_7_ ( التقينا ولو بعد دهر ) توقفا لدى إحدى المزارع التي تبدو مهجورة يحيط بها أشجار مهملة إما آفلة أو ميتة . ! ترجل تركي من السيارة وهو يضرب في جهازه و يلعن الخارطة الإلكترونية
التي خذلته حينما احتاج إليها ، كان متشبعاً بالندم و القهر . . و ودّ لو حدد موقع ذلك الكوخ " القبيح " على الخارطة التقليدية . . تقدم حتى تعدا سور المزرعة المنهار جزئياً أو كما يبدو كلياً . ! خلع نظارته الشمسية بعد سقوط ظلال الأشجار المهملة عليه . . كانت تلك المزرعة مخيفة و موحشة كالزريبة إذا شاهدت قشورها ، لكن كلما تعمقت فيها كلما اكتشفت سحر و جمال لبها . . أشجار التفاح الأحمر تتوسط البستان بينما تحيط بتلك الأشجار أشجار مهملة
متعبة ، كان ذلك المنظر عجيباً و غريبا . ! توجه إلى إحدى الشجيرات المثمرة و قطف تفاحة ناضجة تغريك لـ التهامها . . فركها بملابسه ليزيل عنها ذرات الغبار و صديقتيها ، قضم منها قضمة . . - ألم تتعلم من والديك أن السرقة حرام . ؟ ألتفت و التفاحة متعلقةٌ بأسنانه إلى مصدر الصوت ، إلى ذلك الذي رسمت عليه خطوط الزمن ، ذا الحاجبين اللذان يكودان أن يسقطا على عينيه بينما جذبت الجاذبية الأرضية ظهره تاركةً إياه
يعتمد على عصاً غليظة حتى لا يسقط عليها . . قال تركي بعد أن أكمل قضمته الثانية . : - أهذا التفاح يعود لك . ؟ أشار الشيخ لأشجار التفاح الشهي المنتشرة حولهما . . - نعم . . أنت قد أخذت مني مالا ليس به لك حق و . .. قطعه تركي بإخراج الخريطة و قال وهو يقضم من التفاحة مرةً أخرى . : - أخبرني عن الطرق البرية المتفرعة من هذه الطرق المسفلتة . . أتجه الشيخ إلى شجرته التي سرق منها ثمرها . . قال وهو يمسح على جذعها بيده التي أكل عليها الدهر و شرب . : - سيكون عقابك على سرقتك تفاحتي هو قطف ثمار هذه الشجرة و وضعها في هذا
الصندوق . . أشار إلى الصندوق . . ثم أضاف وهو يشير إلى أشجار البستان . : - أما كوني دليلا لك ، فهذا ليس بالشيء المجاني . . إذا قطفت لي ثمار هذه
الأشجار عندها سأخبرك بما تريد و يزيد . . واجهه تركي بوجهٍ تعلوه علامة تعجب . . : - ماذا تقول . ! ابتسم الشيخ ابتسامة جعدت جلده الرقيق راسمة خطوط إضافية حددها الزمن و تفنن
في التوائها . : - لكل شيء ثمن . . رمى تركي بقايا التفاحة المقضومة دون أدنى اهتمام و رحل بالسيارة باحثاً بنفسه عن الطريق المؤدي إلى الكوخ . . . . ولجت سيارته بعد ساعتين من البحث المضني ، مخترقةً خلوة الشيخ الذي اعتلت وجهه ابتسامة منتصرة . . ترجل الشابان إحداهما يبدو حانقاً منكس الرأس بينما الآخر يمشي على هونه يحدق في لا شيء شارداً تارة و مبتسمً باكياً تارةً
أخرى . . تقدم تركي و قال . : - ماذا تريدنا أن نفعل . ؟ أشار الشيخ إلى الشجرة التي ميزها بالنظر إلى جذعها فقط و قال مشيراً بسبابته
إليها . : - أبدأ بقطف التفاح من الشجرة التي سرقتها أولاً . . اتجه تركي إليها صاغراً بينما تبعه عبد الله باستكانة . . - أنت . !! توقف تركي و توقف معه عبد الله . . استدار إليه فرحاً ظناً أنه قد عدّل من رأيه . : - نعم . . قال شيخ وهو يحاول التقاط ملامح عبد الله بعينيه الضعيفتين . : - ليس أنت بل هو . ! أشار إلى تركي ثم قال حانقاً . : - أنت من سرقت و أنت من سيتحمل مسئولية فِعلك لوحدك ، فليسترح هو . . أم هذا الصندوق الفراغ أريده أن يمتلئ بالتفاح حتى يفيض به . . قال موجهاً حديثه إلى عبد الله . : - تعال يا بني . . نقل عبد الله بصره بينهما ثم توجه إلى الشيخ . . أرخى الشيخ عصاه ثم جلس مستنداً إلى الجدار ماداً رجليه الضعيفة الواهنة فوق
البساط ذو ألوان الباهتة . . أشار لـ عبد الله بالجلوس و قال . :
- ما بك يا بني . ؟ أراك شارد الذهن و في حالة لا تسر عدواً و لا صديق . . بني ، لا تحزنْ منْ كدرِ الحياةِ ، فإنها هكذا خُلقتْ . إنَّ الأصل في هذه الحياة المتاعبُ والضَّنى ، والسرورُ فيها أمرٌ طارئٌ ، والفرحُ فيها شيءٌ نادرٌ وقال النبي قال عبد الله بصوت حزين وهو يخرج نفساً كدر صدره و يحاول أن ينصت لكلام ذلك
الشيخ الذي لا يدري ما به و لو علم لم لامه أبداً . : - عليه الصلاة و السلام . . تابع الشيخ حديثه رغم رؤيته لتعبير عبد الله الغير مقتنع . : - (( الدنيا سجنُ المؤمنِ ، وجنَّةُ الكافرِ )) جفَّ القلمُ ، و رُفعتِ الصحفُ ، و قضي الأمرُ ، و كتبت المقادير ،
﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا ﴾ ، ما أصابك لم يكنْ
لِيُخطئِك ،
وما أخطأكَ لم يكنْ لِيُصيِبك .
يا بني ،
لقد فقدت زوجتي في الحرب الماضية قبل عشرين عاماً
و توفيت أبنتي بسبب مرض السرطان وهي بعمر الزهور ،
تتألم و تعاني حتى أراحها الله بموتها . .
أما ابني الوحيد فهو في عداد المفقودين منذ خمس سنوات . .
منذ خمس سنوات و أنا أعيش لوحدي دون زوجة أو ابن أو ابنة ،
كان هذا قدري الذي يجب أن أرضى به . .
و لم يرجع بكائي و سخطي زوجتي و لم تعد صرخاتي أولادي إلي . .
بني ، لا تظنُّ أنه كان بوسعِك إيقافُ الجدار أن ينهار ، وحبْسُ الماءِ أنْ
ينْسكِبُ ، ومَنْعُ الريحِ أن تهبُّ ، وحفظُ الزجاج أن ينكسر ، هذا ليس بصحيحٍ على رغمي و رغمك ، وسوف يقعُ المقدورُ ، وينْفُذُ القضاءُ ، ويحِلُّ المكتوبُ ﴿ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن
وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ﴾ هذه هي الدنيا دار عمل و تعب أما الراحة الأبدية سنجدها في الجنة إن شاء الله
. تابع الشيخ حديثه على هذا المنوال رغم شرود ذهن عبد الله . ! أعلنت الشمس عن رحيلها و تصدر لون الشفق صدر السماء . . نادى الشيخ تركي الواقف فوق جذع الشجرة يقطف التفاح متذمراً . : - بني . . بـــنــي . . أقترب الشيخ من الشجرة ، ألتفت في تلك اللحظة تركي يمني نفسه بأنه قد أسِف عليه و أخذته الشفقة به ليوقفه عن العمل . . - يا بني . . توقف عن العمل . . - حقاً . ! قفز تركي من الشجرة فرحاً دون أن يحسب المسافة التي بينه و بين الأرض . . سقط على قدميه بقوة ، صرخ متألماً . . ثم ابتسم حينما دنا منه الشيخ و قال .
: - هل أنت بخير . ؟ أومأ بـ نعم و قال . : - أنا بخير . . هل قُلت أتوقف عن العمل . ! ؟ استند تركي على الشجرة ليقف . . قال الشيخ مؤكداً حديثه . : - نعم توقف عن العمل لنصلي المغرب و من بعدها ستستأنف العمل . . هبط تركي جالساً على الأرض و خيبة الأمل تطفح على وجهه . : - ماذا قُلت . ! ؟ - قلتُ فلنصلي . . اتجه الشيخ إلى داره المستند إلى حائطها عبد الله الحزين . . نقر على كتف عبد الله ثم أشار إلى باب داره قائلاً . : - تعال توضأ للصلاة و أطلب الرحمة لهم . . رفع عبد الله رأسه و استغرق عدة لحظات حتى يفهم ما قال الشيخ ، وقف بجانبه ثم تبعه إلى داره . . ولجا إلى دار بسيطة يجد الوالج على يمينه جلسة أرضية بوسائد متشتتة هنا و هناك جزءٌ منها قد خرج قطنه من بين ثقوب القماش . . - هذه الوسائد حاكتها زوجتي بنفسها لذا لم استطع رميها بأي حال من الأحوال .
. ابتسم الشيخ بعد توضيحه لـ عبد الله سبب إبقائه على هذه الوسائد في مجلسه ، اتجه به إلى المغاسل ليتوضآ لصلاة المغرب . . ولج تركي إلى داخل الدار وهو يعرج و يسب و يشتم كونه بين يدي هذا العجوز ، ذهب باتجاه صوت تدفق المياه ، وجدهما يتوضأن محتلين المغسلتين الوحيدتين . . انتظر حتى انتهى عبد الله ثم حل محله و فتح الصنبور . . - كيف كان شعورك و أنت تقطف التفاح . ؟ رد تركي على العجوز بينما كان يمرر الماء على ذراعيه . : - بائساً . ! - و لِم . ! ؟ ألم تستمتع بجنيه . ؟! سأله تركي بعد أن أغلق الصنبور . : - إلى أين تتجه القبلة . ؟ تقدم الشيخ إلى خزانة عتيقة و أخرج منها سجادتين عتيقتين فاخرتين رغم مرور الزمن عليها . . فرشهما باتجاه القبلة ، إحداهما بسطها بالطول و خلفها سجاده أخرى فُرشت بالعرض ، ثم قال . : - يا ذا النظارات السوداء ، ستكون أنت إمَامَنا . . قال تركي ذو النظارة الشمسية المتعلقة بجيب قميصه . : - أنا . !! - نعم . . دفعه الشيخ بيديه الواهنتين إلى السجادة المفروشة بالطول حتى وقف عليها و قال موجهاً حديثه لـ عبد الله . : - لا توجد لدي إلا سجادتين لذا سنصلي معاً على هذه السجادة . . ابتسم الشيخ في وجهه ثم ألتفت إلى تركي الذي لا يزال لا يصدق بأنه سيجعله يكون إمامهما . . فهو منذ زمن لم يصلي و من المحرج أن يذكر هذا للشيخ . ! تساءل في نفسه عن كون صلاة مغرب جهرية أم سرية . . يعني هل يجهر بتلاوته أم لا . .! وقف أمام هذا السؤال عاجزاً ، قطع الشيخ حيرته قائلاً . : - ألن تصلي بنا . ! ؟ أم تنتظر خروج وقت الصلاة . . هاه . ؟ ! حار تركي أكثر هل يسأله أم لا . ! ؟ و حينما حمى و ازداد تقريع الشيخ له ، سأله بسرعة فجأةً و دون مقدمات . : - هل صلاة المغرب جهرية أم سرية . !! ؟؟ - جهرية أم سرية . !! أتسأل هذا السؤال بينما طفل في الصف الابتدائي يستطيع أجابتك عليه و يستطيع طفل ذو ست سنوات يداوم على حضور المسجد أن يجيبك
. !! حك تركي رقبته حرجاً بوجهٍ مطليٌ بالحمرة . . و بعدما انتهى الشيخ من توبيخه أجاب أخيراً . : - جهرية . . يا بني جهرية !! اتجه تركي إلى القبلة رفعاً يديه قائلاً . : - الله أكبر . . كان تركي ساهياً عن صلاته و لم يكن يدري بالضبط ما يتلوه ، و كان ما يشغله فكره هو معرفة متى كانت آخر مرة قد صلى فيها لـ وجه الله . ! و كم كان ذلك الشيخ يذكره بجده المرحوم . . - يا بني . . اقطع صلاتك . ! استلزم تركي عدة هنيهات حتى ينتبه على الشيخ الواقف بجانبه . . قطع صلاته مذهولاً متسائلاً ما الذي يحدث . !؟ أعاده الشيخ و أوقفه بجانب عبد الله وهو يتبرم قائلاً . : - حتى الصلاة لا تعرفون كيف تصلون بالناس دون أن تسهوا . !! كبر الشيخ و كبر خلفه تركي و عبد الله ، وهذه المرة كان تركي أكثر خشوعاً بعدما أصغى إلى صوت الشيخ الرخيم في تلاوة القرآن . . بعد انتهائهم من الصلاة سمح الشيخ لـ تركي بأخذ استراحة بعدما أزعجه تركي
مطالباً باستراحة . . منذ أن كان تركي في الثامنة لم يكن مزعجاً بهذا القدر لأحد أبداً ، و لم يشعر بهذا القرب و المودة لأحد أبداً . . فبعد وفاة جده لم يجد من يهتم به و يراعيه و يسأله عنه و كان الكل يتجاهله حتى أصبح يعيش لوحده مع خارطة حائطية معلقة بحجرته أهداها إليه جده . . - تفضلا بعضاً من التفاح . . عاد تركي بتفكيره إليهما ، ابتسم في وجه الشيخ و قال مازحاً كما كان يمزح مع جده أيام طفولته . : - هل هذا مجاني . ؟ رد الشيخ مؤكداً مع ابتسامة . : - مجاني . . |