عرض مشاركة واحدة
قديم 05-04-09, 11:26 AM   #14

المطر الباكي
 
الصورة الرمزية المطر الباكي

? العضوٌ??? » 79893
?  التسِجيلٌ » Mar 2009
? مشَارَ?اتْي » 1,068
?  نُقآطِيْ » المطر الباكي is on a distinguished road
افتراضي

كانت باميلا، الصغيرة الحجم ،والمتوسطة العمر ،هي التي فتحت لها الباب في الصباح التالي..ولا شك أنها كانت تعلم بأمر الوظيفة الجديدة .وقبل أن تعرف بنفسها ، أوضحت مدبرة المنزل المخلصة، أن ادنا مرحب ببها بن "الموظفين"الا أن من المتوقع منها أن تبتعد عن طريق السيد هايدن .
قالت بلكنة ايرلندية، وهي تقود ادنا الى الغرفة الاضافية الكبيرة:
ـ أنا واثقة من أنك ستجدين هنا كل ما تحتاجينه يا عزيزتي.
كان في الغرفة تلفزيون صغير، كتب، جهاز موسيقى..في الواقع، كانت المرأة قد عملت جاهدة على ألا يكون لديها عذر للتفتيش عن التسلية في مكان آخر من المنزل.
وتابعت مدبرة المنزل مترددة، محاولة التخفيف من وطأة تعليمات رب عملها الوقحة:
ـ يحب السيد هايدن أن يتناول طعامه في القسم المخصص له من المنزل..لذا، أرجو أن لا تمانعي في تناول طعامك وحدك ..ويمكنك دائما أن تنضمي الي في المطبخ اذا شعرت أنك بحاجة الى الصحبة..سيكون لطيفا جدا أن أتحدث مع شخص يهتم بشئ غير الشائعات..مثل جويس الصغرة أعني..
وافقت ادنا تطمئنها:
ـ انها كثيرة الكلام ..أليس كذلك؟ وهذه غرفة جميلة ..انني مسرورة جدا ..وأنا واثقة من أنني سأكون مرتاحة تماما هنا..على أي حال ،انها لبضعة أيام فقط ،أليس كذلك؟
بدا الارتياح على العجوز مع انقضاء الجزء الكريه من مهتها وانطلقت تظهر لادنا مملكتها الصغيرة منتهية بمكتبة ادنا الخاصة.
ـ قال السيد هايدن ،ان بامكانك استخدام هذه الغرفة متى شئت..غرفه الخاصة هي من الجهة الأخرى من الفيلا لذا لا تقلقي حول ازعاجه.
كانت غرفة جمية حسنة التهوية، أصغر و أكثر دفئا، من غرفة الجوس الفخمة.
الامتياز الوحيد لمبادئ العمل فيها كان منضدة المكتب الجلدية السمراء، الأنيقة، و خزائن الملفات المماثلة. واتجهت عينا ادنا مباشرة الى جهاز الكومبيوتر الخاص انتاج شركة جاكوبس، الموضوع على منصة خاصة..كان بالنسبة لجهازها كسيارة رولز رويس.
قالت باميلا، في آخر تقرير للتعليمات الدقيقة:
ـ سيكون السيد هايدن هنا بعد قليل. طلب مني أن أقول لك أن تحاولي الابتدء بالتعرف على جهازه الكومبيوتر، وأن تعلميني اذا كنت تحتاجين لشئ خر.
ـ لا شئ أبدا..الجهاز مكتمل تماما.
تقدمت الى المنضدة، وجلست على المقعد المريح المرتفع الظهر، المتحرك، واستدارت الى الجهاز..ثم تظاهرت بالانغماس في الجهاز غير المألوف لها.
كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة بكثير حين دخل رب عملها الجديد الغرفة، مجيبا على تحيتها الصباحية المهذبة بتمتمة خشنة..لم يكن مزاج هايدن جاكوبس حسنا هذا الصباح..هذه الصفة كانت ما تزال القاسم المشترك بينه وبين مايلز . لكنه أجفل لرؤية ذلك الوجه الجميل المفعم بالحيوية، المبتسم بأمل ظاهر.
قال بخشونة:
ـ انسي الأمر..لم أخطط للبدء بالعمل اليوم. تابعي قراءة النسخة.. لا أعتقد أنك حصلت على فرصة للنظر اليها حقا.
قاطعته بحبور:
ـ أوه..لكنني فعلت يا سيد جاكوبس..أنهيتها ليلة..
نظرته الساخطة أوقفت حديثها.
ـ توقفي عن مناداتي السيد جاكوبس..اسمي هايدن..ظننت أننا تجاوزنا هذه النقطة بالأمس.
بدا أن لا وقت لديه، ولا النية للعبث.
ـ بكل تأكيد..أنا آسفة..أنهيت قراءتها ليلة أمس ياهايدن..ليس بامعان، ولكن بما يكفي لفكرة عامة.
أجفل:"هذا انجاز هام، اذا أخذنا بعين الاعتبار كونها مؤلفة من خمسمائة صفحة".
في الواقع لم تكن مضطرة لقراءة سوى المائتي صفحة، التي كتبها أخيرا في السنوات الثلاث الماضية..ومرت بسرعة على الجزء الأول الذي تعرفه عن ظهر قلب تقريبا..أو هكذا ظنت.لكنها سرعان ما ندمت على تفاخرها الطائش..فقد قام بتغييرات أساسية في نسخه القديمة التي كتبها في سانت باتريك، وكادت تكشف نفسها لو أشارت الى أحداث وشخصيات لم تعد موجودة.
قال هايدن بقليل من الحماسة:"من الأفضل أن نبدأ الآن".
ابتسمت ادنا له بابتسامة باردة مهذبة، ولم تقل شيئا. أخيرا اخترق الصمت الذي طال بابتسامة خشنة:
ـ من الأفضل أن تقومي أنت بالخطوة الأولى يا ادنا..أنا لم أشترك في كتابة سيناريو من قبل.
تقبلت اعترافه السهل بالهزيمة:
ـ حسن جدا..اذا أنت تكرمت بالقاء نظرة على ملاحظاتي.
أعطته الأوراق المطبوعة بالكومبيوتر وهي تشرح له قائلة:
ـ لقد أنجزت هذه هذا الصباح.
لو أنه تأثر بانتاجها غير الطبيعي، فهذا لم يبدو عليه. وكل ما كان على استعداد لأن يقوله هو:
ـ أرى أنك لم تجدي صعوبة في العمل على الكومبيوتر..أي نوع تستخدمين؟
ذكرت له الصنف وتمتم موافقا:
ـ بطئ.. لكن يعتمد عليه.. أعذريني الآن.
دون أن يجلس بدأ يراجع الصفحات المطبوعة. حين رفع عينيه أخيرا عن الصفحات، لم يبد عليهما أي تأثر بالأسلوب..وقال بهدوء:
ـ أجل..يعجبني هذا..انها افتتاحية مثيرة للفضول..سنبقي على هذه..لكن تحفظي الوحيد هو معاملتك للفتاة"اليكسيس". أقترح أن نلتزم بنصي.
احتجت مجفلة:"لكنني التزمت به".
ـ بكل تأكيد لا يظهر هذا.."اليكسيس"التي كتبت عنها ساحرة جدا، أعترف بذلك، لكنني أجدها انسانة أكثر من اللازم، ومشوشة الذهن بالنسبة لأنثى محولة بشريا.
قطبت بحيرة:"انسانة محولة الى بشر؟".
نظر اليها طويلا بعينين ضيقتين:
ـ هل أنت واثقة من أنك قرأت القصة؟ أعني قصتي أنا؟ أم أنك تكتبين قصة خاصة بك؟
بذعر ،راجعت أول الفصول في ذهنها، ثم قالت:
ـ آسفة هايدن..لكنني حقا لا أعرف عما تتحدث.
ـ أنا أتكلم عن "اليكسيس"..الروبوت البشري..الأنثى المحولة الى بشر..تبا !
أخيرا انجلت تقطيبة ادنا المحتارة..اليكسيس في الصيغة الأصلية كانت روحا تنزع الى الأذى..ولم يكن هناك اشارة الى روبوت بشري من صنع الانسان..في عجلتها لقراءة الكتاب، تجاوزت التغيير الذي قام به.
قالت ببرود:
ـ أنا آسفة..قلت لك انني راجعت الكتاب بسرعة..ولم يخطر ببالي أن تكون محولة الى بشرية.
ـ عجبا ..كيف يمكن لهذا الواقع أن يفوتك..ظننته واضحا جدا.
الطريقة الوحيدة أمامها للخلاص كانت الهجوم:
ـ حسن جدا، لا يمكن أن تكون مقنعا جدا حول كونها محولة الى بشرية..فقد بدت بشرية جدا بالنسبة لي.
صمت طويل ، ثم سأل مشاكسا:"أصحيح؟".
ـ أجل..ومع أنني قد أخاطر في التدخل فيما لا يعنيني، أقول انه من الخطأ اعتبارها آلة من صنع البشر.
لقد تمادت كثيرا..دويل فرانسيس نبهها الى أن تبقي رأيها نفسها، وأن تكبح مخيلتها المبدعة..فعملها هنا تقني بحت، والعبقري هو هايدن جاكوبس وحده.
لكن ردة فعل كانت بعيدة عن التصور. اذ قال باعتدال:
ـ حسن جدا..سنستبقي هذا الآن، وسأراجع القصة بحذر أكبر فيما بعد.
تمتعت باعتداد نفس كسبته..هذا أول صراع بينهما،وعلى الأقل، خرجت منه منتصرة.
رمى هايدن الصفحات المطبوعة، استقر بارتياح على أريكة جلدية رائعة، ساقاه الطويلتان ممدودتان على كرسي للقدمين..اذن هكذا سيكون مركزي عملهما..هو يتمدد بكسل قرب الجدار الزجاجي، يتمتع المنظر الأخضر للمروج بينما هي تجلس مستقيمة الظهر خلف المنضدة، تواجه الجهاز.
تابع يلتقط نص كتابه:
ـ حسنا..دعينا نكمل..أيمكن؟ أظنني أعرف من أين نتابع من هنا.
استوت ادنا في جلستها، يداها على مفاتيح الطباعة مستعدة للعمل.
سألته بمكر:
ـ خارجي أم دخلي؟
ـ أرجو عفوك؟
ـ من المفترض أن نصف كل مشهد بالتفاصيل الأساسية..نهار أو ليل..خارجي أو داخلي..الخ..فأي مشهد سنكتبه الآن؟
نظرته الباردة، أخبرتها أنه فهم نيتها في كشف جهله بهذا الخصوص. وقال بهدوء:
ـ سأترك لك كل التفاصيل التقنية..ولسوف أفهم كل شئ بعد بضعة أيام. أما حاليا، دعينا نركز على الحبكة العامة، والعناوين الواسعة للسيناريو كله..ورغم جهلي، أفترض أن هذا ،يكون أول اهتماماتنا.
توهجت وجنتا ادنا وهي تحس الحرج. انه محق، طبعا..فهذه أول مرحلة، وكان يمكن أن تقول هذا لو لم تكن متشوقة بغباء كي تدهشه بذكائها.
تابع، وكأنه يسخر منها..العين بالعين !
ـ لكنك أنت الخبيرة .لذا أنا سعيد جدا بأن ترشديني.
هزت رأسها بذهن متلبد، شاعرة بغباء كامل..هايدن جاكوبس ستكون له دائما اليد العليا ،كما كان مايلز تماما، وأكمل:
ـ هل لنا أن نبدأ اذن؟
كانت بداية بطيئة مترددة..كانت مضطرة لترك منضدتها كل بضع دقائق، لتقطع المسافة بينهما الى حيث كان متمددا لتقارن أوراق نسخته بأوراقها..حتى أن عضلات ظهرها وكتفيها بدأت تتألم..لكنه سرعان ما ضجر، كما دل عليه صوته الساخط.
أخيرا وفي تنقلها العاشر عبر الغرفة..توقفت مسمرة ثم انفجرت ضاحكة.فكل ما يجري سخيف منا للعقل. وانضم هايدن الى ضحكها المقطوع الأنفاس، دون توقع منها، بضحكة منخفضة مألوفة جدا لها.
ـ أوافقك تماما..فهذا لن يوصلنا الى أي شئ..اذن أيتها الذكية..كيف تقترحين أن نقوم بهذا؟
وقف يرمي نسخته من يده على الأرض..
أخيرا توصلا الى نوع من الاتفاق..فهو مايزال يحتفظ بروح مايلز المرحة والقدرة على السخرية من الذات، وكل هذا عاد اليه عن طريق سلاح فعال من ادنا..ضحكتها التي لا تستطيع صدها.
رسمت خطة بسيطة معقولة..واذ حصلت على موافقته ،ارتدت بنطلونها الجينز الواسع وكنزتها الضخمة القطنية التي تصل الى تحت خصرها النحيل.
الآن انطلقا في عمل متناغم..عادا معه الى نظام تعاونهما كما كان على أرض الجزيرة..الجو العدائي في الغرفة، تغير ..وسادت الضحكات، والمزاح السريع المتبادل، الذي طالما كانا يجيدانه..كان واضحا أنهما مازالا يتشاركان التعاطف الفريد من نوعه الذي كان يجعل كل مهما يقرأ أفكار الآخر حتى قبل أن يشكلها في كلمات.
حين دخلت باميلا تحمل صينية من السندويشات وابريق قهوة طازجة، وجدت المكتبة في خراب مكتمل..كل الأثاث مدفوع الى الجدار، ليترك الوسط فارغا..رب عملها مستلق على معدته، بينما مساعدته الجديدة، في بنطلون رث، وكنزة عملاقة،تزحف من حوله، تنظم وتعيد تنظيم الأوراق المبعثرة والصفحات التي كانت تغطي كل السجادة العاجية السميكة..راقبتهما للحظات بذهول. فهي لم تر هايدن أكثر استرخاء منه الآن وذلك منذ عودته من رحلته الجهنمية.
حيا هايدن المرأة المسنة بابتسامة واسعة:
ـ آه..باميلا، كنت على وشك الصراخ لمزيد من القهوة.
وبشئ من الصدمة، استعادت ادنا وعيها، لتدرك أنها مازالت غريبة بالنسبة له.
قالت مدبرة المنزل المسنة بحزم، ناظرة حولها بيأس تبحث عن ممر نظيف الى منضدة القهوة:
ـ تكاد الساعة تصل الى الثانية يا سيد هايدن..وأنا أصر على أن تتوقف وتتناول شيئا تأكله.
ـ دعينا وشأننا يا باميلا..وخذي السندويشات معك..لا أريدها.
نظرت اليه ادنا بانتقاد..لقد تناولت الفطور في الساعة الثامنة وهي الآن تتضور جوعا..قالت المدبرة:
ـ قد لا تكون جائعا يا سيد هايدن، ولكن الفتاة لم تتناول طعاما منذ وصلت الى هنا..سأترك الصينية قرب الأريكة وعليكما أن تجدا طريقكما اليها.
وبنظرة يأس أخيرة، تركت الغرفة.
شقت ادنا طريقها عبر وفوق، الأوراق، لتهاجم السندويشات اللذيذة المنظر، رافضة أن ترهبها قلة اعتبار رئيسها لمشاعر الآخرين.
ضحكة خافتة كسولة، وصلتها عبر الغرفة، لترسل رجفة في جسدها..وبحذر استدارت نحوه. كان جالسا على الأرض، مستندا بظهره الى المنضدة، يراقبها بتلك التسلية الكسول والمحطمة للقلب، والتي تذكرها جيدا.
قال بعفوية:"وأنا من ظننت بأن الأرواح لا تأكل..".
علق الطعام ف حلقها..وأكمل:
ـ ... لكنك لست روحا، أليس كذلك؟أنت بشر بشكل يبعث على السخط.
لا يمكن لهذا أن يحدث...بقيت تقنع نفسها مرات ومرات..لا شك أنها تحلم في يقظتها..بكلمات قليلة عفوية، ممازحة، قفز فوق كل الحواجز، فوق كل السنوت التي تفصلهما..أخذ دما يجري بجنون في عروقها، وأجبرت نفسها على البقاء حيث هي، وجهها يخلو من كل تعبير. بعينين متسعتين، غير مرتجفتين، انتظرت حركته التالية.
ولكن لم يحدث شئ..كان الرجل ينظر اليها بابتسامة لطيفة، لغريب ودود، لا يدري أبدا تأثير الكلمات غير العادية التي نطق بها لتوه.
ـ حسنا..أكملي طامك يا امرأه.
صوته كان مايزال دافئا، وكسولا كصوت مايلز، لكن التعبير الجاف المثير للسخط، كان لهايدن جاكوبس:
ـ وصبي لي فنجان قهوة..أريد اكمال هذه.
كأنها مطعونة بسكين حادة، خرج نفسها الأسير في آهة منخفضة مسموعة. وصدمتها خيبة الأمل.
جلست..فأجفل لما رآه من شحوب وجهها:
ـ هاي..هل أنت بخير؟ أناآسف..من الأفضل أن نتوقف الآن لترتاحي قليلا..سنتابع فيما بعد.
أخيرا تمكنت من ابتلاع لقيمات، لكنها وضعت النصف الباقي من السندويش في الصينية.
ـ لا..دعنا نتابع..أنا بخير، حقا.
فلم يصر عليها.
ـ حسن جدا..اذن..هاتي سندويشاتك الى هنا ..بامكانك أن تأكلي وتعملي في ذات الوقت،ألا تستطيعين؟
مرت اللحظة، كانت قصيرة جدا، حتى أنها بدأت تظن نفسها تخيلت كل شئ..عادت على رؤوس أصبعها الى مكانها، قرب جسده الطويل المسترخي..بجهد انساني متفوق، تمكنت من أن تنفض عنها صدمتها المؤقتة، والعمل بالنسبة لها علاج قديم..كان مايلز يظنها تدفن شوقها له بالعمل المبدع المجنون، الذي يحولها من عاشقة، الى زميل عمل.
كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة حين استوى هايدن أخيرا في جلسته، ومطط ذراعيه، وقوس ظهره العريض بالطريقة المألوفة القديمة التي مزقت ادنا من الداخل، وأعلن أنه بحاجة الى القليل من التمشي..
فقالت ببرود:
ـ شكرا لله..بدأت أظنك لا تتعرض لمثل هذا التعب الانساني.
كانا يجلسان متقاربين، ينظران معا الى النص النهائي للخطة العامة، شاعرين بالسعادة لانجازهما..استدار اليها:
ـ كم أنا فظ لا أراعي شيئا يا حبيبتي.
أجفلت ادنا، دون ارادتها، وأكمل:
ـ في المرة القادمة، من الأفضل أن توقفيني حين تشعرين أنني أدفعك بقسوة. لقد حذرتك بالأمس أنني أميل الى تجاهل الآخرين.
ردت بصوت منخفض وكأنما لنفسها:
ـ لا أعتقد هذا..لا أظن أنك دون احساس وبارد المشاعر،كما تحاول أن تظهر.
ـ هذا جميل جدا منك يا حبيبتي..لكنني هكذا، ومن الأفضل أن تصدقي..ما رأيك الآن بأن نركض معا قليلا؟
لاحظت أنه اعتبر أنها تركض باستمرار كأمر مسلم به، مرة أخرى ،دون أن يدرك، كانت ذاكرته لمدفونة بعمق تتلاعب، وبطريقة مستقلة عن عقله الواعي.
لحقت به الى أبواب الباحة المرصوفة، ثم الى الأبواب الخشبية في نهاية حديقة الفيلا، الي قادتهما الى ممر ضيق عام يتجه الى المرج. لا شئ يمكن أن يكون مختلفا عن الشاطئ الرملي في سانت باتك، أكثر من ليل لندن والعشب المبلل تحت حذاءيهما. مع ذلك انطلقا معا بركض بطئ، جنبا الى جنب، كما كانا يفعلان تماما منذ سنوات، في الجزيرة.
كان ركضا قصير المدى مقارنة بالأميال اتي اعتادا أن يركضاها، لكنها كانت مقطوعة الأنفاس حين وصلا الى الفيلا المظلمة.
قالت تعتذر وهي تلهث، محاولة التقاط أنفاسها:
ـ أحتاج الى التمرين..فأنا لم أحرك عضلة واحدة منذ أتيت الى لندن.
ـ منذ متى كان هذا؟
ـ أوه..منذ ثلاث سنوات ، تقريبا.
ـ جئت من السيشل، أليس كذلك؟ما اسم الجزيرة؟
ـ سانت باتريك.
ـ أوه..أجل.
دفعها أمامه، وأسرع بها الدرجات القليلة الى المنزل الهادئ الساكن، ولكن حين أصبحا في أمان في الداخل، ابتعد عنها، ما بدا لادنا وكأنه اشمئزاز مفاجئ. لكنها لاحظت الألم والارتباك اللذين غشيا وجهه، والطريقة التي نظر فيها اليها.
كانت تسير نحو المطبخ حيث ما زالت باميلا المسكينة منتظرة لتطعمهما، حين لاحظت أنه يسير في الاتجاه الآخر..وقال من فوق كتفه:
ـ قولي لباميلا، انني سأتناول طعاما بسيطا في غرفتي..اذا سمحت ..لا أشعر برغبة في وجبة كاملة.
توقفت مسمرة..مصدومة بفاظته المفاجأة، في وقت لم تتوقع منه هذا..وقالت ببرود:
ـ لقد كانت تحافظ على الطعام ساخنا لك طوال المساء..وتعرف هذا..ألا تظن أنك تدين لها ببعض الاعتبار؟
ـ اذا كنت أدين لها..فهذا بيني وبينها، ولاأرى كيف أن لك شأنا بعاداتي، الا اذا كنت غير قادرة على قضاء ما تبقى من الأمسية وحدك.
ردت بتوتر:
ـ لا تدع هذا يزعجك، لقد أمضيت معظم حياتي على جزيرة ليس فيها سوى أخي وأبواي أمضي أمسياتي معهم. لذا صدقني، أنا معتادة تماما على أن أكون لوحدي..عمت مساء !
أمضت عدة دقائق قبل أن تهدئ من جرح كرامتها..وذكرت نفسها أنه قد يعامل "أميرة" بنفس الطريقة المرتجلة..مايلز، وهايدن، لا يهتمان بالكياسة،فكلاهما يفعل بالضبط ما يشعر به..لكن الفارق، أن مايلز كان سيرغب برفقتها..بينما هايدن الآن ينكمش الى قوقعته باردا، وحيدا.
كانت العاصفة في الخارج قد انفجرت بقوة حين أنهت ادنا طعامها، وانسحبت الى خلوة نومهاالمريحة، متعبة جدا، مرهقة، لاتستطيع ارتداء قميص نومها، ولا أن تزحف الى تحت الغطاء. أذناها كانتا طنان بأصوات االريح المعولة، والمطر اللاسع خارج النوافذ التي لا ستائر لها.
جلست على السرير الكبير تفكر بهايدن..المقفل بابه عليه والمنغلق على نفسه. وتتسائل عما اذا كانت أحاسيسه أو دوافعه، لا يحكمها عقله الواعي ،وانما تحركها ذكرى ليلة مماثلة وعاصفة أخرى..أكثر ضراوة وشراسة من هذه النسخة الصغيرة.
***


المطر الباكي غير متواجد حالياً  
التوقيع
مثلي ما صار بحياتك .. لا ولا عمره بيصير
رد مع اقتباس