شاهدت للمرة الأولى المرح يغمر قسماته .
- اتعلمين أنه قد يتعلم الكلام ؟ وأن ضحكاته أحيانآ قد تصيب
الانسان بعدوى الضحك ؟ هل أضحكك ؟
احست فجأة بسعادة مردها اللطف الذي يظهره لها وإحساسها
بأنه ماعاد يعتبرها ضيفة ثقيلة عليه بل صديقة قديمة لم ينسها
اقترح عليها بيري بعد نصف ساعة ان يستريحا وذلك حين
وصلا إلى بحيرة صغيرة ينمو حولها صنف من أصناف شجر الآس
الصمغي الاصلي . . وبعض انواع الصمغ الأحمر .
- أهذا بحيرة متفرعة من النهر ؟
- هذا صحيح أتعرفين شيئآ عن الجغرافيا الفيزيائية ؟ حسنآ لا
وصمت .. كانا يجلسان على حافة البحيرة والجياد تشرب
منها . مد هو ساقيه إلى الأمام واستند الى جذع الشجرة .
- لماذا توقفت ؟ أما كنت ستشرح لي شيئآ عن هذه البحيرات ؟
حينما ادار رأسه إليها نظرت إليه وابتسامة مشرقة تتراقص على
شفتيها .. فانخفض جفنا بيري .. ثم قال بعد صمت غريب :
- يصعب شرح أمر كهذا لمن لا يعرف عنه شيئآ . إن هذه
البحيرة تتكون وتتجمع من تسرب مياه النهر حين يصل جدول ما
إلى طريق مسدود . وهذا يحدث عادة وقت الفياضانات , حين ترتفع
مياة النهر وتندفع عن أطرافه في جداول وسواق حتى تتجمع في
بركة كهذه , ونحن نسمي هذه البحيرات ((عتق الثور)) لانها تشبه ما
يطوق به عنق الثور لدى الفلاحة , انها تحدث في الواقع جرَاء
تسرب مياه النهر وقد يحدث أن تكون أكبر من هذه بكثير أو أصغر
منها , وهذا يعتمد على حجم الجداول المتفرعة هي عنها .
كان وهو يتكلم يرسم بأصبعه دون وعي على التراب رسمآ
بيانيآ لما يقول .. فرفعت نظرها ونظرت الى ((غريت سليف)) التي
بدأ الجفاف يطرق أبوابها , قالت :
- هذا يعني أن هذه البحيرات تكون عادة قريبة من النهر ؟
- في الأساس أجل . إنما هناك استثناءات تعود أسبابها الى
مسار النهر .. وهذه هي عملية تقنية . لن تهمك على اية حال .
عادت شانا للتحديق في مياه البركة وتمتعت :
- تبدو كأنها موجودة هنا منذ الازل .
حاولت جاهدة تصور ما كان عليه مجرى النهر قبل ان يحدث
- إنها هنا منذ مئات السنين . نحن نعرف ذلك من بعدها عن
النهر فثمة مسافة ارضية شاسعة بينهما حاليآ .
نظر الى ساعته وهو يتكلم , فأحست باكتئاب لأن أوان العودة
قد أزف . ولكن ما أدهشها أنه لم يظهر حركة تدل على العجلة . بل
العكس ألقى أكثر فأكثر بثقله على جذع الشجرة , فسألته وهي تقول
- هل تستريح بعض الوقت من العمل ؟
- في بعض الأحايين القليلة .
قالت , ليس لأنها تريد ان تقول , بل لانها أحست بأنها مدفوعة
بقوة غريبة للتحدث عن الفتاة التي سيتزوجها .
-أتبيت عادة عند أهل سندي ؟
- حينآ أقصدهم أنا وأحيانآ يقصدوني .
- أعتقد أنك بعد الزواج لن تعمل جاهدآ كما يحدث حاليآ ؟
- ربما سأستريح أكثر . إذ يحق للزوجة أن ترى زوجها في
المنزل , بين الحين والآخر .
بين الحين والآخر ... هناك شيء بارد وغير عاطفي في طريقة
كلماته لذا تساءلت كيف هي سندي هذه , فلربما كانت هي كذلك
هادئة باردة فيليقان عندئذ ببعضهما بعضآ .
خرجت الكلمات منها لا إراديآ , فأدار رأسه اليها متعجبآ :
- اصبحت قاسيآ .. يا بيري , وساخرآ قليلآ ... قاسيآ.
وفكر في الكلمة لحظات وعيناه الرماديتان ضيقتان وحاجباه
- أجل إن الزمن كفيل بجعل المرء قاسيآ وساخرآ أيضآ . اليس
كذلك ؟ أم أنك لست واثقة ؟
أطرقت برأسها تنظر الى يديها المنقبضتين معآ بشدة :
- انت مختلف .. مختلف جدآ .
فجاة لاح لها منه وجهآ زاجرآ أصابها بصدمة كبيرة . كان
الحديث الآن ينتقل الى منطقة كان عليها تجنبها لأن للماضي يدآ
مريرة فيها , فسارعت إلى الموضوع :
- أخبرني عن عملك بيري .. لديك مكان ضخم مذهل هنا ..
لم يكن لدي فكرة عن مدى اتساعه وتراميه . إن ادارته دون ريب
مسؤولية ضخمة .. ألديك عدد كبير من الموظفين الذين يساعدونك
رد عليها دون أن يظهر أقل تأثير لتغييرها دفة الحديث :
- هناك رجل واحد يساعدني في أعمالي المكتبية , وهو لانس
كالدر , الذي ستقابلينه هذا المساء . إنه يعيش في أحد أكواخ القرية
ولكنه يتناول العشاء معي مرتين في الاسبوع , حين نناقش أمور
العمل . إنما طبعآ ليس حين يكون لدي ضيوف .
- جاء إلى هنا ذات يوم في العام الماضي إثر عطلة أخذها من
عمله المكتبي في كريستشرش . ويبدو أن عمله في المدينة كان
يضجره , فلما لمست منه ملله ذاك عرضت عليه الوظيفة لأنني
وجدت فيه مؤهلات تفيدني . فكان أن عاد إلى كريستشرش ليقدم
استقالته ولم يلبث أن عاد الى غريت سليف بعد شهر فسلمته بعض
المهام التي تقع على كاهلي فسهل علي وجوده الحياة . وماذا
تريدين معرفته ايضآ عن المزرعة ؟ إذا كنت ستمكثين عندنا مدة
طويلة , فستكتشفين كل شيء بنفسك .
- لست أدري ما هي المدة التي قد نمكثها بيري . ولكن أعرف
أنه يجب ألا نمكث عندك إلى وقت نصبح فيه مصدر ازعاج لك .
- يجب ان تبقيا الوقت الذي تشاءانه شانا . فلا أرى أن أيآ
منكما قد تصبح مصدر إزعاج .
- شكرآ لك بيري .. إن قولك هذا لمنتهى اللطافة .
- لطافة ؟ أذكر أنك قلت لي إنني أصبحت قاسيآ .
- قد يظهر القساة أحيانآ لطفاء .
لامست البسمة شفتيه , وبقيت للحظات , ثم قال :
- اخشى أننا مضطران للتوجه الى المنزل غير أنني أرجو أن
تكوني قد استمتعت بجولتك الأولى لك على أونو ؟
وتساءلت في نفسها عما قد يظنه لو عرف كم عنت لها هذه
النزهة , آلمتها هذه الفكرة حتى تمنت لو تلوذ إلى الوحدة لتطلق
وصلت سندي ووالدها قبل الضيوف الآخرين بيوم . وقد بدوا
من تصرفاتهم أنهم مستأنسين هانئين وكأنهم في منزلهم . ففهمت
عندئذ شانا انهم معتادون عى زيارة الرجل الذي سيصبح عما قريب
حين التقت الفتاتان , تلقت شانا صدمة .. فالفتاة كانت تختلف
في المظهر تمامآ عما تصورته . نعم لقد عرفت من بيري أنها
سمراء , ولكنها لم تكن تتوقع أن تكون جميلة الى هذا الحد وأنيقة
الى هذه الدرجة . كان شعرها الجميل يشع اسوداده أمام بشرتها العاجية القرنفلية ويسترسل أملس نضرآ على أبعد من كتفيها ,
وكانت سندي تعلم أن مظهر الأملس أمر حيوي لذلك كانت مرارآ
وتكرارآ ترفع رأسها لتلفت الاهتمام الى تموجه الطبيعي الجذاب .
وإذا كانت شانا قد صدمت لرؤية سندي فسندي تلقت صدمة
اكبر وقد بدت صدمتها هذه وهي تمد يدها مصافحة . فعيناها ضاقتا
وهما تتأملان وجه شانا عن كثب .
غير أن بيري لم ير شيئآ غريبآ إذ كان يبتسم لخطيبته .
- كيف حالك آنسة جيلبرت ! (سألتها شانا ) .
ولكنها لم تتلق ردآ على سؤالها بل اتساعآ في العينين القاتمتين
اللتين اخذتا صورة وجه شانا كاملة بشعرها الذهبي الفاتح اللون
وقسماتها الرقيقة . حين مرت عدة لحظات ولم تظهر الابتسامة على
فم الفتاة , اختفت الابتسامة عن شفتي شانا وتراجعت ذلك أنها
شعرت بأنها عوملت بازدراء فحتى المصافحة كانت خالية من
الحرارة وتبين أن ما أحست به شانا لم يكن ازدراء فحسب بل
ورفعت سندي وجهها الى بيري الواقف قربها وقالت بلال :
- بيري .. حبيبي .. سمعتك تقول بواسطة جهاز الإرسال إن
السيدة بلايث صديقة قديمة .. أم أنا مخطئة .
نظر بيري وشانا إليها بحدة , فقد كان في صوتها تغيير غريب
- لا يا سندي . . لست مخطئة . . لقد التقيت أنا وشانا منذ
سنوات حين كنت أزور انكلترا . أعتقد أنك تذكرين سفري ذاك .
- وهل كانت السيدة بلايث متزوجة آنذاك ؟
لم يكن لسؤالها علاقة بالموضوع فازداد وجه بيري تقطيبآ :
- لا . . في الواقع لم تكن متزوجة .
وتحرك فجأة بشكل ملفت للنظر فلحقته نظرة ساندي الضيقة
وهو يتجه الى طاولة الشراب السنديانية الجميلة القديمة الطراز .
اشارت شانا إلى مقعد يقع قرب النافذة العريضة فنظرت اليها
سندي نظرة حقد اعداء قديمين جعلت نبضات شانا تتسارع .. ما
أتعلم سندي شيئآ عن علاقتهما الماضية ؟ ولما أخذت منها هذه
قررت شانا محاولة التعرف اليها بحديث ودي :
- هل منزلكم بعيد عن المزرعة مئة ميل .. كما قال لي بيري.