عرض مشاركة واحدة
قديم 17-11-13, 12:15 PM   #32

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


- 49 - 50 - 51 - 52 -

لمست خيوط الشمس الحريرية الأولى رؤوس التلال والهضاب، فانعكست ظلال الصباح الباردة على الأحقاف الرملية العذراء تبشر بأزلية الصحراء...
وفتح الدكتور نادر عينيه حين وقعت عليهما أشعة الفجر من خلال قبة المروحية الزجاجية الجاثمة على الرمل، فالتفت حواليه ليرى أين هو. كان كرسي الطيار إلى جانبه فارغاً، فأحس بفزع خفيف من أن يكون ترك وحده في قلب الصحراء... ونظر خارج الطائرة فتبين أنه في واحة خضراء مألوفة عنده.
واعتدل في كرسيه، فإذا على الأرض أمام الحوامة إنسان يقف مولياً إياه ظهره. وركز انتباهه فإذا الواقف امرأة ذات شعر أحمر حريري مسرح إلى الخلف، وعليها عباءة بيضاء.
وقفز قلبه وهو يفتح الباب لينزل. وما إن لمست قدماه الأرض حتى نادى:
- كارول؟
والتفتت المرأة بعد ارتعاشة فزع صغيرة، فإذا هي كارول نفسها.. أجمل في تلك اللحظة منها في أي وقت..* تواجهه بوجه صبوح وعينين مليئتين حياة ودفئاً...
وفتحت له ذراعيها فارتمى بينهما وضمها إلى صدره بقوة، وقد ابتلت عيناه دون أن يدري...
وبعد لحظة أبعدها عنه لينظر إليها، ثم سأل:
- ولكنني تركتك... تركتك...
فأضافت:
- ميتة؟
- أكاد أقسم أن نبضك كان متوقفاً*
- توقف مؤقتاً فقط.
- لابد أنها معجزة* لقد حاولت إرجاعك إلى الحياة بكل قواي، ولكنك كنت جثة هامدة..*!
ثم ضمها إليه مرة أخرى، قائلاً:
- ولكن شكراً لله على عودتك..! لن أتساءَل عن الأسباب.. فلابد أن هناك عالماً آخر وراء هذا بيننا وبينه حجب وأستار...
وسألته كارول عمَّا إذا كان جائعاً، فتذكر أنه لم يأكل مدة يوم وليلة، فعادت إلى الحوامة وأخرجت بعض الطعام، وافترشت لحافاً تحت دغل من النخيل وجلسا يأكلان.
وسأل نادر:
- ماذا حدث؟ من جاء بنا إلى هنا؟ أين طيارنا الصامت؟
وابتسمت كارول وقالت:
- أنا طيارك الصامت... لم أرد أن أكشف لك عن هويتي ونحن في الفضاء في حلكة الليل حتى لا أفزعك. فقد كنت تظنني ميتة.
ولاحظ نادر أنها اكتسبت عادات جديدة لم تكن لها من قبل، رغم أنها مألوفة لديه. ولكن ملاحظته بقيت في شعوره الباطن، كما بقي إحساسه بأن هناك هالة غريبة تحيط بشخصيتها...
وعاد يسأل:
- ماذا حدث؟
وركزت كارول عينيها في الفراغ وكأنها تجمع أشتات خيالها، ثم قالت:
- كل ما أتذكره هو أن "معاذاً" في دقائق حياته الأخيرة أصيب بنوبة جنون حادة... ويظهر أنه عرَّض جميع علماء الجودي من حاملي الصراصير إلى عملية غسل دماغ كاملة، ثم برمجهم بحيث يصبحون عباداً آليين له.... أو على الأقل للتمثال الذي صنعه لنفسه وأخرجه من قلب البحيرة، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.
- وماذا جرى لجماعة الثوار والمخبإ الذي كنتم فيه؟
- أغرقه معاذ بسرعة لم نملكْ معها الخروج في الوقت المناسب... ولقي أغلبنا حتفه في اللحظات الأولى من هجوم الماء من كل جانب... وقد سمحوا بإخراجي أنا الأولى لكوني امرأة...
- ماذا حدث لهالين؟
- لا أعتقد أنه نجا... رأيت جثث الجميع منثورة على الشاطىء أو فوق الماء...
ومرت فترة صمت قصيرة، قالت بعدها كارول:
- المهم هو أن معاذاً لم يستطع غسل دماغهم واستعبادهم...
- لكان أشنع مصير!
ومرت فترة صمت أخرى طويلة نسبياً قبل أن تتساءل كارول:
- عليّ، ماذا سنفعل الآن؟
- الشيء الطبيعي الوحيد... أن نعود إلى المدنية... هل يمكن لهذه الآلة أن تعيدنا؟
- أعتقد أن بها ما يكفي من الوقود لإنزالنا بمركز حضاري على شاطىء الأطلسي. وماذا بعد ذلك؟
وسبح نادر بعينيه في الفراغ:
- سنعلن للعالم المتحضر مغامرتنا هذه.
وظهرت سحابة خوف خفيفة على محيا كارول لم يلاحظها الدكتور نادر وهو يقول:
- تصوري ما توصل إليه "الجودي" من كفاءة وتقدم..! ذلك ما يسعى العالم نحوه الآن. ولو حكينا لهم القصة من بدايتها، فستكون لهم موعظة وعبرة حتى لا يقعوا في نفس الأخطاء...
وتنهدت كارول ثم قالت:
- ألا تعرف أن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي لا يستفيد من تجارب غيره؟
- ليس إذا كان الأمر يتعلق بالبقاء أو الفناء!
- هل تعتقد أنهم سيصدقونك؟
- العالم كله مهيأ لسماع قصتي! اختفائي الغريب كاف لأن يفتح الشهية لتصديق كل ما سأقوله... وأنت معي... أنت قطعة حية من الجودي، وشاهد عيان حي! فلو كذبوا واحداً، وشكوا في سلامة عقله، فلن يستطيعوا تكذيب اثنين!
وأمسك بيديها متسائلاً:
- ستؤيدينني، أليس كذلك؟
وأسبلت كارول عينيها، فكرر السؤال:
- أليس كذلك؟
فرفعت عينيها ونظرت في عينيه، فأحس أن مخلوقاً آخر ينظر إليه! ولكن إحساسه لم يترجم أي تفكير، وحركت هي رأسها موافقة، فقال:
- وما رأيك أنت؟ ماذا ينبغي أن نفعل؟
فأجابت:
- هل حقيقة تريد أن تعرف؟
فحرك رأسه مؤكداً، فقالت:
- رأيي أن ندخل المغرب. عن طريق مراكش، مثلاً. ونقيم هناك في حي كثيف السكان بالمدينة القديمة حتى نحصل على هوية جديدة، ونسافر إلى مدينة أخرى بأوراق تخفي شخصيتنا الحقيقية ونعيش كمواطنين عاديين...
وظهر الاستغراب في عيني نادر، وقال:
- ونحرم العالم من تجربتنا الهائلة..؟
- العالم لن يستفيد من التجربة... حتى ولو فرضنا أنه استمع إليك وصدق قصتك...
- سترين! إنه سيصدقونني، أنا شخصية علمية معروفة بالذكاء والاتزان... أقل واجباتهم نحوي الاستماع إليَّ وتصديق ما أقول...
وتنهدت كارول، فقال نادر متحسراً:
- هل ستساعدينني؟
فأمسكت وجهه بين يديها وضمته إلى صدرها...
كانت الشمس قد بدأت ترسل لهيبها على أجنحة النخيل... وبدأ السراب يتراقص كأفاع خفية تغطي السهول والتلال... ووقف الدكتور نادر ينظر إلى كارول وهي في بذلة عمل زرقاء تزيت لواليب محرك الحوامة، فسأل:
- متى سنقلع؟
- عند نزول الليل. لا يمكننا أن نطير نهاراً، وإلا تعرضنا للاعتقال والاستنطاق...
وبعد نهاية الصيانة أخذت كارول أدوات استحمامها وتوجهت نحو العين. وظل نادر يجول الواحة بحثاً عن آثار وجوده هناك مع تاج عند نزولهما الأول. ودون قصد وجد نفسه أمام العين حيث وقفت كارول عارية تستحم، قد غمرت أشعة الشمس الدافئة جسدها الوردي المتناسق. وحين رأته قادماً نحوها أسرعت تبحث عن الفوطة لتتستر بها في خجل أنثوي حلو... ووقف الدكتور نادر متكئاً بيده على ساق نخلة ينظر إليها في ارتباكها ويضحك. وعندما التفت بالفوطة سأل:
- ما هذا الخجل المفاجيء؟ كنت تدخلين غرفتي عارية...
وردت مندهشة:
- أنا؟!
ثم عادت تستدرك:
- أعتقد أنه رد فعل غريزي عند المرأة عند ظهور أي رجل... ثم هناك تغير البيئة. العودة إلى الطبيعة البدائية له مفعول تراجعي على عقلية المرأة. ربما... ألا تظن؟
وهناك فقط رن جرس حاد في رأس الدكتور نادر، وهو ينظر في عينيها وهي تحاول تفادي عينيه، فاعتدل في وقفته وعاد الجد إلى ملامح وجهه، فتقدم نحوها خطوات، وقال بصوت حازم:
- انظري إليّ! انظري في عيني...
فرفعت رأسها وقد ارتعشت يداها الطريتان على الفوطة المضمومة إلى صدرها، وارتجفت شفتاها كأن تياراً بارداً سرى في جسدها. وأمسك الدكتور نادر بوجهها بين كفيه، وركز عينيه الحادتين في عينيها لحظة، ثم همس متسائلاً:
- تاج؟
ولم تجب.
وارتعدت فرائص الدكتور نادر، فترك وجهها وابتعد قليلاً إلى الوراء مأخوذاً بصدمة المفاجأة.
وهنا تكلمت كارول مادة يمناها إليه:
- كنت أمل أن تتعرف عليّ.... يشهد الله كم تعذبت وأنا أريد أن أُفْصِحَ لك عن سري الغريب.
وأخرجته كلماتها من خَدَرِه، فسألها:
- ماذا حدث؟
- عندما طلبت أنت من معاذ إطلاق سراحي لم يكن في إمكانه ذلك، كان قد أشاخني وأهرم جسدي إلى حد التفتت والاندثار...
- ولماذا فعل ذلك؟
-كان يريد أن يستخرج مني معادلة الدكتور ناجي التي كان قد وضعها لشل جهاز "معاذ" الفكري وإرجاعه إلى حالته الأولى، آلة مطيعة... كنت قد عثرت عليها هنا في هذه الواحة مع البدوي الذي أراد اغتصابي. أتذكره؟ لقد حاولت أن أقول لك، ولكنك كنت جريحاً غائباً عن الوعي.
فسأل نادر مستغرباً:
- وإذا كنت أعطيته المعادلة، فلماذا أصر على إشاختك؟
- كان يريدني أن أنساها، بعد أن سردتها عليه من الذاكرة، وما كان ليُنسيني إياها إلا كبر السن، وضعف الشيخوخة...
وتنهدت بعمق، وتقاطرت الدموع على خديها، وهي واقفة حافية القدمين على الصخرة الملساء. ومد الدكتور نادر يداً في محاولة لتهدئة روعها ثم أرجعها إلى جانبه غير قادر على لمسها وكأنها شبح من عالم آخر..!
وتابعت تاج شرحها محاولة أن تجنبه الإحراج:
- حي أعتقني "معاذ"، خرجت روحاً بلا جسد...! وبقيت هائمة وراءك حتى عثرت على جسد كارول، هذا الجسد الواقف أمامك.... ورأيت حزنك عليها وتلطفك معها، فأحسست بأنه كان هناك بينكما إعجاب متبادل... وحالما ذهبت أنت عنها، تقمصت جسدها، وعدت فيه إلى الحياة التي لم يكن عمري بها قد انتهى بعد...
ومرت فترة صمت قضاها الدكتور نادر في صراع داخلي ممزق. وأخرجه من سرحته صوتها وهي تقول:
- لقد فعلت هذا من أجلك..! فهل تقبلني في جسدها هذا؟
ورفع يديه في حركة مترددة، وكأنه كان يتمنى لو لم تقل ذلك، وقال:
- أرجوك! ليس الآن! دعيني أهضم الموقف الجديد!
فقالت تاج متراجعة:
- أنت على حق... أعتقد أنه سؤال ظالم وفي غير وقته! الأجسام البشرية ليست فساتين تلبس وتخلع! سامحني إذا كنت أحرجتك؟
فوضع وجهه في كفيه، وقال:
- لاتعتذري، أرجوك... أتميِّ استحمامك الآن، وسنتحدث بعد ذلك...
وتركها ليهيم مفكراً بين النخيل، ويقلب وجهه في السماء...
لم يكن صراعه الداخلي عاطفياً فقط، فقد كانت عقليته العلمية وطريقة تفكيره المنطقية تقاطع عواطفه بعنف. هل هذا ممكن علمياً؟ لو لم يره بعينيه ما كان ليصدقه..! هل كانت هذا التقمص حادثاً فريداً من نوعه، أم في الإمكان تكراره في ظروف علمية مخبرية؟ وإذا كان ذلك ممكناً، فهل يمكن أن تسكن روح جسداً لم يصنع على مقاسها؟ هل يمكن لجسم كارول النخيف الطري أن يحتمل روح تاج الشرقية الحامية المحرقة؟ وما شرعية تبادل الأجساد؟ هل يمكن للمثري البشع أن يشتري لنفسه جسداً جميلاً؟ هل يمكن للعجوز الشمطاء أن تتقمص جسداً شاباً؟ وللسمين أن يحتلَّ جسداً نحيفاً؟ وفي كل جسد مشوه روح تطمح إلى التحرر والانعتاق...
وبعد أن لمعت في ذهنه هذه الأسئلة، وعشرات غيرها معقدة المفاهيم، عاد إلى واقعة يتساءل: "هل يمكنني أن أحب تاجاً في جسمها المستعار كما كنت أحبها من قبل؟ الحب الحقيقي هو ما تعدى الجسد إلى الروح... فهل في إمكاني تخطي جسد كارول إلى روح تاج؟
وأدرك كما لم يدرك في أي وقت مضى أهمية الجسد الذي حاول كثير من الأنبياء والفلاسفة والنساك تجاهله وإهماله... وعاد بذاكرته إلى حلمه القديم وهو يطارد تاجاً وهي عارية على الشاطىء. واقترب بمخيلته من جسمها الخمري الملتهب حيوية وإغراء... وكيف كان سواد عينيها وشعرها من العوامل التي ألهبت خياله وجذبته نحوها...
وفكر في جسد كارول الناضج وعينيها الرماديتين وشعرها الأحمر، فلم تجذبه إليها كرجل شرقي بنفس الحرارة التي جذبته تاج... الجمال الغربي كان عنده مؤقتاً وليس خالداً كالشرقي....
وقضى ذلك المساء هائماً حتى أنهطه التجوال والتفكير، فقصد إلى ظل نخلة وانطرح ليستريح، فأخذته إغفاءة حولتها نسمات المساء إلى نومة عميقة...
أحس الدكتورنادر بقرع متواصل على قاع حذائه فخرج من نومة الأموات التي استغرقت جسده وعقله المجهدين... وجاهد ليفتح عينيه غير واع أين هو ولا بمن يوقظه. ومن تحت غشاوة نومه رأى وجهاً آدمياً يشرف عليه من فوق، وسمع صوتاً خشناً يحاول إيقاظه... واتكأ على مرفقيه ليعتدل جالساً بظهره إلى النخلة، وفرك عينيه وتثاءب، ثم نظر إلى حيث الوجه، فإذا هو ضابط شاب مُلوح الوجه والذراعين من حرس الحود المغربية.
سأل الضابط بصوت آمر:
- هل معك سلاح؟
وحرك نادر رأسه نافياً:
- لا!
فأشار الضابط الشاب إلى أحد رجاله الملتحين بسوط في يده، فخف هذا نحو الدكتور نادر وطلب منه أن يقف. وحين وقف مر الرجل بيديه على جيوبه وأطرافه، ثم التفت إلى ضابطه وقال:
- لا سلاح معه.
ثم عاد إلى حيث كان واقفاً إلى جانب جَمَلِه، واستدار الدكتور نادر لينظر إلى الدورية المكونة من خمسة رجال في ملابس صحراوية، بعضهم يبدو عليه أنه في سن والد الضابط.
ونظر إلى الضابط الشاب الذي أشار إليه أن يُسدل يديه ويستريح، فإذا هو حليق الوجه في عقده الثالث. وسأل هذا:
- من أنت؟ وماذا تفعل هنا؟
- أنا الدكتور على نادر. أنا مفقود..
- هل معك أوراق هوية؟
وكأنما فوجىء الدكتور نادر بالسؤال، فنظر إلى صدره ليرى ماذا يلبس وهل له جيوب. ثم لمس صدره وجنبيه وقال:
- لا، ليس معي أوراق. لقد ضاعت حقيبتي...
ثم تذكر فجأة فنظر حواليه إلى حيث كانت المروحية جاثمة فلم يجد لها أثراً... ونظر بشك وتردد إلى الضابط ورجاله ثم سأل:
- أين هي؟
- من؟
- الفتاة.
- أية فتاة؟
- تاج. أعني كارول. والمروحية؟
فكرر الضابط الشاب باستغراب:
- المروحية؟!
المروحية التي كانت باركة هناك .. ماذا فعلتم بها؟.
ومص الضابط شفتيه، وأشار إلى الدكتور نادر متلطفاً:
- أعتقد أنه من الأحسن أن تأتي معنا...
وأمر له بناقة وغطاء رأس، فامتطاها على مضض وهو زائغ العينين، يحملق حواليه بحثاً عن كارول، وقد بدأ يدرك حقيقة موقفه.
ما حدث بعد ذلك كان شديد الإحباط وخيبة الأمل للدكتور نادر...
فقد تناقلته السلطات من مركز إلى مركز حتى وصل إلى وزارة الداخلية... وكلما بدأ يحكي قصته لمسؤول بانت علامة الشفقة وعدم التصديق على وجهه، فقاطعه بلباقة وأرسله إلى مركز أعلى للقرار في شأنه...
وأرسلته الداخلية إلى مسقط رأسه، حيث تعرفت السلطات عليه، وأثبتت هويته. وقفلت الداخلية ملفه على أنه ضحية حادث طائرة ظل هائماً في الصحراء حتى أُصيب بخلل عقلي. وقد سلم لعائلته للقيام بعلاجه.
ولم ييأس الدكتور نادر! إلا أنه لم يعد يكرر قصته على أحد حتى لا يصبح هدفاً للسخرية وللتنكيت.
وبمجرد حصوله على جواز سفر جديد سافر إلى لندن، حيث كانت سبقته أخبار ظهوره بعد حادث الاختطاف أو الاختفاء الغامض.
وخرج رجال سكوتلانديارد من غرفة الدكتور نادر مودعين بلباقة، وعلى وجه رئيسهم نفس النظرة التي اعتاد أن يراها نادر على أوجه الرسميين المغاربة، الإشفاق وعدم التصديق.
واكتظ الفندق الذي نزل به برجال الصحافة وأعضاء الجمعية الأنثروبولوجية وآلات التلفزيون والراديو، فقرر أن يجتمع بالجميع في مؤتمر صحافي بمسرح الجمعية الملكية الأنثروبولوجية.
وأعد تقريراً مفصلاً عن مغامرته واكتشافاته، نقلتها أمواج الأثير إلى جميع أطراف الأرض.
وباتت الأسلاك والمحطات الفضائية تتناقل الصور والتقارير عبر السماوات.
وفي الصباح طلعت الصحافة بعناوين ضخمة مثيرة تروي قصة الدكتور نادر وتحمل صورته، وتضاربت التعاليق ما بين مصدق ومكذب وساخر ومتهكم. وأعلنت "جمعية راصدي الأطباق الطائرة" عزمها على إرسال بعثة لاستكشاف حقيقة الرواية.
وطارات نفاثات الاستكشاف الأمريكية من قاعدة "روطا" بإسبانيا مستعملة أدق أجهزة تصويرها... ومن الجزائر لاحت طائرات الميج لتحرث سماء الصحراء لنفس السبب...
وبعد تحليل آلاف أميال الأشرطة، وتكبير صورها الغامضة، لم تبد علامة بحيرة على رأس جبل، كما وصف الدكتور نادر، ولا رأس عملاق مرمري بارز وسط الماء...
ووصفت الصحافة القصة بأنها أكبر كذبة فاتح إبريل في التاريخ..! ولم يعد الدكتور نادر يجرؤ على مقابلة أحد، وتفاداه أصدقاؤه العلماء حتى لا يتعرضوا للحرج إذا هم رفضوا تصديق روايته.
ولم يحتمل الدكتور نادر الضغط الهائل الذي وجد نفسه تحته، وخصوصاً وهو ما يزال يعاني من آلام عاطفية محرقة من جراء هجران تاج له دون وداع.
وأفاق ذات صباح ليجد نفسه في غرفة بمستشفى خاص يعاني من آثار انهيار عصبي عنيف.



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس