وهي تضحك ثم غادرت المطبخ مسرورة لسرور ابنتها أما العمة صفية، فقد أمسكت بيد غالية وقالت لها:

_ أخبريني عن سبب اهتمامك المفاجئ بالطبخ.

اقتربت غالية من عمتها وهمست:

_ نبيل وعدني بأن لا يتخلى عني، سيساعدني ويحقق حلمي.

ـ ألم أقل لك يا ابنتي إن الله سيكون معك؟

دخلت سلمى إلى المطبخ فرأت عمتها وأختها يتحدثان بصوت منخفض والفرح يظهر على وجهيهما وقالت:

_ هل لي أن أفرح معكما؟

قالت غالية:

_ لقد فٌرِجت يا سلمى إن نبيل سيساعدني. لقد وعدني بذلك.

ـ ألم أقل لك بأن نبيل لن يتخلى عنك؟ الحمد لله، لقد نفعت الرسائل.

قالت غالية مستفهمة:

_ أية رسائل؟

أجابت سلمى:

_ كنت أكتب له كل صباح رسالة أخبره فيها عن كل الأحداث التي تعيشينها كل يوم والتي تعكر صفوك.

ـ ماذا قلت؟ تكتبين له رسائل! كيف؟ ومتى؟

ـ أما عن متى، فمن اليوم الذي جاء فيه عندنا. وأما عن كيف فذاك تكتيكي الخاص.

قالت غالية وهي تضحك: مثل التكتيك الذي قمت به في المستشفى.

ضحكت العمة وتبعتها سلمى وعلا الضحك في المطبخ. سمع الأب صوتهن عاليا، فبدأ يسعل كعلامة أن يخفضن أصواتهن. لاحظت الأم فرح ابنتها منذ رجوعها من الفسحة مع نبيل، فتيقنت من قبول غالية الزواج منه. أسرعت لإخبار زوجها.

رجعت العائلة إلى فاس لتهيئ حفلة الخطوبة وحضرت العنود من موريتانيا تاركة أولادها مع أبيهم والخادمة لكي تحضر فرح أختها الحبيبة جدا عليها وتستمتع بانفجار ذلك السر الخطير الذي لطالما تاقت ليوم موعده. فرح الوالدان بقدوم ابنتهما الكبرى لتفرح لفرح أختها. لم تمر أربع وعشرون ساعة حتى كانت كل ترتيبات الفرح جاهزة ولم تبق إلا ساعات معدودة لحضور المدعوين. في الساعة السادسة مساء أصبح البيت يعج بالناس وصوت المطربة الموريتانية المشهورة محجوبة بنت الميداح يٌسمع في كل أرجاء البيت وخارجه. أحضر عبادي غالية من عند الكوافير، وبمجرد أن دخلت إلى البيت حتى علت الزغاريد. أجلستها أمها بجانب خطيبها على الأريكة المزينة بالورود. عيون الحاضرات تترصدها من كل الاتجاهات، يتلألأن في كبرياء، يتمايلن بين موجات الإيقاع، ونبيل ممسك بيدها وابتسامة دافئة تطوق سحنة وجهه. شردت غالية مع المطربة وسافر عقلها إلى بيته في طرابلس، تبحث عن همسة أو نظرة أو لمسة صدرت منه فوجدت حبا صادقا، ركب الخطر بقلب رقيق وحس دافئ ليحملها فوق جواد الحرية. كانت العمة صفية واقفة تنظر من بعيد ابنة أخيها وتبتسم وسلمى وعبادي يرقصان والعنود تحدّق في غالية ونبيل هذا الذي سيكون على يديه كشف ذلك السر الذي أمرتها بكتمانه. وقف الأب وسط ذلك الحشد الغفير يرتجل أبياتا من مدح في خطيب ابنته والمطربة محجوبة بنت الميداح ترددها بصوت عذب ولحن يطرب السمع وغالية تستعيد تفاصيل طفولتها وأحيانا تنظر إلى أختها من أبيها بطرف العين، آسف لك أنك جئت من بعيد لتعيشي فضيحة سري ، لكن ذلك لن يحصل، نبيل أصبح خطيبي وسيأخذني معه.

في صباح اليوم التالي، اجتمعت كل العائلة حول مائدة واحدة مع الخطيب الذي أصبح واحدا من أفراد ها. كانت غالية مليئة بالفرح جالسة بجانب سلمى والعمة صفية والآن بعد الخطوبة لم يعد سوى أن تستعد للسفر مع خطيبها، كانت تطير في فضاء حلم جميل ذلك الصباح إلى أن تبدد مع صوت أبيها الذي قال موجها كلامه إلى نبيل:

_ يا دكتور، لم يبق إلا أيام معدودة على سفرك، لذلك فضلت أن أناقش معك موضوع العرس وكتب الكتاب قبل أن تسافر معك ابنتي.

نظر نبيل إلى غالية بهدوء ثم حول نظره بسرعة.أما هي فكلام أبيها نزل عليها كالصاعقة. أمسكت بيد أختها وضغطت عليها بكل قوة، صاعقة حلت بها في ذلك الصباح المشرق الذي أصبح يرتدي حزنا خفيا وتقمعه لعنة السر الذي اعتقدت أنه زال مع خطوبتها وسيزول كليا بعدما تسافر.

قال نبيل ووجهه متشح بالحزن للورطة التي وقع فيها:

_ غالية تريد إنهاء الدراسة قبل الزواج.

قال الأب بجدية:

_ لن أسمح لبنتي أن تخطو خطوة واحدة معك دون عقد شرعي.

قالت الأم:

_ لابد من حفلة عرس كبيرة، إن غالية ابنتي البكر وأريد أن أفرح بها.

كانت غالية تهتز خوفا وتتصبب عرقا لما تسمعه من ذلك التضارب في الآراء وقلبها يخفق بشدة، خائفة من شيء لا تعرفه ولا تريد أن تعرفه. إن ذلك الشيء سيحصل قريبا وسيكون وقعه وخيما.

قال الأب موجها كلامه للأم:

_ أنا لا أتكلم عن العرس ولا أريد عرسا بقدر ما أريد الاطمئنان على ابنتي.

قال نبيل:

_ يا دكتور سلطان، ابنتك في أيد أمينة وكانت تسكن في بيتي قبل أن أتعرف عليكم.

أجابه الأب:

_ لقد ذهب تفكيرك بعيدا يا دكتور. إن كنت أثق بابنتي فهذا لا يعني أنني أثق بالمجتمع الذي ستتواجد فيه غالية. إن شرف البنت أغلى شيء ولا أريد أن تفقده لأي سبب من الأسباب.

قال نبيل:

_ إن ابنتك شريفة بأخلاقها وسلوكها وسافرت لوحدها، لم يكن معها رقيب إلا ضميرها فهي كفيلة بالحفاظ على شرفها ولا تحتاج لزوج كي يساعدها أو يرغمها على الحفاظ عليه.

قال الأب بحزم: شرطي الوحيد والأخير، إجراء العقد.

قالت الأم: لابد من كتب الكتاب والدخلة فنحن لا نريد أن تتقول الناس علينا.

قال نبيل موجها كلامه إلى الأم: أليس عندك ثقة بابنتك؟

أجابت الأم: بلى، لكن كلام الناس يكوي يا دكتور وابنتنا كما قلت، جالت وسافرت فلابد أن تثبت لهم بأنه رغم سفرها فإن شرفها نقي كالماس.

قال نبيل وهو يمسح العرق من جبينه في توتر: عشت وحيدا في ليبيا سنين طويلة وصادفت فتيات ونساء كثيرات بحكم وظيفتي وعرفني القدر بابنتكم التي غيرت نظرتي في النساء. إنها المثل الأعلى في الأخلاق.

قال عبادي الذي شعر بالغيرة من سماع كثرة المدح الموجه لأخته:

_ البنت عار ولو كانت من تكون ...

لم يرد نبيل أن ينتقد عبادي لكي لا يعقد الأمور أكثر مما هي عليه. نظر إلى سلطان وقال:

ـ صادفت فتيات كثيرات، سنحت لهن الفرصة للسفر إلى الخارج وكان هدفهن الوحيد هو الحصول على المال بأي طريقة كانت، لكن ابنتك غالية كانت على عكس ذلك، هدفها الوحيد هو الدراسة والحصول على درجة عالية من العلم. أحب ابنتك وهي تبادلني نفس الشعور كما أثق بها كل الثقة لذلك أردت أن تبدأ علاقتنا على التفاهم والصراحة والاحترام فهي تريد إتمام الدراسة قبل الزواج وأنا أحترم رغبتها.

لم يستطع الأب أن يخفي الغضب الذي يظهر على سحنة وجهه وقال بإلحاح:

ـ اسمع يا دكتور إن الشرف مقدس عندنا وأيضا هو شرف العائلة لذلك لابد أن تكتب كتابك على ابنتي قبل سفركما.

شعر نبيل بأن شيئا ما ثقيلا يجثم على صدره، كابوس مزعج، كان يظن أن مشكلة غالية ستنتهي مع الخطوبة ولكن ما يبدو أنها زادت تعقيدا وأن غالية لا محال ستقوم بفعل شيء لا تحمد عقباه، لا يعرف كيف يرضي غالية وعائلتها. قال وقد ملأ فمه شعورا بالمرارة: ابنتك لا تحتاج إلى عقد زواج لكي تحافظ على شرفها. إن ذلك الشرف الذي تتحدث عنه لا يراه المرء إلا مرة واحدة بليلة الدخلة، لكن بعد ذلك لن يبق للمرأة إلا شرف واحد وهو الشرف الحقيقي، شرف الضمير.

قالت الأم بصوت جاف: إن زوجي معه الحق في كل ما قال. لا بد من كتب الكتاب والدخلة وبعدها تسافر معك.

شعر نبيل بالاختناق جحظ عينيه وكأن أحدا يضغط على عنقه، قال وهو يفتح زر القميص:

ـ أنا موافق. لكن، يجب أن ننهي كل الإجراءات بسرعة، لأنه لم يبق على موعد سفري إلا ثلاثة أيام.

قال الأب: غدا سنكتب الكتاب وفي نفس الليلة تكون الدخلة.

قالت بدرية ووجهها مقطب: وماذا عن الحفل؟

قال نبيل أفضل أن نقوم بحفل الزفاف عندما تتخرج غالية.

قال الأب: أنا موافق.

لم تفرح الأم بذلك الاقتراح، نهضت بعصبية من مكانها وغادرت الصالون لحقت بها العمة وغالية وسلمى والعنود.

وقفت الأم أمام باب المطبخ والتفتت إلى غالية وقالت:

_ نحن نريد حفلا يليق بك وبمركزنا.

قالت غالية مستغربة من تصرف أمها:

_ ماذا تريدين أكثر من ذلك؟ كتب الكتاب سيكون غدا. ألا يكفي هذا؟

ـ أريد أن أفرح بك.

قالت العنود: نعم، نريد أن نفرح بغالية. فكم غالية عندنا؟

قالت الأم للعنود: أقنعي أباك فهو يحبك كثيرا ولا يرد لك طلبا.

ردت العنود فرحة مسرورة: اتركي هذا الأمر لي.

نظرت غالية إلى أمها وقالت: كيف تفرحين بي؟ الحفل قد أقمناه، وأشهر مطربة بموريتانيا قد أحيت الحفل.

ـ أريد أن أفرح بليلة دخلتك وأرقص عليه.

ـ ترقصين على ماذا؟

ـ أرقص على الثوب الأبيض الذي سيكون علما يثبت للحاضرين وغير الحاضرين عفتك وطهارتك.

بلعت غالية ريقها، مشت بخطوات سريعة إلى غرفتها دون أن تعقب على كلام أمها.

ضحكت بدرية بصوت مرتفع ونظرت إلى العمة وإلى العنود وقالت: ابنتي خجولة جدا.

لم تتحمل سلمى منظر أختها المنهزم، لحقت بها فوجدتها جالسة على حافة السرير تبكي. جلست بجانبها تتألم لألمها.

- لماذا تبكين يا غالية؟

ـ ألم تسمعي ماذا قالت أمي؟ إنها تريد الدخلة وتريد أن ترقص على الثوب الأبيض.

ـ وما الغريب في ذلك؟ فلترقص كما تشاء هذه عاداتنا وهل ستغيرينها أنت في ليلة واحدة؟!

ـ إنني لا أريد أن أتزوج هل تفهمين؟ لا أريد أن أتزوج! لا أريد أن أتزوج!

حدقت سلمى بأختها بعينين دامعتين مناجية روحها: آه يا شق نفسي وتوأم روحي تظنين أني لا أدرك سرك. كم أنت واهمة. أعلم أن عفتك وشرفك فوق الشبهات لكنني على يقين أنك تعانين من مشكلة تتعلق ببكارتك والله يا غاليتي لا ولن أشك بأخلاقك وشرفك. ليتك تبوحين لي أي حادث لعين أفقدك ذلك الغشاء اللعين الذي أشقاك وشرّدك. ليت والديّ يفهمان أن الشرف ليس منسوجا من ألياف ذلك الغشاء.

_ سلمى سلمى أين رحلت عني بأفكارك ؟

ـ ها ... ها .... أنا هنا ... أنا معك ...

بدأت غالية تجهش بالبكاء وسلمى تهدئ من روعها:

_ ألم تقولي بأن نبيل سيساعدك؟

ـ بلى، لقد قال ذلك لكن ألم تسمعي الحوار الذي جرى بينه وبين والدي؟ غدا سيكتبون الكتاب وتكون ليلة الدخلة!

ـ وما الغريب في ذلك؟ لماذا كل هذا الرعب والخوف من الزواج؟

ـ غدا سأذبح مثلما تذبح الدجاجة.

سلمى متجاهلة معرفتها السر: لماذا تقولين ذلك؟

ـ نبيل يعرف أنني لا أريد أن أتزوج ولن أقبله أبدا لأن له زوجة وأولاد. استغل الفرصة لكي يصل إلى ما يصبو إليه. لقد احتال عليّ يا سلمى ووصل إلى ما يريد. غدا سأكون في عصمته حلالا زلالا يتصرف في حياتي ويتحكم في مثلما يشاء. لقد أوهمني بأن الخطوبة منه ستكون نقطة الانطلاق إلى الحرية ومتابعة الدراسة في الخارج. صدقته ووافقت على الخوض معه في اللعبة من غير أن أفكر في نهايتها وها أنا وقعت في فخ ليس منه فرار. لا يمكنني أن أتراجع عن كلامي وأرفض الزواج منه بعدما وافقت.

قالت سلمى بخوف وألم: إن الزواج حلم كل فتاة. بل مصيرها المحتوم.

ـ لماذا احتال عليّ نبيل؟ ماذا فعلت له لكي يفعل في كل هذا؟

ـ للأسف لقد عشت مع نبيل فترة طويلة، لكنك لا تعرفينه جيدا. أو أن في عينيك غشاوة تجعلك لا تنظرين إلى الأمور بعقل ورزانة.

ـ أنت التي تنظر إلى الأمور بعقل ورزانة هل وجدت لي حيلة للتخلص من هذا المأزق؟


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس