عرض مشاركة واحدة
قديم 13-01-14, 12:29 PM   #8

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


الفصل السابع


كان الليل قد خيم على المدينة.. المستشفى الخاص يتلامع بأنواره الزاهية.. الغرف الفخمة المطلية باللون الأبيض والزهور التي تغطي المكان تجعل المريض لا يعرف "هل مات حقاً ودخل الجنة أم لايزال على قيد الحياة ؟!".. وقف صابر وأمه عند فرش الجدة المريضة، رددت المرأة العجوز في صوت واهن.


- كيف حال الولد محمد أحمد والأولاد؟


- الجميع بخير ويقرؤنك السلام.نظرت الجدة نظرة حب عميق إلى صابر.


- هل جاءت أمك لتأخذك منا؟!


لاذ صابر بالصمت الحزين، نظر إلى ساعته وتناول صندوق الدواء جوار جدته وتناول منه كبسولة ورفع رأس جدته على ساعده وناولتها ملكة كوب الماء، ابتلعت الجدة حبة الدواء بصعوبة واستلقت مرة أخرى. رن جرس بانغام جملية معلناً انتهاء الزيارة، دلف صابر وأمه إلى خارج الغرفة ومن ثم إلى خارج المستشفى.. وصلت السيارة إلى المنزل الذي كان يلفه الهدوء في ساعة متأخرة، تناولت ملكة العشاء مع ابنها وصلت العشاء ولم تجد مناصاً من النوم الذي زادت اضطراباته وطافت بها الأحلام إلى القرية والتحول المفاجئ الذي حدث لإبنها صابر.. ظلت تمر في أحلامها في شكل كوابيس مزعجة.. رأت ابنها يبتعد عنها في صحراء تعوي فيها الرياح في محيطات لا نهائية من الرمال وهي تناديه وصوتها يذهب أدراج الرياح.. سبب لها ذلك آلام شديدة جعلتها تواقة للرحيل بأسرع فرصة وقد مضى على فراقها للقرية ردحاً من الزمن خالته حقباً طوال..


* * *


استيقظت مبكرة كما أعتادت البكور في الريف وجلست مع رب الأسرة في الشرفة المطلة على الشارع الذي تنساب فيه السيارات الفارهة تنهب الطريق نهباً وأمامها درزينة من الدرجات النارية تعوي مبددة هدوء الصباح عن المدينة التي لا زالت تتثاءب لاستقبال يوم جديد..قطعت ملكة حبل الصمت والإحراج الذي خيم على عم أولادها منذ ظهورها المفاجئ..


- لقد قررت العودة اليوم.. وانت تعرف ظروفي جيداً.


كان عم عبد اللطيف يخشى هذه اللحظة ويتحاشاها رد في خنوع.


- إذاً ستأخذي صابر معك.. ارجوك لا تفعلي فقد ملأ علينا هذا البيت بالفرحة وفاطمة تحبه كأبنها تماماً.. قد خطت مستقبله بيدي.. هل تريدي أن تهدمي ذلك في لحظة؟


كان كلام عبد اللطيف يعبث بمشاعر ملكة ويجعلها في حيرة بين عقلها وقلبها. وغلبت عليها عاطفة الأمومة.


- أنت وزوجتك يا عبد اللطيف مكان حبي وتقديري وأنا أعلم أنكم بحسن نية تريدوا لنا خيراً ولكن..


ظل عبد اللطيف يعتصره الألم، لم يستطيع أن يتصور هذا القصر عديد الطوابق من غير صابر..


- هل هذا رأيك النهائي ؟!


فكرت ملكة قليلاً وجمعت كل رابطة جأشها لتتخذ القرار الصحيح حتى لا تتجني على ابنها فأجابته:


- هذا شيء يقرره صابر بنفسه.


ما أن سمع عبداللطيف ذلك حتى تهللت أساريره.. أنه يستطيع اقناع صابر وهو المحامي الضليع، عبد اللطيف رجل حصيف وذو خيال واسع سيبني لصابر قصور من الأحلام لن يرى خلفهاً ابداً طيف قريتهم القاتم.. المستنقع الذي خرج منه.. نهض عبد اللطيف في تثاقل إلى داخل المنزل إلى غرفة صابر، وجده يرقد ساهماً.. يحملق في سقف الحجرة، نهض صابر واستوى جالساً مفسحاً مكاناً لعمه عبد اللطيف يجلس جواره .


- ألا تريد الذهاب إلى المدرسة اليوم؟!ظل صابر ذاهلاً ولكنه رد بصورة آلية .


- أمي يا عم عبد اللطيف!! عز علي أن أتركها ترجع وحيدة.


- لا تنزعج سأحجز لها مقعد في طائرة مروى ومن هناك تستطيع أن تصل البلدة في أقل من ساعتين..


هيا انهض وارتدي ملابسك دعني أوصلك المدرسة وأعود لأفرغ من أمر أمك..


- ليس الأمر كذلك يا عمي.. لا بد من اقناعها.. تعطل تفكيري تماماً.


كان صابر يردد ذلك ويعتصر رأسه بين يديه، ثم هب فجأة واتجه نحو الدولاب وأخرج ملابس المدرسة وشرع يرتديها وفي ذهنه تدور فكرة واحدة، "عندما يعود من المدرسة سيقنع أمه بأن تتركه يبقى وسيودعها في المطار بكل ما تجود به عيناه من دموع". لم تسع الفرحة عبد اللطيف عندما رأى صابر قد عدل عن العودة مع أمه.. فأردف باسماً.


- في العطلة القادمة سنذهب كلنا إلى لندن وستحضر لإخوانك هدايا لم يحلموا بها قط..


كان صمت صابر الحزين يخيف عبد اللطيف، لذا آثر أن يلوذ بالصمت.. نزلت هند تنادي أبيها وخرج عبد اللطيف وصابر إلى البهو، ثم دلف ثلاثتهم إلى الشارع وركبوا السيارة المرسيدس وانطلقت بهم نحو الطريق الاسفلتي.. كانت ملكة لا زالت تجلس ساهمة الشرفة عندما شاهدت السيارة تمتطي الطريق الاسفلتي وبها طيف ابنها صابر وابنة عمه.. "ماذا جرى؟؟ ذهب صابر إلى المدرسة حتى دون أن يودعها .. بماذا اقنعه عبد اللطيف؟! " ،شعرت ملكة بأن الأشياء بدأت تتداعى، نهضت في تثاقل ودخلت إلى حجرتها، حملت حقيبتها الصغيرة على عجل.. وهربت من القصر الذي كان خالي من سكانه إلا من ذلك الجيش الكبير من الخدم والحشم، خرجت إلى قارعة الطريق حتى دون أن تلتفت ورائها إلى الجنة الموعودة التي تركتها واقتربت من الطريق الاسفلتي، بعد جهد جهيد عثرت على سيارة أجرة استقلتها وقد غمرت الدموع عينيها، دموع الهزيمة ومن خلال دموعها كانت تودع مدينة الخرطوم برؤية ضبابية، المدينة التي تشبه جلد الفهد، المدينة التي ضاع فيها إبنها صابر.. وصلت محطة القطار وركبت قطار الشمال.. تحرك بها القطار بعد نصف ساعة وملكة غارقة في أحزانها وتلعن في سرها المدينة التي ابتلعت العديد من أهل القرية الطيبين.. عثمان ود البشير الجذار ومن قبله ريا بنت المرحوم عبدالقادر.


* * *


كان للمرحوم عبد القادر سبع بنات جميلات، كبراهن ريا، غرق عبد القادر في حادثة المركب الشهيرة الذي راح ضحيته العديد من أهل البلدة. غرق عبد القادر وزوجته في الحادث وتركا ريا وشقيقاتها على كف القدر، مرت تلك الأيام الكئيبة على القرية، كانت ريا من أجل فتيات القرية.. جمالها الغجري يبعث الرعب والعذاب في قلوب الرجال والشباب على حد السواء، بنت السبع عشر بيعاً تبخرت أحلامها في مواصلة التعليم، حبها العذري لسعيد ولد الشيخ عبد الباسط لاقى نفس المصير.. صبرت قليلاً وعندما كبرت اخواتها وأخذت مطالبهم تكبر لم تعد تسعفها النقود التي كان يجود بها محمد أحمد خلسة دون أن يعلم بها أحد من أهل البلدة حتى لا يجرح شعورها، هذه الإغاثة البسيطة فتحت جسور المحبة والتقدير من ريا له.. ثم جاء اليوم الذي اختفت فيه ريا من البلدة دون أن يعرف لها أحد أثراً، صدم اختفاؤها المفاجئ أهل البلدة وكالمعتاد أخذت تدور حولها الأساطير منهم من يدعي أنها غرقت في النيل ومنهم من قال أنها هربت مع رجل.. مع من؟؟ سعيد ولد الشيخ عبد الباسط لازال في القرية يواظب على صلواته في المسجد.* * *بعدة مدة ظهرت ريا في رمضان، كانت ترفل في حلة زاهية كأنها أميرة من أميرات ألف ليلة وليلة، بدأت أثار الغمة تغزو بيتهم المتواضع وتحسنت صحة اخواتها كثيراً، بعد أن تكررت زيارتها السنوية إلى البلدة.. أصبح الكل يعرف أن ريا تعمل ممرضة في مستشفى خاص في الخرطوم.. يجود لها النزلاء وذويهم بالهدايا الثمينة لتفانيها في خدمتهم.. كان لريا القدح المعلى في تهجير العديد من شباب القرية إلى دول النفط لعلاقاتها الواسعة بالكبار في الخرطوم، وماذا يعني أهل القرية من هذا الأمر طالما هناك يد قوية أضحت تنتشل ابناءهم من كابوس الفقر المدقع.. ومضت الأيام دواليك حتى جاء يوم غريب في رمضان.. كانت دائماً تأتي في رمضان تصوم شهرها وتؤدي فروضها في المسجد.. هذه المرة كانت أشبه بالشبح، جسدها دب فيه الهزال وشحب وجهها الذي كان يشوبه شعور بالذنب عظيم.. وفي الليل اشتدت عليها حدة المرض، فأخذت تهذي وأمرت شقيقاتها أن يحضروا لها محمد أحمد، الرجل الوحيد الجدير بثقتها، أخبرته بكل شيء أنها تعاني من مرض سري وأنه منذ هروبها من القرية، استقلت القطار إلى الخرطوم، هناك تلقفتها قوادة شهيرة وبدأت معها مشوار السقوط، كان لجمال ريا الغجري الدور الفعال في فنون اللعبة وخصصتها للكبار وأصحاب السيارات الفارهة.. إن هروبها من القرية بسبب حاج إبراهيم، اعتدى عليها في مخزن الدكان عندما جاءت تستقرضه مال.. لذلك رفضت أن يتزوجها سعيد أو يعرف سرها.. رفضت ريا كل محاولات محمد أحمد أن يأخذها إلى مستشفى المدينة في الجوار وآثرت أن تموت وسرها معها.. كان لها ما أرادت، فاضت روحها في صباح العيد وكان يوم موتها مهيباً خرج فيه كل أهل القرية، وصلى عليها صالح الغرقان وصديقه محمد أحمد، أعلن محمد أحمد أنه سيعتكف أربعين يوماً يترحم عليها، فرحت ملكة آنذاك بأن الرب تاب على زوجها وترك عادته الرديئة شرب الخمر.. لكن خاب ظنها وفي ليلة ابتلع التمساح فيها القمر، علا صياح أهل البلدة وأخذوا يضربون الصفائح والدفوف، حضر محمد أحمد مخموراً يترنح ويسب ويسخط بكلماته المشهورة.- تعساً لأولئك النسوة، بائعات الخمور، منذ أصبحن يغششن بوضع الماء الزائد في الخمر، غضب الرب وما فتئ يصب لعناته على القرية.. لأنه لا يحب المطففين..


* * *


ظلت هذه الخواطر والذكريات تنساب على مخيلة ملكة التعسة والقطار ينهب بها الأرض نحو الشمال، تذكرت ملكة كيف أسدل الستار على هذه المأساة برحيل سعيد الولهان الذي فقد حبيبته ريا وهو لا يعلم سرها، منذ ذلك اليوم أصبح حاله لا يسر أحداً في القرية، يهيم في طرقات القرية زاهلاً نحيلاً، وجاء اليوم الذي شهد رحيله، سافر بإحدى شاحنات والده إلى جنوب البلاد، قيل أنه استقر هناك وتزوج أبنه رث قبيلة الشلك واسلم على يده العديد من أبناء الجنوب وطاب له المقام إذ لم يعد للقرية معناً بعد رحيل ريا الأبدي، ريا التي انطفت كالشمعة، ريا التي أحرقت نفسها لتضيء للآخرين، يرحمها الله، يرحم جميع أهل القرى اللذين ضلوا طريقهم في متاهات المدينة الفاجرة، المدينة التي تشبه جلد الفهد،.كانت ملكة تردد ذلك والقطار يتلوى كالثعبان ويقطع الوهاد إلى الشمال إلى قريتها الوادعة طيبة.. مضت السنين وأصبحت رحلة ملكة الفاشلة إلى الخرطوم في طي الذكريات.


*****




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس