أمسيةُ سجين مقاله

[sarab]

داهمَني شعورٌ غريبٌ بعدم الرغبة في القراءة، ورغبةٌ جامحةٌ في الصراخِ علو صوتي، ودقِّ الأرض بقدميَّ بكل ما أوتيت من قوة، حاولتُ عبثاً إرغام نفسي على متابعة القراءة .

ولكنّ حروفَ الكتابة استعصت على قراءتي لها، وكأنّها تحوّلت أمام ناظريَّ إلى حروفٍ صينية، ضباب رمادي غطى على عيني، ثم امتدّ داخل جمجمتي مشوِّشاً على تركيزي تماماً .

طويتُ الكتاب، وألفيتُني أذرعَ أرض الزنزانة الصغيرة.. التي لا تتجاوز المترين ونصف المتر طولاً، والمتر والنصف عرضاً.. ذهاباً وإياباً، فلعلَّ الضباب يتبخر من جمجمتي بالمشي، فتتضح الرؤية، ومن ثم أستطيع العودة إلى كتابي ليخرجني من حيّزَي الزمان والمكان الكئيبين، تذكرت فجأةً: أن ذرعي لأرض الغرفة، قد يزعج زميلي النائم على الطابق العلوي من السرير (البرش) الذي يبتلع أكثر من نصف مساحة الزنزانة. فذهبتُ إلى شباك الزنزانة الوحيد، والمليء بالقضبان الحديدية، رغم ضيقه، إلى درجةٍ تلغي وظيفة الشباك الأساسية .

تعلّقتُ بيدي في الشبك الحديدي للشباك، وأردت لبصري أن ينطلق من بين القضبان الحديدية الكثيرة، ويبلغ مداه، ولكنه توقف مصطدماً بجدارٍ من الألواح الحديدية على بعد متر ونصف المتر فقط .

كانت تلك الليلة ليلةً قاتمةً، شديدةَ السواد، ولا أدري، إذا ما كان هناك ثمة رياح تتحرك خلف الجدار الحديدي الصامتِ صمتَ الكون كله من حوله .

الصمت الرهيب جعلني أخال أنّي الوحيد في هذا الكون. نعم، نباح الكلاب المزروعة حول سور السجن العظيم يُشعرني بوجودٍ للحياة وللأحياء، ولكنه لم يقتلع مني الشعور الأسود، ككل الظروف من حولي، بوحدتي .

رغبتي في الصراخ لا تهدأ، تتعاظم فيَّ كعاصفةٍ رمليّةٍ هوجاء، أريد أن أصرخ، أن أتكلم إلى أحد، أن أستمع لأحد، أن أشتم أحداً، أو يشتمني أحد، لا يهم . المهم أريد التحدث، إلتفتُّ برأسي إلى زميلي، وهممتُ أن أوقظه، ولكنني لما رأيت وجهَه المتعب يستسلم للنوم في براءة.. أشفقت عليه، وعدلت عن فكرتي.. مفكراً بطريقةٍ أخرى: لماذا لا أنادي الشرطي، وأطلب منه أن يحضر لي ماءً؟. بل لماذا لا أفتعل معه مشكلة، ففي ذلك تسليةٌ ممتازة؟ .

لم أُعد التفكير في ذلك لمرةٍ واحدة أخرى، فقد نفذتُ الفكرة في رأسي بسرعة، ووضعت فمي عبر كوة الباب، وناديت:

- يا سجّان ..

جاءني صوتُه من قفصه الحديدي المسمى بمكتب الشرطة، مجيباً بسرعة، في لهجةٍ تنمّ عنه ملله في وحدته داخل قفصه. وقهقهتُ من داخلي.. لأنه كان يروم من يسلي له ساعات وحدته، مثلي تماماً .

- نعم، إني قادم .

أوشت لي لكنتُه بأثيوبيّته .

وضع وجهه الأسود عبر الكوة، وتفرَّسَني بعينين على ضيقهما مليئتين بمعانٍ كثيرة، لا أدَّعي إدراك كل ما كانت تضمره.. ولكنني أستطيع الزعم: بأنني أدركت منها ما شجَّعَني على أن أمسح شعور وحدتي بالحديث معه، ولكن أي مادة حديث من الممكن أن أشارك بها شخصاً جاءوا به من أثيوبيا.. ليكون عدواً لي، بل ليكون سجاني .

بادرني مرحِّباً :

- مساء الخير.

رددتُ له تحيته، ثم اجتهدتُ باحثاً، في لحظة صمت، عن موضوعٍ يحتمل أن يكون طرفَي الحديث فيه سجين وسجانه. ولكنّ عقلي لم يسعفني بشيء، فوجدتُني أسأله لا شعورياً :

- من أين أنت؟ .

إبتسم راضياً، قال :

- من بئر السبع .

- لا لا، أقصد من أي البلاد قدمتَ.. من أثيوبيا؟ .

رأيتُ تغيّر ملامحه، وهو يزدرد سؤالي، ورأيت عينيه تحتقنان بالدمع، كما رأيتُ الابتسامةَ تموت على شفتيه، ثم قال :

- لا، أنا من إريتريا .

- إرتريا بلد مسلم .

- أجل، ولي فيها الكثير من الأصدقاء المسلمين .

صمتنا قليلاً، وكلانا يبحث عما يقوله، فبعد برهةٍ كانت مدتها لحظة الصمت، جال بخاطري مفتاح سر سؤالي ليكن منقذي من لحظة الصمت، فسألته :

- وهل لك هناك، في إريتريا، أهل، أقصد أب، وأم، وأخوة وأولاد؟ .

- أجل لي.. وأما أولاد فلا.

- ولماذا لم يأتوا معك؟.

- من؟.

- بقية أهلك .

نظر إليَّ باستغراب، وقال :

- كيف يأتون؟!.. لقد وُلدوا هناك، وكل حياتهم هناك .

إخترقت نظراتي عينيه، وأنا أسأله :

- وأنت، ألم تولد هناك؟!.

إبتعد بوجهه عن الكوة قليلاً، وراح يُحدج عينيه على قدميه.. التي أخذت تضرب الباب بضربات خفيفة، ثم قال، وفي نبرته شيء والأسف.

- أجل، ولكنني أتيت.

- أتودّ العودة؟.

فلم يرد عليَّ، فأتبعتُ سؤالي .

- أقصد: هل تشتاق لإريتريا؟ .

أجابني في مرارة :

- شوق طفل إلى أمّه بعد طول غياب .

فقلت بمرارة، أشدّ من مرارته :

- وأنا مثلك أشتاق لبئر السبع! .

نظر إليَّ متعجباً :

- ولكنك الآن في بئر السبع .

- لا، أنا الآن في قبر، عنوانه (زنزانة 23)، في مقبرة كبيرة اسمها سجن بئر السبع، وليس في مدينة بئر السبع، وهنا فرقٌ كبير .

حدجني بنظرة بلهاء، ثم سألني :

- هل أنت من بئر السبع؟ .

- أجل .

فضحك في غبطة، وقال :

- إذن نحن من بلدة واحدة .

فقلت، وفي نبرتي حدة :

- لا، نحن لسنا من بلدة واحدة، ولم نكن في يومٍ من الأيام من بلدة واحدة، ولن نكون كذلك، أنت من إريتريا، وتظلّ كذلك، وأنا من بئر السبع، ولن أكون إلا من بئر السبع.

فقال، كأنّه يستجدي من شيئاً :

- ولكنني الآن أسكن بئر السبع، ولي بيتٌ هنا .

بحدّة أكثر، قلتُ له :

- وأنا الآن، ومنذ خمسين سنة أسكن غزة.. لأنك أنت تسكن مكاني في بئر السبع .

- لا يُعقل أن تكون قد بلغتَ الخمسين، وأنا لم آت هذه البلاد.. إلا قبل ثلاث سنوات فقط، وليس قبل خمسين .

- هذا صحيح، ولكنّ أبي أرادوا له الخروج من بئر السبع قبل خمسين عاماً.. لتحلَّ أنت مكانه اليوم .

فبدت عليه البلاهة، وهو يقول :

- أنا لا أفهم شيئاً .

في تلك اللحظة شعرت، ولأول مرة، أنّ كلاماً كثيراً أريد أن أقوله له، ولكل أمثاله من المهاجرين اليهود إلى فلسطين.. روس وبولونيين وهنود وأثيوبيين وأمريكيين.. من كل الأجناس والعروق والألوان .

المسالة ببساطة، أيها السجان المسكين، هي أنني وأنت ضحايا للصهيونية. المشروع الصهيوني جعلني وإياك نعيش الهجرة والمنفى، هجَّروني أنا من بئر السبع، وهجَّروك أنت من إريتريا، أرادوا لي ولك أن نريق دماء بعضنا من أجل حلم مجرم ومجنون.. لن يتحقق أبداً ولو أفنى أحدنا الآخر .

عاد يكرر لي عدم فهمه :

- أنا لا أفهم شيئاً .

- أيها السجان المسكين: لو كل منا فهم كل شيء قبل فوات الأوان، لما كانت هناك مشكلةٌ الآن، ولكن يجب ألا نفهم.. لتحدث المشاكل كما يتفق لها، أتفهم؟ .

عاد ليحدجني بنظرته البلهاء، وقبل أن يقول شيئاً.. كان الباب الخارجي للقسم يقرع، فارتبك السجان القادم من إريتريا، وقال بعبريته الركيكة جداً:

- إسمع، قبل أن أذهب أريد أن أقول لك شيئاً: أنا لستُ يهودياً ولكنني اضطررت أن أكون يهودياً.. لأتمكن من الهرب من الحرب والفقر في إريتريا والهجرة إلى هذه البلاد .

وتركني لأمضي أمسيتي مصارعاً لوحدتي .
بقلم الاسير =شعبان حسونة

[RoseDew2011]

يعطيك العافيه والله مابيحس بالمعاناه الا من عاشها الله يفك اسره يارب ويلهمه الصبر


ويسلموا ع المشاركه و كويس انه حدا مهتم بالقسم هاد

[sarab]

اللهم امين
الله يفك اسره واسر كل الفلسطينين القابعين في سجون الاحتلال
شكرا سندس على المرور والتقييم تسلمي