عرض مشاركة واحدة
قديم 13-01-14, 12:22 PM   #3

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


الفصل الثاني


كانت رائحة البرسيم تعبق في الجو في ذلك الصباح المهيب وملكة تعزف في حقلها بجد ونشاط. بدأ أن هذا الموسم الزراعي ناجح، جادت فيه الأرض بكل سخاء وسيكون هذا العام عام خير لأهل البلدة كافة.. جلست ملكة تلتقط أنفاسها تحت شجرة الحراز الضخمة وعن كثب منها كان الحمار المكتنز يعتلف من الحشائش المنتشرة على حافة الجدول الكبير الذي يمر بجميع حقول البلدة.لا زالت ملكة تذكر لعدة سنوات مضت عندما حضر وفد الحكومة ولأول مرة ترى رجالات الحكومة الجديدة آنذاك كان يرتدون البدلات العسكرية الخضراء الجميلة التي تزينها النياشين والأنواط.. هؤلاء أعضاء "مجلس قيادة الثورة" .. كان الحماس يتدفق من أحاديثهم والإصرار يلمع في عيونهم. كرمهم أهل القرية بالذبائح والزغاريد عندما حضرت عربتهم العسكرية تشق طرقات القرية الضيقة المتربة.. الرجل الوحيد الذي لم تعجبه تلك الزيارة كان حاج إبراهيم، ما فتئ يلعنهم وينعتهم خفية بالكفار والملاحدة.. وفي المجلس الكبير الذي ضم أعيان البلدة ورجال الحكومة تقرر أن تزود البلدة بوابورات لسحب المياه وشق ترعة رئيسية بدلاً عن طريقة الري بالساقية القديمة والتي أذل بها حاج إبراهيم أهل البلدة فهو الوحيد الذي يملك ساقية، كان يبيع لهم الماء، يعطي من يشاء ويحرم من يشاء ولم تصدق ملكة أن هذا الحلم تحقق آنذاك، ما أن أنصرف رجال الحكومة الجديدة الممتلئين بالحماس وسط زغاريد النساء وأهازيج الأطفال.. بعد أيام قلائل حتى حضرت الشاحنات الكبيرة تحمل هذه المردة الحديدية التي يتدفق الماء منها كالشلال وأصبحت ملكة تنظر إلى أبعد ما تستطيع ولا تجد حداً فاصلاً بين حقلها الممتد والسماء "بارك الله في هؤلاء الرجال أصحاب البدلات العسكرية التي تزينها النياشين والأنواط تحدثوا قليلاً وفعلوا كثيراً " .. قطع ظهور الأولاد حبل أفكارها كانت أقدامهم الصغيرة تتعثر وهم يشقون الحقول تحت وطأت ما يحملونه من طعام وحفاظة الشاي إلى أمهم الحبيبة، ابتسمت ملكة عندما طاف في ذهنها المستقبل المشرق الذي ينتظر هؤلاء الصبية في ظل الثورة الاشتراكية.. ها هي القرية قد انتعشت وازدهرت في فترة وجيزة وأول الغيث قطرة. جلس الأطفال حول أمهم وبدأو في تجهيز أواني الإفطار.. وارتفع نهيق الحمار معلناً بدأ الفطور والتفت ملكة إلى الأولاد:


- ما الخبر يا أولاد هل استيقظ والدكم؟


قالت ملكة في استياء فهي تعرف ماذا يعني أن يستيقظ محمد أحمد.


- نعم استيقظ واعلن أنه ذاهب إلى السوق بعد إثارة ضجيجه المعهود وتعليماته التي لا تنتهي.


كان رد شريف بمثابة إنذار لملكة بأن محمد أحمد يعتزم أمراً جللاً، فزياراته للسوق طابعها دائماً الإثارة، فأنبرت في حدة :


- ماذا يريد من السوق؟!


- لديه جولات تمر يزمع بيعها وهي في مخازن حاج إبراهيم.


- لعنة الأبالسة عليه !! لا بد أنه يريد أن يبيعها للنسوان اللاتي يصنعن الخمور البلدية بثمن بخس..


قالت ذلك وقد بلغ بها الاستياء مداه، ثم انتصبت وغسلت يديها من جدول الماء، جمعت زينب الأواني وجلست عند حافة الجدول تغسلها، معاوية الصامت دائماً يجلس ساهماً، دارت أكواب الشاي الساخن عليهم، غرق الجميع في صمت يرشفون الشاي في تلذذ في حرم الحقول اليانعة الخضرة.. كانت ملكة تعلم تماماً أن الحديث عن مثالب بعلها العنيد لا تنتهي، لكن مع ذلك تعلم في قرارة نفسها أنها تحبه ذلك الحب الذي يجعله جدير بعداوتها فتصب عليه سخطها واحباطاتها وليس هناك رجل جديد بعداوتها غيره.. بدأت الشمس تصلي الأرض بشواظ من نار، التفتت ملكة إلى أولادها:


- انصرفوا الآن قبل اشتداد الهجير ، وأرعوا أخاكم وليد - نعم يا أمي.


- ثم أين صابر ؟!- استيقظ كالمعتاد وحمل الطمبور وذهب إلى طاحونة الأحمدي.


- ألم تخبروه بأني أريده هنا؟


- أخبرناه يا أمي.


- تباً لهذا الولد الخائب .. انصرفوا الآن واخبروه يأتي إلى هنا بدل الجلوس ومعاكسة الفتيات في الطاحونة.


ودعت ملكة أولادها بنظرة حنان وعيون ملأى بالدموع ثم حملت معزقتها وانهمكت تعمل في جد النشاط حتى استغرقها العمل تماماً ولم تر العربة لاندروفر التي لاحت في الأفق الجنوبي خلف الحقول في طريقها إلى القرية، عربة عبد اللطيف عم أولادها الثري، القاضي الكبير المقيم في الخرطوم.. عبد اللطيف الشقيق الأصغر لمحمد أحمد، نال درجات عليا من التعليم فوق الجامعي أهلته لهذا المنصب الرفيع الذي ينعم به الآن.توقفت العربة أمام بيت محمد أحمد مثيرة عاصفة من التراب، الشيء الذي استفز كلاب ود البشير الجزار فأخذت تنبح نباحاً شديداً معلنة حضور جسم غريب للبلدة، نزل عبد اللطيف من العربة يحمل حقائبه وجلبابه الأبيض الناصع يتلامع مع شمس الظهيرة، تدافع أبناء محمد أحمد نحو عمهم وتناولوا الحقائب المحملة بالهدايا إلى داخل البيت في مظاهرة عارمة.. عبد اللطيف بمثابة ليلة القدر يأتي دائماً محملاً بالهدايا وكل ما يبهج الأطفال، جلس عبداللطيف على العنقريب المتهالك وأمامه كوب ليمون ويحمل وليد بين يديه جلست محاسن عن كثب في العنقريب المقابل تمشط شعرها وكان النزاع قائم بين شريف وزينب في الهدايا المتناثرة على العنقريب الثالث، التوتر بادياً على عبد اللطيف.. كان في عجلة من أمره رغم مشوار السفر الطويل بالعربة الذي يفوق مئات الأميال:


- أين والدكم؟


- ذهب إلى السوق.


قبل أن تختم محاسن كلامها أنفتح باب الفناء الخارجي معلناً قدوم محمد أحمد المخمور وفي يده زجاجة العرق رفيق دربه.. لم يلحظ محمد أحمد وجود شقيقه لأول وهلة وبدأ كالمعتاد يرسل شتائمه وسبابه.


- تعساً لكم .. لمن العربة التي تقف في الخارج؟


- هذا عمي عبد اللطيف يا أبي .. حضر تواً من الخرطوم.قالها شريف في ارتباك وتفادى والده الثمل..


وقف محمد أحمد كالمصعوق يحملق في شقيقه وقد أخذته المفاجئة غير المتوقعة وتمتم من تحت لسانه المتلعثم.


- السلام عليكم ورحمة الله .. متى حضرت؟


- أهلاً وسهلاً… ما هذا الاستقبال السيء يا أخي .. متى تقلع عن هذا السخام.


- ماذا أفعل يا أخي .. الحياة صعبة لا تطاق ؟!نظر عبد اللطيف في حنان عميق ممزوج بالشفقة إلى شقيقه وأوسع له مجال يجلس بجواره مردداً.


- ألا تريد أن تنساها ابداً وقد طال الأمد ؟!


- آه .. ما أتعسني !!


انحدرت دمعة مره من عيني محمد أحمد المحمرتين .. وتداعت الذكريات الحافلة بالشجن.. نورا رفيقه صباه التي طواها الموت في ريعان شبابها ودفنت في المدينة التي غمرتها المياه بعد نزوح جل أهلها الطيبين.. تذكر ضفائرها الطويلة وجسدها الناحل وشقاوة الطفولة ولهوها البريء، والصعود على أشجار النخيل الطوال واقتسام التمر.. مسح عبد اللطيف الدموع من عين شقيقه وضمه إليه.- إن لك زوجة وأطفال الآن، هم الأولى بحبك ورعياتك.كانت نصائح عبد الطيف تسبب آلاماً شديدة لأخيه فأنبرى له في خنوع.- لا تشمت في ابنائي يا ابن أمي.. أعدك بأن تكون هذه آخر زجاجة.- أنه كوعودك السابقة!!سرح محمد أحمد بخياله بعيداً، إن زيارة شقيقه حركت أشجان قديمة.. عندما ماتت نورا أدمن محمد أحمد شرب الخمر وترك الدراسة وأخذ يلازم قبرها السنين الطوال وفي مرة تعارك مع المرحوم والده عندما عرض عليه الزواج من امرأة أخرى واستقل القطار الذي يعج بالمسافرين القادمين من مصر ويتجه جنوباً.. في القطار التقى بالرجل الغامض الذي كان ينبعث ضوء أزرق من عينيه.. كانت نظرات الرجل الطيبة تتغلغل في أعماق محمد أحمد الجريحة وتضمدها كشعاع الليزر وكلامه المشبع باليقين " يا ابني لا تحزن، الحياة مثل هذا القطار الذي نركبه، يأتي الناس ويعمرون الأرض وينصرفوا في عتمة السديم الرمادي الذي يسمى الموت وتتحلل أجسادهم، وتفنى في التربة، أما الأرواح فتصعد إلى عليين أو ترتد أسفل سافلين" ظل يرن في أذنه سنين طوال.قطع حبل أفكاره أخيه متسائلاً :


- إلى أين ذهب عقلك ؟!


القى محمد أحمد الزجاجة جانباً وأخذ يحدق في شقيقه الذي يجلله الثراء من أخمص قدميه حتى رأسه ولحيته التي خطها الشيب ووجهه المصقول كالمرآة.


- انى فقدت أشياء لا تعوض يا أخي !!لا يعرف الليل الطويل وسهده إلا من تنجم أو أنا


- دعك من هذا الحديث الذي يحبط الأعمال طأطأ محمد رأسه وبدأ كأنه استيقظ من حلم طويل ونظر إلى أخيه كأنه يراه أول مرة وتحدث مغايراً مجرى الحديث.


- ما هي أخبار أمنا أمنة؟


- حضرت من البلد لإجراء بعض التحاليل الطبية في الخرطوم وهي تبلغك السلام.


- الله يسلمها .. هل هي بخير؟


- نعم بخير وأرسلتني لك في موضوع هام ..


نظر محمد أحمد إلى شقيقه في توجس .. كلام الأم لا بد أن يطاع .


- أرجو أن يكون بوسعي عمله تنحنح عبد اللطيف وبدأ سرد موضوعه


- أنت تعرف يا أخي أن الله أنعم علي بثروة ولكن تنقصني نعمة الولد.


- كيف ذلك.. هل نسيت ابنتك هند؟ - لم أنسها يا عزيزي ولكن ليس الذكر كالأنثى.. أعتقد أنك تعرف ما أعني.


- تعني أنك تريد أخذ أحد أولادي الذكور.- نعم هكذا قالت الأم.. وليكن صابر.


سرى التوتر بين الأطفال لدا سماعهم الخبر .. صابر !! شقيقهم الحبيب يسافر بعيداً


- تأخذ صابر !!


- نعم سأجعله كإبني تماماً، سأوفر له جميع فرص التعليم وأعدك أنه سيكون في أمن وأمان.


بان التفكير من وجه محمد أحمد ثم قطب جبينه .


- أنا ليس لدي مانع أن تأخذهم كلهم إذا شئت ولكن ملكة ستحيل حياتي إلى جحيم وأنت تعرفها جيداً.


- لا عليك ستثور قليلاً ولكن عندما تتغلب المصلحة العامة على عاطفة الأمومة ستتفهم ذلك.


دخل صابر يحمل طمبوره المتهالك.. كان لا يدري ما يدور بخصوصه.. حيا صابر عمه في ود ودخل إلى احدى الحجرات، كان عبد اللطيف يتأمله في اعجاب.. اعجاب الرجل الذي لم ينعم عليه بنعمة الولد الذكر .. نظر محمد أحمد في أثر ابنه بعينيه اللتين زالت آثار السكر عنهما تماماً وبدتا صافيتين وصاح :


- صابر .. تعال هنا.التفت صابر وقفل عائداً وأخذ ينظر إلى أبيه في توجس


- نعم يا أبي.


- ستسافر مع عمك لتقيم معه في الخرطوم…


- لكن يا أبي أنا ..


قاطعه والده بحده


- تعساً لك أيها الغبي .. ما الذي يعجبك هنا؟!.. جهز نفسك للرحيل.. هيا انصرف.


لمعت الدموع في عيني صابر، كان بقية الأطفال يحملقون فيه في دهشة وذهول، كم تبعد الخرطوم هذه عن خيالهم البسيط. دخل صابر الحجرة وجمع ملابسه في عصبية وقد تطايرت في ذهنه الأفكار فعلاً إن بقاءه لا يفيد.. خاصة وأنه صاحب طموحات جبارة وها قد أتته الفرصة تسعى على قدمين. لكن أمه .. اشقاؤه… قطع صياح والده خارج المنزل الممزوج بهدير المحرك حبل أفكاره.. اندفع خارجاً لا يلوي على شيء حتى أنه لم يلق نظرة وداع على اشقائه الذين تكوموا بعيدا يودعونه بدموع تناثرت من أعينهم كالدرر.اندفعت السيارة تشق طرقات القرية وصابر ينظر بعين دامعة إلى معالم القرية، ودكان حاج إبراهيم .. المدرسة .. المقابر.. قبة شيخ صالح.. المزارع الخضراء الممتدة في الأفق الغارب وطيف أمه البعيد، تحزم ربط البرسيم وترفعها على حمارها وتبدأ رحلة العودة وكما ظهرت العربة اختفت كالحلم في الأفق الجنوبي وسائقها يكاد يطير من الفرح، صابر ابن أخيه وحلمه الذي تحقق سيصنع منه رجل عظيم وستفرح به زوجته الطيبة فاطمة والأم وهند أيضاً.* * *كان الحمار يشق طرقات القرية ينؤ بحمله الثقيل ملكة وحزم البرسيم وقد تعالى آذان المغرب، حيت ملكة حاج إبراهيم بفتور أثناء مرورها أمام متجره وما أن اقتربت من المنزل حتى صاحت بصوتها الرفيع.- صابر .. شريف.قفزت من الحمار بخفة وربطته عند الباب.. لمحت ملكة آثار السيارة التي ما زالت واضحة أمام الباب.. حدقت في الآثار في توجس انفتح الباب وأطل منه شريف، بدأ شريف يساعد أمه في إنزال حزم العلف من على ظهر الحمار المنهك.. لم تلحظ ملكة الوجوم الذي يخيم على ابنها ودلفا إلى داخل المنزل، حيث كان محمد أحمد كالمعتاد متكوماً في فراشه في طرف الفناء بعد تناوله الجرعة المسائية من الخمر.. وهو يسب ويلعن اعداءه الوهميين دارت ملكة ببصرها تتفقد أولادها، زينب تحمل وليد عن كثب.. محاسن تعد شاي المغرب.. هناك أحد ا غائب .. أحست أن أولادها يبدون غير طبيعيين، تمتمت ملكة في توجس


- ماذا بكم يا أولاد .. أين صابر؟


نظر شريف إلى أمه في حزن ومن خلال الدموع التي طفرت من عينيه أجابها.


- أخذه عم عبد اللطيف الذي حضر الظهيرة.. ليقيم معه في الخرطوم.


وقع الخبر على ملكة كالصاعقة، ونهضت كالملسوعة وأندفعت نحو زوجها النائم وهزته بعنف حتى استيقظ وهي تصرخ وتولول.


- أين صابر يا محمد أحمد .. أين ولدي أيها السكير التعس ؟!


هب محمد أحمد مذعوراً وأخذ يحملق في زوجته التي انقلبت سحنتها تماماً.


- لا أعرف .. أكله التمساح!!


طفرت الدموع من عينيها وقد اجتاحها شعور عميق بالهزيمة أنه الآن يسخر منها.. أخذت تهزه بقوه.


- لماذا تركت عبد اللطيف يأخذه .. لماذا؟ صابر وا والداه !!


بدأت أمارات الغضب تنتشر على وجه محمد أحمد وازاحها بعيداً وزعق فيها.


- تعساً لك.. تعساً لكم جميعاً .. فليأخذكم الشيطان جميعاً أنت وبقية الأود .. اغربي عن وجهي !


انهار محمد أحمد نائماً مرة أخرى وارتفع غطيطه.. استدارت ملكة وانزوت جالسة في ركن قصى وقد تحلق أولادها حولها وهي تنوح وتندب حظها العاثر.. الخرطوم تعني الموت بالنسبة لها.. الخرطوم حيث تكثر حوادث الحركة وجرائم القتل .- ماذا فعلت يا محمد أحمد؟ كيف تتخلى عن ابنائك تباً لك ؟!.كانت الأفكار تتضارب في عقل الملكة كأمواج البحر الهائج " لابد من الذهاب الآن إلى الخرطوم مهما كلف الأمر.. لكن كيف ؟!" وهي لا تعرف من أين تبدأ أو اين تقع الخرطوم وهي لم تعبر النهر إلى البر الشرقي إلا مرة واحدة في حياتها عندما حضر ذلك الزعيم الطائفي الكبير ماراً بالقطار في المدينة المجاورة على الضفة الشرقية للنيل.. لكن لا بد من السفر حتماً ستصل إلى الخرطوم وتعود بإبنها حتى لو كلفها حياتها .. يجب أن تتذرع بالصبر الآن حتى لا تفزع أولادها.. أنهارت ملكة على العنقريب متظاهرة بالنوم وبدأ أولادها يدبون نحو مضاجعهم في صمت وعم السكون المنزل مرة أخرى ما عدا غطيط محمد أحمد المتقطع الممزوج بالشتائم والسباب بين الفينة والفينة التي يكيلها لاعدائه الوهميين.. وزجاجة الخمر الملقاة تحت فراشه تتلامع تحت ضوء القمر.. كان القمر بازغاً في تلك الليلة وأشعته الفضية تغمر المكان وتلقي ظلال ساحرة في المنزل .. نهضت ملكة في هدوء ودخلت إلى حجرتها. حملت صرة ملابسها ونقودها ثم عادت واتجهت نحو فرش محاسن وأخذت توقظها برفق .. هبت محاسن مذعورة وهدأت عندما لمحت وجه أمها الهادئ يبتسم لها مبلل بالدموع الجافة التي كانت تتلامع مع ضوء القمر.


- لا تفزعي يا بنتي.. اهتمي باخوتك.. أني ذاهبة لأحضر صابر.


- لكن يا أماه الليل و ……


- لا تخافي علي يا حبيبتي، ماذا يفعل قطاع الطرق بامرأة عجوز مثلي؟


نهضت ملكة من جوار ابنتها واتجهت نحو فراش وليد النائم وحملته وقبلته بقوة وعادت به إلى محاسن واضجعته جوارها.


- نامي يا بنتي.. أمك أمرأة شجاعة لا تخاف أبداً.


نهضت ملكة واتجهت نحو فراش ابنها شريف وأخذت توقظه بهدوء.


- قم يا شريف..أنا أمك فتح شريف عينيه في ذعر، يبدو أنه كان يعاني من كوابيس مزعجة.


- ماذا !! من ؟ أمي..


- نعم يا ولدي.. امك ذاهبة إلى صابر.. هيا أنهض لتقوم بتوصيلي إلى مشرع المعدية عند ضفة النيل.


- لكن يا أمي الخرطوم بعيدة جداً.


- نعم يا ابني أعلم أنها بعيدة ولكن لا بد منها وإن طال السفر، هيا انهض لتجهيز الحمار.


نهض شريف وخرج يجهز الحمار، نهضت ملكة واتجهت نحو فراش بعلها اللدود النائم..سحبت عليه الغطاء بحنان بالغ تقيه برد الأسحار واستدارت منصرفة خلف ابنها، لازال القمر اللامع يركض خلف نتف السحب وملكة وابنها يشقان طريقهما بين اشجار النخيل حيث تداعى إلى مسامعهما صوتاً حداء عبد الجواد المراكبي من أبناء القرية التي تقع قصادهم في البر الشرقي، كان في صباه شاب قوي ومن أكثر المعجبين بملكة حتى أنه كان يجازف بحياته بعبور النهر لرؤيتها وهي ترد الماء بين اترابها وكم نظم فيها من قصائد.. كان ذلك زمن ولي.. اقترب الحمار براكبيه من الرجل الذي أخذ يحملق في طيفهما في دهشة


- السلام عليكم يا عبد الجواد.


انساب صوتها على اذنه كالجرس وايقظ فيه جروح قديمة.


- أهلاً ملكة.. ماذا أتى بك في هذا الليل المتأخر؟


- اريد العبور إلى البر الآخر هل لديك مانع.


- ابداً هذا ما يسرني.. هل سيعبر ابنك معك؟


- لا سأعبر وحدي.


التفتت ملكة تودع ابنها الذي اعتصره الألم وطفرت الدموع من عينيه مسحت ملكة دموع أبنها.


- لا يا شريف الرجال لا يبكون.. أرعى اخوتك حتى أعود.


اندفعت نحو المعدية، وقف شريف عند الشاطئ يلوح لأمه التي أبحر بها القارب يشق الماء الذي اكسبه ضوء القمر لون اللجين المصهور، جلست ملكة قبالة الرجل الذي بدأ يجدف مبتعداً.. أخذت ملكة تحدق في شبح ابنها الذي وقف عند الشاطئ ممسكا بالحمار ويلوح لها بيده.. ظل المركب يبتعد تدريجياً من الشاطئ واقترب الشاطئ الآخر رويداً رويداً وبدأ ت الريح الخفيفة تعبث بأثواب ملكة وهي تجلس منكمشة عند حافة القارب وقد انتابتها الهواجس حتى أنها لم تفطن إلى النظرات الماجنة التي كان يمسح بها الرجل جسدها كلما انكشف منه جزء بفعل الرياح، اقترب المركب من الشاطئ المقابل أكثر وعينا الرجل قد امتلأتا ببريق الشهوة .. ترك عبد الجواد المجداف واقترب منها، ووضع يده على فخذها.. تنبهت ملكة فجأة ونهضت كالملسوعة ورفعت يد الرجل بعيداً وقد امتلئت عيناها رعباً، صارخة في وجهه: - اتق الله يا رجل ؟ لم يأبه الرجل لكلامها وقد استيقظت فيه كل كوامن الماضي وشرع من مداعباته، حاول أن يضع يده على صدرها، لم تحتمل ملكة هذا وانتابها شعور عميق بالقرف وصفعته بقوه.. اثارت الصفعة جميع كوامن الرجل الحيوانية واندفع نحوها يريد تطويقها بيديه وانقلب المركب مطوحاً بهما في الماء.. اطفأ الماء البارد شهوة الرجل المتأججة كما يطفئ الماء قطعة حديد متوهجة وبدأ الرجل يسبح جاهداً في اتجاه ملكة التي شارفت على الغرق وهو يسب ويلعن الشيطان الذي لعب بعقله وكان يقوده إلى ما لا يحمد عقباه، كعادة خلق الله أجمعين يلقون تبعه أعمالهم الشريرة على الشيطان حتى لو كان الشيطان نفسه نائماً في ذلك الوقت المتأخر من الليل.. سحب الرجل جسد ملكة المبتل إلى الشاطئ وقد أغمي عليها تماماً.. جرها بعيداً عن الشاطئ واراحها على الرمال الناعمة وسبح عائداً لإنقاذ مركبة الذي أخذ يغرق تدريجياً، دفع الرجل مركبه إلى الشاطئ وربطه بإحكام وابتعد نحو قريته التي كانت تلوح عند كثب دون أن يتلفت إلى الجسد الممدد على الشاطئ الذي تركه خلفه، وقد تسارعت انفاسه وهو يتمتم ويتعوذ بالله..ظلت ملكة ممددة على الشاطئ بلا حراك تعبث بها الرياح ..


*****



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس