عرض مشاركة واحدة
قديم 14-11-13, 10:21 PM   #16

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Rewitysmile25 الفصل الثاني عشر الجزء 2

الفصل الثاني عشر الجزء 2

كان نبيل يجلس وحيدا في الصالون ملتفا بالحزن، مفاصله ترتعش ولون وجهه شاحب كلون المقبرة، هل ثمة مخرج لسفينتي التي أبحرت اتجاه العاصفة؟ ضباب يحجب عنه الرؤيا، يختلسه الشرود، يجرفه التيار إلى باب مسدود، يمد يده فلا يجد روحه. يستنجد فلا ير إلا أشباحا ممسوخة. يا إلهي أي عار جلبت لهذه العائلة وأي صورة قدّمتها لهم عن الرجل السوداني. لابد أن أجد حلا لهذه اللعبة وأريح ضميري من العذاب، لكن كيف سيكون ردّ العائلة يجب أن أسافر اليوم قبل الغد. لماذا أقحم نفسي في مشاكل غيري؟ لماذا جمعني القدر مع هذه المخلوقة المسكينة؟ لماذا مسكينة؟ لا ينقصها شيء، عائلتها ميسورة ويمكن أن تدرس في المغرب إن كانت فعلا تؤمن بالعلم وبتحصيله. ماذا سيقول الناس عنهم إن تركتها ولم أتزوج بها.

لم تذق غالية طعم النوم تلك الليلة. تمنت لو توقف قلبها عن الحركة لترتاح وتريح أهلها منها ومن شقائها وعصبيتها. لكن الموت أبى أن يأتي إليها تلك الليلة كما أبى الفجر أن ينجلي وأبت عيناها أن ترى النوم. وعندما غفت رأت في منامها أباها وأخاها ونبيل يجرون خلفها، كل بيده مدية كبيرة وهي تجري وتصرخ بصوت عال وهم يلاحقونها للنيل منها إلى أن تعثرت قدماها بحجر فوقعت على الأرض مغمى عليها. فتحت عينيها وقلبها يخفق بشدة وبسرعة وهي تلهث. مسحت العرق على جبينها، التفتت إلىأختها فوجدتها تغط بسلام في نوم عميق. موعد كتب الكتاب بعد ساعات معدودة. إنه موعد الامتحان الأعظم حيث تنجح فيه الفتاة ويبارك لها شرفها أو تقتل ويبصق على قبرها. كانت تستلقي على ظهرها، شعرت بجسدها يرتعش وداهمها خوف هائل، الجدران صامتة، السقف سماء ملبدة بالغيوم. التفتت إلى سلمى، ما زالت تنام في هدوء، أومأت برأسها صوبها وقالت بصوت يقترب من الابتهال الخافت: وداعا يا أعز أخت في العالم ... وداعا يا من كنت الصديقة الوفية والأخت الحنونة. إلى أن نلتقي في ذلك العالم الآخر. سأكون في انتظارك. إن اتهموني فلا تكوني معهم وإن قتلوني فلا تؤيديهم. وإن سبوني فكوني ضدهم لأن أختك ملاك طاهر. فجأة قرفصت فوق السرير، حولت عينها إلى الأرض، أطرقت رأسها وبدأت تحركه يمنة ويسرة وأفكارها كثيرة متزاحمة تتضارب محدثة لها ألما شديدا في رأسها. هل أهرب؟ لا، لا مستحيل! هل أنتحر؟ ستكون فضيحة لأهلي وعار يلتصق بهم إلى الأبد. يا إلهي كيف الخلاص؟ بدأت تبكي وتنوح. أيها الموت الهلامي! لماذا لا تأتي وتريحيني من هذا العالم؟ أين أنت أيها الموت؟ تعال وامسك بروحي. خذها بعيدا عن هذا العالم المعتم بالجهل. بحق رافع السماء خذ روحي من هذا الجسم الذي يفتقد عذريتي .... شرف عائلتي وأهلي.. توقفت عن الكلام وبدأت تتنفس بهدوء منتظرة منيّتها أن ترحب بها لكنها فوجئت بالأسى، لا أحد يفهمها، حتى الموت. ارتفع نحيبها فاستيقظت أختها من النوم وما زالت تحت سطوة نعاسها قالت وهي تفرك عينيها:

_ غالية! ما بك يا أختي؟

ـ لاشيء، لا شيء. إنني أسعد إنسان في هذا الوجود. لقد نمت جيدا هذه الليلة وعشت أحلاما جميلة وحلوة كحلم أية فتاة في ليلة زفافها.

ـ إنك تبكين، ماذا بك؟

ـ قلت لك لاشيء. أنا لا أبكي. إن الله واحد والحياة واحدة والموت واحد.

ـ أعوذ بالله من تشاؤمك حتى في ليلة عرسك!!

نهضت سلمى متثاقلة تتثاءب ثم ذهبت إلى الحمام. أما غالية فظلت مكانها ترتجف وترتعد من غير حول ولا قوة، عانت طوال حياتها من الخوف والرعب من تلك الليلة التي تفرح بها كل عروس وتفخر بها كل عائلة. تلك الليلة التي تعتبر ليلة العمر بالنسبة للفتاة، ليلة تثْبِتٌ فيها شرفها ويوضع على صينية من فضة ويرفع به عاليا كما يرفع العلم وتجول به النساء في كل شوارع المدينة هاتفة بصوت عال: ها هو صْبَاحْ، شٌفٌوهْ يا النَّاسْ، شٌفٌوهْ يا صْحابْ وٌ فْرْحو وْ شٌفوه يا لْعْدْيانْ وْ سْكْتو..." رعشة سرت في جسدها، أطبقت جفونها قليلا كما لو أنها تسترجع صورة من الذاكرة، لماذا أنا خائفة؟ أمن الموت؟ فأنا أطلبه! لماذا أحزن إذا؟ لم يعد يهمني شيئ في هذه الحياة. لماذا أطول على نفسي العذاب مادامت نهايته ستكون الليلة و أنتهي من هذا العناء الذي عانيته طوال حياتي ... عانيت ما فيه الكفاية... آن موعد نهاية كل هذه الآلام، آمنت بالله وكنت طاهرة نقية لم تغوني المظاهر ولم أنزلق في الشهوات فيكفيني هذا الشرف، لأنه هو الشرف الحقيقي وليس غشاء البكارة. رجعت سلمى من الحمام، فقالت لها غالية وهي تبتسم: صباح الخير يا أروع وأجمل أخت.

أجابت سلمى مستغربة مستفهمة: صباح الخير. هل أنا في حلم أو في يقظة؟

ـ لماذا؟

ـ لا شيء، أتساءل هل جنّي يسكنك من حين إلى آخر، كل لحظة في مزاج مختلف!

ـ ليس هناك شيئا أكثر رعبا ووحشية في هذه الدنيا من الإنسان.

هزت سلمى برأسها وقالت: لا أريد أن أفطر على هذه التخيلات تعبت منها. هل ستسافرين مع نبيل أم ستلحقين به؟

ـ سأسافر وحدي ولن أصحب معي نبيلا، سأسافر من غير حقيبة ومن غير جواز سفر. هكذا سفر خاص جدا يليق بغالية.

اصفر وجه سلمى، وتجمد الدم في عروقها. أيقنت أن أختها تفكر في الانتحار، أمسكت ذراعيها بقوة ثم قالت: هل …

أجابت غالية بسرعة: لا، لا، لا تخافي، لن أنتحر.

طرقت الخادمة باب الغرفة وقالت: تقول لكما السيدة بدرية، الفطور جاهز.

دخلت غالية وأختها إلى الصالون وقالتا بصوت واحد:

_ صباح الخير.

نظر الأب إلى غالية وهو يبتسم قائلا:

_ العروس تستيقظ باكرا.

قالت الأم وابتسامة عريضة على شفتيها: العروس لا تنام إطلاقا من شدة الفرح.

نظرت غالية إلى الجميع وهي تبتسم، قذفت العنود بنظرة متعالية. التفتت إلى عمتها وابتسمت ثم قالت: هل من مكان قربك؟

قالت العمة فرحة: الآن أصبح مكانك بجانب خطيبك يا غالية.

ردت غالية بدون خجل وبدون أن تلتفت إلى أحد هذه المرة، مبتسمة لعمتها بعينين مليئتين بالدموع، مسحتهما بسرعة وقالت:

ـ الأيام بيني وبين عريسي طويلة جدا. لكن جلوسي بجانبك سيكون للمرة الأخيرة يا عمتي الحبيبة.

قال عبادي: هل ستفارقين الحياة؟ أنت فقط ستنتقلين إلى بيتك عند زوجك وستزوريننا كلما سنحت لك الفرصة.

لم يبق على كتب الكتاب إلا سويعات ولم تعد ليلة الدخلة كابوسا يهددها فموعدها قد صار قريبا، وبعدها سترتاح راحة أبدية، لا يهمها من سيقتلها لمحو العار، المهم أن لا تقتل هي نفسها وتخسر الآخرة مثلما خسرت الدنيا وعاشت فيها حياة مليئة بالحزن والخوف. كان الأب ونبيل يناقشان تفاصيل الحفل الذي سيقام الليلة أما غالية فكانت تجول بعينيها حول كل فرد من أفراد عائلتها تودعهم في صمت: وداعا يا أهلي ويا أحبائي، سأفارقكم غصبا، لأنكم أنتم الذين ستزهقون روحي عندما تكتشفون أنني فقدت غشاء بكارتي. لكنني لن ألومكم فأنتم كذلك ضحية المجتمع مثلي. كانت تحس وكأن روحها بدأت تفارق جسمها من تلك اللحظة أو ربما فارقتها فعلا. في تلك اللحظة كان أبوها يهمس إلى أمها: انظري إلى ابنتك كم هي سعيدة، إنها فعلا في قمة السعادة. وضع نبيل نظارته السوداء على عينيه، ينظر إلى غالية متأملا إياها وكأنه يعرف بعض ما يجول في خاطرها. اغرورقت عيناه بالدموع واختنقت أنفاسه فوقف من مكانه، مستأذنا بالانصراف.

نظر إليه الأب وقال:

_ إلى أين أنت ذاهب يا دكتور؟ إنك لم تكمل فطورك.

قال نبيل:

_ أريد أن أشتري خواتم العرس إن الوقت يداهمنا بسرعة.

قالت الأم:

_ من غير أن تختار غالية هديتها بنفسها.

قال نبيل:

_ لقد اخترت هدية غالية مع أختها سلمى لتكون مفاجأة لها وللجميع.

نظر الأب إلى سلمى وقال:

_ مرة أخرى يا سلمى تخرجين من غير إذني!

قفزت سلمى من مكانها خائفة من ردة فعل أبيها وقالت مرتبكة:

_ أبي … فقط … إنني لم أفعل شيئا… أنا فقط

قاطعها بابتسامة متحفظة وقال:

_ هذه المرة سماح، لكن المرة الثالثة ستكون عاقبتها وخيمة.

ودع نبيل العائلة واختفى كالبرق. كان يمشى كالتائه بين أزقة مدينة فاس القديمة المكتظة بالسكان إلى أن وصل إلى شارع رئيسي، أوقف سيارة أجرة، وطلب من السائق أن يقود السيارة.

قال السائق مستغربا:

_ إلى أين سيدي؟

قال نبيل بعصبية:

_ إلى أن أقول لك توقف.

انطلقت السيارة بين شوارع مدينة فاس الصاخبة ونبيل يختفي تحت أنفاسه تائها في ورطته كأعمى منحوس مكتمل العينين يمشي صوب ريح عاتية والرمال تجرجره، تلتهمه وهو يحاول جاهدا أن يتمسك بالوهم عله يسكت صوت الجراح. لكن العاصفة كانت أقوى منه غضبا، قاومها بكل ما لديه من قوة إلى أن خارت قواه ولم يعد يستطيع الحراك. يزحف وعطشه مبتل بسراب الرغبة والشوق، يئن لغياب غالية رغم حضورها ويبكي لسفينته التي عبرت البحار آملة أن تحط ترحالها على شاطئ الأمان، لكن الأمواج العالية أبعدته عن أحضان الشاطئ وابتلعته بعيدا عن الأحلام وتحقيق رغبة أصبحت كابوسا يتبعه حتى في يقظته. طلب من السائق التوقف، دفع له أجرته ثم نزل من السيارة كالمفلس يبحث في دفاتره القديمة ليستعيد ماض لن يعود. يمشي كالمكبل ويفكر كيف يفك الأغلال التي تثقل قدميه إلى أن توقف أمام فندق المرديان. دخل إلى حيث المسبح غارق في بعثرته يتأمل المياه الزرقاء ودموعه عطشى لا تحسن السباحة. طلب من النادل أن يحضر له القهوة، وضع كفيه على وجهه و بدأ يشهق بالبكاء كالنساء. أخرج بعصبية شديدة منديلا من جيبه ليمسح دموعه، يهمس في أذن السماء، يشكو لها روحه المضطربة التي ألقت به في ورطة لا قعر لها. يلعن تلك اللحظة التي تعرّف فيها على غالية وتورط في حبها. لم تسمح لأي مخلوق أن يحملها على صهوة رغبته ولم تضعف وراء أموالي التي عرضتها عليها. لم تغرها الشقة التي وعدتها بها في واشنطن ولم تضعف أمام غرائزها وكأنها ليست لها غرائز على الإطلاق. شرودها صمتها عذابها وابتسامتها الكاذبة تعذبني، تمزق قلبي وتؤنب ضميري. كيف أواسيها... كيف أحميها من نفسي ومن عائلتها؟ كلانا شارك في شقائها من غير وعي ولا إدراك. كلانا يريد الفوز بها من غير أن يضع اعتبارا لها.

أحضر النادل فنجان القهوة وعلبة الدخان وانصرف. مد يده المرتجفة إلى العلبة محاولا فتحها، أخرج سيجارة تكسرت في يده، أخرج ثانية وقعت على الأرض وأخرج ثالثة وضعها بين أصابعه المرتعشة محاولا إشعالها فأحرق إصبعه. نهض بعصبية وألقى بالعلبة على الأرض يسبّ ويشتم. غادر الفندق يمشي متبعثرا بين براثن الألم داخل زنزانة حزنه إلى أن توقف أمام أحد محلات الجواهر والذهب، اختار أسوارة وخاتمين دون أن يطلب من الجوهري أن ينقش عليها اسمه واسم حبيبته غالية ودفع له المبلغ من غير أن يجادله في الثمن. وضع العلبة في جيبه وأسرع إلى البيت كي لا يتأخر عن موعد الكتاب.

انطلقت الزغاريد تتراقص في فضاء بيت سلطان. رائحة البخور تخترق فضاء البيت الصاخب، تنتشر بهيبة في أرجاء البيت. الأم والعمة صفية ترتبان الغرفة في الدور الثالث الذي ستتم فيها عملية العبور الكبير وتهمس الزغاريد في أذن السماء متضرعة وهي على حافة القلق لتلك اللحظة الحاسمة حيث سترتدي فيها العائلة حلة الفرح أو لعنة أبدية. رتبت الخادمات البيت وزينته بباقات الزهور. كل شيء جاهز، الحلوى بشتى أنواعها والمشروبات على الموائد في الصالون الخاص بالرجال والآخر للنساء. رن جرس الباب وعلت الزغاريد مرة ثانية لقدوم المأذون الذي سيكتب العقد.

استحمت غالية ولبست فستانا من الحرير الأبيض يلف جسدها النحيل. أسدلت شعرها وراء ظهرها. طلب منها عبادي الحضور لكتابة العقد. دخلت إلى الصالون وجلست بجانب أبيها تتسلق خيوط الرعب ومن خلفها ذلك السر يلهث بأنفاس متجمدة معلنا انفجاره في أي لحظة بلا خوف بعدما كان مكبوتا وتخرج هي أيضا من دهاليز الوجع وتنتهي. صوت الموسيقى الصاخبة تطرق في أذنيها محدثة ألما حادا في رأسها، والنساء يزغردن ويرقصن في نشوة من الفرح. قال المأذون:

_ هل تقبلين هذا السيد المسمى نبيل خلف زوجا لك؟

نظرت إليه ثم حوّلت عينيها إلى أبيها. سكتت هنيهة فأعاد المأذون عليها السؤال. لابد أن أجيب، أن أقول تلك الكلمة. تلك التي إن قلتها متّ وإن لم أقلها متّ، سأقولها وأموت بطريقتي وليس بطريقتهم. نظرت إليهم وقالت: لا ...

وقف الأب من مكانه فاغراً فاه مستغربا، مصدوماً لجوابها الذي لم يكن يرتقبه وشرر الغضب يتطاير من عينيه.

ـ لماذا يا ابنتي؟

ـ لأنني أريد التخرّج أولا، بعدها أتزوج.

ـ لكن ما كان هذا رأيك.

ـ لم يكن قط رأيي يا أبي إنه رأيك أنت. أنت غصبتني على الموافقة.

نظر إليها المأذون وقال متدخلا: يا ابنتي طاعة الوالدين واجبة.

ـ أنا أطيع والدي يا سيدي، لكن كذلك مشورة الفتاة بأمر زواجها واجبة وإن كان كلامي هذا ليس صحيحا لماذا جئت ولماذا تسألني إن كانت موافقتي وعدمها سواء. إذا لا يهمّكم اتباع الشريعة كما هي فاكتبوا كتابي من غير مشورتي.

كان الأب يعيش كابوسا حقيقيا لم يستطع تصديقه، فما كان عليه إلا أن يشهر وعيده وتهديده كالعادة.

ـ ماذا سيقول علينا الناس؟ أتريدين جلب العار لنا؟

ـ لا يا أبي لا أريد إلا رضاك علي.

ـ أي رضا في تصرفك هذا. تصرف العاق الذي لا يراعي أهله ولا يخاف الله.

ـ لا يا أبي من فضلك أنا لست عاقة.

ـ ستوافقين على الزواج من نبيل وألا أسخط عليك.

تدخّل المأذون: الأمور لا تعالج بهذه الطريقة.

قال نبيل موجها كلامه للمأذون: أوافقك الرأي.

أشار الأب بسبابة يده اليمنى إلى المأذون وقال: اكتب عقد الزواج لا نريد الفضيحة.

علت الزغاريد والأم تصفق بيدها وعيناها دامعتان من شدة الفرح والعمة ترقص أمام ابنة أخيها تعبيرا عن الفرح. تقدمت إحدى الصديقات المقربات لأم العروس وأمسكت بيد العروس ورافقتها وعريسها إلى الدور الثالث والأم و العمة وسلمى والعنود خلفها يزغردن في تلك اللحظة. اختفت الابتسامة المصطنعة من وجه غالية وشحب وجهها وخفق قلبها بشدة وارتعدت فرائصها، تتلو القرآن وتصعد سلما واهيا ولا تسقط. تختبئ خلف الأنين وروحها تستعد لمعانقة السماء. أدخلتها النسوة إلى الغرفة مع زوجها ثم خرجن وأغلقن الباب. جلست على حافة السرير تضغط على ركبتيها بشدة لتمنعها من الارتعاش صامتة، جرداء الأحاسيس ودون روح. نظرت إليه كان جالسا على كرسي ويده على خده. انتبه إليها وارتبك. خفض بصره بسرعة وبدأ يحدق في أرض الغرفة. لم يصدق أهو في حلم أو كابوس، يحرك رجليه بشدة ويضغط على أصابعه بقوة محدثا طرطقات. وقفت في مكانها، اقتربت منه بخطوات هزيلة وقالت:
_ لماذا أنت حزين وكئيب أليس هذا ما كنت تصبو إليه؟ كنت فعلا ممثلا بارعا.
فتحت أزرار فستانها بيدين مرتعشتين وقطرات من الدموع متشحة بالحزن نزلت مضطربة على خديها، سقط الفستان من جسمها الذي بدا شبه عار لا يحجبه سوى اللباس الداخلي الأبيض الشفاف. فغر فاه شاردا في جسمها وفجأة وكأنه استيقظ من غيبوبة، أسرع إلى السرير أحضر اللحاف وغطى جسمها وحضنها بين ذراعيه. صمت رهيب ساد الغرفة قاطعه الطرق الشديد على الباب وصوت النساء يتأجج كالمد والجزر: يالْعْريسْ، سربي سربي اعطيه لينا سربي سربي سربي... أسرع أيها العريس ... وقدم لنا قطعة الثوب ... ثم هوين على الباب دقا وكأنهن يردن تحطيمه. تراجع نبيل خطوات إلى الوراء، مرعوبا وقال:
ـ ماذا يردن هؤلاء المجنونات؟ لماذا يطرقن الباب هكذا؟
أجابت وقواها خائرة، الكابوس الذي كان يراودها يشتعل مستعدا للاحتراق. بلعت ريقها وقالت وهي ترتجف:
ـ إنهن ينتظرن المنديل.
قال مفصحا عن عدم ارتياح: أي منديل؟
دموع كالسيل تنزف من عينيها، عضلات جسمها تتشنج، ودقات قلبها تزداد سرعة مع تلاحق الطرق على الباب. إنها لحظة كشف السر الخطير. قالت: منديل عليه…
خفضت عينيها ... ارتفعت أصواتهن مرة ثانية ... هوى الطرق يزلزل الباب في شغف ويدكّ روحها التي يمزقها نسيج هواء الغرفة المختنق... غريقة تحاول التعلق بقشة ووجهها مصفر يعلوه الهلع... تموج الأرض من تحتها ... صراخ وأصوات وزغاريد تدوي في براري الموت، وجسدها يتهاوى رويدا ويتراخى. كان نبيل يمشي في الغرفة بعصبية وينظر يمنة ويسرة وهي تتابع خطواته. لمحت عيناه إطار صورة على خزانة صغيرة بالقرب من السرير، صورة غالية وهي في سن السادسة ببذلتها المدرسية وحقيبة صغيرة بيدها. حمل الصورة، نظر إليها وابتسم ثم فجأة انقلبت ابتسامته إلى غضب. فك إطار الصورة، أمسك بقطعة الزجاج، كسرها، جلس على السرير بالقرب من غالية وأمسك بجزء من اللحاف الذي يغطي جسمها، مزقه ثم رفع كم قميصه وأحدث جرحا بذراعه. مسح الدم بذلك القماش وأسرع نحو الباب، فتحه بحذر ثم ألقى بتلك القطعة من القماش إليهن وأقفل الباب بسرعة وهو يتمتم بعصبية وغضب، المتعطشات المتلهفات لرؤية الدم ... الغبيات. أما هي فكانت تنظر إلى ذلك المشهد غير مصدقة ما تراه، حائرة من أمر ذلك الرجل. استلقى على السرير وحضنها بين ذراعيه في صمت. كانت تحت تخدير ذلك المشهد الخرافي ترتجف بين أحضانه إلى أن أغمضت عينيها وسط تلك الزغاريد وارتخى جسمها بعدما كان مشدودا وسكنت روحها التي كانت على وشك أن تزهق. ظل يفكر في المأزق الذي وقع فيه، محاولا إيجاد حل من غير أن يؤذي غالية وعائلتها. أفكاره تدور في حلقة مفرغة إلى أن سمع صوت أذان الفجر، سحب ذراعه ببطء كي لا يوقظها وتسلل إلى الحمام ليغسل قميصه من آثار الدم ووضع الإطار المكسر والصورة في حقيبة ملابسه. جلس على حافة السرير ينظر إليها ويبتسم. كانت تغط في نوم عميق وهادئ.

الحادية عشرة صباحا، صعدت الأم وفي يدها فطور خاص للعروسين. الأرز بالحليب ورغيف منغمس بالعسل والسمن. طرقت الباب. فتح لها نبيل.
ـ صباح الخير لقد جئت بالفطور.
أمسك منها صينية الفطور ووضعها على الخزانة الصغيرة التي بجانب السرير. ابتسمت الأم وانصرفت. جلس على حافة السرير ينظر إلى غالية ويداعب شعرها. فتحت عينيها وقالت بتحفظ: لأول مرة في حياتي أنام باسترخاء ودون كوابيس.
ابتسم وقال: هذا جميل. هيا البسي ملابسك، ستأتي عائلتك بين اللحظة والأخرى لتهنئك.
ـ ماذا سأرتدي؟ ملابسي كلها في غرفتي في الطابق الثاني.
أقبلت سلمى وهي تبتسم: هل عروسنا مازالت نائمة؟
قالت غالية موجهة الكلام لأختها: تفضلي سلمى أريد لباسا.
أشارت سلمى إلى الخزانة التي بالغرفة ثم اتجهت إليها وأخرجت القميص التقليدي المغربي الذي تلبسه العروس بعد دخلتها. حملت سلمى صينية الفطور إلى الصالون بنفس الطابق أما غالية فقد ذهبت إلى الحمام، استحمت بسرعة ولبست ملابسها وذهبت إلى الصالون حيث نبيل وأختها سلمى ينتظرانها. كان نبيل مرتبكا صامتا. أما هي فبعدما تخلصت من كابوس سرها لم تعد تبالي أو تفكر في شيء وكأنها ولدت من جديد.
نظرت إليها أختها وقالت مبتسمة: أرأيت يا غالية إن الزواج نعمة وليس نقمة.
انطلقت الزغاريد من الطابق الثاني، قدمت العمة والأم والعنود وبعض النساء المقربات إلى العروس يهنئنها وسلمن على العريس وباركن له وقبلن ابنتهن غالية تعبيرا عن الفرحة بعفتها وشرفها الذي رفع شرف العائلة. اقتربت العنود وهمست في أذنها

_ مبروك يا غالية لم أكن أظن يوما أنك عذراء.
ابتسمت غالية وهمست:

_ يؤسفني أنني خيبت أملك.
أحضرت الخادمة الفطور للنساء وبدأن يغنين ويزغردن من جديد، مهنئين دخولها إلى عالم الزوجية، متمنيات لها أن تكون ربة بيت صالحة وكانت هي تبتسم لفرحهن بعذرية من ذراع الدكتور نبيل.


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس